أ/ عصام بن الشيخ
أ/ محمد المهدي شنين
"إنّني
أتمتع ببعض الصفات التي تسمح لي بأن أخطط لمصير العالم في المستقبل، فأنا أعرف
ماذا تعني العولمة الرأسمالية والأسواق المصرفية الدولية، لأنّني جربت نفسي فيها
ونجحت، كما أسّست بعدئذ شبكة دولية من المؤسسات والجمعيات الهادفة إلى تشكيل
المجتمع المفتوح على مستوى العالم كلّه".([1])
إنّه جورج سورس
من أقوى الشخصيات النافذة في العالم بفضل الثروة المالية الضخمة، التي عززتها
شبكات العولمة، ولعله من أبرز ملامح النظام العالمي الجديد، حيث لا يخفى تراجع
الدولة ومركزيتها كفاعل وحيد في العلاقات الدولية، لصالح الفواعل الجديدة من
منظمات وأفراد كجورج سورس، هذا الأخير الذي كان له تأثيرات قوية على العديد من دول
العالم اقتصاديا وسياسيا، من خلال ثروته الضخمة، وشبكة المؤسسات التي يديرها
ويموّلها عبر أكثر من 50 دولة تحت ما يسمى "المجتمع المفتوح"، يقول في
كتابه "جورج سورس والعولمة"، "إنّني انخرطت بنشاط في
محاولة جعل العالم مكانا أفضل، فقد أوجدت شبكة من المؤسسات المكرسة لمفهوم المجتمع
المفتوح". ([2])
1-/
من هو ...جورج سورس ؟؟.
ولد سورس بالمجر
في (11 أغسطس 1930)، وكان اسمه جورج شوارتز، كان والده يهوديا غير اسم العائلة سنة
1936 من شوارتز إلى سورس خوفا من النازيين، هاجر جورج إلى انجلترا في 1947، وفيها
تخرج من مدرسة لندن للاقتصاد، وفي سنة 1956 توجه إلى الولايات المتحدة، حيث تنقل بين
أكثر من وظيفة، حتى أنشأ عام 1973 شركته الاستثمارية الخاصة، بعدها تضاعفت ثروته
وأصبح يعرف بالمضارب الأكبر في الاقتصاد العالمي، وقد وضعته مجلة فوربس الأمريكية
في المرتبة 24 على قائمة أغنى رجل في الولايات المتحدة.([3])
يقول جورج سورس
في مقدمة كتابه عصر اللاعصمة عواقب الحرب على الإرهاب: "حالفني الحظ في
تحقيق أحلامي أكثر من معظم الناس، ومع ذلك فقد تعرض التأثير الذي مارسته للمبالغة
والتهويل، إذ قيل أنني الرجل الذي دفع بنك انجلترا إلى حافة الإفلاس، حين أجبرت
بريطانيا على الخروج من آلية الصرف الأوربية، أما مهاتير محمد فقد اتهمني بالتسبب
بالأزمة المالية الأسيوية سنة 1997، بينما حملني الرئيس الروسي فلاديمير بوتن
مسؤولية ما سمي بالثورة الملونة في كل جورجيا وأوكرانيا، كما اتهمت بمحاولة
شراء الانتخابات، بعد أن اتخذت موقفا معارضا لإعادة انتخاب الرئيس بوش عام 2004 ". ([4])
اقترن اسم جورج
سورس منذ بداية التسعينات بالعديد من الأزمات المالية والمضاربات الاقتصادية، كما
اقترن اسمه بالجمعيات التي يدعمها ويمولها، والتي تنشط حول العالم، ولها تأثيرها
الكبير، وعلى رأسها مجموعة الأزمات الدولية، مما أهله لامتلاك نفوذ مركب اقتصاديا
وسياسيا ودعائيا.
2-/
بنية القوة.
