التخطي إلى المحتوى الرئيسي

العلاقات الدولية في التاريخ الإسلامي مدلولات التحليل السياسي. للتاريخ الإسلامي ودراسة العلاقات الدولية

العلاقات الدولية في التاريخ الإسلامي مدلولات التحليل السياسي. للتاريخ الإسلامي ودراسة العلاقات الدولية
دودة بدران
ندوة العلاقات الدولية بين الأصول الإسلامية وبين خبرة التاريخ الإسلامي، 2002، 37ص.




تحاول هذه الخاتمة أن تعرض بصورة تراكمية نتائج التحليل في الأجزاء التطبيقية السابقة لدراسة العلاقات الدولية في التاريخ الإسلامي وذلك على ضوء الأهداف والقواعد والضوابط المنهاجية التي سبق وحددها كل من الجزء التمهيدي من المشروع والمدخل المنهاجي الذي جاء في الجزء السادس.
ونستطيع أن نوجز هذه الأهداف وهذه القواعد والضوابط في المحاور التالية بالنسبة للأهداف فهي ذات مستوين: مباشر محوري وجزئي تراكمي فكان الهدف المحوري من التحليل التاريخي وهو تحديد وضع الدول الإسلامية في خريطة وهيكل توزيع القوى العالمية في الفترات المتتالية من التطور التاريخي للنظام الدولي على نحو يوضح صعود وهبوط الخلافات الإسلامية المتعاقبة والقواعد التي حكمت هذه العملية والعوامل المختلفة التي كانت وراءها.
أما الأهداف الجزئية المنبثقة عن الهدف المحوري فهي: نظرية وتطبيقية، النظرية تتلخص في السعي لبيان كيف يمكن أن تعمق نتائج دراسة الخبرة الإسلامية وأن تضيف إلى أو تعدل من بعض افتراضات بعض الأدبيات النظمية الرائدة في علم العلاقات الدولية التي تناولت أساسا الخبرة الأوروبية منذ القرن 16م بصفة خاصة. أما التطبيقية فهي المتصلة بهيكل النظام الدولي ومضمون التفاعلات الدولية والبيئة الدولية في الخبرة الإسلامية، وتسعى لاستخلاص أنماط سلوكية حول ثلاثة محاور أساسية: أسباب سقوط وصعود الدول الإسلامية الكبرى، التفاعلات بين الفواعل الإسلامية المركزية وغيرها من الوحدات الفاعلة الإسلامية، التفاعلات بين العوامل الإسلامية وغير الإسلامية: وتتصل


