التخطي إلى المحتوى الرئيسي

مقارنة بين السياسة الخارجية الألمانية والأمريكية: تباين في المحددات والأهداف

محمد ابوغزله

ghazlehm@yahoo.com

الملخص

تهدف هذه الدراسة إلى معرفة مدى انعكاس العوامل الداخلية والخارجية على التباين العام في السياسة الخارجية الأمريكية والألمانية. وقد تم تحليل هذه العوامل وفقا للأطر النظرية المعروفة لمستويات تحليل السياسة الخارجية الثلاث: مستوى النظام الدولي، حيث يشكل هيكل النظام الفوضوي، وطبيعة توزيع القوة داخلة دورا هاما ومحددا أساسيا على السياسة الخارجية الألمانية مقارنة بتأثير اقل على أمريكا بسبب امتلاكها القوة الشاملة من جهة، ومن ثم سيطرتها الأحادية على هذا النظام من جهة أخرى. والمستوى الوطني الداخلي والذي يتمثل في صناع القرار على المستوى الرسمي، والفواعل الاجتماعية كالإعلام وجماعات المصالح على المستوى الاجتماعي غير الرسمي. ومن الواضح وجود اختلاف في طبيعة النخب الحاكمة ونظرتها لدور بلادها على الساحة الدولية، وقد يكون هذا انعكاسا لاختلاف السياق التاريخي والاجتماعي الذي تطورت فيه كل من الدولتين بعد الحرب الثانية. كما أن لجماعات المصالح تأثيرا اكبر على السياسة الخارجية الأمريكية بحكم قدراتها وقوتها المادية من جهة، وارتباطها بالنخب السياسية وصناع القرار في المستويات المختلفة من جهة أخرى. وهناك مستوى مؤسساتي يتعلق بالمنظمات الدولية والأحلاف العسكرية التي تعمل فيها كل من الدوليتين، مثل الأمم المتحدة والناتو. ويبدو واضحا أن تأثير الأمم المتحدة كمحدد للسياسة الخارجية الألمانية اكبر بكثير مما هو الحال بالنسبة لأمريكا لأسباب من أهمها أولا تمتع الأخيرة بحق النقض، وثانيا امتلكها لقدرات عسكرية واقتصادية هائلة، ومن ثم ثالثا سيطرتها شبه المطلقة على النظام الدولي. أما بالنسبة للناتو فيكاد يكون مدى التأثير متساويا إلى حد كبير بسبب تمتع كل من الدولتين بحق النقض داخله. ومع ذلك فان للحلف تأثيرات اقل تقييدا على السياسة الخارجية الأمريكية لأن الولايات المتحدة تملك القدرة على تحدي إرادة وقرارات الحلف حتى في حالة الإجماع الأوروبي، كما أنها غالبا ما تميل إلى العمل المفرد، وبالتالي فإنها غاليا ما تحاول توريط الحلف في نزاعات ليس لأعضائه الآخرين في الأساس دور فيها. أما ألمانيا فهي تميل دائما إلى العمل الجماعي، وتعمل غالبا على إيجاد موقف أوروبي مشترك خاصة في مجالات الدفاع والسياسة، ولهذا فان للحلف دور مقيد اكبر على السياسة الخارجية الألمانية. وكنتيجة نهاية فان التباين بين السياسة الخارجية الألمانية والأمريكية يعود في مجمله إلى الاختلاف في أهداف هذه السياسة، والتصورات المتعلقة بما يجب أن تقوم عليه العلاقات الدولية من جهة، والتباين الكبير في القدرات والإمكانات من جهة أخرى.

مقدمة

تعتبر العلاقة بين الولايات المتحدة وألمانيا واحدة من أكثر العلاقات الثنائية أهمية في العالم. فهي علاقة بين دولتين متحالفتين أمنيا من خلال الناتو، وبينهما تعاون مشترك في مختلف المجالات السياسة والاقتصادية والعلمية. ومع ذلك فقد أظهرت الأحداث المتلاحقة التي أعقبت الحادي عشر من سبتمبر أن هناك تباينا واضحا بين الدولتين بشان العديد من المسائل الدولية وطريقة التعامل معها. وقد انعكس هذا في سياسة خارجية مختلفة في التصورات والأهداف والوسائل. ولعل هذا الاختلاف يعود إلى حد كبير إلى التباين في المدى أو الإطار المتاح الذي تعمل ضمنه كل من الحكومتين الأمريكية والألمانية. وهذا الإطار محكوم بدوره بمجموعة من العوامل الداخلية والخارجية التي تُمثل في الواقع محددات للسياسة الخارجية لكلا الدولتين. ولهذا لا يمكن فهم التباين بين السياسة الخارجية الألمانية والأمريكية بدون تحليل هذه المحددات ومعرفة مدى تأثيرها في صناعة وتوجيه هذه السياسة. تهدف هذه الدراسة إلى أولا، شرح الأطر النظرية لمحددات السياسة الخارجية عند مستوياتها الخارجية والداخلية: محددات خارجية ترتبط بهيكل النظام الدولي والمنظمات الدولية الرئيسية التي تشارك فيها الولايات المتحدة وألمانيا، وأخرى داخلية تتعلق بصانع القرار، والفواعل الاجتماعيين غير الرسميين كالإعلام وجماعات المصالح؛ ومن ثم ثانيا استكشاف مدى تأثير وانعكاس هذه المحددات على السياسة الخارجية للدولتين. وتنبع أهمية هذه الدراسة من أنها تساعدنا على تحقيق فهم أفضل لدوافع السياسة الخارجية لكلا الدولتين، من جهة، ومن ثم تُسَهَّلُ عملية التنبؤ بسلوكهما الخارجي أو مواقفهما من أية مسائل وقضايا إقليمية أو عالمية قد تحدث في المستقبل، من جهة أخرى.

