السبت,أيار 10, 2008
"التداول السلمي للسلطة" بين القبول والرفض
موقع" المسلم"
د/أسامة عبدالمالك عثمان.
التدوال السلمي للسلطة, والتعددية السياسية والحريات وغيرها من مفاهيم الديمقراطية الغربية هي جزء من المقترح الغربي, ومن منظومتهم الفكرية الخاصة, وهي على ذلك محل نظر الناس قبولا ونبذا؛ بحسب ما تمليه عليهم عقولهم وإراداتهم, أو بحسب ما تحدده لهم أديانهم, أو أفكارهم التي ارتضوها. ولا يتصور بحال أن تُصادِر تلك الديمقراطية على الناس خصوصياتهم؛ فيُستلبوا لها؛ فتغدو مقياسا ومرجعية "يهذبون" بها ما خرج, أو يفرغون لها دينهم, إذا ناقض.
والواقع, ومنه السياسي, هو كذلك محل نظر المسلم بالقبول أو الرفض, ومرجعيته في ذلك ما ثبت من النصوص الشرعية وصح؛ بفهم السلف من الصحابة الكرام,رضوان الله عليهم, والتابعين , وبما تحتمله الأدلة الشرعية من فهم العلماء المجتهدين.
والعاملون للإسلام من العلماء والدعاة؛ إنما يحدوهم رضوان الله؛ تعبدا لله, وتأثما من إقرار المنكر, أو السكوت على أوضاع تخالف شريعة الله. ولا يطلبون الحكم بأي ثمن, أو بأي وجه, وهم يعلمون أن الملك لله يؤتيه من يشاء, وينزعه ممن يشاء وفق حكمته وسننه وتوقيته.
والداعون إلى تطبيق الشريعة لا يستهدفون وصول شخوصهم إلى السلطة بقدر ما يبتغون وصول الشريعة؛ فإن وصلوا عنها منفكين, أو معلقين بشروط تنزع السيادة عن الشريعة والدين, وتجعلها في رتبة الأحكام الوضعية؛ فليس هذا بالوصول.
التداول السلمي للسلطة البيئة والدواعي:
ترزح كثير من الشعوب العربية تحت حكم مستبد, يُؤبِّد الحاكم, فيحتكر السلطة, بالتضليل والتزوير, ويورثها, كما التركة, دون ثمثيل من الشعب حر, مباشر, أو غير مباشر؛ ما ينشىء الظلم الاقتصادي والسياسي, والاحتقان الاجتماعي, ويوهن في أبناء الشعب كثيرا من معاني الانتماء للدولة والوطن؛ حين يستشعرون التهميش, والاستهانة؛ فيولد ذلك في الأغلب طباعا في العامة غير طيبة ولا محمودة, وتنشط الممارسات الخاطئة من قبيل المحسوبية والرشوة والنفاق, وقد يقود الاستئثار بالسلطة إلى الغلو والخروج عن الحاكم خروجا عنيفا...أو يفضي إلى السلبية, وقلة الفاعلية.
فيستغل هذا الوضع الشاذ دعاة التغريب والمنبهرون بالنموذج الغربي لتسويق بضاعتهم الكاسدة التي منها مبدأ التداول السلمي للسلطة. وهي أيضا مطلب أميركي صريح تشترطه على من يريد الشراكة في اللعبة الديمقراطية والتعددية؛ ما يعني دخولا سياسيا ودستوريا كاملا تحت سقف الديمقراطية, فالحركة, أو الحزب الذي يخوض الانتخابات ويحظى بأكثرية تمكنه من الحكم سيكون هو والقوى السياسية الأخرى من علمانية واشتراكية مُقِرَّا بالدستور, معترفا بشرعية تلك القوى وحقوقها, وسيخضع معها إلى آليات الديمقراطية...
إذن هي فكرة مطلوبة لما وراءها من توفير ضمانات الحكم الصالح, وعدم اختطاف السلطة, أو اغتصابها من الشعب بالاستبداد وتضييع حقوقه.
