اقتراب تحليل النظم في علم السياسة
جابر سعيد عوض
ندوة إقترابات البحث في العلوم الاجتماعية، 1992، 20ص.
شهد حقل العلوم السياسية تطوراً محلوظاً في أعقاب الحرب العالمية الثانية عجزت معه العلوم السياسية بمناهجها التقليدية عن استيعابه والإحاطة بمختلف الظواهر السياسية الجديدة المصاحبة له، الأمر الذي برزت معه حاجة ملحة لتطوير مناهج البحث في هذا الفرع من أفرع العلوم الاجتماعية، بل واستحداث اقترابات ومناهج أخرى جديدة أكثر قدرة على فهم هذه الظواهر والإحاطة بها.
لقد كان اقتراب التحليل النظمي أحد أهم هذه الاقترابات المستحدثة في نطاق الدراسات السياسية التي بدأ في التبلور والظهور مع منتصف الخمسينيات. والحقيقة أن إدخال مفهوم تحليل النظم إلى نطاق دراسة الظواهر السياسية جاء متأخراً. كما لم يكن ذلك بطريقة مباشرة، بل جاء من خلال علماء الاجتماع من أمثال"بارسونز" parsons، و"هومانز" Hommans وغيرهم الذين قاموا بتطوير مفهوم النظام الاجتماعي، ومن خلالهم تمكن عدد لا بأس به من علماء السياسة من أمثال ايستون، المون، ميتشيل، أبتر، باي، وكولمان من تطوير واستخدام اقتراب النظم في الدراسات السياسية. فلم يرجع علماء السياسة إلى الكتابات الرئيسية في تحليل النظم إلى الأسس الفكرية والمنهجية المتمثلة في النظرية العامة للنظم General systems Theory، والتي تعود جذورها إلى أعمال البيولوجي"فون بيرتا لانفي" Bertalanffy في العشرينيات من هذا القرن.
وكتاباته اللاحقة عن بيولوجية التحليل العام للنظم الصادرة عامي 1949 و 1950، والتي تناولت الخصائص الرئيسية للأنظمة البيولوجية وإمكانية استخدامها في الدراسات الاجتماعية، وكذلك كتابات الفسيولوجي"كانون" Cannon، بصفة خاصة مؤلفه"حكمة الجسد" الصادر عام 1932، والتي كان لها أيضاً دوراً بارزاً في الحركة الفكرية التي استهدفت توحيد العلوم في اطار النظرية العامة للنظم.
ويرجع الفضل الأول في تطوير وادخال اقتراب التحليل النظمي إلى حقل العلوم السياسية إلى عالم السياسة الأمريكي"ديفيد ايستون" David Easton، ومن هنا لم يكن غريباً أن يطلق بعض دارسي العلوم السياسية على اقتراب التحليل النظمي"اقتراب ايستون". جاء تطوير ايستون لاقتراب تحليل النظم في علم السياسة تدريجياً وعلى مراحل. ففي عام 1953، نشر اللبنات الأولى لمفهوم"النظام السياسي" في كتابه Political system، والتي تطورت بصورة واضحة في مقالته العلمية المنشورة بمجلة"World Politics" عام 1956، وبصورة أكثر وضوحاً في كتابه A system Analysis of Political Life الصادرة عام 1965. والذي يرى فيه ايستون وجوب تبسيط الحياة السياسية المعقدة المركبة، والنظر إليها تحليلياً على أساس آلي منطقي على أنها مجموعة من التفاعلات التي تتم في اطار النظام السياسي من ناحية، وبينه وبين بيئته من ناحية أخرى. فوفقاً لاقتراب النظم، تميل المجتمعات والجماعات إلى أن تكون كيانات مستمرة نسبياً تعمل في اطار بيئة أشمل. هذه الكيانات يمكن نعتها بصفة النظام نظراً لأنها تمثل مجموعة من العناصر أو المتغيرات المتداخلة وذات الاعتماد المتبادل فيما بينها، والتي يمكن تحديدها وقياسها. هذه الكيانات لها أيضاً حدود مميزة تفصلها عن بيئاتها، فضلاً عن أن كل منها يميل إلى الحفاظ على ذاته من خلال مجموعة من العمليات المختلفة، خاصة عندما يتعرض للاضطراب سواء من داخل أو خارج حدوده مع بيئته الأوسع.
يؤكد ايستون أن فكرة النظم كاطار تحليل بما تتضمنه من علاقات ومفاهيم نظرية لها دلالات تطبيقية، ومن ثم فهي تمثل نقطة بداية حقيقية في تطوير الدراسات السياسية. هذا الاطار التحليلي للنظام السياسي في أبسط صوره كما يراه ايستون لا يعدو أن يكون دائرة متكاملة ذات طابع ديناميكي من التفاعلات السياسية الموجهة بصفة أساسية نحو التخصيص السلطوي للقيم في المجتمع. تبدأ هذه الدائرة الديناميكية بالمدخلات وتنتهي بالمخرجات، وتقوم عملية التغذية الاسترجاعية بالربط بين نقطتي البداية والنهاية، أي بين المدخلات والمخرجات. ويوضح الشكل التالي نموذجاً مبسطاً لتفاعلات النظام السياسي كما قدمه ايستون.
أقام ايستون اطاره التحليلي للنظام السياسي على مجموعة من"الفروض" التي تقوم بدورها على مجموعة من المفاهيم المتعلقة بمجموعة من المتغيرات السياسية الهامة التي توضح الخصائص الرئيسية للنظام السياسي. وعلى ذلك يجدر بنا قبل التعرض لهذه الفروض أن نقدم لذلك بنبذة عن المفاهمي الأساسية التي يقوم عليها اقتراب تحليل النظم.
المفاهيم الأساسية لاقتراب التحليل النظمي
لعلنا لا نكون مبالغين إذا قلنا أن أهم سمة شكيلة يمكن ملاحظتها على اقتراب التحليل النظمي هو كثرة المفاهيم المستخدمة في التحليل. ويعلل ايستون ذلك بالاشارة إلى أنه إذا كان من الصعوبة بمكان الوصول إلى نظرية عامة وشاملة، فإنه يمكن الاستعاضة عن ذلك بتطوير مجموعة مترابطة منطقياً من المفاهيم في اطار متكامل وعلى درجة عالية من التجريد تمكن من القيام بالتحليل، وتوجيه الاهتمام نحو المحددات الرئيسية للسلوك السياسي. كل ذلك انطلاقاً من أن المفاهيم تشير إلى متغيرات واقع الحياة السياسية. أهم هذه المفاهيم هي: النظام، البيئة، الحدود، المدخلات، المخرجات، التحويل، التغذية الاسترجاعية. وفيما يلي نبذة عن كل من هذه المفاهيم.
النظام: System
يمثل النظام وحدة التحليل الرئيسية في اقتراب التحليل النظمي. ويعرف النظام بصفة عامة بأنه مجموعة من العناصر المتفاعلة والمترابطة وظيفياً مع بعضها البعض بشكل منتظم، بما يعنيه ذلك من أن التغير في أحد العناصر المكونة للنظام يؤثر على بقية العناصر. وتجدر الإشارة إلى أن مفهوم النظام يتولد عنه مفهوم آخر هو مفهوم النظام الفرعي Sub-System، إذ أن النظام قد يعتبر نظاماً في حد ذاته، كما أنه قد يعتبر هو ذاته نظاماً فرعياً في اطار نظام أعلى مستوى منه.
ألا أن الأهم من ذلك هو أن التمييز بين الأنظمة، كالتمييز بين النظام السياسي والنظام الاقتصادي مثلاً، لا وجود له في الواقع العملي، بل لا يعدو أن يكون تمييزاً ذو طبيعة تحليلية. التحليل بإيجاز هو عملية تعريف وتقييم للأجزاء التي يتكون منها الكل بهدف إدراك لهذه الأجزاء كمكونات لكل مركب مع محاولة معرفة الضوابط التي تربط علاقاتها ببعضها البعض من جهة. والقوانين التي تحكم حركة وتطور الكل المركب من جهة أخرى.
وعلى ذلك يعرف النظام السياسي بأنه مجموعة من التفاعلات السياسية التي تحدث داخل أي مجتمع، والتي يتم بمقتضاها صنع السياسات العامة. ويتكون النظام السياسي من أربعة عناصر أساسية هي: المدخلات، التحويل، المخرجات، التغذية العكسية.
البيئة: Environment
يشير مفهوم البيئة لدى ايستون بصفة أساسية إلى كل ما هو خارج حدود النظام السياسي، بعبارة أخرى تشكل البيئة كل ما هو خارج إطار النظام السياسي ولا يدخل في مكوناته.