أولا. الإطار النظري لمحددات السياسة الخارجية

تتأثر صناعة وممارسة السياسة الخارجية للدول بمحددات داخلية وخارجية متعددة. ويمكن مناقشة هذه المحددات عند ثلاث مستويات لتحليل السياسة الخارجية للدول، وهي مستوى النظام الدولي، والذي يشمل هيكل النظام وما إذا كان فوضويا أو تراتبي، وطبيعة توزيع القوة بين فواعله و ما إذا كان -وفقا لهذا التوزيع- ثنائيا أو أحاديا أو متعدد الأقطاب؛ والمستوى الوطني الذي يشمل صانع القرار وطبيعة النظام السياسي على المستوى الرسمي، وجماعات المصالح والإعلام والرأي العام على المستوى الاجتماعي؛ وهناك مستوى ثالث يتضمن الهياكل المؤسساتية الثنائية أو الجماعية التي تشارك أو تتفاعل الدول في إطارها كالمنظمات الدولية و التحالفات أو الاتفاقيات الجماعية و الثنائية.[1]

1. مستوى النظام الدولي: ويتناول هذا المستوى من التحليل موقع الفواعل- أي الدول- وترتيبها في النظام الدولي من جهة، وطبيعة توزيع القوة داخل هذا النظام من جهة أخرى. وينقسم هذا المستوى فعليا إلى مستويات فرعية ثلاث وهي الهيكل العميق، والهيكل ألتوزيعي، والهيكل المؤسساتي.[2]

أ‌. الهيكل العميق: يتميز هذا المستوى- بفروعه المختلفة- بمتانته أو بثباته النسبي. ويتكون بشكل أساسي من عنصرين: العنصر الناظم والعنصر الوظيفي. الأول يشير إلى طبيعة المبدأ العام الذي يحكم أو يميز النظام الدولي: أي هل هو فوضويا أم هراركي تراتبي. وفي هذا السياق يتميز النظام الدولي القائم بأنه فوضوي، أي انه ببساطة يفتقد لأية سلطة مركزية أو حكومة عالمية تملك القدرة والصلاحيات للمحافظة على الأمن والاستقرار الدوليين، وللسهر على تطبيق القوانين والاتفاقيات الدولية. وغالبا ما تُعزى فوضوية النظام إلى مسالة السيادة التي تتمتع بها الدول، وهذا الافتراض يكاد يكون سمة مشتركة لكل أشكال النظريات الواقعية أو نظريات القوة.[3] لكن الفوضوية وفقا لهذا الافتراض لا تعني بالضرورة انعدام النظام. فمفهوم الفوضوية على ارض الواقع يأخذ أشكالا يمكن للدول في إطارها أن تتعاون وان تحل العديد من النزاعات فيما بينها. فهناك قوانين و معاهدات دولية تنظم إلى حد ما العلاقات بين الدول في المجلات المختلفة السياسة والاقتصادية والأمنية-على الرغم من عدم فاعليتها أحيانا، وعدم الالتزام بها أو تطبيقها من قبل بعض الدول خاصة الكبرى، أحيانا أخرى.

أما العنصر الثاني وهو الأداء الوظيفي للوحدات، فهو يشير، وفقا للواقعية الجديدة أيضا، إلى أن الدولة متشابهة في أداها وعملها الوظيفي في النظام الدولي لأنها تمتع بالسيادة[4] ، وهو ما يعني أن الدول ذات السيادة تتصرف بشكل متشابه، بينما تتصرف الدول غير المساوية في السيادة بشكل متباين . إلا أن هذا الافتراض يلقى الكثير من الانتقاد، خاصة وان الواقع يشير في كثير من الأحيان إلى عكس هذا. فالنظام الدولي الحالي يتكون من دول متباينة في السيادة ولهذا فإنها تؤدي وظائف مختلفة ضمن هذا النظام. وهذا ينطبق بشكل واضح على حالة ألمانيا والولايات المتحدة. فعلى الرغم من تمتع الدولتين بالسيادة فإنهما مختلفين في الوظيفة على المستوى الدولي. فتمتع الولايات المتحدة بقدرات هائلة ومكانتها الدولية المرموقة يجعلها اقدر على ممارسة وظائفها على الساحة الخارجية، ومن ثم تحقيق مصالحا وتنفيذ رغباتها، على عكس ما هو الحال بالنسبة لألمانيا.