فما موقف الإسلام من التداول السلمي على السلطة؟ وما الموقف الحقيقي للديمقراطية منها, وما هي شروطها؟
الإسلام لا يقر غصب السلطة, إنما تتوقف شرعية الحاكم على رضا الأمة واختيارها, وحتى القول بشرعية السلطان المتغلب إنما يستند إلى هذا الرضا, وإن لم يكن صريحا.
وهو شرع أحكاما؛ لتكون ضمانات لالتزام الحاكم بالدستور, وما عاهد عليه الله والناس, فإن لم يف بها؛ يحاسب ويُقَوَّم في الدنيا, وحساب الله أشد .
وهو لم يجعل صلاحيات الحاكم مطلقة؛ فليس الإسلام بالحكم الثيوقراطي, ولا الإمام ظل الله في الأرض.
فالإسلام وأحكامه قاضية على الرعية, أو المواطنين, والراعي أو الحاكم:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [ النساء: 59] وهي واضحة الدلالة في أن مرجعية الحاكم والمحكوم, وهما معا إلى الكتاب والسنة, قال الطبري في تفسيرها: " فإن اختلفتم أيها المؤمنون في شيء من أمر دينكم أنتم فيما بينكم, أو أنتم وولاة أمركم فاشتجرتم فيه , { فردوه إلى الله } يعني بذلك : فارتادوا معرفة حكم الذي اشتجرتم أنتم بينكم, أو أنتم وأولو أمركم من عند الله , يعني بذلك : من كتاب الله , فاتبعوا ما وجدتم . وأما قوله : { والرسول } فإنه يقول : فإن لم تجدوا إلى علم ذلك في كتاب الله سبيلا , فارتادوا معرفة ذلك أيضا من عند الرسول إن كان حيا , وإن كان ميتا فمن سنته"
والحكم الإسلامي في عصر دولة الراشدين واضح القسمات, في الوقوف على رأي الأمة, وإن اختلفت أشكال هذا الوقوف, وما كان يتولى الحاكم الخلافة, أو الإمامة, إلا بالرضى والاختيار...
لكن الإسلام لا يسمح بأن تصل إلى سلطانه أحزاب لا تؤمن بفكره ولا تعترف بدستوره. وهذا بدهي في فكر الإسلاميين جميعا, وثمثيلا: قول الشيخ القرضاوي في بحث له بعنوان: "الدين والسياسة.. تأصيل وردّ شبهات"، إذ حدد فيه الشيخ المفاهيم المتصلة, ومنها: مفهوم الدين، ومفهوم السياسة، ثم عرض مشكلة العلاقة بين الدين والسياسة, كما هي متداولة بين الإسلاميين الذين يسعون إلى عدم الفصل بينهما بعقيدة الشمول في الإسلام، وبين العلمانيين الذين يسعون إلى الفصل بينهما، ثم بيّن انبناء الدولة في الإسلام على الدين، محتجا بالنصوص القطعية، وبالسيرة التاريخية، وبالمصلحة الناشئة من ذلك عمليا متمثلة في حشد قوى الأمة، ودفعها إلى الإنجاز الحضاري... فموقف الإسلام الرافض من القبول بمرجعية للدولة غير الدين, ولو مرة, محسومة واضحة.
تداول السلطة ديمقراطيا:
أما في الديمقراطية فيعرف التداول على السلطة بكونه" مبدأ ديمقراطي لا يمكن وفقه لأي حزب سياسي أن يبقى في السلطة إلى ما لا نهاية , و يجب أن يعوض بتيار سياسي آخر".
كما أنه و ضمن احترام النظام السياسي القائم يدخل التداول تغييرا في الأدوار بين قوى سياسية في المعارضة أدخلها الاقتراع العام إلى السلطة و قوى سياسية أخرى تخلت بشكل ظرفي عن السلطة لكي تدخل المعارضة.