هذه المحاور الثلاثة بقضيتين أساسيتين تثيران الاهتمام الراهن وهما العلاقات الصراعية القتالية أو التعاوني السلمية مع الغرب ومفهوم الجهاد التعددية السياسية الإسلامية ومفهوم وحدة الأمة.
وبالنسبة للقواعد الضوابط المنهاجية فهي مزدوجة الأبعاد البعد الأول يتصل بمدى إمكانية تقويم أحداث وممارسات دولية هامشية أثارت نقاشا وجدلا حول قواعد أصولية وذلك حتى يمكن الإجابة عن سؤال شائع لماذا الفجوة بين قواعد وأسس الإسلام وبين ممارسات المسلمين عبر تاريخهم وهو السؤال الذي يثير كل أبعاد ما يسمى بقضية العلاقة بين النظرية والتطبيق في الإسلام ومن أهم الأنماط التي تثير هذا السؤال أنماط التحالف الإسلامي غير الإسلامي والقتال الإسلامي وهذا البعد يقودنا إلى التالي:
والبعد الثاني يتصل بضوابط تفسير التاريخ الإسلامي من منظور إسلامي وهي الضوابط النابعة من انتقاد التيارات الشائعة في هذا التفسير ومن ثم فهي تقدم تصورا عن الأبعاد المعادلة في التفسير بين مجموعات العوامل العقيدية من ناحية العوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية من ناحية أخرى وهي الإشكالية التي دون من المقابلة بين تفسيرات التيارات العلمانية التي تذكر دور الله وبين تفسيرات إسلامية نفكر أثر العوامل المادية وتغرفه في التبسيط ويتمثل هذا الحل في محاولة تطوير مقترب يجمع بين المجموعتين من الاعتبارات المادية وغير المادية وعلى نحو ينبثق من الفهم الحقيقي للسنن الإلهية في الكون والإنسان والمجتمع فإن فهم ما وصلت إليه ممارسات المسلمين وأحوالهم ليست إلا تأكيدا لانطباق السنن الإلهية.
2) وتقترب الخاتمة من هذا العرض التراكمي على نحو يمزج في آن ولحد بين الأهداف النظرية (التراكم المعرفي بالمقارنة بالمنظور الغربي) وبين الأهداف التطبيقية (الأنماط) وبحيث يتم التطرق إلى مدلول الضوابط المنهاجية خلال هذا العرض فإن من أهم الفروق وأوضحها بين مدلولات الدراسات الغربية وبين مدلولات دراسة خبرة التاريخ الإسلامي هو وزن العامل العقيدي ودوره ومستويات تأثيرها. إذن كيف سيتحقق هذا الاقتراب؟.
لقد كان أحد أهداف هذا المشروع البحثي هو فهم موضوع العلاقات الدولية في الإسلام في إطار استخدام التاريخ في دراسة النظام الدولي. فإن الباحث في مجال العلاقات الدولية يحتاج إلى دراسة التاريخ للاستفادة من بعض أبعاده في فهم الأحداث الجارية، إلا أن مراجعة العديد من الدراسات التي اعتمدت على تحليل التاريخ في إطار فهم النظام الدولي توضح أنها_ كما سبق ورأينا في الجزء المنهاجي للمشروع وفي الباب المنهاجي من هذا الجزء- جاءت نتيجة دراستهم للتاريخ الغربي، أي أن التاريخ الإسلامي أم يلعب دورا في بلورة مثل هذه النماذج ولقد أثار هذا الوضع تساؤلا هاما مزدوج لأبعاد كيف يمكن أن نسد هذا الفراغ البحثي الناجم عن إهمال وإسقاط الخبرة الإسلامية من ناحية وهل دراسة التاريخ الإسلامي تقدم نماذج مشابهة أم مخالفة للنماذج التي طرحتها الأدبيات الغربية من ناحية أخرى؟
وإذا كانت الأبعاد التي ركزت عليها الدراسات النظمية التي استخدمت التاريخ في فهم العلاقات الدولية هي تلك تتعلق بهيكل النظام الدولي، وسلوك الفاعلين فيه، والعوامل التي تحكم ازدهار وتدهور القوى في ظل هذا النظام. فسنحاول في هذه الخاتمة مراجعة الأنماط التي تقدمها لنا خبرة التاريخ الإسلامي بالنسبة لهذين البعدين وهي الأنماط التي تعكس الهدف المحوري والأهداف الجزئية مع توضيح مدى تشابه هذه الأنماط مع ما جاءت به أدبيات العلاقات الدولية والتي اعتمدت على التاريخ الغربي.
أولا:- التاريخ الإسلامي وهيكل النظام الدولي
يقصد بهيكل النظام الدولي توزيع القدرات في هذا النظام وبالتالي ترتيب الوحدات المكونة له بالنسبة لبعضها البعض الأمر الذي يمكن إحدى هذه القوى أو البعض منها من السيطرة على توجيهات الفاعلين الآخرين. وتوضح مراجعة التاريخ الإسلامي أن الطرف الإسلامي احتل دورا كأحد القوى المركزية في النظام الدولي خلال فترة الدولة الأموية والدولة العباسية في العصر العباسي الأول والقرن الأول والثاني من تاريخ الدولة المملوكية والدولة العثمانية. وإذا كان التاريخ الإسلامي قد شهد قيام الطرف الإسلامي بدور المركز في بعض الفترات التاريخية، إلا أنه شهد أيضا ابتعاد هذا الطرف عن المركز واحتلاله
وضع لطرف المفعول به في النظام الدولي بصفة خاصة خلال العصر العباسي الثاني والثالث والقرن الأخير من الدولة المملوكية والقرن 19م من عصر الدولة العثمانية وفي القرن العشرين في أعقاب سقوط الخلافة العثمانية.
ولقد قامت الأطراف الإسلامية بدورها كمركز وكهامش في ظل نظام القطبية الذي عرفه العالم في عهد الدولة الأموية والدولة البيزنطية، كما لعبت دور الهامش في ظل نظام الاستقطاب الذي عرفه العالم في أعقاب الحرب العالمية الثانية وحتى نهاية الحرب الباردة وقامت هذه الأطراف بدور المركز والهامش في فترات مختلفة من نظام تعدد القوى الذي شهده العالم منذ الدولة العباسية وحتى الحرب العالمية الثانية. إن ما يهمنا في هذه الجزئية من الفصل الختامي في هذا الكتاب هو تحليل الأنماط الخاصة بدور الطرف الإسلامي بصفته أحد مراكز النظام الدولي في ظل نظام القطبية وتعدد القوى.
1) تجدر الإشارة هنا إلى أنه من الصعوبة بمكان في ظل المعلومات الواردة في الفصول السابقة القول بأن نظام الاستقطاب الذي شاركت فيه الدولة الأموية ونظام تعدد القوة لدى عاصرته الدولة العباسية ودولة المماليك والعثمانيين يأتي مطابقا للنماذج التي طرحها كابلان في تحليله لهيكل النظام الدولي. فمراجعة التاريخ الإسلامي توضح أن نظام الطبية والعصر الأموي ليس مطابقا لنظام القطبية المرن أو الجامد الذي قدمه هذا الباحث حيث إنه من الصعوبة بمكان القول بوجود كتلتين رئيسيتين مثل حلف الأطلنطي وحلف ورسو كما وأنه غاب عن تلك الفترة الفاعلون العالميون مثل الأمم المتحدة. إلا أن بعض القواعد التي حددها كابلا لوصف نظام القطبية في شكله المرن والجامد تنطبق على السلوك المركزي للنظام الدولي في عهد الدولة الأموي. فهدف كل طرف كان للخلص من الطرف المنافس له كما وأن كليهما كان يسعى لزيادة قدراته في مواجهة الطرف الآخر ولكن من ناحية أخرى لابد من تسجيل الاختلاف بين أسباب العداء وموقع الحركة في المرحلتين فهي ذات أبعاد عقيدية دينية في الأولى وذات أبعاد أيديولوجية مادية في الثاني، فإن من الصعوبة بمكان القول بتطابق نظام تعدد القوى الذي شاركت فيه الأطراف الإسلامية مع نظام توازن القوى الذي قدمه كابلان. فلقد لوضح لأخير أنه في إطار نظام وتوازن القوى يوجد خمسة فاعلين إلا أن مراجعة نظام
تعدد القوى الذي احتلت فيه الأطراف الإسلامية دور المركز تضمن أربعة فاعلين في عهد الدولة العباسية في العصر العباسي الأول وأربعة فاعلين في عهد دولة المماليك وستة فاعلين في عهد الدولة العثمانية كما وأن بعض القواعد التي وضعها كابلان كسلوك نمطي للوحدات المركزية لا تنطبق على سلوك المراكز الإسلامية في نظام توازن القوى التي شاركت فيه هذه الأطراف فلم تتجه المراكز إلى إتباع القاعدة الخاصة بوقف القتال إذا كان سيترتب عليه القضاء على أحد الفاعلين الرئيسيين أما القاعدة الخاصة بالعمل على وضع قيود أو فرض حدود على الفاعلين الذين ينادون بمبادئ وجود منظمات فوق قومية فلا يوجد ما يشير إلى أنها كانت ذات دلالة في الفترات التي شاركت فيها الأطراف الإسلامية في مركز القيادة العالمي إلا أن بعض القواعد التي جاء بها كابلان يمكن أن تكون ذات دلالة في فهم التفاعلات في ظل نظام تعدد القوى الذي شاركت فيه الأطراف الإسلامية، وأهمها القاعدة الخاصة بأن الفاعلين سيعملون على معارضة أي تحالف أو فاعل يهدد بالحصول على مركز مسيطر في النظام الدولي وهو ما سيتضح من خلال مراجعتنا لأنماط السلوك التي ميزت التفاعل الدولي الإسلامي مع الأطراف غير الإسلامية خلال الفترة موضع الدراسة.
2) وبصرف النظر عن مدى انطباق نماذج كابلان على الخبرة الإسلامية فإن ما يهمنا هنا هو بيان دلالة الخبرة الإسلامية في ظل اختلاف هيكل النظام الدولي بالنسبة لاثنين من الأدوات التي ركزت عليها أدبيات العلاقات الدولية بصفتها أدوات رئيسية تستخدمها القوى الكبرى في النظام الدولي في إدارة تفاعلاتها مع القوى الرئيسية الأخرى وهي الحرب والتحالفات والتساؤل الآن هو ما هي دلالة الخبرة الإسلامية بالنسبة لدور هذه الأدوات في توجيه التفاعلات الدولية وذلك خلال المراحل المختلفة لتطور وضع ودور الطرف الإسلامي المركزي في النظام الدولي سواء كأحد مراكز نظام الاستقطاب أو كأحد مراكز نظام تعدد القوى ومما لاشك فيه أن خبرة هذا التوظيف تعد من أكثر المجالات التي تثير النقاش والجدل حول مدى أصولية الممارسة الإسلامية في حالات السلم والحرب وما هي الضوابط الشرعية لحالة السلم وما هي حالة نظائرها بالنسبة لحالة الحرب.
1- الدولة الإسلامية كأحد مراكز نظام الاستقطاب الحرب والتحالفات من مركز القوة
إن التعامل الدولي للدولة الأموية يتفق إلى حد كبير مع إحدى قواعد السلوك النمطي التي أوضحها كابلان في عرضه لنموذج لاستقطاب وهي الخاصة بسعي كل قطب إلى السيطرة على القطب الآخر في هذا النظام وإن اختلفت القوى المحركة للصراع فلقد آمنت الدولة الأموية بضرورة حمل رسالة الإسلام إلى أنحاء العالم أي أنها كانت تسعى لإحداث تغيير في هيكل النظام الدولي على النحو الذي يسود فيه قطب واحد فحسب وهو القطب الإسلامي. وفي هذا الصدد يجب التأكيد أن هدف الدولة الأموية لم يكن التوسع الإقليمي في حد ذاته وإنما نشر الإسلام. وهنا نطرح التساؤل التالي: كيف وظفت الدولة الأموية أدوات الحرب والتحالفات لتحقيق هذا الهدف، وما هي دلالة مثل هذا التوظيف؟.
1) توضح خبرة الدولة الأموية أن توظيف الدولة للقتال كأحد أدوات الجهاد وارتبط أساسا بخبرة مؤسسيها فلقد كان لخبرة معاوية بن أبي سفيان في المواجهة الصراعية مع الروم أثر واضح في تشكيل استراتيجية للتعامل معهم وبالتالي آمنت الدولة الأموية أن خير وسيلة لمواجهة الأخطار الخارجية هي الهجوم وليس الدفاع، فأمن الدولة الأموية، وفقها لهذا المنطقة، ويتحدد عن طريق توسعها المستمر وفي هذا الإطار فإن الاعتماد أساسا على تقوية الحدود بغرض تأمين الدولة داخلها لم يكن واردا في خطة الأموين وإنما كان طريقهم لتأمين الحدود هو العمل المستمر على ضم مناطق جديدة أي عمل الأمولون على إتباع سياسة تداعي الفتوحات في البر والبحر ولم يقتصر التوسع الأموي على الجبهة البيزنطية بل امتد لجبهات أخرى حيث توغل المسلمون في أراضي الدولة البيزنطية حتى مياه البوسفور شرقا ومنها إلى غرب أوروبا حتى قلب فرنسا وضفاف اللوار. وامتدت الدولة الإسلامية في عهدهم من الصين شرقا إلى بلاد الأندلس وجنوب فرنسا غربا، فوصلت بذلك حدود الدولة إلى حدود لم تتجاوزها الدولة الإسلامية بعدها كدولة واحدة.
إن مراجعة أنماط توظيف الدولة الأموية للتحالفات كأداة لتوجيه تفاعلاتها الدولية في ظل نظام الاستقطاب توضح أن الدولة الأموية لم تدخل في تحالفات مع الدولة
الخصم ويعكس هذا الوضع القواعد التي تحكم التفاعلات في ظل نظام الاستقطاب والتي لا تسمح بوجود تحالفات بين القطبين وإن كان يمكن لقطبي النظام الدخول في معاهدات صلح. أما التحالفات التي دخلت فيها الدولة الأموية فكانت أحلافا هدفها إضعاف الدولة البيزنطية أو أحلافا هدفها دفع التوسع الأموي في مناطق أخرى في العامل.
2) التساؤل الذي نطرحه في نهاية عرض السمات العامة لسلوك الدولة الأموية بصفتها أحد قطبي النظام في هذه الفترة هو: ما هي انعكاسات السلوك الأموي على طبيعة هذا النظام وتفاعلاته؟ بالرغم من أن الدولة الأموية لم توفق في إسقاط الدولة البيزنطية إلا أن فتوحاتها الكبرى أدت إلى ضمها القاسم الأكبر من أملاك تلك الدولة مما كان له انعكاسات هامة على وضع الفاعلين الدوليين في فترات لاحقة، فلقد أدى الصراع البيزنطي الأموي إلى تحويل البحر المتوسط من شريان للتجارة إلى مجال للصراع الذي ترتب عليه توقف التجارة كما كان له انعكاسات بالنسبة لتطور القوى الإسلامية وغير الإسلامية فلقد استطاعت الدولة الإسلامية نظرا لنجاحها في السيطرة على شواطئ الخليج العربي وكل غرب آسيا فيما عدا الأناضول التغلب على العقبة التي كانت تقف أمام التجارة في الشرق عبر الخليج العربي وبالتالي لم يعان المسلمون نتيجة انتهاء الدور التجاري للبحر المتوسط، حيث كان أمامهم طريق آخر في الشرق مع الهند والصين وشرق أفريقيا وهو ما استفاد منه العباسيون. أما أوروبا فقد ترتب على انتهاء الدور التجاري للبحر المتوسط اضمحلال تفاعلها التجاري الخارجي الأمر الذي ساهم في دخولها عهود الإقطاع والعصور المظلمة.
2- الدولة الإسلامية كأحد مراكز نظام تعدد القوى: اختلاف أنماط توظيف الحرب والعلاقات السلمية
برزت الدولة الإسلامية- كأحد مراكز نظام تعدد القوى في ثلاث مراحل:
فلقد شهد العصر العباسي الأول نظام تعدد القوى حيث كان أهم أقطاب هذا النظام الدولة العباسية والدولة الرومانية في الغرب. ولقد تزامن قيام وتولي الدولة المملوكية دورها كإحدى القوى الرئيسية في نظام تعدد القوى مع وجود مراكز أخرى: مملكتي
أرجون وقشتالة ثم أسبانيا والبرتغال كما تولت الدولة العثمانية دورا مركزيا في نظام تعدد القوى في ظل أسبانيا والبرتغال وفرنسا وإنجلترا وهولندا ثم مراحل لاحقة روسيا بدور هام في توجيه التفاعلات الدولية ونركز في هذا القسم من الخاتمة على توضيح السمات العامة لسلوك الدول الإسلامية بصفتها أحد مراكز نظام تعدد القوى وبصفة خاصة فيما يتعلق بتوظيفها لأدوات الحرب من ناحية والتحالف في تفاعلها مع القوى المركزية الأخرى من ناحية أخرى.
إذا ما راجعنا السمات العامة لتوظيف أداة الحرب في توجيه التفاعلات الدولية في ظل هذه الفترات الثلاث سنلاحظ اختلافا ما بين النمط العام لتوظيف الدولة العباسية في العصر العباسي الأول ودولة المماليك من جانب توظيف الدولة الأموية في الأندلس والدولة العثمانية في عهد ازدهارها لهذه الأداة من جانب آخر فبينما جاء الاعتماد على هذه الأداة كرد فعل لتحرك الأطراف غير الإسلامية في الحالة الأولى مع تطوير العلاقات السلمية لدعم القوة الإسلامية فإنها استخدمت أساسا كأداة للفتح في الحالة الأخيرة.
فمن ناحية أخرى لقد شهد العصر العباسي الأول تحولا عن سياسة التوسع والفتوحات العسكرية كأساس للتعامل مع الأطراف غير الإسلامية واتخذت هذه الدولة خطوات توضح تخليها عن القتال كأداة للتوسع وتراجع أولويته كوسيلة لإدارة تعاملها الخارجي. فلم تجعل الدولة في العصر العباسي الأول من بين أهدافها الرئيسية القضاء على الأطراف المركزية غير المسلمة خاصة الدولة البيزنطية أي أنها تبنت سياسة تعايش سلمى مع هذه الأطراف وفي ظل توقف الفتوحات فإن القتال لم يعد يستخدم كأداة للتعامل الخارجي إلا في حالات الضرورة والتي تمثلت في حالات الهجوم والتأديب والردع.
ويتضح تخلي العباسيين عن فكرة الهجوم كخير وسيلة للدفاع في اهتمامهم بالحدود حيث اعتبروها نهايات وفواصل تفصل الدولة الإسلامية عن القوى غير الإسلامية.
كذلك فإن توظيف المماليك لأداة الحرب كان أساسا للتصدي للتوسع من جانب الطرف غير الإسلامي فإن سياسة المماليك في بداية دولتهم اتسمت بمهادنة الصليبيين
في الشام وذلك للتفرغ لمواجهة المغول، ولقد اقتصرت جهود بيبرس على مجرد الهجمات والمناوشات المتقطعة ثم انتقل إلى الحملات الكبرى المنظمة التي كان يفصل بينها صلح أو هدنة سرعان ما كانت تنتهي بعمل عسكري جديد واستمرت عملية التصفية في عهد قلاوون وابنه الأشرف حتى تم تصفية آخر المعاقل الصليبية في عكا وصور وصيدا بنهاية القرن 13م. وبانتهاء الحروب الصليبية اهتمت الدولة المملوكية بالتركيز مرة أخرى على التفاعلات السلمية مع العالم المسيحي إلى جانب الأساليب القتالية التي جاءت كرد فعل للحركات السلمية مع العالم المسيحي حيث اتجهت الأخيرة بعد فشل أٍسلوب الحصار الاقتصادي لمصر إلى شن حرب سافرة على المواني والسفن المصرية والشامية. فلقد تلخص الإدراك الأوربي الغربي في هذه المرحلة على ضرورة ضرب مصالح النشاط التجاري المصري الذي يمثل المصدر الأول لعصر دولة المماليك وقوتها بعد احتكار مصر لطريق التجارة الوحيد الآمن والمستقر والبعيد عن سيطرة وتهديد المغول من الشرق والغرب.
ولقد انطلقت الممارسات المملوكية على صعيد العلاقات السلمية من وضع القوة والمناورة وليس الضعف والخضوع كما أنها كانت تخدم وتدعم المصالح السياسية والعسكرية المصرية في مواجهة الأعداء من الشرق والغرب على حد سواء إن هذه التحركات السلمية من جانب المماليك لم تمنعهم من الدخول في مصادمات مع دار الحرب وهو ما اتضح بصفة خاصة في القرن 14م في غزو قبرص ورودس.
إن توظيف الأداة القتالية ارتبط بإدراك الأشرف برسباي لقيمة وأهمية التجارة لثراء مصر بصفتها مركز قوة العالم الإسلامي وبالتالي حرص على خدمتها بكل الوسائل السياسية والعسكرية ابتداء بدعم النفوذ في اليمن والحجاز في مواجهة الصليبيين في الشمال ومن ثم كان هدف الأعمال الحربية ضد قبرص ورودس هو تأمين التجارة المصرية في المتوسط ضد أعمال القرصنة والذي تطلب القضاء على ما بقي من أركان الصليبيين في المنطقة وخاصة قبرص ورودس حث كان يحكم قادتهم فكرة قتال المسلمين والدفاع عن جميع القوى المسيحية ضد خطرهم. وإذا كانت السمة العامة لتوظيف الأداة القتالية كرد فعل لتحرك دار الحرب إلا أن الدولة المملوكية شهدت أيضا
استخدام الأداة في الفتح وإن كان هذا الخطر محددا في تاريخ المماليك ومن ذلك تحرك الدولة المملوكية في عصر الناصر محمد والذي يعد عصره من أعظم عصور التاريخ المصري المملوكي حيث تنوعت سياسته ما بين الفتح والدفاع ومن أهم الأحداث الخارجية في عهده توجه مصر المملوكية نحو الجنوب ومن ثم كانت حملاته المتوالية الأربع على مملوكة النوبة المسبحية والتي تمكنت من إقامة أول ملك مسلم على تلك البلاد.
التساؤل الآن هو: لماذا اتجهت كل من الدولة العباسية والمملوكة إلى مثل هذا النمط في توظيف الأداة العسكرية ضد دار الحرب؟ الواقع أنه يمكن الاعتماد في هذا الصدد علىأربع مجموعات من العوامل ترتبط بطبيعة امتداد الدولة الإسلامية خلال العصرين والعوامل الداخلية وطبيعة التهديدات الأخرى التي واجهها الطرف الإسلامي ففي العصر العباسي الأول كانت الدولة الأموية قد وصلت إلى أقصى اتساع جغرافي يمكن أن تصل إليه حيث كانت الجبال الحد الطبيعي الذي عجز المسلمون عن تخطيه فجبال طوروس مثلث مناطق ارتدادهم في الشرق أمام البيزنطيين وجبال البرنييه كان الحد الذي كان ردهم عن التوسع في أوروبا في مواجهة الفرنجة في الغرب أما في عهد دولة المماليك فقد جاء في فترة أعقبت الحروب الصليبية التي مدت سيطرتها على الأقاليم الإسلامية وبالتالي فإن الدولة المملوكية بصفتها مركز الخلافة الإسلامية كان عليها رد التوسع الصليبي بعيدا عن الأراضي الإسلامية كما يرتبط نمط توظيف الدولتين العباسية والمملوكية للأداة القتالية بعوامل داخلية فكانت الدولة العباسية على علم بعدم رغبة الجيش في التوجه الهجومي الذي يجعل من القتال نمطا مستمرا للحياة كما يرتبط سلوك المماليك باهتمامهم بتدعيم قوتهم الداخلية ويرتبط سلوك كل من العباسيين والمماليك أيضا برؤيتهم لدور التجارة في دعم اقتصاد الدولة الإسلامية وأخيرا يرتبط هذا النمط من السلوك بطبيعة التهديدات الخارجية التي واجهت الدولة الإسلامية وهو ما ينطبق على مسألة السلوك المملوكي حيث كان الخطر المغولي أحد العوامل التي ساهمت في وضع حدود أمام إمكانات تحرك المماليك حتى يمكنها من مواجهة هذا الخطر.
خلاصة القول: إن الأوضاع المحيطة تفرض أدوات الجهاد وتحدد أساليبه وتوضح الخبرة الإسلامية أن الجهاد بمعنى القتال للفتح والضم لم يكن هو الأسلوب الوحيد في مرحلة القوة والنفوذ فبالرغم من حياة العباسيين والمماليك للقوة والنفوذ إلا أنهم تحركوا لحماية الإسلام ونشره ودعم قواه بأساليب أخرى سلمية تجارية ثقافية.
وهذا يبرز لنا عدم مصداقية طرح السؤال عن أصل العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين على النحو التالي هل قتال أم سلم؟ هل القتال كان أداة مرحلة القوة والسلام هو أداة مرحلة الضعف في تاريخ المسلمين؟ ومن ثم يبرز لنا في هذا الموضع مصداقية الاتجاه الذي يرفض النظرات الجزئية المحدودة لمراحل تطور التاريخ الإسلامي لأن الرؤية الكلية هي التي تقدم المعنى الحقيقي لتطور الإسلامي ونموه فلم يكن هذا النمو والاتساع مقتصرين على الفتوح الكبرى فقط ولكن كان هناك التوسع الحضاري والذي استمر بعد انتهاء عصر الفتوح الكبرى.
ومن ناحية ثانية فإن نمط توظيف الأداة القتالية للهجوم نجده واضحا في سلوك أموي الأندلس وسلوك الدولة العثمانية في عهد ازدهارها فلقد اتبعت الدولة الأموية في الأندلس سياسة فتح وتوسع نشطة إزاء الأطراف الدولية وغير الإسلامية الموجودة في هذا الجزء من العالم الدولة الرومانية المقدسة وأمراء الإقطاع والمدن الساحلية الأوروبية وبالرغم من أن الدولة الأموية في الأندلس اتبعت سياسة مماثلة لتلك التي اتبعتها الدولة الأموية السابقة غلا أن حركة الفتوحات التي قامت بها الدولة الأموية في الأندلس لا يمكن أن تقارن لا من حيث الدرجة ولا الاستمرارية بحركة الفتوحات الكبرى في عصر دولة الخلافة الأموية فإن انقسام العالم الإسلامي إلى قوتين متنافستين أضعف من قدرة الدولة الأموية في الأندلس في ظل افتقادها للعمل الإسلامي في المشرق في تحقيق النجاح الذي حققه المسلمون في ظل توحدهم.
ولقد استطاعت الدولة العثمانية في عهد ازدهار قوتها أن تستخدم الأداة القتالية في الفتوحات وهو ما يتجلى في الفتوحات العثمانية في أوروبا حيث نجحت هذه الدول في فتح العديد من الأقاليم الأوروبية غير المسلمة فقامت الدولة العثمانية بتأمين حدودها الشمالية الغربية وتوسيع نطاق نفوذها نحو قلب أوروبا وتحقيق مركز متميز في حوض البحر المتوسط وإذا كان العثمانيون تحت ضغط حربهم في أوروبا ومع الصفويين قد أحجموا خلال أوائل القرن 16م عن اتخاذ خطوات مباشرة لتدعيم نفوذهم في البحر الأحمر حيث اكتفوا في ذلك باعتراف مماليك اليمن بالخضوع للسيادة العثمانية إلا أن تدهور الأوضاع خلال هذه الفترة دفعهم في إطار الإستراتيجية العثمانية العالمية ووضع
البحار الجنوبية فيها للتحرك لإحكام السيطرة على هذه المناطق والقضاء على حكم المماليك ومحاولة توحيد اليمن فلقد كان تغلغل التهديد البرتغالي من أقوى العوامل المفسرة للضم العثماني لليمن لتأمين الحدود الجنوبية للإمبراطورية بغلق البحر الأحمر أمام الزحف البرتغالي كما وظفت الدولة العثمانية الأداة القتالية في مواجهة البرتغال في المحيط الهندي والخليج العربي وحول سواحل الهند لتحقيق هدف آخر للبحرية العثمانية وهو تصفية الوجود البحري البرتغالي في المحيط الهندي وسواحل الهند وفي إطار التوجه العثماني لتوظيف الأداة القتالية في الجنوب بدأ البعد الدفاعي لدور هذه الأداة في حماية شمال أفريقيا من الاحتلال الأسباني حيث تصدت القوة العثمانية لموجه العداء الصليبي التي حركها شارل الخامس في مواجهة هذه المنطقة.
وإذا كان العثمانيون قد نجحوا بصفة خاصة خلال فترة ازدهار قوتهم في القرن 16م في توظيف أداة الحرب لخدمة الجهاد وتوسيع رقعة الأراضي الإسلامية، إلا أن تعدد جبهاتهم كان له تداعيات على حجم نجاحهم في البعض منها. ويمكن الإشارة في هذا الصدد إلى الفشل العثماني في المحيط الهندي فإن تورط الدولة العثمانية في حروب متعددة في آسيا وشمال أوروبا والبحر الأحمر ومع الصفويين لم يمكن العثمانيين خلال الثلاثينيات من القرن 16م من توجيه الجهد اللازم للمحيط الهندي لتحقيق نتائج فعالة. وكذلك تبدو حدود الإنجازات العثمانية في الخليج العربي في منتصف القرن 16م بالرغم من الهدوء النسبي على الجبهة الأوروبية والصفوية على ضوء الاهتمام المتزايد الذي وجهته الدولة العثمانية لجهودها البحرية لحفظ التوازن في إصلاحهم في غرب البحر المتوسط مما كان له تداعيات سلبية على قدرة العثمانيين على إعداد أسطول فعال خاص بالبحار الجنوبية وذلك في نفس الوقت الذي استمرت فيه البرتغال في تدعيم قواها في المنطقة.
وإذا ما نظرنا إلى توظيف الدولة الإسلامية للتحالفات كأداة من أدوات التفاعل الدولي في ظل احتلالها لأحد مراكز القوى في النظام الدولي فسنجد أنه في ظل نظام تعدد القوى سعت الدولة الإسلامية اتساقا مع القاعدة التي أوضحها كابلان إلى استخدام الأحلاف لتحقيق تلك التوازنات التي تمنع حصول أقطاب النظام على مركز متميز،
بل إنها استخدمت هذه الأحلاف لتحقيق التوازنات التي تمنع من زيادة المزايا التي قد تتمتع بها إحدى القوى الأخرى وإن تطلب ذلك التحالف مع قوى غير إسلامية الحد من سلوك إحدى القوى الإسلامية المركزية في النظام الدولي. وفي هذا الصدد أفرزت سياسات العداء التي ميزت علاقة الدولة العباسية والدولة الأموية في الأندلس نمطا من التحالفات التركيبة، حيث شهدت هذه الفترة تحالفات بين الدولة العباسية والفرنجة ضد الأمويين في الأندلس. ومن أمثلة ذلك التحالف العسكري الذي قام بين الطرفين في عهد المنصور حيث التقت مصالح الخليفة العباسي والإمبراطور الفرنجي على إسقاط الحكم الأموي في الأندلس ووافق المسلمون على تسليم الرنجة مدنا إسلامية تمكنه من فرض سيطرته على النصف الشمالي تقريبا من أسبانيا مقابل تقدم جيش ضخم من الشمال في نفس الوقت الذي يتقدم فيه الجيش العباسي من الجنوب لتقع أسبانيا الإسلامية بين فكي كماشة إسلامي- مسيحي.
ويبدو اعتماد الدول الإسلامية المركزية على التحالفات كأداة لتحقيق التوازن في التفاعلات بين القوى الكبرى واضحا في سلوك دولة المماليك والدولة العثمانية. ففي عهد الدولة المملوكية استطاع قطز ثم بيبرس ثم قلاوون توظيف سلسلة من التحالفات مع مصدري التحدي اللذين واجهتهما الدولة المملوكية وهما المغول والقوى المسيحية في نفس الوقت وذلك من أجل تحجيم الأثر السلبي الأول (مغول فارس) ومن أجل تصفية بقايا الوجود الصليبي.
فإن متابعة أنماط التحالفات التي دخلت فيها الدولة المملوكية توضح تحالفا مملوكيا- مغوليا مسلما في مواجهة تحالف مغولي صليبي، وتحالفا مملوكيا مسيحيا بيزنطيا أو إفرنجيا في مواجهة نفس التحالف المغولي الصليبي، وتحالفا مملوكيا مع البندقة سعيا لدعم القوة البحرية للمماليك في مواجهة البرتغال.
ولعل الخبرة العثمانية في توظيف التحالفات في تفاعلاتها الخارجية نموذج واضح لكيفية توظيف هذه الأداة لخدمة أهدافها التي تتطلب توازن القوى في النظام.
وهنا يمكن أن نفرق بين نمطين من أنماط توظيف هذه التحالفات، فهناك تحالفات بين الدولة العثمانية وإحدى القوى الثانوية في النظام لمواجهة إحدى القوى المركزية في النظام الدولي، ولعل أوضح أمثلة هذا النمط هو تحالف الدولة العثمانية مع إحدى القوى المتنازعة على عرش المجر في مواجهة القوى الأوروبية المركزية المطالبة بعرش المجر. أما النمط الثاني من التحالفات الذي دخلت فيه الدولة العثمانية فكان التحالف مع إحدى القوى المركزية في مواجهة قوة مركزية أخرى في النظام الدولي. ولعل أوضح الأمثلة هذا الصدد التحالف العثماني الفرنسي لمواجهة إمبراطور شارلمان الخامس.
وتجدر الإشارة في إطار تحليل توظيف الدولة العثمانية للتحالفات أن توظيف هذه التحالفات اعتمد على قوة الدولة العثمانية وهو ما يعكس في ثلاثة مظاهر، فإن قوة الدولة العثمانية هي التي دفعت الدول الأوروبية (فرنسا وإنجلترا للاستواء بها في مواجهة المراكز الأخرى في النظام الدولي، حيث اعتقدت هذه القوى أن الدولة العثمانية هي القوة العسكرية الوحيدة القادرة على حفظ التوازن في مواجهة الأسبان، كما وأن مدى قوة الدولة العثمانية هي التي حددت هدفها من مثل هذه التحالفات، فبينما كان هدفها في مراحل هذه الدولة العثمانية خدمة التوسع العثماني أصبح هدفها الدفاع عن بقاء الوجود العثماني في أوروبا حينما فقدت بعض عناصر قوتها، وأخيرا فإن دلالة التحالفات التي دخلت فيها الدولة العثمانية بالنسبة للتوازنات في النظام الدولي اختلفت بحسب تطور الدولة العثمانية، فبينما كانت الدولة العثمانية طرفا في توجيه التوازنات الأوروبية في عهد القوة أصبحت هي موضوع لهذه التوازنات في مرحلة تدهور الدولة، ولقد نجحت في الحفاظ على بقائها واستمرارها كإمبراطورية- بالرغم من ضعفها خلال القرنين الأخيرين من عمرها- بسبب لعبة التحالفات والتحالفات المضادة التي انتهجتها بين القوى الكبرى غير الإسلامية وهي اللعبة التي لم تحدد قوتها بقدر ما أخرت سقوطها.
التساؤل الآن هو: ما هي دلالة توظيف الدولة العباسية والأموية في الأندلس والدولة المملوكية والدولة العثمانية للحرب والتحالفات في تفاعلاتها في ظل نظام تعدد القوى؟ لقد نجح التوجه الخارجي للدولة العباسية في عصرها الأول في الاحتفاظ بمركز التسيد والعلو في النظام الدولي كأكبر دولة تجارية في العالم القديم، كما وأنها نجحت في تمكين
الإسلام في المناطق التي زاولت فيها الدولة نشاطها التجاري طالما كانت الدولة العباسية قوية تفرض سياسة التعايش السلمى من منطلق القوة. واستطاع الأمويون في الأندلس أن يجعلوا منها أكبر قوة سياسية وعسكرية في شبه جزيرة الأندلس وإن حد من قدراتها في هذا الصدد صراعها مع مركز الخلافة. ونجحت دولة المماليك في عصر قوتها في القضاء على الصليبين وتحجيم خطر المغول ومن ثم استطاعت هذه الدولة أن تخدم أهداف الجهاد والدفاع عن الإسلام بالأساليب التي اتفقت مع مقتضيات الفترة التي لعبت فيها دور مركز في النظام الدولي. كما استطاعت الدولة العثمانية من خلال توظيفها لأدوات الحرب والتحالف مد الفتح الإسلامي في مناطق عديدة من أوروبا وآسيا وأفريقيا.
هذا ويجدر التوقف في النهاية عند الملاحظتين التاليتين حول الأنماط السلوكية وتقويمها على ضوء مفهومي الجهاد وعدم موالاة الكفار.
فمن ناحية: نجد أن بعض المراكز الإسلامية (العباسية، المملوكية، العثمانية) وبالرغم من قوتها وتسيدها ومركزية دورها (في بعض المراحل) لم يكن الجهاد الديني لديها يعني فقط توظيف الأداة القتالية كأسلوب وحيد لإدارة التعامل الخارجي بل كان توظيفها لأدوات أخرى مثمرا في خدمة القوة الإسلامية ونشر الإسلام وإرساء أسس حضارية إسلامية فضلا عن الدفاع عن ما هو قائم. وكان ذلك التوظيف متحركا ومقترنا بفترة ضعف وعدم توحد الطرف الآخر أو على الأقل عدم تفوقه على القوة الإسلامي. إذن حالة القوة الإسلامية لم تفرض حالة القتال الدائم ولكن أظهرت أنماطا لتوظيف التعامل التجاري الاقتصادي السلمى لخدمة ودعم القوة الإسلامية، وإن كانت قد أظهرت أيضا كيف أضحى هذا التعامل- ولكن في ظل شروط أخرى- (ضعف الطرف الإسلامي وتفككه وقوة وتجمع الطرف الإسلامي- مصدر ضعف).
ومن ناحية أخرى: كانت التحالفات الإسلامية مع قوة غير إسلامية في مواجهة قوى غير إسلامية أخرى ذات آثار إيجابية طالما كان الطرف الإسلامي في وضع القوة، وكان الطرف الموجه ضده التحالف هو قوة غير إسلامية. وسيبرز لنا عكس هذه المدلولات كما سنرى عند تحليل نمط التفاعلات على صعيد النسق الإسلامي حيث ستصبح التحالفات الإسلامية- غير الإسلامية في مواجهة طرف إسلامي ذات محصلة سلبية في مجموعها ضد مصالح الأمة.
وهكذا إذا كانت بعض الأطراف الإسلامية عبر الفترة الممتدة من الدولة الأموية وحتى الدولة العثمانية قد لعبت دورا مركزيا في هيكل النظام الدولي فإن التساؤل الآن هو ما هي العوامل التي ساهمت في ازدهار وتدهور هذه القوى؟ وهل تختلف هذه العوامل عن العوامل التي ساهمت في ازدهار وتدهور القوى المركزية الأخرى التي تناولتها الأدبيات العربية؟.
ثانيا- التاريخ الإسلامي وعوامل ازدهار وتدهور القوى الدولية: بين العامل العقيدي والعوامل المادية
إن مراجعة التاريخ الإسلامي توضح أن ازدهار وتدهور الدول الكبرى تحدد بعدد من العوامل الرئيسية وهي العقيدة ومدى استقرار الجبهة الداخلية، القدرات العسكرية، وضع لمركز في هيكل الاقتصاد العالمي، طبيعة العلاقة داخل النسق الفرعي الإسلامي، قوة وضعف الخصم، تدخل الخصم في الشئون الداخلية للطرف الإسلامي والحروب طنقاط التحول في تاريخ الدول. ويمكن تقسيم هذه العوامل إلى أربع مجموعات على ضوء ما توضحه مراجعة التاريخ الإسلامي من حيث مساهمتها في ازدهار وتدهور الدول فهناك عوامل ترتبط بالقدرات الذاتية للطرف الإسلامي وهناك مجموعة ثانية ترتبط بطبيعة التفاعل داخل النسق الإسلامي وهناك مجموعة ثالثة ترتبط بقدرات وسلوك الطرف غير الإسلامي وهناك مجموعة رابعة ترتبط بالتفاعل بين سلوك الطرف الإسلامي وقدرات الطرف غير الإسلامي وإذا كانت المجموعة الأولى من العوامل قد ساهمت خلال بعض الفترات في ازدهار قوة الطرف الإسلامي وفي أحيان أخرى في تدهوره، فإن مراجعة التاريخ الإسلامي توضح أن استفادة القوى الإسلامية من المجموعة الثانية والثالثة من العوامل كانت محدودة حيث ساهمت هاتان المجموعتان من العوامل أساسا في تدهور القوى الإسلامية أو بعبارة أخرى لم تنجح الدول الإسلامية في توظيف هذه العوامل على النحو الذي يدعم من ازدهارها خلال الفترة موضع الدراسة. وإذا كانت الأطراف الإسلامية قد نجحت في تعظيم قدراتها من خلال الاعتماد على المجموعة الرابعة من العوامل في بعض الفترات إلا أن هذه العوامل ساهمت في تدهور الأطراف الإسلامية في مراحل أخرى.
وفيما يلي عرض لهذه المجموعات الأربع من واقع مدلولات الخبرة الإسلامية وفي إطار من التحليل المقارن مع إسهامات المنظور الغربي في هذا المجال. ففي حين يركز الأخير على العوامل المادية للسقوط والصعود- كما سبق ورأينا- فسيبرز لنا في هذا الموضوع خصوصية الخبرة الإسلامية من حيث وزن العوامل العقيدية على عدة مستويات: مستوة عناصر قوة الدولة (المجموعة الأولى) أي وزنها بالنسبة لتحديد وظيفة الدولة وأسس التعامل الخارجي للدولة، أي بالنسبة لما يتصل بالجهاد كمحرك للسياسات الإسلامية وتأثير الإسلام على وزن هذه العوامل الدولية في عصري القوة والضعف من تاريخ المسلمين وكذلك مستوى وزن هذه العوامل العقيدية في تحديد نمط العلاقات فيما بين الدول الإسلامية وبينها وبين الدول غير الإسلامية (المجموعتان الثانية والرابعة).
ومع ذلك تظل قضية التقويم الأصولي لشرعية أنماط التفاعلات في نطاق هذه المجموعات المختلفة قائمة وبلا حل في هذه القائمة. وقد سبق الإشارة إليها في الفصل الثاني من القسم الأول. فإن القيام بهذه المهمة يحتاج لمؤشرات محددة تقوم على تماسك أو تراجع وزن العامل العقيدي في هذه التفاعلات (مثلا الفتاوى سواء لجهاد الآخر أو لقتال طرف مسلم، أو الفتاوى عن علاقة السلطة بالفتن والاضطرابات الداخلية). ونماذج هذه الفتاوى قائمة فيال تاريخ عبر كل منعطفاته. وكان هدف هذا الجزء من المشروع أن يساعد كل منهم على فهم وتحديد أهم هذه المنعطفات، حيث إنها في حاجة لدراسة خاصة تنطلق من منهاجية مختلفة وهو ما كان يخرج عن إمكانات هذا الجزء من المشروع وعن أهدافه المباشرة. إلا أن الجهد الذي بذل على مستوى وضع قواعد العلاقات الخارجية سلما وحربا من ناحية (جزء الأصول) ومستوى التحليل التاريخي بكل نتائجه يمثلان قاعدة أساسية للباحثين المهتمين بتقويم التاريخ الواقعي على ضوء النسق القياسية النظرية في الرؤية الإسلامية. بل ومن المهم أن تمتد هذه العملية للواقع الراهن بكل تفاعلاته وامتداداته.
العوامل التي ترتبط بالقدرات الذاتية للطرف الإسلامي
تتضمن هذه المجموعة ثلاثة عوامل وهي العقيدة، ومدى استقرار الجبهة الداخلية والقدرات العسكرية.