ولدعم هذا الافتراض نأخذ نظريات العولمة للعلاقات الدولية بإشكالها المختلفة (نظريات التبعية والنظام العالمي) والتي ترى بان الدول القومية غير متساوية وغير متشابهة وان تساوت شكليا في السيادة لأنها مختلفة في القدرات، وبالتالي فإنها تودي وظائف مختلفة ليس فقط في المجال الاقتصادي واستغلال الموارد وإنما أيضا في المجال السياسي و الأمني. فالدول غير القادرة على القيام بوظيفة سياسية كاملة هي في الواقع عرضة لأشكال متعددة من النفوذ والتأثير من الآخرين. وهو ما يدفعها إما إلى إتباع منهج الاعتماد على الذات لضمان حاجاتها الأمنية وهذا أمر نادر، أو تضطر كبديل إلى تعزيز التعاون مع غيرها من الدول وفق إطار الأمن الجماعي، كما هو الحال بالنسبة لألمانيا وأمريكا في إطار الناتو. حتى أن بعض الدول خاصة الضعيفة أو الصغيرة قد تضطر أحيانا للتخلي عن جزء أو حق من حقوقها السيادية لأسباب اقتصادية أو لضمان مساعدات مالية. وهذا يعني أن الدول المستقلة متشابهة من حيث أنها تتمتع نظريا وشكليا بالسيادة، إلا أنها ووظيفيا وعمليا مختلفة، وبالتالي فان أداءها السياسي على المستوى الخارجي يختلف باختلاف الإمكانات و القدرات.

ب‌. الهيكل التوزيعي: هذا الهيكل يمثل المستوى الفرعي الثاني من مستويات هيكل النظام، و يتناول بالتحديد توزيع القدرات التي تتمتع بها الوحدات داخل النظام. بمعنى آخر فان هذا المستوى يشير إلى طبيعة توزيع القوة عبر النظام ، وبالتالي فان النظام الدولي وفقا لهذا التوزيع قد يكون أحاديا (في حالة وجود أو سيطرة دولة عالمية واحدة على النظام الدولي) أو ثنائي (في حالة وجود قوتين عظتين) أو متعدد الأقطاب (في حالة وجود أكثر من دولتين عظميتين).[5] والهيكل التوزيعي عرضة للتغير والتحول أكثر من التغير والتحول في مستوى الهيكل العميق. ومع ذلك فان التحولات في الهيكل التوزيعي ربما يكون لها تأثر كبير على كل من النظام الدولي والوحدات أيضا. ولعل تحول النظام الدولي القائم من ثنائي خلال الحرب الباردة إلى آحادي فيما بعدها خير دليل على هذا الافتراض. وقد كان لهذا التحول تأثيرات جوهرية وانعكاسات خطيرة على مكانة وسلوك العديد من القوى، فهناك دول صاعدة كالاتحاد الأوروبي و الصين واليابان، يُتوقع أن يكون لها دور اكبر في النظام الدولي. كما كان لهذا التحول آثار أخرى تتعلق بالأبعاد المتشعبة لكل من الأمن الوطني والدولي على حد سواء. فالمفهوم العسكري التقليدي للأمن تغير الآن وأصبح يشمل عناصر اقتصادية وحتى أبعادا اجتماعية. كما أن أثار الهيكل ألتوزيعي يمكن رؤيتها وتتبعها أيضا عند مستويات التحليل الأخرى الوطني والتفاعلي.[6]

ت‌. المستوى المؤسساتي: المستوى الفرعي الثالث من مستوى هيكل النظام الدولي هو الهيكل المؤسساتي. يتناول هذا المستوى التفاعلات الثنائية أو الجماعية بين الدول ضمن الأطر أو الهياكل المؤسساتية التي تشترك فيها. وعادة ما يؤدي تكرار هذه التفاعلات إلى تشكيل أنماط تؤثر على سلوك الدول الخارجي. وهذه الأنماط قد تشمل التحالفات والتفاعلات الاقتصادية المتعددة. وعلى الرغم من أن معظم المحللين في العلاقات الدولية لا يرون أن هذا الهيكل يُشكل إطارا فاعلا للنظم الدولية ، فان هذا الإطار لا يمكن تجاهله. وهو يَلقي اهتماما خاصا من الليبراليين الجدد الذين يرون فيه عنصرا ايجابيا يتزايد تأثيره في التفاعلات بين الدول، فهو قد يساعد على تشكيل سلوك الدول ويؤثر على تفاعلاتها، وهذا واضح في حالة التحالف الرسمي بين الولايات المتحدة وأوروبا. فمؤسسة شمال الأطلسي وان كانت حلفا عسكريا إلا انه يمثل أحيانا إطارا سياسيا لتسهيل التعاون بين طرفي الأطلسي ليس فقط في المسائل الأمنية وإنما أيضا المسائل السياسية والاقتصادية. كما يساهم في حل النزاعات والخلافات التي تبرز من حين لآخر بين الدول المتعاقدة. هذا يؤدي بالطبع إلى تطوير وتعزيز مجموعة من المبادئ وقواعد السلوك التي تساعد في المقابل على التنبؤ بسلوك هذه الدول في المستقبل ويوفر مظله سلمية للتعاون طويل الأمد فيما بينها. [7]