ولما كانت فكرة النظام السياسي لا تعدو أن تكون فكرة تحليلية، فإن الفصل التعسفي بين النظام السياسي والأنظمة الاجتماعية الاخرى لا وجود له، بما يعنيه ذلك من أن النظام السياسي يتأثر ببيئته من خلال مجموعة المدخلات ويؤثر عليها من خلال مجموعة المخرجات، وهو ما سوف يتم توضحيه بعد قليل.
الحدود: Boundaries
لما كان النظام السياسي لا يوجد في فراغ، بل في اطار بيئة، كان لا بد من الفصل التحليلي بين النظام السياسي وبيئته بوضع نقاط تصورية توضح مناطق انتهاء الأنظمة الأخرى وبدء حدود النظام السياسي. بعبارة أخرى هناك حدود للنظام السياسي يمكن تمييزها تحليلياً تفصله عن المحيط أو البيئة بمختلف جوانبها، وإن كان هذا لا يعني الغاء علاقات التأثير بين النظام السياسي وبيئته الاجتماعية والاقتصادية والجغرافية.. الخ التي تتم عبر الحدود.
ويضيف الموند باول في اطار تطويرهم لاقتراب تحليل النظم ليتلاءم ودراسة المجتمعات الجديدة حديثة العهد بالاستقلال إلى أن الحدود بين النظام السياسي وبيئته تختلف من مجتمع إلى مجتمع آخر، وتتأثر في ذلك بالأوضاع والقيم الاجتماعية والثقافية السائدة.
المدخلات: Inputs
تشتمل مدخلات النظام السياسي وفقاً لاقتراب التحليل النظمي على كل ما يتلقاه هذا النظام من بيئته. يلاحظ أن هناك ثمة اختلافات حول هذه المدخلات. فطبقاً لرأي ايستون(1956 - 1965) تشتمل مدخلات النظام السياسي على عنصرين رئيسيين فقط هما المطلب والتأييد. تشير الأولى إلى الرغبات الاجتماعية، خاصة تلك المتعلقة منها بكيفية توزيع القيم وتحقيق أهداف المجتمع، وهي في رأيه قد تكون عامة كما قد تكون محددة. وقد يكون التعبير عنها بصورة مباشرة أو غير مباشرة. وتشير الثانية إلى الاتجاهات والمواقف سواء المؤيد منها أو المعارض للنظام.
وتجدر الإشارة إلى أن الموند وباول في اطار دراستهم للبلدان النامية قد ميزوا بين أربعة وظائف رئيسية للنظام السياسي على مستوى المدخلات هي
وظيفة التنشئة السياسية والتجنيد السياسي Political Socialization and Recruitment، وهي العملية التي من خلالها يتم نقل ثقافة المجتمع عبر الأجيال من جيل إلى آخر. يتم ذلك بواسطة العديد من المؤسسات الاجتماعية كالأسرة، المدرسة، دور العبادة، أدوات الإعلام الجماهيري...الخ. أما وظيفة التجنيد السياسي، وهي وظيفة مرتبطة بالتنشئة السياسية، فمهمتها اسناد الأدوار السياسية إلى الأفراد بعد إكسابهم الخبرات والمهارات اللازمة للاطلاع بها. تتم هذه الوظيفة عن طريق مؤسسات سياسية كالأحزاب والنقابات.
وظيفة التعبير عن المصالح Interest Articulation، حيث تقوم الجماعات المختلفة داخل النظام بالتعبير عن مصالحها، ويفترض أن يتم ذلك من خلال القنوات الشرعية للتعبير عن المطالب، إلا أنه كثيراً ما يتم التعبير عن هذه المصالح من خلال القنوات غير الشرعية وغالباً ما يتم ذلك باستخدام العنف، الأمر الذي لا شك يؤثر على مدى استقرار النظام.
وظيفة تجميع المصالح: Interest Aggregation، ويقصد بها بلورة المطالب والموالفة بينها وتكتيلها لتقدم في شكل مقترحات تعرض على صانعي القرار. وبديهي أن وجود أبنية تقوم بتجميع المصالح كالأحزاب يخفف كثير من العبء على صانعي القرار، وبالتالي يزيد من القدرة الاستجابية للنظام السياسي.
وظيفة الاتصال السياسي، وهي وظيفة تقوم بها أجهزة الإعلام وجماعات الضغط والمصالح، وتلعب دوراً في توفير الاتصال الفعال الذي يتيح للنظام السياسي القيام بوظائفه المختلفة بصورة أيسر.
أما وليم متشل W.Mitchel(1962) في اطار تطويره لنموذج ايستون أضاف عنصراً ثالثاً إلى عنصري المدخلات السابق الإشارة إليها، وهو عنصر الموارد بمختلف أشكالها، والحقيقة أن هذا العنصر يمثل إضافة حقيقية لافتقاد نموذج ايستون له.
المخرجات: Outputs
عرفها ايستون بأنها مجموعة القرارات والأفعال والتصرفات التي يقوم بها النظام وتكون لها الصفة الإلزامية، ويتم بمقتضاها التخصيص السلطوي للقيم في المجتمع.
وبنفس الصورة وعلى غرار تقسيم المدخلات إلى مجموعة من الوظائف كما سبقت الإشارة، ميز الموند وباول ثلاثة وظائف رئيسية على مستوى المخرجات هي:
وظيفة صنع القرار Rule-making، بما يعنيه ذلك من وضع السياسات واتخاذ القرارات، ويتم ذلك من خلال السلطة التشريعية بالأساس.
وظيفة تنفيذ القواعد Rule-application، بما يعنيه ذلك من تطبيق القواعد والقرارات، ويتم ذلك بواسطة الجهاز الإداري والسلطة التنفيذية.
وظيفة التقاضي حول القواعد Rule-adjudication، بما يتطلبه من إصدار الأحكام القضائية الملزمة في حالة التنازع حول القواعد.
التحويل: Conversion
تتمثل هذه العملية في مجموعة الأنشطة والتفاعلات التي يقوم بها النظام ويحول عن طريقها مدخلاته من موارد ومطالب وتأييد إلى مخرجات، أي قرارات وسياسات تصدر عن أبنية النظام السياسي. التحويل هو بمثابة غربلة للمدخلات. وعلى عكس مفهومي المدخلات والمخرجات اللذان يمثلان عمليات تبادلية بين النظام السياسي من جهة وبيئتيه المحيطة من جهة أخرى، فإن عملية التحويل لا تعدو أن تكون عملية داخلية تتم في إطار النظام ذاته.
التغذية استرجاعية: Feedback
يقصد بها كافة عمليات التأثير الاسترجاعي للمخرجات على المدخلات، ويتم ذلك من خلال ما تحدثه المخرجات على البيئة من آثار سلباً أو إيجاباً ويكون لها تأثيرها في ذات الوقت على المدخلات. بعبارة أخرى، التغذية الاسترجاعية هي عملية يتم بمقتضاها تدفق المعلومات من البيئة إلى النظام السياسي من جديد في شكل مدخلات عن نتائج قراراته وأفعاله. التغذية الاسترجعاية بهذا المعنى تربط مدخلات النظام السياسي بمخرجاته، ومخرجاته بمدخلاته، وتعطي في ذات الوقت الطابع الديناميكي المستمر للنظام.
وتجدر الإشارة إلى أنه وفقاً لنموذج ايستون لتحليل النظم، فإن التغذية الاسترجاعية تمثل عملية هامة وحيوية لبقاء النظام واستمراره. إن علم النظام بمدى الاستجابة لقراراته وسياساته يجعله قادراً إما على المضي في طريقه بانتهاج نفس السياسة أو تعديلها، أو حتى التخلي عنها كلية، وهو ما يسميه ايستون بالتغذية الاسترجاعية الفعالة التي تضمن الاستجابة الفعالة للنظام، وإلا تعرض وجوده للخطر حال افتقادها.
بعد هذه النبذة عن أهم المفاهيم في اطار اقتراب التحليل النظمي، تجدر الإشارة إلى أن هناك ثمة مجموعة من المفاهيم الأخرى. فبعض هذه المفاهيم يوضح الخطوط العريضة لأبنية وحركة النظم مثل وصف النظام بأنه مغلق أو مفتوح. ومنها ما يدور حول المستوى الهيراركي مثل النظام الفرعي. ومنها ما يتناول جوانب التنظيم الداخل للنظم مثل مفاهيم التكامل، والاعتماد المتبادل، والتكيف، والتعلم، والنمو، والتدهور، والأزمة، والانهيار، والحمل المتعدي. كما أن منها كذلك مفاهيم تتبلور حول ضبط وتنظيم وبقاء النظام مثل مفهومي الاستقرار والتوازن.