أ- العامل العقيدي
مارس تأثيره على عدة مستويات: مستوى إيمان وحماسة وتماسك القاعدة التي تمثل عنصرا من عناصر قوة الدولة كما توفره من تعبئة ودوافع، مستوى تحديد وظيفة الدولة والمحرك لسياستها، مستوى تماسك الجبهة الداخلية في ظل قيم العدالة والمساواة والحرية.
توضح مراجعة التاريخ أن مبدأ الجهاد كان المبدأ الأساسي وراء سياسات وتنظيمات المراكز الإسلامية وكان الجهاد والدفاع عن الإسلامي يثير حماسة ومبادرة الفرد والمجتمع كما كانت المحدد لوظيفة الدولة والمحرك للسياسات الإسلامية. ولذا استطاعت هذه الدول النجاح في حماية ونشر الإسلام في عهد الازدهار والقوة إلا أن التخلي عن العقيدة كإحدى القوى الرئيسية الموجهة لسلوك الدول، وهو ما انعكس في سلوك القيادة والجند حيث تحول الدافع الرئيسي للتحرك في مواجهة الخارج إلى البحث عن المكاسب المادية المتمثلة في الثروة المترتبة على التوسع الإقليمي، كما انعكس في الصراعات الداخلية من أجل السلطة، كان عاملا هاما في تدهور الدولة الأموية والدولة العباسية ودولة المماليك والدولة العثمانية. كما وأن سيادة الاتجاهات العلمانية والقومية كانت أحد الأسباب الهامة في سقوط الدولة العثمانية في أوائل القرن العشرين حيث لم يعد هناك رابطة تجمع ما بين القيادة والشعب تجعل لهم هدفا مشتركا يقود تحركاتهم الخارجية ومن ثم انعكست المصالح الشخصية التي اتخذت طابعا ماديا على اختلاف الأولويات وتناقض الإستراتيجيات التي يجب أن توجه التعامل الخارجي للدولة الإسلامية.
ومن ثم يمكن القول إن مستويات تأثير العامل العقيدي خلال مرحلتي القوة والضعف لم تنفصل عن حالة العوامل المادية ومن ثم تأثيراتها ففي حالة تراجع العامل العقيدي كان يحدث التراجع المادي وهذا الأخير لم يقتصر على عناصر القوة الذاتية للدولة (القوة العسكري الاقتصادية التماسك الداخلي) ولكن امتد أيضا إلى العلاقات فيما بين القوى الإسلامية وعلاقاتها مع الآخر فكان لابد للعامل العقيدي وفي قوته وضعفه أن يشكل ليس علاقات القوى على صعيد النسق الإسلامي فقط ولكن يمتد إلى العلاقات مع الآخر.