في إجابته عن
السؤال كيف بلغت هذا الموقع المتميز؟، يقول سوروس: "جمعت توليفة من ثلاث
مؤهلات، أولا: استطعت تطوير إطار نظري زودني بفهم معين للتاريخ، ثانيا: آمنت
بمجموعة من المعتقدات الأخلاقية والسياسية، ثالثا: جمعت ثروة ضخمة من المال، هذا
بالإضافة إلى شبكة المؤسسات غير الربحية التي أنشأتها، والتي زودتني بركيزة صلبة
من المعارف المحلية، يمكنني المطالبة على أساسها بحقي في أن يؤخذ برأيي في تشكيلة
منوعة من القضايا، كما أن للأشخاص الذين يديرون هذه المؤسسات الحق بالمشاركة في
الحياة السياسية لبلدانهم، وهو حق ربما لا أتمتع به أنا الأجنبي". ([5])
يرتكز سوروس على
قوة مركبة من المال والصناعة الفكر والتأثير السياسي في شكل متتالية، تنطلق من
الاقتصاد والقوة المالية التي تستغل في تشكيل الجمعيات ومنظمات المجتمع المدني عبر
العالم، وهذه الأخيرة تسمح سوروس بنفوذ عابر للقارات وتتيح له إمكانية التأثير في
سياسات الدول وأوضاعها الداخلية، و ربما حتى في توجهاتها الخارجية.
ارتكز نفوذ جورج
سوروس على مكانته الاقتصادية في أسواق العملات، والتي كانت وراء ثروته، وكانت أيضا
نافذة تأثيره على اقتصاديات الدول، من خلال المضاربات في أسواق العملات، حيث كانت
وراء الانهيار الاقتصادي لأكثر من دولة.
ففي سنة 1997
اتهم الصندوق التحوطي لسورس بالتسبب في انهيار العملة التايلندية
"البات"، مما تسبب في هزة مالية سرت في الأسواق الآسيوية كلها، وبعد
الأزمة اتهم مهاتير محمد جورج سوروس بالتسبب في تخفيض العملات الآسيوية للانتقام
من الدول الأعضاء في منظمة الآسيان لقبولها عضوية حكومة ميانمار العسكرية. ([6])
اتهم سورس قبلها
بخمسة سنوات، بالمضاربة على الجنيه الإسترليني في بريطانيا، وكسب من وراءها أكثر
من مليار دولار، مما أجبر بريطانيا على رفض الانضمام للعملة الأوربية، وتثبيت
الجنيه الإسترليني، وقد أوصلت الأزمة بنك انجلترا إلى حافة الإفلاس.
لا تعتمد قوة
سوروس على المال فقط، إذ وظّف هذا الأخير أمواله في اتجاهات عدّة أبرزها دعم
منظمات المجتمع المدني وتمويلها وتكوينها عبر العالم، واتّهم في أكثر من منطقة
بتأجيج الثورات والاضطرابات، خاصة في أوربا الشرقية التي نشطت فيها جمعياته بعد
انهيار الاتحاد السوفييتي، حيث يقول: "حين انهيار النظام السوفييتي تمكنت
مؤسساتي من انجاز الكثير بشكل مستقل، وظلت مؤسساتي مدة طويلة عمليا دون منافسين،
الأمر الذي جعلها بالغة التأثير واسعة النفوذ ". ([7])
أنشأ سوروس منظمة
"المجتمع المفتوح" ولها فروع في معظم دول العالم، للاتصال المباشر
وإدارة الشبكات التي تم تجنيدها، والعمل على استقطاب المزيد، لم يكتف سوروس بذلك
وإنما يمول ما يسمى بـ "الصندوق الوطني للديمقراطية"، الذي يمول أنشطة
تجنيد الشباب في 90 بلدا، ويمول سوروس أيضا "مجموعة الأزمات الدولية"،
وهناك أيضا منظمة باسمه "مؤسسة سوروس" تعمل في معظم دول العالم،
ومعلومات أخرى معلنة عن وجود 20 مؤسسة تابعة لسوروس تعمل في جمهوريات الاتحاد
السوفيتي السابق، و30 فرعا في دول أخرى. ([8])
3-/
ملامح الفكر السياسي ..لسورس .