الفروض الأساسية التي يرتكز عليها الاقتراب
يرتكز اقتراب تحليل النظم كما قدمه ايستون على مجموعة من الافتراضات لعل أهمها
(1) العملية السياسية عملية آلية ديناميكية
يفترض اقتراب التحليل النظمي أن التفاعلات السياسية بين مكونات النظام المختلفة وبعضها البعض من ناحية، وبينها وبين معطيات البيئة المحيطة تتم بصورة آلية ديناميكية. هذه الآلية والديناميكية تحكم عملية تحليل النظام السياسي وتوجهها. بعبارة أخرى، يبرز اقتراب تحليل النظم كما قدمه ايستون الطابع الديناميكي الحركي للنظام السياسي من خلال التأكيد على التفاعل بين النظام بأنظمته الفرعية والبيئية بأنظمتها المختلفة.
(2) النظام السياسي نظام مفتوح يؤثر ويتأثر بالأنظمة الأخرى
نقطة البداية في التحليل النظري لدى ايستون تفترض أن التفاعلات السياسية في اطار النظام السياسي تتم استجابة للتأثيرات البيئة. النظام السياسي بطبيعته كنظام اجتماعي قد فصل تحليلياً عن الأنظمة الاجتماعية الاخرى المشكلة للبيئة، إن ما يجعل تحديد هذه البيئة بمختلف مكوناتها أمر هام حيوي هو الافتراض الذي ينظر إلى الحياة السياسية على أنها
تشكل نظام مفتوح عرضة للتأثر بالبيئة المحيطة، وإن كان هو الآخر يؤثر فيها بدوره. وطالما أن الحياة السياسية تفهم على أنها نظام مفتوح، فإن المطالب، كما يرى ايستون، تقدم لنا أحد المفاتيح الرئيسية لفهم الطرق التي من خلالها تحدث البيئة الكلية انطباعها على عمليات النظام وعلى مخرجاته.
(3) النظام يقوم بمجموعة من الوظائف لا بد منها لاستمراره
إن ما يعطي قيمة للدراسة التحليلية للحياة السياسية كنظام سلوكي كما ينظر إليه اقتراب تحليل النظم هو التساؤل الذي يثور حول كيف أن الأنظمة السياسية تستمر في عالم يتضمن عناصر التغير كما يتضمن عناصر الاستقرار. يقول ايستون أن محاولة الإجابة على هذا التساؤل كشفت ما أسماه"دورة حياة الأنظمة السياسية"، والتي تتبلور حول مجموعة من الوظائف الهامة والحيوية التي بدونها لا يستطيع أي نظام سياسي أن يستمر وأن يحافظ على بقاؤه.
(4) البيئة تفرض على النظام ضغوطاً
على الرغم من أن البيئة بمختلف جوانبها تمثل مشكلة تحليلية خطيرة، إلا أن ايستون أ كد على أنه يمكن إلى حد كبير تبسيط الأمور فيما يتعلق بتحليل أثر البيئة إذا ما تم تركيز الاهتمام حول مجموعة من المدخلات التي يمكن استخدامها كمؤشرات تلخص المؤثرات الأكثر أهمية من حيث مدى إسهامها في خلق التوتر والضغوط التي تعبر الحدود من البيئة إلى داخل السياسي بالتركيز على مدخلين رئيسيين: المطالب، التأييد.
المطالب تفرض على النظام السياسي إذن ضغوطاً، لا بد له من أن يستجيب لها بصورة أو بأخرى. يرجع ذلك إلى أن عدم اشباع المطالب والرغبات الجماهيرية يترتب عليه تزايد الإحساس بعدم الرضى عن النظام السياسي، ومن ثم يقل الدعم والتأييد له.
الضغوط كمفهوم تشير إلى التأثيرات القادمة من البيئة نحو النظام. وإن كان ايستون يرى أنه ليست كل هذه التأثيرات البيئية تمثل توتراً وضغوطاً على النظام. فبعضها قد يلعب دوراً إيجابياً في استمرار النظام، بينما بعضها الآخر قد يكون محايداً فيما يتعلق بأحداث التواترات والضغوط، إلا أن الغالبية من هذه التأثيرات يتوقع أن تعمل في اتجاه إحداث التوترات والضغوط على النظام.
(5) النظام السياسي نظام تكيفي
يعتقد ايستون أن القدرة الحقيقية لبعض الأنظمة على الاستقرار والبقاء رغم الضغوط والتوترات غير العادية التي تتعرض لها من بيئاتها يحمل على الاعتقاد في الحقيقية أن هذه الأنظمة تمتلك بالضرورة مقدرات للاستجابة في مواجهة هذه الضغوط والتوترات. وعليه فهو يفترض أن النظام السياسي هو نظام تكيفي ويقوم في الواقع بأكثر من مجرد رد الفعل بصورة سلبية للتأثيرات البيئية.
العلاقات الأساسية التي يطرحها الاقتراب
يطرح اقتراب التحليل النظمي مجموعة من العلاقات الأساسية بين العناصر أو المتغيرات التي يتكون منها النظام السياسي من ناحية، وبينها وبين البيئة الخارجية المحيطة عبر الحدود التي تفصلها عن غيره من النظم الاجتماعية الأخرى من ناحية أخرى.
يذهب ايستون إلى أنه ما أن يوجد النظام السياسي بحدوده وأنظمته الفرعية حتى نجد أن هناك مجموعة من العلاقات القائمة بين الأنظمة المختلفة باعتبار أنها أنظمة مفتوحة تتعرض لتأثيرات من بعضها البعض. فالواقع أنه ليست هناك ثمة أنظمة اجتماعية، وبينها الأنظمة السياسية بالطبع، يمكن أن تكون معزولة تماماً عن البيئة المحيطة. وعلى ذلك فإن التحليل النظمي يجب أن يركز جل اهتمامه بدراسة العلاقات عبر الحدود بين الأنظمة وبين المدخلات والمخرجات. وعلى الرغم من أنه ليس هناك ثمة
اتفاق بين دارسي السياسة حول التسميات المتعلقة بالمفاهيم في هذا الخصوص، إذ كما سبق ورأينا أن ايستون على سبيل المثال يرى مدخلات النظام السياسي من البيئة بمختلف أنظمتها الرئيسية والفرعية تتمثل فقط في المطالب والتأييد، باعتبارهما المؤشرين الرئيسيين للطريقة التي تؤثر بها العوامل البيئية في تشكيل وإعادة تشكيل عمليات النظام السياسي، يرى الموند وكولمان مزيداً من التحديد لهذه المدخلات، على النحو السابق الإشارة إليها، كما يضيف ميتشيل عنصر الموارد كعنصر ثالث.
وعلى الرغم من أن هذه المفاهيم المتعددة تتفاوت، إلا أنها تتشابه إلى حد كبير من حيث مدلولاتها بخصوص ما يتم تبادله وانتقاله عبر الحدود بين النظام السياسي بأنظمته الفرعية ومختلف الأنظمة البيئية الأخرى. فعندما يشير ايستون أو الموند أو ميتشيل إلى المطالب أو التعبير عن المصالح أو تجميعها، فإنهم يشيرون إلى ظاهرة أمبريقية تتعلق بما يلي: من يطلب؟ ماذا؟ من من؟ كيف متى، وبأي النتائج على المشاركين وعلى النظام؟
ولكي يوضح ايستون عملية تنظيم المصالح المختلفة، اقترح بناء نموذج لمسارات هذه المطالب منذ اللحةظ الأولى لدخولها إلى النظام السياسي مروراً بمسارها نحو نقطة الخروج كسياسات وقرارات ملزمة. وعلى الرغم من اعتراف ايستون بأن التحليل النهائي لكل نظام سوف يكون فريداً، كما أن مسار المطالب سوف يكون أيضاً، إلا أنه يرى مع ذلك إمكانية التجريد في اطار تعددية الواقع لنموذج نمطي لشبكة المطالب في كل الأنظمة السياسية منذ اللحظة التي تولد فيها المطالب في شكل رغبة أو شعور أو حاجة غامضة، إلى اللحظة التي تجد فيها طريقها في النهاية عند مواضع مختلفة من القرارات السياسية. أطلق ايستون على هذا النموذج"نموذج تدفق المطالب"، والذي يمكن توضيحه في الشكل التالي
المعضلات التي يحاول الاقتراب حلها
(1) إمكانية التحليل
يختلف مفهوم ايستون عن النظام السياسي كما هو مستخدم في اقتراب تحليل النظم عن مهفوم علماء السياسة السابقين عليه في أنه يركز على الجانب التحليلي، بينما كان هؤلاء العلماء يركزون على الجانب المؤسسي القانوني. يرتبط بذلك ما أدخله اقتراب تحليل النظم من مفاهيم جديدة إلى حقل الدراسات السياسية، والتي تمت استعارتها لا فقط من العلوم الاجتماعية الأخرى كعلم الاجتماع وعلم النفس، بل أيضاً من العلوم الطبيعية، الأمر الذي لا شك كان له أكبر الأثر في إثراء العلوم السياسية.