ب- الجبهة الداخلية: الانهزام من الداخل قبل الخارج
إن استقرار الجبهة الداخلية يعد أحد العوامل الهامة في تحديد قوة الطرف الإسلامي في تفاعله مع الأطراف غير الإسلامية.
وإذا كان تماسك الجبهة الداخلية للدولة الإسلامية هو أحد عناصر قوتها في بعض الفترات التاريخية، إلا أن مراجعة التاريخ توضح أن الدول الإسلامية الكبرى انغمت خلال بعض الفترات الحرجة من تاريخ تعاملهم الدولي في مصادمات وخلافات داخلية أثرت بصورة عميقة على قدرتهم على التعامل بفاعلية مع أطراف دولية أخرى وعلى مواجهة الأخطار التي فرضتها البيئة الدولية على نحو أضعف من قدرتهم على التعامل مع هذه الأخطار فعلى سبيل المثال ارتبط تدهور الدولة الأموية بمشكلاتها في الجبهة الداخلية فإن السياسات التي اتبعها بعض الخلفاء الأمويين مثل (التعصب العنصري والتعصب الإقليمي) أدت إلى تعاظم شعور المواطنين بعدم الرضا عن الحكومة وعدم التعاطف معها فانفجرت الدولة من الداخل بجميع أنواع الصراعات وفي وقت كانت قد وصلت فيه الفتوح إلى أقصاها، وبالتالي انشغلت السلطة بمشكلاتها الداخلية عن مشكلاتها الخارجية.
ولم تظهر أثار هذا على تدهور وسقوط المراكز الإسلامية بصفتها قوى رئيسية في النظام الدولي فحسب، بل يمكن القول إن هذه الخلافات الداخلية كان لها أيضا تأثير على إضعاف هذه القوى الرئيسية في بعض الفترات التي تمتعت فيها بمركز قوي رئيسية في النظام الدولي قبل انهيارها. كما وأن الخلافات الداخلية كانت من الأسباب التي ساهمت في إضعاف بعض الأطراف الإسلامية التي ظهرت إلى جانب المراكز الإسلامية الرئيسية.
ويمكن الإشارة إلى أثار الفتنة المترتبة على تولي يزيد بن معاوية السلطة وأخذ البيعة من جميع الأمصار ولو بالقوة وهي الفتنة التي استمرت اثني عشر عاما حيث توقف خلال هذه الفترة الغزو والفتح على جميع الجبهات وخاصة الروم البيزنطيين بسبب انشغال البيت الأموي بالمشكلات الداخلية الخاصة بتمكين الخلفاء لحكمهم، وانتقلت الدولة الأموية من موضع الهجوم والعلو إلى موقف الدفاع.
فقد ترتب على الانقسامات الدينية والسياسية داخل الدولة الفاطمية انقسام هذه الدولة، وفي المغرب بدأ نفوذها يضمحل على يد آل زبري والذي أدى تمردهم عليها ورغبتهم في الاستقلال عنها إلى بداية طور من الصراع المحلي شاعت بسببه الفوضى في المغرب، واستنزاف الصراع بين قوى الفريقين فلم يتنبها للخطر القدم من الشمال على يد قوى النورمانديين وكذلك امتد النفوذ الإيطالي إلى مدينتي بيزا وجنوة.
ج- القوة العسكرية
أثرت طبيعة هذه القدرة على صعود وعلى تدهور الدول الإسلامية الكبرى. من ناحية فإن تمتع الدولة بالقوة العسكرية يعد أحد العوامل التي ساهمت في ظهور دول إسلامية لها دور رئيسي في هيكل النظام الدولي. ولقد ارتبطت القدرة العسكرية للدول الإسلامية بصفتها قوى رئيسية في النظام الدولي بمدى ولاء القوات العسكرية للخليفة، وقدرتها على بناء قوات بر وبحرية لمواجهة التحديات التي يفرضها الخصم وتدعيم القوة العسكرية للمناطق التي تمثل نقاط انطلاق للفتح أو للحدود والتي تقف أمام احتمالات توسع الحكم. فعلى سبيل المثال، فإن وجود جيش قوى ولاءه الأول والأخير للخليفة كان أحد العوامل الهامة في نجاح معاوية بن أبي سفيان في مواجهته الروم البيزنطيين، وعمل على جعل قوام هذا الجيش الأساسي من جند الشام الموالين له شخصيا، كما اهتم خلفاء العصر العباسي الأول بقضية انتماء الجند في الجيش.
كما اتبع المسلمون في الأندلس فكرة إقامة جيش متوازن لتسهيل قيادته نظرا للصراع بين العرب والبربر من جانب والقيسية واليمنية من جانب آخر.
بالإضافة إلى الاعتماد على خلفية الجند وانتماءاتهم كوسيلة لتقوية الجيش، توضح الخبرة الإسلامية اهتماما بدعم القوات البرية والبحري في آن واحد وتدعيم القوة العسكرية للمناطق التي يمكن أن تشكل نقاط انطلاق للفتح أو للحدود التي تقف أمام احتمالات توسع الحكم، فبالإضافة إلى اهتمام معاوية بوجود جيش قوي للدولة الأموية ركز على بناء قوة بحرية كبيرة حيث إن الطرف الدولي الأساسي الذي كانت هذه الدولة تتعامل معه (الدولة البيزنطية) كان يعتمد على أسطول بحري قوي لتحقيق قوته العسكرية.
كما اهتمت الدولة الأموية من أجل صراعها مع الروم في آسيا الصغرى بالثغور الشامية والجزرية. كما عمل المنصور في العصر العباسي الأول على تحصين الثغور القائمة وإعادة ترميم ما بها من حصون وقلاع لمواجهة احتمالات الهجمات البيزنطية.
إذا كان الاهتمام ببعد الولايات والقوة البرية والبحرية معا والحدود من السمات الأساسية التي ميزت خبرة الدولة الأموية العباسية في الازدهار ظل تنامي قدراتها العسكرية: فإن مراجعة خبرة دولة المماليك توضح أن توافر لديها جنس متميز يتسم بدرجة كبيرة من القدرة على القتال إلا أن دولة المماليك كانت قوة عسكرية برية أساسا وضعيفة في الأبعاد البحرية نظرا لافتقارها إلى الموارد اللازمة لبناء الأساطيل مثل الخشب والحديد والنحاس وهي المواد التي كان عليها استيرادها للإعداد أو للمواجهة العسكرية المباشرة مع البرتغاليين. وربما توضح خبرة دلو المماليك أن الاقتصار على دعم القوة البرية فحسب لن يساهم في استمرار قوة الدولة في الوقت الذي تواجه فيه تحديات بحرية هائلة.
أما تجربة الدولة العثمانية فهي توضح لنا إستراتيجيات جديدة ساهمت من خلالها القوة العسكرية في ازدهار هذه الدولة حيث اعتمد العثمانيون على نظام الإنكشارية والذي ثم بمقتضاه استرقاق الأطفال من الأراضي المسيحية وإيداعهم مؤسسات خاصة لتنشئتهم تنشئة عسكرية وإسلامية. ويعتبر بعض المؤرخين أن مثل هذا الجيش كان أول جيش دائم عرفه التاريخ فكان هذا النظام الجديد يضمن عدم انفصال الوحدة العثمانية حيث انعدم فيه ظاهرة تحزب الجند إلى انتماءاتهم الأصلية لأن أفراده لا يعرفون أبا إلا السلطان ولا حرفة إلا القتال ولقد ارتقى هذا الجيش وزاد عدده حتى أصبح من أهم عوامل امتداد سلطة ونفوذ الدولة العثمانية وإن ساهم في مراحل ضعف الدولة في تأخرها وتقهقرها كما اهتم العثمانيون بمسألة التدريب وتعليم فنون الحرب والمهارات الحربية في ظل فترة كان قد تلاشى فيها الحرب في أوروبا كما عملوا على استخدام المعدات الحربية الحديثة وهو ما ظهر بوضوح في فتوحاتهم ولقد كان إهمال العثمانيين لهذه الأمور جميعها بعد ذلك من أهم عوامل تأخر وتراجع قوتهم بالمقارنة بأوروبا خلال القرون الثلاثة الأخيرة من عمر هذه الدولة.
ومن ناحية فإن مراجعة أنماط مساهمة القوة العسكرية في تدهور الدول الكبرى كما يوضحها التاريخ الإسلامي توضح خمسة أنماط في هذا الصدد، تتعلق بدور الاختلافات العرقية للجند، وموقفهم من الحرب، ودور الدولة في تجهيز الجيش ودور الأسطول في المواجهات الخارجية، وتخلف معدات الجيش. وسنتناول فيما يلي عرض بعض النماذج التي توضح هذه الأنماط، فدور الاختلافات العرقية للجند نجدها واضحة في التجربة الأموية والعباسية.
فعلى سبيل المثال، توضح تجربة الدولة العباسية تغيرا في التكوين الإثنى للجيش ترتب عليه تقلص في الاعتماد على الجند السوريين والعراقيين مع إعلاء واضح للجند الخراسانية وهو ما يوضح كيف تقدم العنصر الفارسي ليكون قوام الجيش العباسي والذي ترتب عليه صراعات عرقية خطيرة بين الفرس والعرب في الجيش الأمر الذي كان له آثار وخيمة بالنسبة لتماسك القوة العسكرية للدولة.
كما كان موقف الجند من الحرب أحد العناصر التي أضعفت من الجيش الإسلامي وبالتالي تدهور القوة المركزية الإسلامية يفصح عنها الجند خاصة في الجبهة الشرقية حتى يمكن أن يستمتعوا بالحياة إرسال غزوات مستمرة على كل الجهات فيوضح العصر الأموي أن انشغال الجند الجند بالغنائم التي حلم بها الجيش طوال حملته من الشرق إلى الغرب أدت إلى هزيمة الجيش في بلاط الشهداء وهي المعركة التي كانت لها تداعيات سلبية على مستقبل الطرف الإسلامي في النظام الدولي (كما سنرى عند تناولنا للمتغيرات الخاصة بالحروب كنقاط تحول في تاريخ الأمم).
وهكذا يتبلور هنا مدى التأثير السلبي لتراجعه العامل العقيدي ليس فقط على الجانب التعبوي ولكن أيضا على الاقتصاديات والسياسات أيضا.
إن تداعي دور الدولة في تجهيز الجيوش هو النمط الثالث الذي توضحه مراجعات التاريخ الإسلامي لدور القدرة العسكرية في تدهور الدول وهو ما يتضح بمراجعتنا لخبرة الدولة العباسية. فخلال المرحلة الانتقالية نحو التدهور الكبير للدولة العباسية شهد الجيش العباسي تراجع دور الخليفة عن تجهيز الجيوش وتسييرها، حيث قام أمراء الثغور بهذا