و يشترط التداول: التعددية الحزبية, و إجراء انتخابات حرة و نزيهة, و اتفاق الأحزاب حول مؤسسات الدولة و حكم الأغلبية في ظل احترام الأقلية.
فالديمقراطية تسمح بالتداول على السلطة بضوابط أيضا تنسجم وفكرتها عن الحياة, ووجهة نظرها, وقيمه, ولا تسمح للأحزاب التي لا تؤمن بها وبدساتيرها وقيمها أن تتداول على الحكم.
فهل يريدون من الإسلام أن يغدو فارغا من مضمونه, ومن المسلمين أن يستلبوا في بلادهم وينسلخوا من دينهم؟! وهم الذين, ولله الحمد والمنة, ما زالوا يعظِّمون الدين وأحكامه, ولم يرتدوا على أعقابهم, أو ينهزموا أمام القيم المتخبطة ... فهل يقبلون بكل حزب ملحد, أو فاجر يشهر فساده, و يبث سمومه أن يفتح له الباب واسعا في مجتمع بني من أول يوم على الإسلام؛ ليقوضه, ويحل محله؟!
إننا, وإن كنا على يقين, من تعطش الأمة إلى دينها, وتشبثها به, تطبيقا وممارسة, ومرجعية للقوانين والتشريعات؛ فإننا لا نتصور القبول بالتداول للسلطة ضمن الإطار الديمقراطي الغربي؛ لأن ذلك يعني إقرارا ضمنيا بتحييد دين الأمة عنها, وتعويم هويتها؛ لتصبح بلا مرجعية الدين, تحكمها مرجعية الأغلبية المستندة إلى الآليات الديمقراطية, والقواعد الدستورية والقانونية الغربية.
ولا يُتوَهم, بالمغالطة والتضليل, أن رفض التداول للسلطة بالمفهوم الغربي يعني الرضا باحتكار السلطة, والاستبداد بها؛ إذ الإسلام يحقق تلك الأهداف العليا التي يتوهمون أنهم القادرون عليها, بأحكامه الذاتية, وبطريقته الخاصة, بالبيعة, أو باستشعار رضا المسلمين بوسائط غير مباشرة, كأهل الحل والعقد, مثلا. وليس بالضرورة_ كما أسلفت أن يتطابق الإسلام في معالجته لاحتكار السلطة, ونفي مضارها مع الديمقراطية في الحلول والإجراءات, ومن ذلك أنه لا يلتزم بمدتهم التي تواضعوا عليها لنهاية ولاية الرئيس وحزبه؛ بل إن استمرار النخب الحاكمة لفترة أطول قد يكون دليلا على الاستقرار الذي تسعى إليه جميع الدول والحكومات؛ ما يخلق مناخا ملائما للتنمية والاستثمار. وهذا سليم ما دام وجود الحاكم واقعا بمسار طبيعي واستشارة شعبية واضحة.
والأمر بعد ذلك تداول, ولكن مخصوص, ومشروط من الطرفين؛ فكما أن الديمقراطية, مع الفارق, لا تقبل بنقيضها أن يدخل في إطارها, إلا وقد أفرغته من مضمونه؛ فإن الإسلام, وهو الحق, لا يقبل أن يدخل ما يناقضه في إطاره, ويبقى الجمع بينهما, مع احتفاظ كل منهما بخصائصه ومقتضياته غير ممكن, ولا يتصور.
وفي الأخير, إنه لأكثر طبيعية وواقعية أن تُرَدَ أمة إلى دين لم يشغل مكانَه فيها شيء, من أن تُرد جموعها إلى فكر غريب لم يشغل منها شيئا؛ فلا أسهل من رد الأمة إلى وضعها الطبيعي؛ برتق تلك الفجوة المصطنعة بين الدين والواقع؟! وإذا كان العالم بأوساطه السياسية, بما فيه الولايات المتحدة وكيان يهود ينزع نحو معتقداته المحرفة؛ فهل يحسن بالمسلمين أن يغدوا بلا بوصلة, ولا هوية ولا صبغة, وفيهم : " صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة"
"التداول السلمي للسلطة" بين القبول والرفض
موقع" المسلم"
د/أسامة عبدالمالك عثمان.