يرتبط بذلك أيضاً شمول التحليل لمختلف عناصر النظام السياسي، بما يعنيه ذلك من كافة العمليات المتمثلة في المدخلات والمخرجات. الشمول أيضاً يعني عدم اقتصار النظام السياسي على المؤسسات الحكومية الرسمية كالسلطات الثلاث، أو على الأحزاب السياسية والجماعات الضاغطة، إنه يتسع مع الاطار التحليلي الجديد ليشمل مختلف الجماعات
والقطاعات التي تلعب دوراً مؤثراً، أو يمكنها أن تلعب دوراً مؤثراً في الحياة السياسية سواء في ذلك أكانت مع أو ضد النظام، مشروعة أم غير مشروعة كالاضرابات والمظاهرات.
أضف إلى ذلك أن اقتراب تحليل النظم كاستراتيجية عامة أو اطار تحليلي لدراسة الظاهرة السياسية أو الاجتماعية يحدد نقاط تركيز للدراسة، كما يحدد كيفية معالجة الموضوع أو الاقتراب منه، كما يقوم بتحديد وحدات التحليل المستخدمة. فضلاً عن ذلك فإن أهمية اقتراب تحليل النظم في الدراسات السياسية ترجع غلى أن عدد لا بأس به من الاقترابات الأخرى المتسخدمة في التحليل السياسي، كالاقتراب البنائي - الوظيفي والاقتراب الاتصالي تعتمد في مفاهيمها وأساسياتها على اقتراب تحليل النظم.
(2) إمكانية القياس
مع اقتراب تحليل النظم، لم يعد علماء السياسة يهتمون فقط بمجرد مقارنة الأنظمة عن طريق وجود أو عدم وجود خاصية، بل أكثر من ذلك القياس الدقيق لخصائص محددة. ويرجع ذلك بالأساس إلى الطبيعة التحليلية السلوكية لعلم السياسة، والقائمة على مجموعة كبيرة من المفاهيم التي يمكن الاستدلال عليها من خلال مجموعة من المؤشرات التي يسهل قياسها.
(3) إمكانية المقارنة
اقتراب تحليل النظم أفاد كثيراً في مجال دراسات المقارنة، لا سيما بعد تطويره على يد الموند وباول. فلما كان النظام السياسي بأبنيته المختلفة، والتي تتفاوت في بساطتها وتعقيداتها وفي درجة رقيها وتقدمها يمثل ظاهرة عالمية توجد في كل المجتمعات، حتى البسيط منها، باعتبار أنها تمتلك شكلاً أو آخر من أشكال الأبنية السياسية، فإن إمكانية المقارنة بين النظم السياسية تصير ممكنة على أساس مجموعة من الأبعاد. من هذه
الأبعاد: مدى تعقد وتمايز هذه الأبنية، مدى التخصص الوظيفي لهذه الأبنية، مدى قدرة هذه الأبنية على القيام بالوظائف الموكولة إليها... إلخ.
بعبارة أخرى، كانت من نتيجة اكتشاف وظائف مشابهة أو نمطية في كل نظام سياسي، تاريخي أو معاصر، أضحى من الممكن الدراسة المقارنة للطربقة أو الطرق التي من خلالها يقوم النظام بأداء هذه الوظائف في ظل ظروف مختلفة لكل نظام. وهو الأمر الذي أضحى معه علم السياسة في وضع يمكن من الوصول إلى تعميمات تتعدى خبرة أي نظام سياسي واحد، أو أنظمة أخرى تنتمي لثقافة أو حضارة واحدة، بما يعنيه ذلك من إمكانية تقدم الدراسات المقارنة.
الانتقادات الموجهة إلى اقتراب تحليل النظم
بعد العرض السابق للجوانب الإيجابية التي أضافها اقتراب التحليل النظمي إلى حقل الدراسات السياسية، تجدر الإشارة في ختام هذا البحث إلى أهم الانتقادات التي تعرض لها الاقتراب. لعل أول الانتقادات التي وجهت إلى اقتراب تحليل النظم في الدراسات السياسية كما قدمه ايستون هو المحافظة والتحيز للوضع القائم. فالاقتراب يعطي اهتمام مبالغ فيه للاستقرار كيقمة عليا تسيطر على سلوك النظام. حتى وإن كان الاستقرار المقصود لا يفترض الجمود، بل يفترض التغيير المنظم الذي يطرأ على البيئة أو النظام أو كليهما استجابة للمطالب، إلا أنه لا يضمن التغير الثوري بما يعنيه ذلك من تحول جذري شامل للنظام السياسي، وهو الأمر الذي لا موضع له في اقتراب النظم.
الاقتراب يجعل من استمرار النظام والأمر الواقع في حد ذاته كهدف، ويعطي جل اهتمامه وتركيزه بالبحث عن مقومات استمرار النظام وتدعيمه وليس عن عوامل تغييره وتطويره. بعبارة أخرى يكشف عن عناصر الاستمرارية والاستقرارية في النظام، دون أن يستطيع تفسير كيف
ولماذا يتطور النظام من وضع إلى آخر بصورة دقيقة. ومن هنا يوجه البعض انتقاداً إلى الاقتراب باعتبار أن أغلب الدراسات التي اتبعته انتهت إلى نتائج محافظة أو مؤيدة للأمر الواقع.
هناك أيضاً انتقاد آخر يوجه إلى اقتراب تحليل النظم كما صاغه ايستون، يتمثل في التناول السريع والمبهم للعملية التحويلية. هذه العملية التي تتمثل في مجموعة الأنشطة والتفاعلات الداخلية التي يقوم بها النظام والتي بمقتضاه تتحول مدخلات النظام إلى مخرجات. اكتفى ايستون بالإشارة إلى أن هذه العملية التحويلية تحدث داخل النظام دون أن يذكر لنا بوضوح الأبنية التي تقوم بها وكيفية القيام بها. ومع ذلك يمكن القول أن وظائف النظام على مستوى المخرجات كما صاغها الموند وباول تتدارك ذلك بعض الشيء.
وحتى بعد التعديلات التي أدخلت على نموذج ايستون لتحليل النظم، فإن الاقتراب لا يزال توجه إليه الانتقادات لا سيما فيما يتعلق بصعوبة التحويل الإجرائي لكثير من المفاهيم الجديدة التي جاء بها الاقتراب، لتصبح قابلة للقياس، ومن ثم اختبار العروض وإجراء الدراسات. ولعل الصعوبات التطبيقية التي اعترضت محاولات استخدام الاقتراب، لا سيما في مجال دراسات العلاقات الدولية والنظام الدولي، أصدق دليل على ذلك.
مصادر البحث
(1) جابرييل الموند، بيغهام باول، السياسة المقارنة. ترجمة أحمد عناني(القاهرة: مكتبة الوعي السائر، نسخة معدلة، 1966)
(2) د. علي الدين هلال، مدخل في النظم السياسية المقارنة، مجموعة المحاضرات التي ألقيت على طلبة السنة الثانية بقسم العلوم السياسية، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، 1975 - 1976
(3) د. فاروق يوسف أحمد، قواعد المنهج العلمي: المناهج والاقترابات والأدوات المنهجية(القاهرة: مكتبة عين شمس، 1985)
(4) د. كمال المنوفي، أصول النظم السياسية المقارنة(الكويت: شركة الربيعان للنشر والتوزيع، 1987)
(5) د. محمد محمود ربيع، مناهج البحث في السياسات(بغداد: مطبعة جامعة بغداد، 1978)
Churchman, C. West, The Systems Approach New York : Dell Publishing Co., Inc, 1968.
Cortes, Fernando, Adam Przeworski & John Sprague, Systems Analysis for Social Scientist?( New York : John Wiley & Sons, 1974. Easton , David, The Political System(New York: Alfred A. Knopf, 1953).
………………..,"An Approach to the Analysis of Political Systems", World Politics, Vol. 9, April 1957.
(10) ……………….., A System Analysis of Political Life(New York: John Wiley & Sons, Inc., 1965).
(11) ……………….., A Framework for Political Analysis(New Jersey: Prentice-Hall, Inc., 1965).
(12) ……………….., Varieties of Political Theory(N.J.: Prentice - Hall, Inc., 1966).
(13) International Encyclopedia of the Social Sciences, Vol. 15,(System Analysis).
Holt, Robert & John Richardson,"Competing Paradigms in Comparative Politics", in Robert Holt & John Turner(eds.), The Methodology of Comparative Research(New York: The Free Press, 1970).
Mitchell, W. C., The American Polity(New York: The Free Press, 1962).
Parsons, Taicot, Social System(New York: The Free Press, 1951).
Raddiffe-Brown, A, R,, A Natural Science of Society(Illinois; The Free Press, 1957).
Young, R., Approaches to the Study of Politics(Evanston: Northwestern University Press, 1958).