الدور. وبانتهاء هذه المرحلة الانتقالية وسيطرة الجند الأتراك على مؤسسة الخلافة انعدم أي دور للخليفة أي للسلطة المركزية ووقع عبء تجهيز الجيش على الأثرياء وهو التجهيز الذي اتسم بالمرحلية وعدم الثبات حيث تم تجهيز الجيش في حالات التهديد الخارجي المباشر فحسب. ولقد ترتب على ذلك تشجيع الأطراف الأخرى على الهجوم على الطرف الإسلامي نظرا لغياب دور الدولة، كما وأن عدم وجود جيش نظامي أثر على قدرة الدولة على المبادرة والردع.
وتوضح تجربة الدولة الأموية ودولة المماليك النمط الرابع من دور القوة العسكرية في إضعاف الأمم وهو المتعلق بعدم وجود أسطول قوي لتحقيق مصالح الدولة فإن ضرب الأسطول الإسلامي في الحصار الثاني للقسطنطينية كان له تداعيات على السياسة البحرية الهجومية للدولة الأموية والتي شهدت تراجعا ملموسا لفكرة، وبالرغم من إعادة بناء الأسطول الذي مكنه من المشاركة في الحصار الثالث للقسطنطينية إلا أن تحطم هذا الأسطول كان أحد الأسباب المباشرة التي دعت الدولة الأموية على إعادة النظر في سياسة الفتح حيث فقدت دعامة أساسية في مواجهتها مع الدولة البيزنطية التي كانت بالأساس دولة بحرية كما أنه في ظل تدهور القوة البحرية للمماليك أصبحت هذه الدولة محصورة بين قوتين بحريتين البرتغالية في الجنوب والعثمانية في الشمال الأمر الذي ساهم في انهيار دولة المماليك.
وأخيرا توضح خبرة التاريخ الإسلامي أن القوة العسكرية يمكن أن تكون عاملا اسما في تدهور الأمم إذا ما عجزت الدولة عن مجاراة التطورات العسكرية الحديثة التي قد يعتمد عليها الخصم وذلك في وقت أخذت تتنامى فيها قدرات هذا الخصم وهو نمط توضحه خبرة دولة المماليك والدولة العثمانية فلقد استمر المماليك في الاعتماد على الخيول والسيوف والرماح فتخلفوا عن مواكبة الأساليب المدنية في تنظيم الجيوش وتسليحها وهي الأساليب التي أخذ بها العثمانيون في عهد ازدهارهم كما اعتمد عليها الأوروبيون بطريقة متزايدة كما توضح تجربة العثمانيين فشلهم خلال القرن 18م في مواكبة التطورات العسكرية الحديثة الأمر الذي أضعف من مركزهم في النظام الدولي.
2- العوامل التي تتعلق بالتفاعلات داخل النسق الفرعي الإسلامي
لقد نجح معاوية بن أبي سفيان في جمع شمل الأمة الإسلامية فأقام دولة قوية استطاع أن يبدأ بها مرحلة خطيرة في العلاقات الدولية والتي كان قطباها حينذاك الدولة الأموية والدولة البيزنطية ولعل الميزة الأساسية التي ميزت العصر الأموي هي وجود فاعل إسلامي واحد وهو الدولة الأموية وانعدام وجود أنساق إسلامية فرعية تدخل في علاقات تفاعل مع أطراف غير إسلامية إلا أن الدولة العباسية شهدت منذ سنواتها الأولى ظهور وانفصال واستقلال ولايتها في المغرب الإسلامي، ثم شهدت هذه الدولة ظهور المراكز المستقلة في المشرق الإسلامي القريب من مركز الخلافة بنشأة الدولة الظاهرية وتلي ذلك ظهور العديد من الأطراف الإسلامية في الفترات المتعاقبة من التاريخ الإسلامي وهي إما أطراف مستقلة اسميا أو فعليا عن الفترات المتعاقبة من التاريخ الإسلامي فشهد العصر العباسي وجود دولة الأغالبة والأدارسة والحفصيين والدولة الطولونية والأخشيدية والحمدانية والسلاجقة والفاطمية وشهد العصر المملوكي ظهور الإمارة ثم الدولة العثمانية ودويلات الأندلس وشمال أفريقيا ودول المغول بعد إسلامهم والصفويين كما شهد العصر العثماني وجود الصفويين ثم القاجاريين والمغوليين في الهند وإمارات آسيا الإسلامية والدولة السعدية والعلويين، وشهدت الفترة التالية لسقوط الخلافة العثمانية تعدد الدول الإسلامية بعد استقلالها على النحو الذي نعرفه الآن في عالمنا المعاصر والتساؤل الذي نطرحه هنا ودون الدخول في التفاصيل الموضحة في الأقسام السابقة من هذا الكتاب هو ما هي الأنماط العامة التي ميزت العلاقة بين هذه الأطراف الإسلامية في تفاعلها مع بعضها البعض بصفة خاصة خلال الفترة الممتدة من الدولة الأموية وحتى سقوط الخلافة العثمانية، حيث شهدت هذه المرحلة ازدهار وتدهور الطرف الإسلامي كأحد القوى الفاعلة في النظام الدولي كما شهدت تنامي درجة اللامركزية ثم التعددية بينما شهدت الفترة التالية لسقوط الخلافة العثمانية تكريسا لمظاهر التدهور الذي وصلت إليه الأطراف الإسلامية في هيكل النظام الدولي وخاصة مظاهر الانقسام والتجزئة.
إن متابعة تطور أنماط التفاعل الإسلامي- الإسلامي عبر الفترة السابق الإشارة إليها يشير إلى أربع نتائج أساسية:
إن تعاون الأطراف الإسلامية ترتبت عليه نتائج إيجابية في دعم موقف هذه الأطراف في مواجهة الأطراف غير الإسلامية وبالتالي ساهم في تدعيم قوة الطرف الإسلامي المركزي والمقصود بالأطراف هنا إما دول مستقلة اسميا عن المركز الإسلامي الرئيسي أو دول شبه مستقلة عنه فضلا عن المركز ذاته أو الدول الإسلامية المستقلة عنه فعليا.
ويمكن الإشارة هنا على سبيل إلى الآثار الإيجابية المترتبة على قيام الدولة الطاهرية في العصر العباسي الأول فلقد احتفظ الطاهريون بعلاقات ممتازة مع الدولة العباسية فلم يترتب على قيامها إضعاف المركز عن طريق شغله بصراعات معهم بل أنهم دعموا قوة الدولة العباسية لقيامهم بدو صمام الأمن في الأقاليم الشرقية حيث تولوا نيابة عن المركز مهمة حفظ الاستقرار في تلك المناطق الهامة للدولة.
كما ساهم تحالف المماليك مع المغول المسلمين في دعم القوة الإسلامية فلقد اعتقد مغول القبيلة الذهبية أن أمنهم يرتبط بالتحالف مع مصر وكان التحالف مع هذه القبيلة ركنا أساسيا من أركان السياسة المملوكية لموازنة تحالف الصليبيين مع مغول إيران وهو ما تبلور بوضوح في التحالف بين بركة خان وقطز ثم بيبرس وبين خلفاء بركة خان وبيبر وقلاوون وساهمت العلاقات المملوكية المغولية في فشل أوروبا في أحد أهم أساليبها الصليبية الجديدة وهو تنصير المغول.
- إن الأطراف الإسلامية فشلت في بعض الفترات التاريخية في مناصرة أطراف إسلامية أخرى على النحو الذي حدد من فعالية دور القوى الإسلامية في النظام الدولي وفي أطراف غير إسلامية.
الأمر الذي ترتب عليه تحقيق الطرف غير الإسلامي لمكاسب كبيرة على حساب الطرف الإسلامي ولقد ارتبط غياب المساندة والمناصرة بعدد من العوامل منها تدهور الأوضاع في مركز الخلافة والصراعات بين الأطراف الإسلامية وطبيعة علاقتها بالأطراف غير الإسلامية، وحدود القدرات العسكرية الإسلامية. فلم يستطع الحمدانيون الصمود أمام البيزنطيين لتحملهم وحدهم ولسنوات طويلة عبء التصدي لضربات قوية
متصلة من قوة دولية عظمى دون مساندة من المركز الذي وصل إلى أدنى تدهور بسيطرة بني بوية عليه ولا من السيطرة العثمانية.
- إن الصراعات بين الأطراف الإسلامية اتخذ مظهرين رئيسيين الدخول في تحالفات مع طرف غير إسلامي ضد طرف إسلامي والصدام العسكري المباشر بين هذه الأطراف.؟
كذلك هناك حالة التحالف العثماني- البريطاني ضد القوة المتنامية لمحمد علي مصر والشام، ولقد كانت المحصلة النهائية لجميع هذه الأنماط من التحالفات لإسقاط قوى إسلامية صاعدة- على حساب المركز الإسلامي- في غير صالح الأمة في مجموعها في صراعها ضد الآخر.
- إن المحصلة النهائية للصراع بين القوة الإسلامية أضعفت من الدور الإسلامي في توجيه التفاعلات الدولية في مراحل محددة وبصورة تراكمية حتى الآن.
أما المظهر الثاني الذي توضحه مراجعة التاريخ الإسلامي للصراع السافر بين الأطراف الإسلامية فيتعلق بالمواجهة العسكرية المباشرة بين الأطراف الإسلامية. فبالرغم من علم مركز الخلافة العباسي في العصر العباسي الثاني بأن الدولة الطولونية تساهم في صد الخطر البيزنطي إلا أنها عملت دائما للقضاء عليها وهو ما نجح فيه الجيش العباسي في عصر الخليفة المستكفي.
وشهد القرنان 15م، 16 حروبا بين العثمانيين والمماليك وجولات كبرى بين العثمانيين والصفويين وبين الصفويين والمماليك في إطار سعى هذه الدول تولى مركز القيادة في العالم الإسلامي.
بعبارة أخرى فإن المحصلة النهائية للحروب الإسلامية- الإسلامية كانت المساهمة في تدهور آخر القوى التي احتلت دورا بارزا كأحد المراكز في النظام الدولي، ومن ثم انهيارها وتفككها ومعها آخر الرموز – ولو الشكلية- للوحدة السياسية الإٍسلامية، وحتى وصل الأمر إلى سيادة نمط التجزئة والانقسام والتعددية المفرطة في وقت تغلبت فيه في

