التخطي إلى المحتوى الرئيسي

ما بعد الوفرة ... مآلات السلم الاجتماعي في الجزائر بعد انهيار أسعار النفط



محمد المهدي شنين 
انهارت أسعار النفط ، و ارتفعت معها المخاوف من التحديات الاقتصادية ، و ضغوط المطالب الاجتماعية ، بعد فترة الوفرة المالية التي عاشتها الجزائر ، و التي تعرف داخليا "بالبحبوحة" ، حيث جنت خلالها عوائد مالية بقيمة 800 مليار دولار ، لكن هذه الوفرة لم توظف لإخراج البلاد من التبعية الكاملة لقطاع المحروقات الذي يمثل 98% من الصادرات ، و يساهم بـ 60% من الدخل الوطني ، مما جعل الجبهة الاجتماعية رهينة لتقلبات أسعار النفط في الأسواق العالمية .
1-/ رهانات الجبهة الاجتماعية :
ارتبطت السياسات الحكومية تجاه المطالب الاجتماعية بأسعار النفط ، بحكم ارتهان الدولة للعوائد النفطية منذ الاستقلال ، و تعيش الجزائر على وقع تحديات اجتماعية ، عكستها الاحتجاجات في قطاعات مختلفة ، إضافة إلى الأزمات المزمنة التي تعانيها البلاد كأزمتي البطالة و السكن ، و التي زادت من الأعباء على الميزانية .
و قد شهدت الجزائر في السنوات الأخيرة إضرابات عمالية في قطاعات مختلفة ، مطالبة بتحسين الوضع الاقتصادي ورفع الأجور كان أبرزها قطاع التربية ،والذي شهد إضرابات متواصلة ،و جولات من المفاوضات مع الوزارة ساهمت في احتواء الوضع بشكل كبير،كذلك نظمت جملة احتجاجات و إضرابات عمالية في قطاعات الصحة و التضامن الوطني ، علاوة على احتجاجات الشباب العاملين في إطار عقود ما قبل التشغيل ، و المطالبين بفرص عمل قارة ، و أخيرا عاشت البلاد على وقع الاحتجاجات التي نظمتها الشرطة في أكثر من ولاية ، و المطالبة بتحسين ظروف العمل و زيادة الأجور، خاصة بعد أحداث العنف التي شهدتها ولاية غرداية جنوبي البلاد.