جابر سعيد عوض
ندوة إقترابات البحث في العلوم الاجتماعية، 1992، 20ص.
شهد حقل العلوم السياسية تطوراً محلوظاً في أعقاب الحرب العالمية الثانية عجزت معه العلوم السياسية بمناهجها التقليدية عن استيعابه والإحاطة بمختلف الظواهر السياسية الجديدة المصاحبة له، الأمر الذي برزت معه حاجة ملحة لتطوير مناهج البحث في هذا الفرع من أفرع العلوم الاجتماعية، بل واستحداث اقترابات ومناهج أخرى جديدة أكثر قدرة على فهم هذه الظواهر والإحاطة بها.
لقد كان اقتراب التحليل النظمي أحد أهم هذه الاقترابات المستحدثة في نطاق الدراسات السياسية التي بدأ في التبلور والظهور مع منتصف الخمسينيات. والحقيقة أن إدخال مفهوم تحليل النظم إلى نطاق دراسة الظواهر السياسية جاء متأخراً. كما لم يكن ذلك بطريقة مباشرة، بل جاء من خلال علماء الاجتماع من أمثال"بارسونز" parsons، و"هومانز" Hommans وغيرهم الذين قاموا بتطوير مفهوم النظام الاجتماعي، ومن خلالهم تمكن عدد لا بأس به من علماء السياسة من أمثال ايستون، المون، ميتشيل، أبتر، باي، وكولمان من تطوير واستخدام اقتراب النظم في الدراسات السياسية. فلم يرجع علماء السياسة إلى الكتابات الرئيسية في تحليل النظم إلى الأسس الفكرية والمنهجية المتمثلة في النظرية العامة للنظم General systems Theory، والتي تعود جذورها إلى أعمال البيولوجي"فون بيرتا لانفي" Bertalanffy في العشرينيات من هذا القرن.
وكتاباته اللاحقة عن بيولوجية التحليل العام للنظم الصادرة عامي 1949 و 1950، والتي تناولت الخصائص الرئيسية للأنظمة البيولوجية وإمكانية استخدامها في الدراسات الاجتماعية، وكذلك كتابات الفسيولوجي"كانون" Cannon، بصفة خاصة مؤلفه"حكمة الجسد" الصادر عام 1932، والتي كان لها أيضاً دوراً بارزاً في الحركة الفكرية التي استهدفت توحيد العلوم في اطار النظرية العامة للنظم.
ويرجع الفضل الأول في تطوير وادخال اقتراب التحليل النظمي إلى حقل العلوم السياسية إلى عالم السياسة الأمريكي"ديفيد ايستون" David Easton، ومن هنا لم يكن غريباً أن يطلق بعض دارسي العلوم السياسية على اقتراب التحليل النظمي"اقتراب ايستون". جاء تطوير ايستون لاقتراب تحليل النظم في علم السياسة تدريجياً وعلى مراحل. ففي عام 1953، نشر اللبنات الأولى لمفهوم"النظام السياسي" في كتابه Political system، والتي تطورت بصورة واضحة في مقالته العلمية المنشورة بمجلة"World Politics" عام 1956، وبصورة أكثر وضوحاً في كتابه A system Analysis of Political Life الصادرة عام 1965. والذي يرى فيه ايستون وجوب تبسيط الحياة السياسية المعقدة المركبة، والنظر إليها تحليلياً على أساس آلي منطقي على أنها مجموعة من التفاعلات التي تتم في اطار النظام السياسي من ناحية، وبينه وبين بيئته من ناحية أخرى. فوفقاً لاقتراب النظم، تميل المجتمعات والجماعات إلى أن تكون كيانات مستمرة نسبياً تعمل في اطار بيئة أشمل. هذه الكيانات يمكن نعتها بصفة النظام نظراً لأنها تمثل مجموعة من العناصر أو المتغيرات المتداخلة وذات الاعتماد المتبادل فيما بينها، والتي يمكن تحديدها وقياسها. هذه الكيانات لها أيضاً حدود مميزة تفصلها عن بيئاتها، فضلاً عن أن كل منها يميل إلى الحفاظ على ذاته من خلال مجموعة من العمليات المختلفة، خاصة عندما يتعرض للاضطراب سواء من داخل أو خارج حدوده مع بيئته الأوسع.
يؤكد ايستون أن فكرة النظم كاطار تحليل بما تتضمنه من علاقات ومفاهيم نظرية لها دلالات تطبيقية، ومن ثم فهي تمثل نقطة بداية حقيقية في تطوير الدراسات السياسية. هذا الاطار التحليلي للنظام السياسي في أبسط صوره كما يراه ايستون لا يعدو أن يكون دائرة متكاملة ذات طابع ديناميكي من التفاعلات السياسية الموجهة بصفة أساسية نحو التخصيص السلطوي للقيم في المجتمع. تبدأ هذه الدائرة الديناميكية بالمدخلات وتنتهي بالمخرجات، وتقوم عملية التغذية الاسترجاعية بالربط بين نقطتي البداية والنهاية، أي بين المدخلات والمخرجات. ويوضح الشكل التالي نموذجاً مبسطاً لتفاعلات النظام السياسي كما قدمه ايستون.
أقام ايستون اطاره التحليلي للنظام السياسي على مجموعة من"الفروض" التي تقوم بدورها على مجموعة من المفاهيم المتعلقة بمجموعة من المتغيرات السياسية الهامة التي توضح الخصائص الرئيسية للنظام السياسي. وعلى ذلك يجدر بنا قبل التعرض لهذه الفروض أن نقدم لذلك بنبذة عن المفاهمي الأساسية التي يقوم عليها اقتراب تحليل النظم.
المفاهيم الأساسية لاقتراب التحليل النظمي
لعلنا لا نكون مبالغين إذا قلنا أن أهم سمة شكيلة يمكن ملاحظتها على اقتراب التحليل النظمي هو كثرة المفاهيم المستخدمة في التحليل. ويعلل ايستون ذلك بالاشارة إلى أنه إذا كان من الصعوبة بمكان الوصول إلى نظرية عامة وشاملة، فإنه يمكن الاستعاضة عن ذلك بتطوير مجموعة مترابطة منطقياً من المفاهيم في اطار متكامل وعلى درجة عالية من التجريد تمكن من القيام بالتحليل، وتوجيه الاهتمام نحو المحددات الرئيسية للسلوك السياسي. كل ذلك انطلاقاً من أن المفاهيم تشير إلى متغيرات واقع الحياة السياسية. أهم هذه المفاهيم هي: النظام، البيئة، الحدود، المدخلات، المخرجات، التحويل، التغذية الاسترجاعية. وفيما يلي نبذة عن كل من هذه المفاهيم.
النظام: System
يمثل النظام وحدة التحليل الرئيسية في اقتراب التحليل النظمي. ويعرف النظام بصفة عامة بأنه مجموعة من العناصر المتفاعلة والمترابطة وظيفياً مع بعضها البعض بشكل منتظم، بما يعنيه ذلك من أن التغير في أحد العناصر المكونة للنظام يؤثر على بقية العناصر. وتجدر الإشارة إلى أن مفهوم النظام يتولد عنه مفهوم آخر هو مفهوم النظام الفرعي Sub-System، إذ أن النظام قد يعتبر نظاماً في حد ذاته، كما أنه قد يعتبر هو ذاته نظاماً فرعياً في اطار نظام أعلى مستوى منه.
ألا أن الأهم من ذلك هو أن التمييز بين الأنظمة، كالتمييز بين النظام السياسي والنظام الاقتصادي مثلاً، لا وجود له في الواقع العملي، بل لا يعدو أن يكون تمييزاً ذو طبيعة تحليلية. التحليل بإيجاز هو عملية تعريف وتقييم للأجزاء التي يتكون منها الكل بهدف إدراك لهذه الأجزاء كمكونات لكل مركب مع محاولة معرفة الضوابط التي تربط علاقاتها ببعضها البعض من جهة. والقوانين التي تحكم حركة وتطور الكل المركب من جهة أخرى.
وعلى ذلك يعرف النظام السياسي بأنه مجموعة من التفاعلات السياسية التي تحدث داخل أي مجتمع، والتي يتم بمقتضاها صنع السياسات العامة. ويتكون النظام السياسي من أربعة عناصر أساسية هي: المدخلات، التحويل، المخرجات، التغذية العكسية.
البيئة: Environment
يشير مفهوم البيئة لدى ايستون بصفة أساسية إلى كل ما هو خارج حدود النظام السياسي، بعبارة أخرى تشكل البيئة كل ما هو خارج إطار النظام السياسي ولا يدخل في مكوناته.