وباختصار فان مستوى الهيكل الدولي كما نتناوله هنا يمثل نوعا ما منهجا متجانسا يجمع معا عناصر الواقعية الجديدة والواقعية الهيكلية والليبرالية الجديدة بما فيها الهيكل العميق والتوزيعي والمؤسساتي. هذه المستويات بفروعها المختلفة تساعدنا على تحقيق رؤية أكثر وضوحا عن مكانة الوحدات في النظام الدولي من جهة، وبالتالي معرفة مدى تأثير هيكل النظام الدولي على السلوك الخارجي من جهة أخرى.

2. المستوى الوطني (الخصائص الداخلية): يعتبر مستوى الوطني أو مستوى الوحدة من أكثر مستويات التحليل أهمية في العلاقات الدولية. فالدولة وفقا لنظريات الواقعية هي الوحدة الرئيسية للتحليل في النظام الدولي لأنها ببساطة كانت ولا زالت الفاعل الأول والأخير في جميع أنواع التفاعلات الدولية. [8] وهذا يعني تلقائيا أن الفواعل غير الدول أو فوق القومية اقل أهمية وقد لا تدخل في التحليل أحيانا. ويشمل التحليل عند هذا المستوى العوامل أو بمعنى أكثر خصائص الدولة الداخلية ومن أهمها طبيعة نظام الحكم و نوع الحكومة ، والقدرات أو الإمكانات المؤسساتية، ودرجة الاستقرار الداخلي ومدى التقدم الصناعي والاقتصادي. كما يبحث هذا المستوى من التحليل في دور المؤسسات والقوى المختلفة في المجتمع لمعرفة مدى تأثيرها على سلوك الدولة الخارجية. والتركيز هنا ليس فقط على جماعات المصالح أو البيروقراطية السياسية ولكنه قد يمتد أحيانا ليشمل عوامل أخرى مثل توزيع السلطات والعلاقة بين الدولة والمجتمع وقوة الدولة نفسها. [9] وهنا تبرز الحاجة إلى لتطوير نظريات تتناول بشكل متزامن التفاعلات بين العوامل الداخلية والعوامل الدولية. ولهذا لا بد لصانع القرار أن يوفق بين الأولويات الوطنية الداخلية وبين الظروف الخارجية الدولية. واستخدام هذا المنهج مهم لتحديد الأثر الحقيقي لهيكل السياسة الداخلية على سلوك الدولة الخارجي.

هذا هو الإطار النظري العام الذي تتأثر فيه صناعة السياسة الخارجية للدول، وسنقوم في هذه الدراسة بتوظيف هذا الإطار النظري في تحليل أهم المحددات الخارجية والداخلية التي تؤثر على عملية صناعة وممارسة السياسة الخارجية لكل من الولايات المتحدة وألمانيا، وبالتالي تساهم في التباين العام بين السياسة الخارجية لكلا الدولتين.

ثانيا: محددات السياسة الخارجية لكل من ألمانيا وأمريكا

2. مستوى النظام الدولي

أ. الفوضوية كمبدأ ناظم

السياسة الخارجية عبارة عن عملية إدارة منظمة لشؤون وعلاقات الدول مع محيطها الخارجي، ولهذا فمن الطبيعي أن تتأثر بالتطورات والأحداث التي تقع في هذا المحيط. وتهدف هذه السياسة في الأساس إلى حماية وتعزيز المصالح الوطنية،[10] وعادة ما ترتبط أهدافها بالقدرات والإمكانات المتاحة التي تملكها الدولة. وفقا لهذا فان طبيعة وأشكال القوة التي تتمتع بها الدول تُشكل محددا رئيسيا على ممارسة سياستها الخارجية، لأسباب من أهمها أن هيكل النظام الدولي الحالي هو الفوضوية، أي عدم وجود حكومة عالمية أو مركزية تحمي الدول وتحافظ على مصالحها. ولغياب مثل هذه السلطة التي يمكن أن تحمي الاتفاقيات بين الدول وتطبق قواعد القانون الدولي، فان على الدول أن تتحمل مسؤولية حماية نفسها وتحقيق مصالحها، وبالتالي فهي توجه سلوكها الخارجي بما يضمن وجودها السياسي، من جهة، ويعزز مكانتها الإقليمية أو الدولية، من جهة ثانية، وبالنتيجة يحقق مصالحها الوطنية، من جهة ثالثة.