المقابل هيمنة وتفوق دور الطرف الآخر ولكن على المدى الطويل ومن خلال الرؤية الكلية الشاملة للتاريخ الإسلامي يمكن القول إن توالى الأجناس المسلمة (العرب، الترك، الفرس) على قيادة المسلمين ومواجهة الخصم كان في مجموعه لصالح خدمة الإسلام ولصالح الأمة واستعفائها ونهوضها بعد كل مرحلة من مرحلة الخبو، وبالغرم من ضخامة مصادر التحدي، بحيث يمكن القول: إن ضعف الدور القيادة لطرف مسلم كله يعوضه نمو دور طرف آخر ولو في محور جغرافي مختلف وفي مواجهة خصم آخر.
وحتى بعد انتهاء الدور المؤثر للمراكز الإسلامية في التفاعلات الدولية فلقد ظل التواجد الحضاري الإسلامي قائما ومتميزا لم ينته من ناحية، كما تكرر ظهور عمليات الإحياء والتجديد والصحوة (أيا كانت مسمياتها) الفكرية والعملية! وإذا كانت قد نجحت في بعض المراحل فهل ستنجح الآن في تغيير موازين القوى الداخلية ثم الإقليمية ثم العالمية؟
3- العوامل التي تتعلق بقدرات وسلوك الخصم
إن مراجعة التحليل الوارد في هذا الكتاب يوضح أنه لم يتسن للقوى الإسلامية الاستفادة من مجموعة العوامل المتعلقة بوضع وسلوك الخصم لتعظيم قوتها في النظام الدولي. فبالرغم من نجاح المسلمين في بعض الفترات في استغلال ضعف الخصم لدعم قوة الطرف الإسلامي، كما حدث في المغرب في العصر العباسي الأول حين استطاع هذا الطرف استغلال تدهور الأوضاع في الدولة البيزنطية فقام الأغالبة والأدارسة بالسيطرة على كريت وجزء من صقلية.
إلا أن مراجعة تطور التفاعلات غير الإسلامية كما جاءت في الفصول السابقة، توضح أن سلوك الطرف غير الإسلامي كان أكثر تأثيرا في سلوك الطرف الإسلامي عن العكس ويبدو تأثير سلوك الطرف غير الإسلامي في إضعاف الطرف الإسلامي واضحا في عدد من الأنماط ومنها استغلال الطرف غير الإسلامي لسياسة المهادنة التي اتبعتها بعض القوى الإسلامي وطبيعة توازن القوة بين الطرف الإسلامي وغير الإسلامي، ودرجة توحد الطرف غير الإسلامي، واتباع سياسة التدخل في شئون الطرف الإسلامي، وتحقيق انتصارات في معارك كانت بمثابة نقاط تحول في تدهفمن ناحية فقد نجحت الأطراف غير الإسلامية في الاستفادة من سياسة المهادنة التي اتبعتها بعض القوى الإسلامية وفي هذا الصدد يمكن الإشارة إلى أن سياسة الدعم والتسامح والتخلي عن الهجوم كأفضل وسيلة للدفاع والتي اتبعها الخليفة عمر بن عبد العزيز لم تثمر تجاه الروم البيزنطيين ما كان مرجوا منها، بل ترتبت عليها نتائج عكسية تماما. فقد اعتقد البيزنطيون أن هذا التسامح يعبر عن نوعه من الضعف نتيجة انتصارهم في رد الحصار الإسلامي حول القسطنطينية وبالتالي استغلوا فترة خلافته لإعادة تنظيم مشكلاتهم الداخلية وتعاملاتهم الخارجية فقام ليو الثالث بإعادة تنظيم مناطق الحدود مع الدولة الإسلامية بحيث صبح من الصعوبة اختراقها كما تحالف مع قبائل الحزر التي تقطن مناطق شمال شرق الدولة الإسلامية وجعلها مصدرا دائما لإثارة القلاقل للدولة الإسلامية والتي استنفذت طاقتها، وبالتالي من هدفها في السعي نحو القسطنطينية.
ومن ناحية ثانية فإن اختلال توازن القوى بين الطرف الإسلامي وغير الإسلامي نتيجة دعم الأخير لقدراته ساهم في إضعاف القوى الإسلامية فعلى سبيل المثال نجد أن مشكلات الجبهة الداخلية التي عانت منها الدولة العباسية في عهد المتوكل لم تكن هي وحدها المسئولة عن تدهور التوازن في القوى بين العباسيين والبيزنطيين وإنما ارتبط التدهور للجانب العباسي بانتعاش الدولة البيزنطية في هذه الفترة حيث نجحت في تخطي مشكلة الصراعات الدينية داخلها وبدأت في تبني سياسة إصلاح اقتصادية ونجحت في تحقيق إصلاحات سياسية وثقافية مع تولي الإمبراطور ميخائيل الثالث السلطة وبوصول الأسرة المقدونية للحكم شهدت الدولة البيزنطية عصر بعث حقيقي استمر مائتي عام بلغت فيها دولة الروم ذروة مجدها وقوتها في حين شهدت نفس الفترة أقسى درجات الضعف والتدهور للدولة العباسية وهي الفترة التي عرفت باسم العصر العباسي الثاني.
ومن ناحية ثالثة كان لتوجد القوى غير الإسلامية في مواجهة الطرف الإسلامي دورا في إضعاف الأخير، ويمكن الإشارة هنا على سبيل المثال إلى توجد أوروبا المسيحية في إطار الحملات الصليبية لتتوغل في عالم إسلامي مفكك، فلقد شهدت الحملات الصليبية على سبيل المثال أسس التحالف والتعاون البيزنطي الصليبي ضد الطرف الإسلامي.
وكذلك ازدادت أركان التحالف الأوربي تماسكا في مواجهة إحياء العثمانيين لجهة الصدام مع النمسا وذلك عقب نتائج حركة الإصلاحات الداخلية التي شهدتها الدولة العثمانية منذ بداية النصف الثاني من القرن 17م ولقد مر هذا الصدام بعدة جولات تعاقبت خلالها الهزائم على الجيش العثماني ولقد أوضحت هذه الجولات كيف أن تأثير التحالف المسيحي الجديد كان أقوى من تأثير محاولة إحياء الروح العثمانية التقليدية نحو الجهاد.
ومن ناحية رابعة ترتب على سلوك تدخل الخصم غير الإسلامي إضعاف الطرف الإسلامي. ولقد تجلى هذا بصورة واضحة في تدخل القوة الخارجية في إضعاف الدولة العثمانية وحتى انهيارها وذلك في ظل قوة الطرف الأوروبي وهو ما لم يكن ممكنا في ظل أحد المراكز الإسلامية السابقة.
ولقد قامت القوى الخارجية بالتدخل لتتلاعب بمبدأ اختلاف الأديان والأجناس لتثير المشكلات أمام الدولة العثمانية، ويمكن الإشارة في هذا الصدد إلى دور القوى الخارجية في أزمات الشرق الأوروبي التي تعرضت لها الإمبراطورية العثمانية، وفي برنامج الإصلاح الذي تبنته الإمبراطورية العثمانية وفي تدخل تلك القوى في حركات الاستقلال في الوطن العربي في مواجهة الدولة العثمانية.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن تدخل القوة الخارجية سهل منه في بعض الأحيان سلوك الطرف الإسلامي بصورة مختلفة، ويبدو هذا واضحا في حالة موقف الدولة العثمانية من محمد على، ففرمان الإصلاح الأول الصادر في الثلث الأول من القرن 19م على سبيل المثال كان دافع إصداره في هذا التوقيت تعبئة مساندة القوى الأوروبية ضد محمد علي، كذلك سكت السلطان العثماني على السياسة البريطانية في الخليج والجزيرة والتي تجسدت بالاستيلاء على عدن كخطوة لاحتواء محمد علي، وعمل محمد على من ناحية أخرى على الحصول على مساندة من جانب فرنسا في تحركه خلال هذه الفترة، وهنا نجد أن الاستنصار العثماني ببريطانيا على محمد علي واستنصار محمد علي بفرنسا قاد كلا من الطرفين إلى نتيجة في غير صالح الأمة الإسلامية، بل إن الطرف الإسلامي استطاع أن يوظف الخلاف بين الطرفين المسلمين لحمايته وتدعيم مصالح. وينعكس هذا النمط في