لم تقتصر الرهانات الاجتماعية على المطالب العمالية فقط ، فالدولة أمام التزامات داخلية تحتاج إلى أغلفة مالية ضخمة ، أبرزها أزمة السكن ، و التي تعتبر من أكبر التحديات التي تعرفها الجزائر ، و تسعى للقضاء عليها آفاق 2019 ، نظرا لما يرافقها من احتجاجات و اضطرابات ،كما شهدت الولايات الجنوبية احتجاجات شبابية متواصلة منذ سنوات ، مطالبة بفرص التشغيل في الحقول البترولية القريبة ، إضافة إلى دفع عجلة التنمية و النهوض بالمناطق الجنوبية التي تعيش عجز من حيث المرافق و البنى التحتية .
تواجه الجزائر هذه التحديات في ظل محيط إقليمي مضطرب و غير مستقر، يفرض أعباء أمنية على البلاد ، كما يجعلها وجهة للاجئين من الدول المجاورة ، مما يفاقم من تأزم الوضع الداخلي ، إذ يشهد شمال مالي حربا داخلية ، و حالة انفلات أمني جعلها مصدر تهديد دائم ، كما تستنفر الجزائر قواتها على الحدود الشرقية مع ليبيا ، من أجل احتواء التهديدات الناجمة عن الاقتتال الداخلي و انهيار الدولة .
و قد حاول النظام احتواء التحديات الداخلية ، و التي كانت ذروتها في 2011 بما عرف حينها "باحتجاجات الزيت و السكر" ، وذلك من خلال ضخ الأموال عن طريق زيادة الأجور ، و دعم المواد الاستهلاكية ، خاصة و أن الفترة ذاتها شهدت بدايات الحراك العربي ، و الذي مست تداعياته المحيط الجزائري .
اعتمدت السياسات الحكومية في احتواء المطالب الاجتماعية على البحبوحة المالية ، لكن يبدو أن الوضع تغير بتهاوي أسعار النفط ، و قد حذرت الأحزاب السياسية من التداعيات الوخيمة لهذا الانهيار على الوضع الاجتماعي و الاقتصادي للجزائر ، و اعتبرت أن تهرب الحكومة من مواجهة هذه التداعيات ، و استنادها على الريع النفطي لشراء السلم الاجتماعي ، سيزيد من حجم هذه التأثيرات ، و يستدعي مناخ الأزمة الاقتصادية الحادة التي هزت البلاد عام 1986 ،  و التي ترتب عنها انفجار اجتماعي .­)[1](   
2-/ الاستجابة الحكومية :
سعت الحكومة منذ بداية انهيار أسعار النفط إلى التطمين أن هذا الانهيار لن يؤثر على البلاد بشكل كبير ، معتمدة في ذلك على الفوائض المالية التي حققتها خلال سنوات الوفرة ، لكن هذه التطمينات سرعان ما تغيرات بعد استمرار تهاوي النفط و وصوله إلى ما دون 55 دولار ، حيث أعلن الوزير الأول عن سياسة التقشف .
و قد أوردت صحيفة البلاد أن رئيس الجمهورية عقد اجتماعا وزاريا مصغرا وجه فيه إنذارات إلى الوزراء ، و خرج بقرارات أهمها انتهاج سياسة تقشفية ، باعتماد إجراءات للحد من نزيف الخزينة العمومية ، على غرار تجميد كل مسابقات التوظيف ،و المناصب المالية المتوفرة تخضع لموافقة الوزير الأول شخصيا ، إضافة إلى تجميد المشاريع الكبرى خلال الفترة الحالية ، و تقليص ميزانيات تسيير و تجهيز الوزارات ، و حمل البنوك العمومية و الخاصة على تمويل المشاريع الاستثمارية بدل الخزينة ، دون المساس بسياسة الدعم الحكومي للمواد الاستهلاكية .([2])
و قد اعتبر العديد من الخبراء أن سياسة التقشف التي اعتمدتها الحكومة لا تمثل حلا للمشكلات الاقتصادية التي تعاني منها البلاد ، وإن حاولت شراء السلم الاجتماعي من خلال الحفاظ على دعم المواد الاستهلاكية ، إلا أنها ستعمق من أزمة البطالة في ظل تجميد مسابقات التوظيف ، و إمكانية تجميد المشاريع الكبرى ، و التي تستوعب الكثير من العمال .
و للمفارقة أقرت الحكومة ميزانية لسنة 2015 هي الأضخم في تاريخ البلاد ، إذ تزيد عن 100 مليار دولار ، و قد توقع نص مشروع المالية لسنة 2015 أن تبلغ مداخيل الميزانية 4.684.6 مليار دينار ، على أن تبلغ قيمة النفقات 8.858.1 مليار دينار ، مما يعني تحقيق عجز يقدر بـ 4.173.3 مليار دينار ، أي 22.1% من الناتج المحلي ، و ستزيد النفقات العمومية في ميزانية 2015 بنسبة 15.7 % ، وقدرت مخصصات الدعم على المواد الاستهلاكية (الزيت ، السكر ، الحليب ، الدقيق ) بحوالي 2.8 مليار دولار ، بينما تجاوز دعم المواد الطاقوية 20 مليار دولار.([3]) ،ّ و قد بنت الحكومة الجزائرية موازنتها لسنة 2015 على أساس 37 دولار للبرميل ، بحيث يرجع الفائض المالي  لصندوق ضبط الإيرادات الذي يمول العجز ، إذ أن الميزانية بحاجة إلى سعر 110 دولار للبرميل على الأقل لتحقيق التوازن .
ما يلاحظ على موازنة 2015 أنها آثرت التخفيف من التبعات المباشرة لانهيار أسعار النفط على المواطن نظرا للفائض المالي ، لكن المؤكد أن هذا الانهيار سيكون له أثر كبير على الواقع الاقتصادي في الجزائر و الذي يعتمد بشكل كبير على القطاع العام و دعم الدولة ، كما أن الاستمرار في السياسات الاقتصادية الراهنة سيسرع من استنزاف الاحتياطي المالي ، مما سيخلف تداعيات على السلم الاجتماعي مستقبلا .
3-/ آفاق السلم الاجتماعي في ظل الركود الاقتصادي .
تعتمد الجزائر على مداخيلها النفطية بصفة مطلقة مما يجعلها من أكثر البلدان تأثرا بالتغيرات في أسعار الطاقة ، إذ أن انهيار الأسعار يجعل الدولة عاجزة عن الإيفاء بالتزاماتها الداخلية ، كما ينعكس سلبا على البنية الاقتصادية الهشة، هذه الأخيرة التي تعتمد بشكل كبير على الاستثمار الحكومي من خلال المشاريع التي تطلقها الحكومة عبر المخططات المتتالية .
و قد أكد الخبير الاقتصادي عبد الحق لعميري أن الاقتصاد الجزائري ينفق 3.5 دولار لإنتاج دولار واحد ، الأمر الذي يؤكد على ضعف المردودية الاقتصادية لمختلف القطاعات الاقتصادية ، في ظل مواصلة السلطات العمومية الاعتماد على مداخيل الموارد الطاقوية على مستوى السوق العالمية.([4])
فهشاشة البنية الاقتصادية للبلاد لا تستطيع الصمود طويلا أمام تقلبات أسعار الطاقة في الأسواق العالمية ، و في هذا السياق يقول فاروق طيفور المتحدث باسم حركة حمس ليومية الخبر أن تقديرات وزارة المالية للجزائر تستدعي بقاء سعر النفط في حدود 120 دولار للبرميل ، مشيرا إلى أن المؤشرات الحالية قد تدفع الجزائر إلى حالة عجز عن الدفع شبيهة بأزمة 1986.([5])
و مما يمكن أن يعمق من حدة الأزمة مستقبلا السياسات الاقتصادية التي تنتهجها الحكومة ، إضافة إلى الفساد الذي يستنزف مقدرات البلاد ، يقول النائب البرلماني عن جبهة العدالة و التنمية لخضر بن خلاف  أن الصناديق الخاصة تستنزف ميزانية الدولة ، حيث أضاعت في السنوات الأخيرة ما يقارب 175 مليار دولار بسبب الفساد و غياب الشفافية ، و أورد لصحيفة البلاد أن 68 صندوقا خاصا في الجزائر على غرار صندوق التنمية الاقتصادية كانت محل انتقاد كبير من قبل هيئات اقتصادية عالمية على غرار صندوق النقد الدولي ، إضافة إلى الهيئات المحلية مثل مجلس المحاسبة .([6])
و قد تراجعت الجزائر في مؤشر الفساد الذي نشرته منظمة الشفافية الدولية من المرتبة 94 في مؤشر العام 2013 لتتراجع إلى المرتبة 100 من 175 في مؤشر 2014 بدرجة ضعيفة قدرها 3.6% ([7]) ، و في السنوات الأخيرة برزت العديد من قضايا الفساد في مؤسسات الدولة ، حيث قوبلت باستياء شعبي كبير ، كان أبرزها قضية سوناطراك و المتهم فيها وزير الطاقة السابق شكيب خليل الفار من العدالة .
هذا العجز المتأصل في البنية الاقتصادية الجزائرية ، و الذي يتفاقم بفعل فشل السياسات الحكومية و استشراء الفساد في هياكل الدولة سيتسبب بتداعيات سلبية جدا على السلم الاجتماعي مستقبلا ، خاصة إذا حاولت الحكومة القيام بأي إصلاحات من شأنها المساس مباشرة بالمواطن سواء من خلال رفع الدعم أو تخفيض الأجور أو تسريح العمال ، خاصة و أن هذه الإجراءات ستكون حتمية في حالة استمرار انهيار أسعار النفط و استنزاف الاحتياطات النقدية ، هذه الأخيرة التي ستفيد تخفيف حدة الأزمة و تأخير الانفجار .
هذه التحديات ستضيف أعباء على الدولة في ظل التحديات الداخلية الناجمة عن ارتفاع نسب البطالة ، و تزايد المطالب الفئوية و العمالية ، و انتشار الاحتجاجات الشبابية المطالبة بتوفير فرص للعمل ، كما أن أي إجراءات تقشفية ستكون فاقدة للمصداقية في ظل فضائح الفساد المالي التي مست شخصيات نافذة في الدولة و استنزفت مقدرات مالية ضخمة ، علاوة على السياسات الاقتصادية الفاشلة ، و التي أخفقت في توظيف البحبوحة المالية في دفع العجلة الاقتصادية بعيدا عن الارتهان لقطاع المحروقات .