ولان الدول قد لا تتمكن من تحقيق الأهداف القومية بمفردها خاصة في ظل غياب سلطة عالمية مركزية، فهي -وان كانت لا تستطيع أن تعتمد كليا على غيرها من الدول لحماية وجودها و خدمة مصالحها-، تحتاج إلى التفاعل مع محيطها الخارجي. وقد تختلف هذه الحاجة باختلاف الظروف والإمكانات. فإذا كانت الدول القوية اقدر على توفير الحماية لنفسها وتامين وجودها، فان الدول الضعيفة أو الأقل قوة قد لا تستطيع تحقيق هذا إلا من خلال التعاون مع غيرها من الدول، والدخول في تحالفات ثنائية أو جماعية، أو الانضمام إلى منظمات فوق قومية تساعدها على تعويض النقص في قدراتها ومن ثم توفير الحماية لوجودها والمحافظة على مصالحها.

وبالقدر الذي يتعلق فيه الأمر بالولايات المتحدة وألمانيا فان للفوضوية انعكاسات سلبية كبيرة على الشؤون الخارجية الألمانية. فبينما لا يوجد تأثير يذكر لمثل هذا الواقع على خيارات السياسة الخارجية الأمريكية فان غياب سلطة عالمية يُمثل في الحقيقة محددا هاما على السياسة الخارجية الألمانية، بل وقد يدفع صناع هذه السياسة أحيانا إلى تبني مواقف تتعارض والمبادئ التي يؤمنون بها أو تقوم عليها علاقات بلادهم الدولية. فإمكانات ألمانيا العسكرية والاقتصادية المتواضعة نسبيا مقارنة بقدرات الولايات المتحدة الهائلة، يدفعها إلى التركيز على العمل في اطر جماعية من خلال أوروبا والأمم المتحدة من اجل تحقيق مصالحها والتعامل مع المسائل الدولية التي تهمها. أما بالنسبة للولايات المتحدة فالأمر مختلفا تماما، فتمتعها بمركز السيطرة العالمية يعوضها عن غياب السلطة المركزية ويمنحها قدرة اكبر على التحرك والتصرف في الساحة الدولية.

ب. هيكل النظام/توزيع القوة عبره

بالإضافة إلى المبدأ الناظم الذي يتمثل بالفوضوية وغياب سلطة عالمية، فان هناك قيد آخر للنظام الدولي على ممارسة السياسة الخارجية للدول وهو الهيكل ألتوزيعي للنظام، أي طبيعة توزيع القوة عبره (أحاديا أو ثنائيا أو متعدد الأقطاب). ويُشكل هيكل النظام الدولي محددا هاما وقيدا أساسيا على السلوك الخارجي للدول. فبعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي، اختفت القطبية الثنائية وأصبحت الولايات المتحدة الدولة العظمى الوحيدة في العالم. وبكلمات أكثر دقة، تحول الهيكل ألتوزيعي للنظام الدولي من ثنائي القطبية (أي سيطرت قوتين عظميين) إلى أحادي القطبية (أي سيطرة قوة عظمى واحدة). وهذا الاستنتاج يتوافق وفرضيات العديد من نظريات العلاقات الدولية. فوفقا لنظرية الواقعية الهيكلية التي قدمها "كينث ويلتز" فان الدولة العظمى الوحيدة يجب أن تتمتع بجميع أنواع وأشكال القوة.[11] وهو ما ينطبق بشكل كبير على الولايات المتحدة الآن. فمنذ انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991 أصبحت الولايات المتحدة الدولة الوحيدة في العالم التي تملك جميع أشكال القوة العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية والجيوسياسية. ولأول مرة في التاريخ الحديث تكون فيه الفجوة في القدرات بين الولايات المتحدة والقوة الثانية في العالم وهي روسيا شاسعة بهذا الشكل. أما نظرية توازن القوى التي انبثقت من الواقعية الكلاسيكية فترى أن النظام الأحادي هو النظام الذي تكون فيه الدولة العظمى قوية جدا إلى درجة لا يمكن لأية قوة أو تحالف آخر أن يحقق التوازن معها. وبالتالي يصبح شرط الأحادية القطبية هو عدم وجود قوة موازنة وهو ما ينطبق على نظام ما بعد الحرب الباردة. فأمريكا تملك قاعدة قوة متكاملة، ولا يُتوقع من القوى الصاعدة الأخرى الحليفة وغير الحليفة أن تنازعها قوتها العسكرية أو سيطرتها شبه المطلقة على النظام الدولي.