التدوال السلمي للسلطة, والتعددية السياسية والحريات وغيرها من مفاهيم الديمقراطية الغربية هي جزء من المقترح الغربي, ومن منظومتهم الفكرية الخاصة, وهي على ذلك محل نظر الناس قبولا ونبذا؛ بحسب ما تمليه عليهم عقولهم وإراداتهم, أو بحسب ما تحدده لهم أديانهم, أو أفكارهم التي ارتضوها. ولا يتصور بحال أن تُصادِر تلك الديمقراطية على الناس خصوصياتهم؛ فيُستلبوا لها؛ فتغدو مقياسا ومرجعية "يهذبون" بها ما خرج, أو يفرغون لها دينهم, إذا ناقض.
والواقع, ومنه السياسي, هو كذلك محل نظر المسلم بالقبول أو الرفض, ومرجعيته في ذلك ما ثبت من النصوص الشرعية وصح؛ بفهم السلف من الصحابة الكرام,رضوان الله عليهم, والتابعين , وبما تحتمله الأدلة الشرعية من فهم العلماء المجتهدين.
والعاملون للإسلام من العلماء والدعاة؛ إنما يحدوهم رضوان الله؛ تعبدا لله, وتأثما من إقرار المنكر, أو السكوت على أوضاع تخالف شريعة الله. ولا يطلبون الحكم بأي ثمن, أو بأي وجه, وهم يعلمون أن الملك لله يؤتيه من يشاء, وينزعه ممن يشاء وفق حكمته وسننه وتوقيته.
والداعون إلى تطبيق الشريعة لا يستهدفون وصول شخوصهم إلى السلطة بقدر ما يبتغون وصول الشريعة؛ فإن وصلوا عنها منفكين, أو معلقين بشروط تنزع السيادة عن الشريعة والدين, وتجعلها في رتبة الأحكام الوضعية؛ فليس هذا بالوصول.
التداول السلمي للسلطة البيئة والدواعي:
ترزح كثير من الشعوب العربية تحت حكم مستبد, يُؤبِّد الحاكم, فيحتكر السلطة, بالتضليل والتزوير, ويورثها, كما التركة, دون ثمثيل من الشعب حر, مباشر, أو غير مباشر؛ ما ينشىء الظلم الاقتصادي والسياسي, والاحتقان الاجتماعي, ويوهن في أبناء الشعب كثيرا من معاني الانتماء للدولة والوطن؛ حين يستشعرون التهميش, والاستهانة؛ فيولد ذلك في الأغلب طباعا في العامة غير طيبة ولا محمودة, وتنشط الممارسات الخاطئة من قبيل المحسوبية والرشوة والنفاق, وقد يقود الاستئثار بالسلطة إلى الغلو والخروج عن الحاكم خروجا عنيفا...أو يفضي إلى السلبية, وقلة الفاعلية.
فيستغل هذا الوضع الشاذ دعاة التغريب والمنبهرون بالنموذج الغربي لتسويق بضاعتهم الكاسدة التي منها مبدأ التداول السلمي للسلطة. وهي أيضا مطلب أميركي صريح تشترطه على من يريد الشراكة في اللعبة الديمقراطية والتعددية؛ ما يعني دخولا سياسيا ودستوريا كاملا تحت سقف الديمقراطية, فالحركة, أو الحزب الذي يخوض الانتخابات ويحظى بأكثرية تمكنه من الحكم سيكون هو والقوى السياسية الأخرى من علمانية واشتراكية مُقِرَّا بالدستور, معترفا بشرعية تلك القوى وحقوقها, وسيخضع معها إلى آليات الديمقراطية...
إذن هي فكرة مطلوبة لما وراءها من توفير ضمانات الحكم الصالح, وعدم اختطاف السلطة, أو اغتصابها من الشعب بالاستبداد وتضييع حقوقه.