الهوامش و الإحالات :


([1])- عثمان لحياني ، انهيار أسعار النفط استدعاء لمناخ أزمة عام 1986 في الجزائر ، موقع جريدة الخبر ، متوفر على الرابط : http://www.elkhabar.com/ar/politique/436907.html
([2]) - صحيفة البلاد ، انخفاض أسـعار النفط .. اجتماعات أوبك .. حلف الجزائر ـ كراكاس والتعنت السعودي وسياسة التقشف ، متوفر على الرابط : http://www.elbilad.net/article/detail?id=28054

([3])- وكالة الأنباء الجزائرية ، رئيس الجمهورية يوقع على قانون المالية لسنة 2015، متوفر على الرابط التالي :

([4] )- يومية الخبر ، منتدى الخبر يناقش انعكاسات انهيار اسعار النفط على الاقتصاد الجزائري ، متوفر على الرابط التالي : http://www.elkhabar.com/ar/autres/nadwa/429269.html
([5]) - عثمان لحياني ، المقال السابق .
([6]) - يومية البلاد ، خسائر الجزائر السنوية تعادل ميزانيات ثلاثة دول افريقية ، متوفر على الرابط التالي : http://www.djazairess.com/elbilad/222917
([7]) - خالد بودية ، الجزائر تلميذ غير نجيب في مكافحة الفساد ، يومية الخبر ، متوفر على الرابط التالي :