فعلى الرغم من القوة الصينية المتنامية خاصة في المجال الاقتصادي، ومن امتلاك روسيا لترسانة عسكرية ضخمة فان كل المعطيات تشير إلى أن اقرب قوة يمكنها تحقيق هذا التوازن هي أوروبا الموحدة، ولكن هذا سيأخذ وقتا طويلا ربما تكون فيه قوة الولايات المتحدة قد انحسرت أو تراجعت بشكل كبير خاصة في ظل الفشل الذي تعاني منه في العراق وأفغانستان. وبالتالي لا يبدو في الوقت الحاضر أن هناك احتمالية لتشكيل قوة أو تكتل عالمي موازن. ولا يرتبط هذا الاستنتاج بالضرورة بعدم قدرة الأطراف المعنية على تحقيق هذا؛ ولكنه متعلق أيضا بطبيعة العلاقات القائمة بين الولايات المتحدة وهذه القوى من تكامل اقتصادي واعتماد متبادل وتفاهم امني تجاه العديد من القضايا الدولية. فاليابان ودول الاتحاد الأوروبي هم في الحقيقة حلفاء لأمريكا، والصين وروسيا يتمتعان بعلاقات جيدة مع الولايات المتحدة. [12]

أما نظرية استقرار السيطرة، فتنظر إلى الأحادية القطبية كتفوق لا يكمن مناقشته. فالولايات المتحدة أصبحت منذ 1990 تملك تقريبا كل أشكال النفوذ المتوفرة في التاريخ الدولي المعاصر، وهي بهذا تتمتع بقوة ليس من السهل تحقيق التوازن معها. ولهذا فان احتمال قيام حلفاء الولايات المتحدة أو دولا صاعدة أخرى كالصين وحتى روسيا بادوار قيادية على مستوى النظام الدولي ستبقى ضئيلة على الأقل في المدى المنظور، ذلك أن التفاوت الهائل في القدرات يثير الشكوك حول ليس فقط قدرة هذه القوى على تحدي الولايات المتحدة أو تحقيق التوازن معها، وإنما أيضا حول الرغبة الحقيقة للقيام بذلك. [13] وبناء على هذا، فان الولايات المتحدة قادرة على ممارسة النفوذ السياسي والاقتصادي والعسكري على المستوى العالمي بشكل لا تتمتع به أية دولة أو قوة أخرى في العالم بما فيها ألمانيا أو حتى الاتحاد الأوروبي الذي يملك قدرات كامنة قد تمكنه من مجارة أمريكا أو موازنتها عالميا على المدى البعيد خاصة إذا تمكن من تحقيق الوحدة سياسيا واقتصاديا. [14] وبغض النظر عن التوقعات المستقبلية، وفي ضوء حقيقة أن الولايات المتحدة تسيطر على كل معايير القوة، وان الاتحاد الأوروبي ليس موحدا بعد فان النظام الحالي سيتسمر أحاديا لبعض الوقت، ومن ثم ستبقى أمريكا أكثر الدول قدرة على ممارسة النفوذ العالمي. ومن الطبيعي أن يكون لهذا الواقع انعكاسات على سلوك وتحرك الأطراف الأخرى في النظام ومنها ألمانيا. فالنظام الأحادي يمثل محددا أساسيا في السياسة الخارجية الألمانية، ويحد من الخيارات المتاحة للحكومة الألمانية خاصة عندما يكون هناك تعارض في وجهات النظر أو اختلاف واضح في التصورات. وهذا على عكس ما كان عليه الأمر خلال الحرب الباردة، حيث أعطت الثنائية القطبية مساحة اكبر لحلفاء الولايات المتحدة للتحرك. أما الآن وفي ضل السيطرة الأحادية الأمريكية شبه المطلق على النظام الدولي، فان على ألمانيا الموازنة بين تحالفها مع الولايات المتحدة -الذي قد يتطلب أحيانا تقديم تنازلات أو ربما إتباع السياسات الأمريكية تجاه بعض المسائل العالمية-، من جهة، ومصالحاها القومية التي قد تتطلب معارضة هذه السياسات أحيانا، من جهة أخرى.