ولما كانت فكرة النظام السياسي لا تعدو أن تكون فكرة تحليلية، فإن الفصل التعسفي بين النظام السياسي والأنظمة الاجتماعية الاخرى لا وجود له، بما يعنيه ذلك من أن النظام السياسي يتأثر ببيئته من خلال مجموعة المدخلات ويؤثر عليها من خلال مجموعة المخرجات، وهو ما سوف يتم توضحيه بعد قليل.
الحدود: Boundaries
لما كان النظام السياسي لا يوجد في فراغ، بل في اطار بيئة، كان لا بد من الفصل التحليلي بين النظام السياسي وبيئته بوضع نقاط تصورية توضح مناطق انتهاء الأنظمة الأخرى وبدء حدود النظام السياسي. بعبارة أخرى هناك حدود للنظام السياسي يمكن تمييزها تحليلياً تفصله عن المحيط أو البيئة بمختلف جوانبها، وإن كان هذا لا يعني الغاء علاقات التأثير بين النظام السياسي وبيئته الاجتماعية والاقتصادية والجغرافية.. الخ التي تتم عبر الحدود.
ويضيف الموند باول في اطار تطويرهم لاقتراب تحليل النظم ليتلاءم ودراسة المجتمعات الجديدة حديثة العهد بالاستقلال إلى أن الحدود بين النظام السياسي وبيئته تختلف من مجتمع إلى مجتمع آخر، وتتأثر في ذلك بالأوضاع والقيم الاجتماعية والثقافية السائدة.
المدخلات: Inputs
تشتمل مدخلات النظام السياسي وفقاً لاقتراب التحليل النظمي على كل ما يتلقاه هذا النظام من بيئته. يلاحظ أن هناك ثمة اختلافات حول هذه المدخلات. فطبقاً لرأي ايستون(1956 - 1965) تشتمل مدخلات النظام السياسي على عنصرين رئيسيين فقط هما المطلب والتأييد. تشير الأولى إلى الرغبات الاجتماعية، خاصة تلك المتعلقة منها بكيفية توزيع القيم وتحقيق أهداف المجتمع، وهي في رأيه قد تكون عامة كما قد تكون محددة. وقد يكون التعبير عنها بصورة مباشرة أو غير مباشرة. وتشير الثانية إلى الاتجاهات والمواقف سواء المؤيد منها أو المعارض للنظام.
وتجدر الإشارة إلى أن الموند وباول في اطار دراستهم للبلدان النامية قد ميزوا بين أربعة وظائف رئيسية للنظام السياسي على مستوى المدخلات هي
وظيفة التنشئة السياسية والتجنيد السياسي Political Socialization and Recruitment، وهي العملية التي من خلالها يتم نقل ثقافة المجتمع عبر الأجيال من جيل إلى آخر. يتم ذلك بواسطة العديد من المؤسسات الاجتماعية كالأسرة، المدرسة، دور العبادة، أدوات الإعلام الجماهيري...الخ. أما وظيفة التجنيد السياسي، وهي وظيفة مرتبطة بالتنشئة السياسية، فمهمتها اسناد الأدوار السياسية إلى الأفراد بعد إكسابهم الخبرات والمهارات اللازمة للاطلاع بها. تتم هذه الوظيفة عن طريق مؤسسات سياسية كالأحزاب والنقابات.
وظيفة التعبير عن المصالح Interest Articulation، حيث تقوم الجماعات المختلفة داخل النظام بالتعبير عن مصالحها، ويفترض أن يتم ذلك من خلال القنوات الشرعية للتعبير عن المطالب، إلا أنه كثيراً ما يتم التعبير عن هذه المصالح من خلال القنوات غير الشرعية وغالباً ما يتم ذلك باستخدام العنف، الأمر الذي لا شك يؤثر على مدى استقرار النظام.
وظيفة تجميع المصالح: Interest Aggregation، ويقصد بها بلورة المطالب والموالفة بينها وتكتيلها لتقدم في شكل مقترحات تعرض على صانعي القرار. وبديهي أن وجود أبنية تقوم بتجميع المصالح كالأحزاب يخفف كثير من العبء على صانعي القرار، وبالتالي يزيد من القدرة الاستجابية للنظام السياسي.
وظيفة الاتصال السياسي، وهي وظيفة تقوم بها أجهزة الإعلام وجماعات الضغط والمصالح، وتلعب دوراً في توفير الاتصال الفعال الذي يتيح للنظام السياسي القيام بوظائفه المختلفة بصورة أيسر.
أما وليم متشل W.Mitchel(1962) في اطار تطويره لنموذج ايستون أضاف عنصراً ثالثاً إلى عنصري المدخلات السابق الإشارة إليها، وهو عنصر الموارد بمختلف أشكالها، والحقيقة أن هذا العنصر يمثل إضافة حقيقية لافتقاد نموذج ايستون له.
المخرجات: Outputs
عرفها ايستون بأنها مجموعة القرارات والأفعال والتصرفات التي يقوم بها النظام وتكون لها الصفة الإلزامية، ويتم بمقتضاها التخصيص السلطوي للقيم في المجتمع.
وبنفس الصورة وعلى غرار تقسيم المدخلات إلى مجموعة من الوظائف كما سبقت الإشارة، ميز الموند وباول ثلاثة وظائف رئيسية على مستوى المخرجات هي:
وظيفة صنع القرار Rule-making، بما يعنيه ذلك من وضع السياسات واتخاذ القرارات، ويتم ذلك من خلال السلطة التشريعية بالأساس.
وظيفة تنفيذ القواعد Rule-application، بما يعنيه ذلك من تطبيق القواعد والقرارات، ويتم ذلك بواسطة الجهاز الإداري والسلطة التنفيذية.
وظيفة التقاضي حول القواعد Rule-adjudication، بما يتطلبه من إصدار الأحكام القضائية الملزمة في حالة التنازع حول القواعد.
التحويل: Conversion
تتمثل هذه العملية في مجموعة الأنشطة والتفاعلات التي يقوم بها النظام ويحول عن طريقها مدخلاته من موارد ومطالب وتأييد إلى مخرجات، أي قرارات وسياسات تصدر عن أبنية النظام السياسي. التحويل هو بمثابة غربلة للمدخلات. وعلى عكس مفهومي المدخلات والمخرجات اللذان يمثلان عمليات تبادلية بين النظام السياسي من جهة وبيئتيه المحيطة من جهة أخرى، فإن عملية التحويل لا تعدو أن تكون عملية داخلية تتم في إطار النظام ذاته.
التغذية استرجاعية: Feedback
يقصد بها كافة عمليات التأثير الاسترجاعي للمخرجات على المدخلات، ويتم ذلك من خلال ما تحدثه المخرجات على البيئة من آثار سلباً أو إيجاباً ويكون لها تأثيرها في ذات الوقت على المدخلات. بعبارة أخرى، التغذية الاسترجاعية هي عملية يتم بمقتضاها تدفق المعلومات من البيئة إلى النظام السياسي من جديد في شكل مدخلات عن نتائج قراراته وأفعاله. التغذية الاسترجعاية بهذا المعنى تربط مدخلات النظام السياسي بمخرجاته، ومخرجاته بمدخلاته، وتعطي في ذات الوقت الطابع الديناميكي المستمر للنظام.
وتجدر الإشارة إلى أنه وفقاً لنموذج ايستون لتحليل النظم، فإن التغذية الاسترجاعية تمثل عملية هامة وحيوية لبقاء النظام واستمراره. إن علم النظام بمدى الاستجابة لقراراته وسياساته يجعله قادراً إما على المضي في طريقه بانتهاج نفس السياسة أو تعديلها، أو حتى التخلي عنها كلية، وهو ما يسميه ايستون بالتغذية الاسترجاعية الفعالة التي تضمن الاستجابة الفعالة للنظام، وإلا تعرض وجوده للخطر حال افتقادها.
بعد هذه النبذة عن أهم المفاهيم في اطار اقتراب التحليل النظمي، تجدر الإشارة إلى أن هناك ثمة مجموعة من المفاهيم الأخرى. فبعض هذه المفاهيم يوضح الخطوط العريضة لأبنية وحركة النظم مثل وصف النظام بأنه مغلق أو مفتوح. ومنها ما يدور حول المستوى الهيراركي مثل النظام الفرعي. ومنها ما يتناول جوانب التنظيم الداخل للنظم مثل مفاهيم التكامل، والاعتماد المتبادل، والتكيف، والتعلم، والنمو، والتدهور، والأزمة، والانهيار، والحمل المتعدي. كما أن منها كذلك مفاهيم تتبلور حول ضبط وتنظيم وبقاء النظام مثل مفهومي الاستقرار والتوازن.