مصدر المقال : 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بحث عن التنمية المستدامة ( البحث منقول)

مقدمة الفصل: لقد أستحوذ موضوع التنمية المستدامة اهتمام العالم خلال 15 سنة المنصرمة وهذا على صعيد الساحة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية العالمية ،حيث أصبحت الاستدامة التنموية مدرسة فكرية عالمية تنتشر في معظم دول العالمي النامي والصناعي على حد سواء تتبناها هيئات شعبية ورسمية وتطالب بتطبيقها فعقدت من أجلها القمم والمؤتمرات والندوات.ورغم الانتشار السريع لمفهوم التنمية المستدامة منذ بداية ظهورها إلا أن هذا المفهوم مازال غامضا بوصفه مفهوما وفلسفة وعملية ،ومازال هذا المفهوم يفسر بطرق مختلفة من قبل الكثيرين ولذلك فقد تم التطرق في هذا الفصل إلى مبحثين رئيسيين:المبحث الأول: ماهية التنمية المستدامة;المبحث الثاني: محاور أساسية في التنمية المستدامة;المبحث الأول: ماهية التنمية المستدامةبدأ استخدام مصطلح التنمية المستدامة كثيرا في الأدب التنموي المعاصر وتعتبر الاستدامة نمط تنموي يمتاز بالعقلانية والرشد، وتتعامل مع النشاطات الاقتصادية التي ترمي للنمو من جهة ومع إجراءات المحافظة على البيئة والموارد الطبيعية من جهة أخرى، وقد أصبح العالم اليوم على قناعة بأن التنمية المستدامة التي تقضي على قضايا التخ

عوامل قوة الدولة

ان لعوامل القوة المتاحة للدولة دور كبير في تحديد مكانتها على الساحة الدولية لكن قبل التعرض لهذه العوامل يجب علينا ان نعرج على بعض المفاهيم إن القوة ـ كما أوضحت تعريفاتها ـ ليست التأثير ، وإنما القدرة على التأثير . وتستند هذه القدرة على امتلاك الدولة إمكانيات (خصائص ، موارد ، قدرات ، مؤسسات) معينة تشكل مقومات القوة القومية Elements of National Power التى تمكنها من التأثير على سلوكيات الدول الأخرى فى الاتجاهات التى تحقق مصالحها، كالمساحة الجغرافية ، وعدد السكان ، والموارد الطبيعية ، والقدرات الإقتصادية ، والقوة العسكرية ، والبنية التكنولوجية ، والفعاليات الثقافية، والمؤسسات السياسية ، والحالة المعنوية للشعب ، وغيرها . لكن ، على الرغم من أن هذه الإمكانيات المتداخلة تشكل فى مجموعها عوامل القوة الشاملة لأى دولة ، فإن هناك اختلافات أساسية فيما بينها ، ترتبط باعتبارات عملية ، تتصل بالقدرة على استخدامها فى عملية التأثير ، خاصة خلال المواقف التى يتعرض في

المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية

المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية "تمثل مدرسة الواقعية السياسية التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية ردة فعل أساسية على تيار المثالية. وهدفت الواقعية إلى دراسة وفهم سلوكيات الدول والعوامل المؤثرة في علاقاتها بعضها مع بعض. . . [لقد] جاءت الواقعية لتدرس وتحلل ما هو قائم في العلاقات الدولية, وتحديداً, سياسة القوة والحرب والنزاعات, ولم تهدف كما فعلت المثالية إلى تقديم . . . [مقترحات] وأفكار حول ما يجب أن تكون عليه العلاقات الدولية". "وقد حاول الواقعيون الحصول على أجوبة لأسئلة مازال يطرحها الأكاديميون والمهتمون بالشؤون الدولية منذ الستينات وحتى يومنا هذا. إذن هدفت الواقعية إلى تقديم نظرية سياسية لتحليل وفهم واستيعاب الظواهر الدولية". يرى مورغنثاو (وهوا من ابرز منظري الواقعية) بان السياسة الدولية تتميز (وتنفرد) "كفرع أكاديمي عن دراسة التاريخ والقانون الدولي والأحداث الجارية والإصلاح السياسي". أهم المسلمات الأساسية في الفكر الواقعي 1. "أن السياسة لا يمكن أن تحددها الأخلاق كما يقول المثاليون بل العكس هو الصحيح. وبالتالي فالمبادىء الأخلاقية لا يمكن تط