ج. المستوى المؤسساتي الثنائي/ الجماعي

قلنا مسبقا انه لا يوجد هناك دولة تستطيع العيش بمفردها منعزلة عن العالم بسبب حالة الاعتماد المتبادل المتنامية بين الدول، وهذا ما يدفع الدول إلى التعاون فيما بينها من خلال الاتفاقيات الثنائية أو أو اللجوء إلى التنظيم الدولي والإقليمي.[15] فالدول تحاول تنمية قدراتها وخدمة مصالحها من خلال عضويتها ومشاركتها في المؤسسات الدولية المختلفة. وان كان هذا ينطبق إلى حد كبير على الدول الصغيرة أو الأقل قوة والتي تحاول حماية نفسها ومصالحها بل وربما ممارسة النفوذ من خلال هذه الهياكل، فانه ينطبق أيضا على الدول الأخرى التي تتمتع بإمكانات اقتصادية وعسكرية كبيرة. والتعاون المتعددة الأطراف لا ينفي أو يلغي أو يقلل من دور العلاقات الثنائية، بل على العكس، فغالبا ما يكون رافدا لها. إلا أن الواقع يشير إلى انه كلما كانت الدولة أقوى على الساحة الدولية، أي أنها تتمتع بإمكانات وقدرات هائلة تمكنها من توجيه السياسات الإقليمية أو الدولية والتأثير في سلوك الآخرين، كلما زادت احتمالات تحركاتها بشكل فردي. ولعل هذا ينطبق مرة أخرى على حالة الولايات المتحدة ما بعد الحرب الباردة، فسيطرتها الأحادية على النظام الدولي بحكم تمتعها بقدرات هائلة، كما سبق واشرنا، وسيادة ثقافة بين النخب الحاكمة تقوم على الهيمنة يجعلها أكثر استقلالية من غيرها من الأمم على الساحة الدولية، وبالتالي فان تعاونها في إطار المنظمات الدولية والعمل متعدد الأطراف اقل بكثير من تعاون الدول الأقل قوة مثل ألمانيا. ولهذا فإننا نجدها تتصرف على المستوى العالمي بشكل منفرد في اغلب الحالات، كما فعلت في غزو العراق، حيث قامت باستخدام القوة العسكرية بدون أي تفويض من الأمم المتحدة؛ بل وقامت بالغزو في ظل معارضة عالمية رسمية وشعبية غير مسبوقة. وكذلك الأمر بالنسبة لتعاونها في مجالات أخرى كالبيئة أو القانون الدولي أو حتى قضايا حقوق الإنسان: ففي مجال البيئة وعلى الرغم من أنها المصدر الأكبر للغازات المنبعثة المسئولة-كما يشير العديد من علماء البيئة- عن التدهور البيئي العالمي، فقد رفضت حتى الآن التوقيع على معاهدة كيوتو؛ وفي مجال القانون الدولي وعلى الرغم من أنها تعتبر نفسها زعيمة "للعالم الحر" ودائما ما تتحدث عن حكم القانون والعدالة الدولية فإنها رفضت التوقيع على قانون المحكمة الجنائية الدولية؛[16] وفي مجال حقوق الإنسان وعلى الرغم من أنها تعتبر نفسها الدولة الديمقراطية الأولى في العالم والحامية لحقوق الإنسان، فإنها تتعامل مع أسرى الحرب بأبشع الوسائل وأكثرها احتقارا لكرامة البشر كما فعلت في أبو غريب وغوانتنامو. فالولايات المتحدة تتبنى مبدئيا مفهوم للتعاون الدولي أو العمل متعدد الأطراف مختلفا إلى حد كبير عن مفهوم ألمانيا. فبينما تركز ألمانيا على الجانب المعياري في العلاقات الدولية، أي الالتزام بالمعايير والقيم مشتركة التي تعارفت عليها الأمم في العصر الحديث، و تطبيق القانون الدولي، واحترام حقوق الإنسان على مستوى عالمي، فان إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي التي وضعها بوش الابن عام 2002 تقوم على التحرك المفرد،[17] والعمل خارج إطار الشرعية الدولية، بل وتعطي الولايات المتحدة الحق بالقيام بكل ما تراه يخدم مصالحها القومية حتى وان كان ذلك على حساب الكرامة الإنسانية. وحتى عندما تعلن عن رغبتها في العمل متعدد الأطراف، كما فعلت بعد ورطتها في العراق، فهي تسعى لذلك عندما يتوافق والمعايير والشروط الأمريكية. ويتضح الاختلاف بين الولايات المتحدة وألمانيا في هذا السياق من خلال العمل في إطار المنظمات الدولية كالأمم المتحدة ومن خلال الأحلاف العسكرية كحلف الناتو.