الفروض الأساسية التي يرتكز عليها الاقتراب
يرتكز اقتراب تحليل النظم كما قدمه ايستون على مجموعة من الافتراضات لعل أهمها
(1) العملية السياسية عملية آلية ديناميكية
يفترض اقتراب التحليل النظمي أن التفاعلات السياسية بين مكونات النظام المختلفة وبعضها البعض من ناحية، وبينها وبين معطيات البيئة المحيطة تتم بصورة آلية ديناميكية. هذه الآلية والديناميكية تحكم عملية تحليل النظام السياسي وتوجهها. بعبارة أخرى، يبرز اقتراب تحليل النظم كما قدمه ايستون الطابع الديناميكي الحركي للنظام السياسي من خلال التأكيد على التفاعل بين النظام بأنظمته الفرعية والبيئية بأنظمتها المختلفة.
(2) النظام السياسي نظام مفتوح يؤثر ويتأثر بالأنظمة الأخرى
نقطة البداية في التحليل النظري لدى ايستون تفترض أن التفاعلات السياسية في اطار النظام السياسي تتم استجابة للتأثيرات البيئة. النظام السياسي بطبيعته كنظام اجتماعي قد فصل تحليلياً عن الأنظمة الاجتماعية الاخرى المشكلة للبيئة، إن ما يجعل تحديد هذه البيئة بمختلف مكوناتها أمر هام حيوي هو الافتراض الذي ينظر إلى الحياة السياسية على أنها
تشكل نظام مفتوح عرضة للتأثر بالبيئة المحيطة، وإن كان هو الآخر يؤثر فيها بدوره. وطالما أن الحياة السياسية تفهم على أنها نظام مفتوح، فإن المطالب، كما يرى ايستون، تقدم لنا أحد المفاتيح الرئيسية لفهم الطرق التي من خلالها تحدث البيئة الكلية انطباعها على عمليات النظام وعلى مخرجاته.
(3) النظام يقوم بمجموعة من الوظائف لا بد منها لاستمراره
إن ما يعطي قيمة للدراسة التحليلية للحياة السياسية كنظام سلوكي كما ينظر إليه اقتراب تحليل النظم هو التساؤل الذي يثور حول كيف أن الأنظمة السياسية تستمر في عالم يتضمن عناصر التغير كما يتضمن عناصر الاستقرار. يقول ايستون أن محاولة الإجابة على هذا التساؤل كشفت ما أسماه"دورة حياة الأنظمة السياسية"، والتي تتبلور حول مجموعة من الوظائف الهامة والحيوية التي بدونها لا يستطيع أي نظام سياسي أن يستمر وأن يحافظ على بقاؤه.
(4) البيئة تفرض على النظام ضغوطاً
على الرغم من أن البيئة بمختلف جوانبها تمثل مشكلة تحليلية خطيرة، إلا أن ايستون أ كد على أنه يمكن إلى حد كبير تبسيط الأمور فيما يتعلق بتحليل أثر البيئة إذا ما تم تركيز الاهتمام حول مجموعة من المدخلات التي يمكن استخدامها كمؤشرات تلخص المؤثرات الأكثر أهمية من حيث مدى إسهامها في خلق التوتر والضغوط التي تعبر الحدود من البيئة إلى داخل السياسي بالتركيز على مدخلين رئيسيين: المطالب، التأييد.
المطالب تفرض على النظام السياسي إذن ضغوطاً، لا بد له من أن يستجيب لها بصورة أو بأخرى. يرجع ذلك إلى أن عدم اشباع المطالب والرغبات الجماهيرية يترتب عليه تزايد الإحساس بعدم الرضى عن النظام السياسي، ومن ثم يقل الدعم والتأييد له.
الضغوط كمفهوم تشير إلى التأثيرات القادمة من البيئة نحو النظام. وإن كان ايستون يرى أنه ليست كل هذه التأثيرات البيئية تمثل توتراً وضغوطاً على النظام. فبعضها قد يلعب دوراً إيجابياً في استمرار النظام، بينما بعضها الآخر قد يكون محايداً فيما يتعلق بأحداث التواترات والضغوط، إلا أن الغالبية من هذه التأثيرات يتوقع أن تعمل في اتجاه إحداث التوترات والضغوط على النظام.
(5) النظام السياسي نظام تكيفي
يعتقد ايستون أن القدرة الحقيقية لبعض الأنظمة على الاستقرار والبقاء رغم الضغوط والتوترات غير العادية التي تتعرض لها من بيئاتها يحمل على الاعتقاد في الحقيقية أن هذه الأنظمة تمتلك بالضرورة مقدرات للاستجابة في مواجهة هذه الضغوط والتوترات. وعليه فهو يفترض أن النظام السياسي هو نظام تكيفي ويقوم في الواقع بأكثر من مجرد رد الفعل بصورة سلبية للتأثيرات البيئية.
العلاقات الأساسية التي يطرحها الاقتراب
يطرح اقتراب التحليل النظمي مجموعة من العلاقات الأساسية بين العناصر أو المتغيرات التي يتكون منها النظام السياسي من ناحية، وبينها وبين البيئة الخارجية المحيطة عبر الحدود التي تفصلها عن غيره من النظم الاجتماعية الأخرى من ناحية أخرى.
يذهب ايستون إلى أنه ما أن يوجد النظام السياسي بحدوده وأنظمته الفرعية حتى نجد أن هناك مجموعة من العلاقات القائمة بين الأنظمة المختلفة باعتبار أنها أنظمة مفتوحة تتعرض لتأثيرات من بعضها البعض. فالواقع أنه ليست هناك ثمة أنظمة اجتماعية، وبينها الأنظمة السياسية بالطبع، يمكن أن تكون معزولة تماماً عن البيئة المحيطة. وعلى ذلك فإن التحليل النظمي يجب أن يركز جل اهتمامه بدراسة العلاقات عبر الحدود بين الأنظمة وبين المدخلات والمخرجات. وعلى الرغم من أنه ليس هناك ثمة
اتفاق بين دارسي السياسة حول التسميات المتعلقة بالمفاهيم في هذا الخصوص، إذ كما سبق ورأينا أن ايستون على سبيل المثال يرى مدخلات النظام السياسي من البيئة بمختلف أنظمتها الرئيسية والفرعية تتمثل فقط في المطالب والتأييد، باعتبارهما المؤشرين الرئيسيين للطريقة التي تؤثر بها العوامل البيئية في تشكيل وإعادة تشكيل عمليات النظام السياسي، يرى الموند وكولمان مزيداً من التحديد لهذه المدخلات، على النحو السابق الإشارة إليها، كما يضيف ميتشيل عنصر الموارد كعنصر ثالث.
وعلى الرغم من أن هذه المفاهيم المتعددة تتفاوت، إلا أنها تتشابه إلى حد كبير من حيث مدلولاتها بخصوص ما يتم تبادله وانتقاله عبر الحدود بين النظام السياسي بأنظمته الفرعية ومختلف الأنظمة البيئية الأخرى. فعندما يشير ايستون أو الموند أو ميتشيل إلى المطالب أو التعبير عن المصالح أو تجميعها، فإنهم يشيرون إلى ظاهرة أمبريقية تتعلق بما يلي: من يطلب؟ ماذا؟ من من؟ كيف متى، وبأي النتائج على المشاركين وعلى النظام؟
ولكي يوضح ايستون عملية تنظيم المصالح المختلفة، اقترح بناء نموذج لمسارات هذه المطالب منذ اللحةظ الأولى لدخولها إلى النظام السياسي مروراً بمسارها نحو نقطة الخروج كسياسات وقرارات ملزمة. وعلى الرغم من اعتراف ايستون بأن التحليل النهائي لكل نظام سوف يكون فريداً، كما أن مسار المطالب سوف يكون أيضاً، إلا أنه يرى مع ذلك إمكانية التجريد في اطار تعددية الواقع لنموذج نمطي لشبكة المطالب في كل الأنظمة السياسية منذ اللحظة التي تولد فيها المطالب في شكل رغبة أو شعور أو حاجة غامضة، إلى اللحظة التي تجد فيها طريقها في النهاية عند مواضع مختلفة من القرارات السياسية. أطلق ايستون على هذا النموذج"نموذج تدفق المطالب"، والذي يمكن توضيحه في الشكل التالي
المعضلات التي يحاول الاقتراب حلها
(1) إمكانية التحليل
يختلف مفهوم ايستون عن النظام السياسي كما هو مستخدم في اقتراب تحليل النظم عن مهفوم علماء السياسة السابقين عليه في أنه يركز على الجانب التحليلي، بينما كان هؤلاء العلماء يركزون على الجانب المؤسسي القانوني. يرتبط بذلك ما أدخله اقتراب تحليل النظم من مفاهيم جديدة إلى حقل الدراسات السياسية، والتي تمت استعارتها لا فقط من العلوم الاجتماعية الأخرى كعلم الاجتماع وعلم النفس، بل أيضاً من العلوم الطبيعية، الأمر الذي لا شك كان له أكبر الأثر في إثراء العلوم السياسية.