مجال آخر سبق تناوله وهو الصراع العثماني ودور القوى الخارجية في إثارته في مراحل حساسة من المواجهة العثمانية الأوروبية أو الصفوية- الأوروبية.
أما المظهر الأخير لتأثير سلوك الخصم على قوة الطرف الإسلامي فيتجلى في بعض الحروب التي تعد نقاطا للتحول في التاريخ حيث شهد التاريخ فترات كانت تعاني فيها الدولة الإسلامي كإحدى القوى الرئيسية في النظام الدولي من عناصر التدهور، وساهمت هذه الحروب في تعميق هذا التدهور وبالتالي كان لها تداعيات سلبية على وضع ودور مثل هذه القوى الإسلامية في تشكيل أولويات النظام، وتعريف أهم قضاياه، وفي تشكيل التحالفات التي تمثل البنية الأساسية لهذا النظام. ويمكن الإشارة هنا إلى نماذج لهذه الحروب والتي تعد نقاط تحول في تاريخ الدولة الإسلامية كإحدى القوى الرئيسية في النظام الدولي، ومن ذلك فشل الحملة الثالثة على القسطنطينية وبلاط الشهداء وأوكرنيون في العصر الأموي ومعركة حسن العقاب في العصر العباسي ومعركة ديو البحرية في العصر المملوكية وهزيمة العثمانيين في الحرب العثمانية الروسية في أواخر القرن 17م. فلقد كان لفشل الحملة الثالثة على القسطنطينية آثار بالغة على مصير الإسلام حيث حال إخفاقهم في هذا الصدد من انتشار الإسلام. ويعتقد معظم المؤرخين أن فشل هذه الحملة كان بداية تغيير في إستراتيجية التعامل الخارجي للدولة الأموية حيث أصبح هناك لزاما على الدولة أن تعيد النظر في سياسة الفتح على ضوء الخسائر التي تعرضت لها في هذه الحملة. كذلك يرى العديد من المؤرخين أن معركة بلاط الشهداء التي هزم فيها الجيش الإسلامي كانت معركة حاسمة في تاريخ النظام الدولي حيث أنها وضعت حدا للمد الإسلامي في أوربا فكرست المعنى الذي سبق وأن حملته فشل الحملة الثالثة على غرب آسيا الصغرى تدعيما لانحسار المد الإسلامي عن العالم المسيحي شرقه وغربه في أواخر عصر الدولة الأموية. كذلك كانت هزيمة حصن العقاب في العصر العباسي نقطة تحول في موازين القوى العسكرية والسياسية في الأندلس لصالح الممالك المسيحية وفشل المسلمون هناك في تجاوزها وتعديل توازن القوى لصالحهم مرة ثانية. فهذه الهزيمة لم تكن بداية النهاية لدولة الموحدين في حد ذاتها ولكن كانت بداية النهاية للوجود الإسلامي في الأندلس. كما كانت هزيمة المماليك في مواجهتهم مع البرتغاليين في معركة ديو