فما موقف الإسلام من التداول السلمي على السلطة؟ وما الموقف الحقيقي للديمقراطية منها, وما هي شروطها؟
الإسلام لا يقر غصب السلطة, إنما تتوقف شرعية الحاكم على رضا الأمة واختيارها, وحتى القول بشرعية السلطان المتغلب إنما يستند إلى هذا الرضا, وإن لم يكن صريحا.
وهو شرع أحكاما؛ لتكون ضمانات لالتزام الحاكم بالدستور, وما عاهد عليه الله والناس, فإن لم يف بها؛ يحاسب ويُقَوَّم في الدنيا, وحساب الله أشد .
وهو لم يجعل صلاحيات الحاكم مطلقة؛ فليس الإسلام بالحكم الثيوقراطي, ولا الإمام ظل الله في الأرض.
فالإسلام وأحكامه قاضية على الرعية, أو المواطنين, والراعي أو الحاكم:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [ النساء: 59] وهي واضحة الدلالة في أن مرجعية الحاكم والمحكوم, وهما معا إلى الكتاب والسنة, قال الطبري في تفسيرها: " فإن اختلفتم أيها المؤمنون في شيء من أمر دينكم أنتم فيما بينكم, أو أنتم وولاة أمركم فاشتجرتم فيه , { فردوه إلى الله } يعني بذلك : فارتادوا معرفة حكم الذي اشتجرتم أنتم بينكم, أو أنتم وأولو أمركم من عند الله , يعني بذلك : من كتاب الله , فاتبعوا ما وجدتم . وأما قوله : { والرسول } فإنه يقول : فإن لم تجدوا إلى علم ذلك في كتاب الله سبيلا , فارتادوا معرفة ذلك أيضا من عند الرسول إن كان حيا , وإن كان ميتا فمن سنته"
والحكم الإسلامي في عصر دولة الراشدين واضح القسمات, في الوقوف على رأي الأمة, وإن اختلفت أشكال هذا الوقوف, وما كان يتولى الحاكم الخلافة, أو الإمامة, إلا بالرضى والاختيار...
لكن الإسلام لا يسمح بأن تصل إلى سلطانه أحزاب لا تؤمن بفكره ولا تعترف بدستوره. وهذا بدهي في فكر الإسلاميين جميعا, وثمثيلا: قول الشيخ القرضاوي في بحث له بعنوان: "الدين والسياسة.. تأصيل وردّ شبهات"، إذ حدد فيه الشيخ المفاهيم المتصلة, ومنها: مفهوم الدين، ومفهوم السياسة، ثم عرض مشكلة العلاقة بين الدين والسياسة, كما هي متداولة بين الإسلاميين الذين يسعون إلى عدم الفصل بينهما بعقيدة الشمول في الإسلام، وبين العلمانيين الذين يسعون إلى الفصل بينهما، ثم بيّن انبناء الدولة في الإسلام على الدين، محتجا بالنصوص القطعية، وبالسيرة التاريخية، وبالمصلحة الناشئة من ذلك عمليا متمثلة في حشد قوى الأمة، ودفعها إلى الإنجاز الحضاري... فموقف الإسلام الرافض من القبول بمرجعية للدولة غير الدين, ولو مرة, محسومة واضحة.
تداول السلطة ديمقراطيا:
أما في الديمقراطية فيعرف التداول على السلطة بكونه" مبدأ ديمقراطي لا يمكن وفقه لأي حزب سياسي أن يبقى في السلطة إلى ما لا نهاية , و يجب أن يعوض بتيار سياسي آخر".
كما أنه و ضمن احترام النظام السياسي القائم يدخل التداول تغييرا في الأدوار بين قوى سياسية في المعارضة أدخلها الاقتراع العام إلى السلطة و قوى سياسية أخرى تخلت بشكل ظرفي عن السلطة لكي تدخل المعارضة.
و يشترط التداول: التعددية الحزبية, و إجراء انتخابات حرة و نزيهة, و اتفاق الأحزاب حول مؤسسات الدولة و حكم الأغلبية في ظل احترام الأقلية.