يرتبط بذلك أيضاً شمول التحليل لمختلف عناصر النظام السياسي، بما يعنيه ذلك من كافة العمليات المتمثلة في المدخلات والمخرجات. الشمول أيضاً يعني عدم اقتصار النظام السياسي على المؤسسات الحكومية الرسمية كالسلطات الثلاث، أو على الأحزاب السياسية والجماعات الضاغطة، إنه يتسع مع الاطار التحليلي الجديد ليشمل مختلف الجماعات
والقطاعات التي تلعب دوراً مؤثراً، أو يمكنها أن تلعب دوراً مؤثراً في الحياة السياسية سواء في ذلك أكانت مع أو ضد النظام، مشروعة أم غير مشروعة كالاضرابات والمظاهرات.
أضف إلى ذلك أن اقتراب تحليل النظم كاستراتيجية عامة أو اطار تحليلي لدراسة الظاهرة السياسية أو الاجتماعية يحدد نقاط تركيز للدراسة، كما يحدد كيفية معالجة الموضوع أو الاقتراب منه، كما يقوم بتحديد وحدات التحليل المستخدمة. فضلاً عن ذلك فإن أهمية اقتراب تحليل النظم في الدراسات السياسية ترجع غلى أن عدد لا بأس به من الاقترابات الأخرى المتسخدمة في التحليل السياسي، كالاقتراب البنائي - الوظيفي والاقتراب الاتصالي تعتمد في مفاهيمها وأساسياتها على اقتراب تحليل النظم.
(2) إمكانية القياس
مع اقتراب تحليل النظم، لم يعد علماء السياسة يهتمون فقط بمجرد مقارنة الأنظمة عن طريق وجود أو عدم وجود خاصية، بل أكثر من ذلك القياس الدقيق لخصائص محددة. ويرجع ذلك بالأساس إلى الطبيعة التحليلية السلوكية لعلم السياسة، والقائمة على مجموعة كبيرة من المفاهيم التي يمكن الاستدلال عليها من خلال مجموعة من المؤشرات التي يسهل قياسها.
(3) إمكانية المقارنة
اقتراب تحليل النظم أفاد كثيراً في مجال دراسات المقارنة، لا سيما بعد تطويره على يد الموند وباول. فلما كان النظام السياسي بأبنيته المختلفة، والتي تتفاوت في بساطتها وتعقيداتها وفي درجة رقيها وتقدمها يمثل ظاهرة عالمية توجد في كل المجتمعات، حتى البسيط منها، باعتبار أنها تمتلك شكلاً أو آخر من أشكال الأبنية السياسية، فإن إمكانية المقارنة بين النظم السياسية تصير ممكنة على أساس مجموعة من الأبعاد. من هذه
الأبعاد: مدى تعقد وتمايز هذه الأبنية، مدى التخصص الوظيفي لهذه الأبنية، مدى قدرة هذه الأبنية على القيام بالوظائف الموكولة إليها... إلخ.
بعبارة أخرى، كانت من نتيجة اكتشاف وظائف مشابهة أو نمطية في كل نظام سياسي، تاريخي أو معاصر، أضحى من الممكن الدراسة المقارنة للطربقة أو الطرق التي من خلالها يقوم النظام بأداء هذه الوظائف في ظل ظروف مختلفة لكل نظام. وهو الأمر الذي أضحى معه علم السياسة في وضع يمكن من الوصول إلى تعميمات تتعدى خبرة أي نظام سياسي واحد، أو أنظمة أخرى تنتمي لثقافة أو حضارة واحدة، بما يعنيه ذلك من إمكانية تقدم الدراسات المقارنة.
الانتقادات الموجهة إلى اقتراب تحليل النظم
بعد العرض السابق للجوانب الإيجابية التي أضافها اقتراب التحليل النظمي إلى حقل الدراسات السياسية، تجدر الإشارة في ختام هذا البحث إلى أهم الانتقادات التي تعرض لها الاقتراب. لعل أول الانتقادات التي وجهت إلى اقتراب تحليل النظم في الدراسات السياسية كما قدمه ايستون هو المحافظة والتحيز للوضع القائم. فالاقتراب يعطي اهتمام مبالغ فيه للاستقرار كيقمة عليا تسيطر على سلوك النظام. حتى وإن كان الاستقرار المقصود لا يفترض الجمود، بل يفترض التغيير المنظم الذي يطرأ على البيئة أو النظام أو كليهما استجابة للمطالب، إلا أنه لا يضمن التغير الثوري بما يعنيه ذلك من تحول جذري شامل للنظام السياسي، وهو الأمر الذي لا موضع له في اقتراب النظم.
الاقتراب يجعل من استمرار النظام والأمر الواقع في حد ذاته كهدف، ويعطي جل اهتمامه وتركيزه بالبحث عن مقومات استمرار النظام وتدعيمه وليس عن عوامل تغييره وتطويره. بعبارة أخرى يكشف عن عناصر الاستمرارية والاستقرارية في النظام، دون أن يستطيع تفسير كيف
ولماذا يتطور النظام من وضع إلى آخر بصورة دقيقة. ومن هنا يوجه البعض انتقاداً إلى الاقتراب باعتبار أن أغلب الدراسات التي اتبعته انتهت إلى نتائج محافظة أو مؤيدة للأمر الواقع.
هناك أيضاً انتقاد آخر يوجه إلى اقتراب تحليل النظم كما صاغه ايستون، يتمثل في التناول السريع والمبهم للعملية التحويلية. هذه العملية التي تتمثل في مجموعة الأنشطة والتفاعلات الداخلية التي يقوم بها النظام والتي بمقتضاه تتحول مدخلات النظام إلى مخرجات. اكتفى ايستون بالإشارة إلى أن هذه العملية التحويلية تحدث داخل النظام دون أن يذكر لنا بوضوح الأبنية التي تقوم بها وكيفية القيام بها. ومع ذلك يمكن القول أن وظائف النظام على مستوى المخرجات كما صاغها الموند وباول تتدارك ذلك بعض الشيء.
وحتى بعد التعديلات التي أدخلت على نموذج ايستون لتحليل النظم، فإن الاقتراب لا يزال توجه إليه الانتقادات لا سيما فيما يتعلق بصعوبة التحويل الإجرائي لكثير من المفاهيم الجديدة التي جاء بها الاقتراب، لتصبح قابلة للقياس، ومن ثم اختبار العروض وإجراء الدراسات. ولعل الصعوبات التطبيقية التي اعترضت محاولات استخدام الاقتراب، لا سيما في مجال دراسات العلاقات الدولية والنظام الدولي، أصدق دليل على ذلك.
مصادر البحث
(1) جابرييل الموند، بيغهام باول، السياسة المقارنة. ترجمة أحمد عناني(القاهرة: مكتبة الوعي السائر، نسخة معدلة، 1966)
(2) د. علي الدين هلال، مدخل في النظم السياسية المقارنة، مجموعة المحاضرات التي ألقيت على طلبة السنة الثانية بقسم العلوم السياسية، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، 1975 - 1976
(3) د. فاروق يوسف أحمد، قواعد المنهج العلمي: المناهج والاقترابات والأدوات المنهجية(القاهرة: مكتبة عين شمس، 1985)
(4) د. كمال المنوفي، أصول النظم السياسية المقارنة(الكويت: شركة الربيعان للنشر والتوزيع، 1987)
(5) د. محمد محمود ربيع، مناهج البحث في السياسات(بغداد: مطبعة جامعة بغداد، 1978)
Churchman, C. West, The Systems Approach New York : Dell Publishing Co., Inc, 1968.
Cortes, Fernando, Adam Przeworski & John Sprague, Systems Analysis for Social Scientist?( New York : John Wiley & Sons, 1974. Easton , David, The Political System(New York: Alfred A. Knopf, 1953).
………………..,"An Approach to the Analysis of Political Systems", World Politics, Vol. 9, April 1957.
(10) ……………….., A System Analysis of Political Life(New York: John Wiley & Sons, Inc., 1965).
(11) ……………….., A Framework for Political Analysis(New Jersey: Prentice-Hall, Inc., 1965).
(12) ……………….., Varieties of Political Theory(N.J.: Prentice - Hall, Inc., 1966).
(13) International Encyclopedia of the Social Sciences, Vol. 15,(System Analysis).
Holt, Robert & John Richardson,"Competing Paradigms in Comparative Politics", in Robert Holt & John Turner(eds.), The Methodology of Comparative Research(New York: The Free Press, 1970).
Mitchell, W. C., The American Polity(New York: The Free Press, 1962).
Parsons, Taicot, Social System(New York: The Free Press, 1951).
Raddiffe-Brown, A, R,, A Natural Science of Society(Illinois; The Free Press, 1957).
Young, R., Approaches to the Study of Politics(Evanston: Northwestern University Press, 1958).
مقال محترم بالتوفيق
ردحذف