طوّر جورج سورس
فكره السياسي من خلال جملة الأفكار التي يسعى إلى تحقيقها على مستوى عالمي، مستغلا
العولمة وما توفره من شبكات وتواصل، حيث يقول: "أستطيع تحديد هدفي باعتباره
مجتمعا عالميا مفتوحا، وأنا أسعى إليه على مستويين: أحدهما يتصل بالنظام العالمي،
والأخر يتعلق بالنظام السائد في بلدان العالم كله على حدة". ([9])
استفاد سوروس من
العولمة وطور إمكاناته التأثيرية، عبر توسيع استثماراته إلى أسواق جديدة، ومن خلال
نفوذ مؤسساته في دول كثيرة، ورغم ذلك ينتقد سوروس العولمة في شكل انفصامي متقمصا
الإنسانية وكأنّه لم يستفد من قوى العولمة وتقلبات الأسواق المالية من خلال
المضاربات، ويرى أنها قد تسببت بضرر كبير للدول الأقل تطورا، بدون أن يتوفر لها شبكة
أمان اجتماعية، في حين همشت كثيرا من الدول الأخرى من قبل الأسواق العالمية، كما
تسببت العولمة في سوء توزيع للموارد. ([10])
كما يعتقد أن
المؤسسات الدولية تحتاج إلى بعض الإصلاحات، نظرا لأنها تحت هيمنة الدول الغنية،
ويرى سوروس أنّ الأمم المتحدة رغم أهدافها النبيلة إلا أنها عاجزة عن ترجمة
مقاصدها، لذلك يرى أنّ مؤسسات المجتمع الدولي لم تواكب تطور الأسواق الدولية،
وتغيرات العولمة، فأضحت بنى عاجزة، لأنها تحمي مصالح الدول والأنظمة لا مصالح
الشعوب حسب اعتقاده.
كما يتخذ سوروس
موقفا من سياسة الولايات المتحدة، وخصوصا المحافظين، حيث يرى أنّها أكبر مهدد
للاستقرار العالمي، ويقول: "العقبة الرئيسية أمام إقامة نظام عالمي مستقر
وعادل هي الولايات المتحدة، فهي قومانية إذا جاز التعبير، تشدد على استخدام القوة،
وتجاهل المشكلات العالمية التي يتطلب حلها تعاونا دوليا. ([11])
يؤكد جورج سوروس
على أهمية المال وتأثير رجال الثروة في سياسة الولايات المتحدة، إذ يقول في كتابه
أزمة الرأسمالية العالمية" في الولايات المتحدة لا يستطيع الفوز بالانتخابات
إلا الذين يعقدون الصفقات مع مراكز القوى، للحصول على ما يكفيهم من المال لنجاح
حملتهم الانتخابية. ([12])
ويعتبر مفهوم
المجتمع المفتوح Open Society من
أهم المفاهيم التي اقترن ذكرها باسم جورج سوروس، وسخر ثروته لتجسيدها، من خلال
إنشاءه لمؤسسة المجتمع المفتوحOpen Society Foundations، والتي تعرف نفسها بأنّها
"تعمل على بناء مجتمعات متسامحة، تتأسس على مساءلة حكوماتها ، و تكون منفتحة
لمشاركة الجميع". ([13])
هذه المؤسسة هي
مجموعة من المكاتب والمنظمات عبر أنحاء العالم، تعرف نفسها بأنّها تموّل برامج
التعليم والصحة وتطوير الأعمال، كما تقوم بتدريب النشطاء والعاملين ضمن فعاليات
المجتمع المدني، يقول سوروس: "ينبغي أن أفسر ما أعنيه بالمجتمع العالمي
المفتوح، أشدد على أنه لا يعني إنشاء حكومة عالمية، أقصد بالتحديد سيادة القانون
الدولي، فالنظام الدولي السائد غير مرض و غير كاف". ([14])
ورغم محاولة