فالديمقراطية تسمح بالتداول على السلطة بضوابط أيضا تنسجم وفكرتها عن الحياة, ووجهة نظرها, وقيمه, ولا تسمح للأحزاب التي لا تؤمن بها وبدساتيرها وقيمها أن تتداول على الحكم.
فهل يريدون من الإسلام أن يغدو فارغا من مضمونه, ومن المسلمين أن يستلبوا في بلادهم وينسلخوا من دينهم؟! وهم الذين, ولله الحمد والمنة, ما زالوا يعظِّمون الدين وأحكامه, ولم يرتدوا على أعقابهم, أو ينهزموا أمام القيم المتخبطة ... فهل يقبلون بكل حزب ملحد, أو فاجر يشهر فساده, و يبث سمومه أن يفتح له الباب واسعا في مجتمع بني من أول يوم على الإسلام؛ ليقوضه, ويحل محله؟!
إننا, وإن كنا على يقين, من تعطش الأمة إلى دينها, وتشبثها به, تطبيقا وممارسة, ومرجعية للقوانين والتشريعات؛ فإننا لا نتصور القبول بالتداول للسلطة ضمن الإطار الديمقراطي الغربي؛ لأن ذلك يعني إقرارا ضمنيا بتحييد دين الأمة عنها, وتعويم هويتها؛ لتصبح بلا مرجعية الدين, تحكمها مرجعية الأغلبية المستندة إلى الآليات الديمقراطية, والقواعد الدستورية والقانونية الغربية.
ولا يُتوَهم, بالمغالطة والتضليل, أن رفض التداول للسلطة بالمفهوم الغربي يعني الرضا باحتكار السلطة, والاستبداد بها؛ إذ الإسلام يحقق تلك الأهداف العليا التي يتوهمون أنهم القادرون عليها, بأحكامه الذاتية, وبطريقته الخاصة, بالبيعة, أو باستشعار رضا المسلمين بوسائط غير مباشرة, كأهل الحل والعقد, مثلا. وليس بالضرورة_ كما أسلفت أن يتطابق الإسلام في معالجته لاحتكار السلطة, ونفي مضارها مع الديمقراطية في الحلول والإجراءات, ومن ذلك أنه لا يلتزم بمدتهم التي تواضعوا عليها لنهاية ولاية الرئيس وحزبه؛ بل إن استمرار النخب الحاكمة لفترة أطول قد يكون دليلا على الاستقرار الذي تسعى إليه جميع الدول والحكومات؛ ما يخلق مناخا ملائما للتنمية والاستثمار. وهذا سليم ما دام وجود الحاكم واقعا بمسار طبيعي واستشارة شعبية واضحة.
والأمر بعد ذلك تداول, ولكن مخصوص, ومشروط من الطرفين؛ فكما أن الديمقراطية, مع الفارق, لا تقبل بنقيضها أن يدخل في إطارها, إلا وقد أفرغته من مضمونه؛ فإن الإسلام, وهو الحق, لا يقبل أن يدخل ما يناقضه في إطاره, ويبقى الجمع بينهما, مع احتفاظ كل منهما بخصائصه ومقتضياته غير ممكن, ولا يتصور.
وفي الأخير, إنه لأكثر طبيعية وواقعية أن تُرَدَ أمة إلى دين لم يشغل مكانَه فيها شيء, من أن تُرد جموعها إلى فكر غريب لم يشغل منها شيئا؛ فلا أسهل من رد الأمة إلى وضعها الطبيعي؛ برتق تلك الفجوة المصطنعة بين الدين والواقع؟! وإذا كان العالم بأوساطه السياسية, بما فيه الولايات المتحدة وكيان يهود ينزع نحو معتقداته المحرفة؛ فهل يحسن بالمسلمين أن يغدوا بلا بوصلة, ولا هوية ولا صبغة, وفيهم : " صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة"
تعليقات
إرسال تعليق