البحرية نقطة تحول في سياسة الطرف الإسلامي من سياسة الهجوم في المحيط الهندي قبل هذه المعركة إلى سياسة الدفاع عن البحر الأحمر في أعقاب هذه المعركة. وتوضح معاهدة كارلوفيتر التي أعقبت حروب الدولة العثمانية مع روسيا والحلف المقدس في أواخر القرن 17م، والتي في إطارها قدمت الدولة العثمانية تنازلات إقليمية أوكرانيا وبودرليا لبولندا، والمجر وترانسلفانيا للنمسا، والمورة للبندقية. إن المعاهدة كانت بمثابة خطوة رئيسية للانسحاب من أوربا، أي خطوة رئيسية في عملية تفكك الإمبراطورية العثمانية، وكانت أيضا بداية تحول في الاستراتيجية العثمانية من الهجوم إلى الدفاع، وهو التحول الذي شنته معاهدات متتالية من أهمها كوكينارجا 1774م.
4- العوامل التي تتعلق بالتفاعل بين قدرات الطرف الإسلامي وقدرات الخصم أهمية القوة الاقتصادية
تتضمن هذه العوامل مجموعة الأبعاد المؤثرة على وضع الطرف الإسلامي في هيكل الاقتصاد العالمي فإن وضع هذا الطرف إنما هو في الواقع محصلة قدراته الذاتية من جانب وسلوك القوى الأخرى التي تتفاعل معه في النظام الدولي من جانب آخر.
وفي إطار تناولنا لهذا العنصر لن ندخل في الأبعاد الخاصة بعناصر قوة الدولة الذاتية أو قوة الخصم ولكن سنركز في هذه الجزئية ومن خلال مراجعتنا للتاريخ الإسلامي على بيان كيف ساهم وضع الدول الإسلامية المركزية في هيكل الاقتصاد العالمي في دفع ازدهار هذه الدول في بعض الفترات وفي دفع تدهورها في فترات أخرى. ويمكن توضيح هذا من خلال مراجعة الدور الذي لعبته السيطرة على طرق التجارة العالمية من ناحية والامتيازات الأجنبية من ناحية ثانية والنقل عن الغرب من ناحية ثالثة في دعم قوة الدول الإسلامية المركزية في بعض الأحيان وفي دفع تدهورها في أحيان أخرى. وإذا كانت هذه الأبعاد محدودة الأهمية نسبيا في فهم ازدهار وتدهور القوة الأموية حيث كان اقتصاد هذه الدولة أساسا اقتصاد حرب ونجحت خلال فترة ازدهارها في الحصول على موارد اقتصادية هائلة من الأمصار إلا أن العوامل الثلاثة السابق الإشارة إليها يمكن أن يكون بعضها ذا دلالة في فهم ازدهار وتدهور الدول الإسلامية التي لعبت دورها كإحدى القوى الرئيسية في النظام الدولي خلال بعض الفترات التاريخية وهي الدولة العباسية والمملوكية والعثمانيون.
فلقد ساهمت السيطرة على طريق التجارة في ازدهار كل من الدولة العباسية والمماليك والعثمانيين فارتبط تخلي العباسيين عن سياسة الفتح كالإستراتيجية الرئيسية التي توجه سياستهم الخارجية باهتمامهم بإحداث تغير جذري في الهيكل الاقتصادي للدولة الإسلامية يضمن موارد جديدة لبيت المال بعيدا عن أعمال الحرب، فكانت الزراعة والتجارة هما المصدران الجديدان لاقتصاد الدولة ولقد نجحت الدولة العباسية في عصرها الأول في الاحتفاظ بمركز متميز في النظام الدولي كأكبر قوة تجارية في العالم القديم في ظل سيطرتها على طرق التجارة الدولية، كما كان للمماليك نصيب كبير من التجارة العالمية في ظل قوة هذه الدولة وسيطرتها على الطرق التجارية، فكانت لها شبهة ممتدة من العلاقات التجارية مع الروم والأفرنج.
وأخيرا كانت سيطرة العثمانيين على طرق التجارة في القرن 16من العناصر التي ساهمت في دعم قوتهم، فإن سيطرة هذه الدول على طريق التجارة ومركزها المتميز في هيكل التجارة العالمية مكنتها من الحصول على الثروة التي استطاعت من خلالها دعم الجيش وتدريبه وتسليحه حتى يواجه الخطر البيزنطي في العصر العباسي والتهديدات التي فرضها العدوان الصليبي والمغولي في عصر المماليك والتهديدات البرتغالية وتلك التي فرضتها الدول الأوروبية الأخرى في القرن 16م في مواجهة العثمانيين.
وربما تتضح التداعيات السلبية لعدم السيطرة على طرق التجارة الرئيسية بالنسبة لحالة دولة المماليك والدولة العثمانية. فلقد ترتب على الكشوف الجغرافية فتح طريق آخر للتجارة العالمية، مما كان له تداعيات سلبية على وضع الدولة المملوكية. كما شهد القرنان 17م و18م تدعيما للقوة البحرية الهولندية والبريطانية مما ترتب عليه حرمان الدولة العثمانية من سيطرتها على طريق التجارة العالمية. بالتالي فقد جزءا كبيرا من التجارة العالمية بعد ان أصبحت مياه البحر المتوسط مياها بعيدة عن تيار التجارة العالمية. وفي هذا الصدد أشار الجغرافيون العثمانيون منذ نهاية القرن 16م إلى المخاطر التي سيوجهها العالم الإسلامي بسبب المراكز الأوروبية التجارية على سواحل الهند والخليج، ونادوا بضرورة إحكام سيطرة العثمانيين على شواطئ اليمن وما يمر بها من تجارة، وإلا لن يطول الأمر قبل أن يحكم الأوروبيون الأراضي الإسلامية. ويوضح تطور وضع الدولة العثمانية في هيكل الاقتصاد العالمي انه بنهاية القرن 18م فقدت الدولة العثمانية جزءا

كبيرا من تجارتها الخارجية نصيبها من التجارة العالمية. وفي المقابل تضاعف نصيب التجارة الأوروبية عدة مرات خلال هذه الفترة. أما البعد الثاني الذي توضحه لنا الخبرة الإسلامية في إطار تحليل دور وضع الدول الإسلامية في هيكل الاقتصاد العالمي فيتعلق بالتنازلات التي تقدمها الدولة على الأجانب على أراضي الدولة الإسلامية في صور امتيازات ودلالتها بالنسبة لدعم وتدهور قوة هذه الدول، مما يعني أن العلاقات السلمية التجارية ليست قرينة على الضعف والتراجع دائما- كما سبق واشرنا- ولعل أوضح الأمثلة التي لعبت فيها الامتيازات الأجنبية في دعم قوة الدولة هو ما شهدته دولة المماليك في القرن 14، 15م أما دور هذه الامتيازات في تدهور قوة الدولة فظهر مع الدولة العثمانية في القرن 19م فلقد تم في إطار المجموعة الأولى من المعاهدات إعطاء التجار القادمين من دار الحرب الحق لمزاولة أعمال التبادل باعتبار أنها لا تضر الإسلامي والمسلمين. ولقد كان إبرام مثل هذه المعاهدات في هذه الفترة دليلا على وعي المماليك بأهمية توطيد العلاقات التجارية على نحو يخدم ولا يضر المصالح السياسية والعسكرية لدولة المماليك ولقد استطاعت هذه الدولة بالفعل أن توظف مثل هذه المعاهدات على نحو يخدم مصالحها فقد جاءت هذه المعاهدات في فترة استدعتها حالة مهادنة الممالك الأوروبية ويفضل هذا التوجه السلمى تمكن المماليك من المساهمة في القضاء على خطر شديد ربما كان سيتجدد باتحاد بعض الممالك مع غيرهم ممن تحركهم بالدرجة الأولى المشروعات الصليبية أو بعبارة أخرى عملت الدولة الملوكية على استبعاد الخطر الصليبي في مقابل إعطاء بعض الدول منح تجارية جديرة أي أن دولة المماليك استطاعت في فترة قوتها استخدام الأداة التجارية لتحجيم الأساليب الصليبية الجديدة من خلال المناورة بالمصالح الاقتصادية المتضاربة لبعض الأطراف الأوروبية كذلك تتضح إمكانية توظيف هذه الأداة الاقتصادية في إدارة المماليك لعلاقتهم مع الأطراف الأوروبية المتنافسة المصالح فهذه الامتيازات لم تكن مطلقة وثابتة ولكنها كانت عرضة للتغيير مع تغير طبيعة العلاقات بين الممالك وبين الدول الأوروبية المسيحية وفي حالة اندلاع حرب بين مصر وهذه الدول كانت تغلق الفنادق ويسجن التجار والقناصل وكان الحرص على عودة الامتيازات وانتظام التجارة يدفع بعض الأطراف الأوروبية للواسطة لدى الدولة المملوكية لعودة الأمور إلى ما كانت عليه، أو بعبارة أخرى فإنه في ظل قوة الدولة المملوكية لم تكن الامتيازات وسيلة لاختراق الدولة المملوكية ودمجها في الاقتصاد

المصدر بيبلو اسلام

تعليقات

  1. قدور بن قدور12 ديسمبر 2011 في 7:17 م

    شباب بزاف بصح ماقريناهش فيه الكتبة بزاف وحنا نبغو الختصر المفيد

    ردحذف
  2. كنز الدنيا في العلم و المعرفة

    ردحذف
  3. طويل بزاف و يعيي الواحد

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بحث عن التنمية المستدامة ( البحث منقول)

مقدمة الفصل: لقد أستحوذ موضوع التنمية المستدامة اهتمام العالم خلال 15 سنة المنصرمة وهذا على صعيد الساحة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية العالمية ،حيث أصبحت الاستدامة التنموية مدرسة فكرية عالمية تنتشر في معظم دول العالمي النامي والصناعي على حد سواء تتبناها هيئات شعبية ورسمية وتطالب بتطبيقها فعقدت من أجلها القمم والمؤتمرات والندوات.ورغم الانتشار السريع لمفهوم التنمية المستدامة منذ بداية ظهورها إلا أن هذا المفهوم مازال غامضا بوصفه مفهوما وفلسفة وعملية ،ومازال هذا المفهوم يفسر بطرق مختلفة من قبل الكثيرين ولذلك فقد تم التطرق في هذا الفصل إلى مبحثين رئيسيين:المبحث الأول: ماهية التنمية المستدامة;المبحث الثاني: محاور أساسية في التنمية المستدامة;المبحث الأول: ماهية التنمية المستدامةبدأ استخدام مصطلح التنمية المستدامة كثيرا في الأدب التنموي المعاصر وتعتبر الاستدامة نمط تنموي يمتاز بالعقلانية والرشد، وتتعامل مع النشاطات الاقتصادية التي ترمي للنمو من جهة ومع إجراءات المحافظة على البيئة والموارد الطبيعية من جهة أخرى، وقد أصبح العالم اليوم على قناعة بأن التنمية المستدامة التي تقضي على قضايا التخ

عوامل قوة الدولة

ان لعوامل القوة المتاحة للدولة دور كبير في تحديد مكانتها على الساحة الدولية لكن قبل التعرض لهذه العوامل يجب علينا ان نعرج على بعض المفاهيم إن القوة ـ كما أوضحت تعريفاتها ـ ليست التأثير ، وإنما القدرة على التأثير . وتستند هذه القدرة على امتلاك الدولة إمكانيات (خصائص ، موارد ، قدرات ، مؤسسات) معينة تشكل مقومات القوة القومية Elements of National Power التى تمكنها من التأثير على سلوكيات الدول الأخرى فى الاتجاهات التى تحقق مصالحها، كالمساحة الجغرافية ، وعدد السكان ، والموارد الطبيعية ، والقدرات الإقتصادية ، والقوة العسكرية ، والبنية التكنولوجية ، والفعاليات الثقافية، والمؤسسات السياسية ، والحالة المعنوية للشعب ، وغيرها . لكن ، على الرغم من أن هذه الإمكانيات المتداخلة تشكل فى مجموعها عوامل القوة الشاملة لأى دولة ، فإن هناك اختلافات أساسية فيما بينها ، ترتبط باعتبارات عملية ، تتصل بالقدرة على استخدامها فى عملية التأثير ، خاصة خلال المواقف التى يتعرض في

المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية

المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية "تمثل مدرسة الواقعية السياسية التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية ردة فعل أساسية على تيار المثالية. وهدفت الواقعية إلى دراسة وفهم سلوكيات الدول والعوامل المؤثرة في علاقاتها بعضها مع بعض. . . [لقد] جاءت الواقعية لتدرس وتحلل ما هو قائم في العلاقات الدولية, وتحديداً, سياسة القوة والحرب والنزاعات, ولم تهدف كما فعلت المثالية إلى تقديم . . . [مقترحات] وأفكار حول ما يجب أن تكون عليه العلاقات الدولية". "وقد حاول الواقعيون الحصول على أجوبة لأسئلة مازال يطرحها الأكاديميون والمهتمون بالشؤون الدولية منذ الستينات وحتى يومنا هذا. إذن هدفت الواقعية إلى تقديم نظرية سياسية لتحليل وفهم واستيعاب الظواهر الدولية". يرى مورغنثاو (وهوا من ابرز منظري الواقعية) بان السياسة الدولية تتميز (وتنفرد) "كفرع أكاديمي عن دراسة التاريخ والقانون الدولي والأحداث الجارية والإصلاح السياسي". أهم المسلمات الأساسية في الفكر الواقعي 1. "أن السياسة لا يمكن أن تحددها الأخلاق كما يقول المثاليون بل العكس هو الصحيح. وبالتالي فالمبادىء الأخلاقية لا يمكن تط