إضفاء الطابع الإنساني على هذه المؤسسة، إلاّ أنّها واجهت اتهامات بتأجيج
الاضطرابات في مناطق عدة، آخرها مصر وأوكرانيا، ففي مصر وجه وزير العدل المصري في
فترة حكم المجلس العسكري عادل عبد الحميد تهما لنحو 300 منظمة غير حكومية، وغير
مصرح بها، حيث اتهمت هذه المؤسسات بالنشاط لتأجيج الاضطرابات والحرب الأهلية في
البلاد، بغرض فرض نظام جديد، وكانت هذه المنظمات تتلقى دعما في التدريب والتمويل
من طرف منظمة المجتمع المفتوح. ([15])
ويتأسس عمل هذه
المنظمات على رؤية سوروس للسيادة، حيث يرى أنّ الأخيرة تنطوي على مفارقة تاريخية،
فهي موروثة مع العصر الذي كان فيه الملوك يحكمون، وبعد الثورة الفرنسية انتقلت
السيادة على الدولة إلى الشعب، لذلك فالسيادة لا تكفي لعالم اليوم، المعتمد على
بعضه باضطراد، وفي ظل تفاقم الأزمات الدولية تقع على عاتق المجتمع الدولي مسؤولية
التدخل، هذه الحالة التي دعاها كارل بوبر: "الهندسة الاجتماعية التدريجية"،
ويقرّ سوروس: "أنا على استعداد للانخراط فيها شخصيا من خلال المؤسسات التي
أمتلكها". ([16])
4-/ تفكيك المجتمعات ..و تركيبها:
يقود البحث حول
جورج سوروس إلى مجموعة من المحطات، إذ يتأسس نفوذ الرجل على القوة المالية والثروة
القائمة على المضاربة في أسواق المال، ويسخر سوروس هذه القوة المادية في تمويل
برامج مؤسساته وجمعياته عبر العالم، من خلال تأهيل وتكوين كوادر من دول مختلفة،
تؤمن بجملة المبادئ والتصورات التي يعتقدها، تؤهله هذه الفعاليات المجتمعية
للتأثير في الدول والمجتمعات، من خلال تحريك الجماهير وتوجيهها، والتأثير في
سياسات الحكومات، من خلال المنظمات المترابطة والعابرة للحدود.
ما يلاحظ كذلك هو
استهداف سوروس للمراحل الانتقالية، أو محاولة استحداثها عن طريق إدخال الدول في
اضطرابات تدفع نحو هذه المراحل، وهي فترة خطيرة وتأسيسية لما بعدها، يكون فيها
النظام معولم، كما تكون فيها الأهداف ضبابية غير واضحة بسبب شيوع الفوضى وحالة
اللااستقرار.
تتيح المراحل
الانتقالية مساحات للمنظمات والفعاليات المدعومة من الخارج، دون حساب أو مراقبة،
بسبب الفوضى وتشتت التركيز الأمني، مما يمكن هذه المنظمات، ومن وراءها من نفاذين
من أمثال سوروس من إعادة تشكيل المجتمعات والكيانات على أسس جديدة، وهذا تجسيدا
لفكرة الهندسة الاجتماعية التدريجية التي آمن بها سوروس، هذا البرنامج المترابط
والتكامل الأجزاء هو الذي أهل جورج سوروس ليكون من أقوى النافذين والمؤثرين في
السياسة العالمية.
الهوامش
والإحالات:
([4])- جورج سورس، عصر اللاعصمة
عواقب الحرب على الإرهاب (ترجمة: معين الإمام) (الرياض: مكتبة
العبيكان، 2007)، ص. 10.
([12])- أسماء حسن ملكاوي، عرض كتاب جورج سوروس:
وهم التفوق الأمريكي... سوء استخدام القوة الأمريكية،مجلة إسلامية المعرفة،
العدد: 43 (2003)، ص. 291.
تعليقات
إرسال تعليق