فالأمم المتحدة لها تأثير على السياسة الخارجية للدول من خلال وسائل مختلفة منها العقوبات واستخدام القوة العسكرية. وهي لهذا تمثل محدد هاما للسياسة الخارجية للعديد من الدول، خاصة الدول الصغيرة وتلك التي لا تتمتع بحق النقض في مجلس الأمن. وبالقدر الذي يتعلق فيه الأمر بألمانيا والولايات المتحدة فان هناك تباين واضحا بين المفهوم الألماني والأمريكي للعمل الجماعي أو متعدد الأطراف. فألمانيا تؤكد دائما على دور الأمم المتحدة، وتحاول من خلالها العمل على التأثير في السياسة الخارجية للدول الأخرى. وهي بدون شك اقل قدرة على تحقيق هذا لأنها لا تتمتع بنفس النفوذ الذي تتمتع به أمريكا، ولهذا فهي تسعى لتعويض النقص في هذا المجال من خلال الحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن.[18] أما الولايات المتحدة فهي تحاول ممارسة النفوذ في الأمم المتحدة وتعمل على توجيه العمل الجماعي نحو خدمة مصالحها الذاتية وتحقيق رؤيتها الخاصة للمسائل الدولية المطروحة. ولهذا نجدها تعمل في غالب الأحيان خارج إطار الشرعية الدولية، بل وتتصرف بشكل منفرد حتى في القضايا الحساسة التي تهم السلم والأمن الدوليين الذين هما في الأساس من اختصاص مجلس الأمن التابع لهذه المنظمة. ولان الولايات المتحدة تتمتع بحق النقض وتمتلك وسائل متنوعة للنفوذ داخل هذا الإطار ألأممي، فان تأثير الأمم المتحدة على السياسة الخارجية الأمريكية اقل بكثير من تأثيرها على السياسة الخارجية الألمانية؛ بل قد ينعدم هذا التأثير في غالب الأحيان بالنسبة لأمريكا: فمن جهة، لا تستطيع الأمم المتحدة أن تفرض عقوبات على عليها لأنها تملك حق النقض، وتتمتع بقدرات كبيرة للرفض والمقاومة، ومن جهة أخرى فان الأمم المتحدة لا تستطيع العمل فعليا بدون الولايات المتحدة خاصة في ظل هذا الواقع الدولي المختل لأنها تعتمد على دعمها ليس فقط سياسيا وماليا، وإنما أيضا امنيا وعسكريا.

أما بالنسبة لحلف الناتو فهو يشكل محددا هاما آخر من محددات السياسة الخارجية لأعضائه بما فيهم ألمانيا والولايات المتحدة. وهناك جوانب متعددة لهذا التأثير منها على سبيل المثال ان تضطر الدول المتحالفة إلى الدخول في نزاعات ليست في الأساس طرفا فيها. [19] كما أن هناك مشكلة تتعلق بعملية اتخاذ القرار، أي مبدأ الإجماع، الذي يمكن من خلاله لأية دولة عضو أن تعطل إرادة ورغبات الدول الأخرى. وعلى الرغم من أن الناتو قد فقد الكثير من أهميته بسبب انتهاء الحرب الباردة فانه لا زال المنظمة العسكرية الأكبر في العالم وهو في توسع مستمر، وتتمتع الولايات المتحدة فيه بموقع متميز، و تحاول أن تستخدمه كوسيلة لخدمة سياساتها الأمنية وتنفيذ خططها العسكرية في العالم. ولهذا فهي تتصرف ضمن إطار الناتو فقط عندما يتماشى هذا مع رغباتها وتوجهاتها.

أما ألمانيا فهي تنظر إلى الناتو كمنظمة أمنية دفاعية في الأساس، هدفها حماية أوروبا. ولهذا فهي تحاول استخدام الناتو كوسيلة لتفعيل دور أوروبا عالميا من جهة وللتأثير على سياسات الولايات المتحدة، من جهة أخرى.[20] فألمانيا، على عكس ما هو حالها في الأمم المتحدة، تملك حق النقض في حلف الناتو، وهو ما يساعدها-علاوة على كونها اكبر الدول الأوروبية مساحة وسكانا وقدرات اقتصادية-، على التأثير في قرارات الحلف وعلى توجهات الولايات المتحدة في إطاره. ومع ذلك، فان أمريكا تتمتع على الأقل بنفس قدرة التأثير التي تتمتع بها ألمانيا في هذه السياق، فهي تملك أيضا حق النقض، وتستطيع عرقلة أي قرارات يرغب الحلف في اتخاذها حتى في حالة وجود إجماع أوروبي داخله، وبالتالي فان لأمريكا موقع في الحلف يُمكنها من التأثير في قرارات السياسة الأمنية في أوروبا. وبالنتيجة فان للناتو تأثيرا كبيرا على السياسة الخارجية الألمانية، بينما يقل هذا التأثير كثيرا في حالة الولايات المتحدة.

2. المستوى الوطني

أ. الفواعل المركزيين الرسميين/ مستوى صانع القرار

يلعب صانع القرار سواء كان فردا أو مجموعة دورا هاما في عملية صناعة القرار الخارجي للدول، بل انه قد يكون في كثير من الأحيان العامل الأكثر حسما في اتخاذ هذا القرار ليس فقط في الدول غير الديمقراطية التي غالبا ما يكون فيه الحاكم الفرد هو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في صناعة وممارسة السياسة الخارجية لدولته، وإنما أيضا في النظم الديمقراطية التي تَجَذَّرَ فيها مبدأ المشاركة السياسة وتداول السلطة منذ قرون كالولايات المتحدة وألمانيا. فما هو دور صناع القرار في التباين بين السياسة الخارجية الأمريكية والألمانية؟

طبيعة الحكومة والإطار الهيكلي

كما هو الأمر بالنسبة للعوامل المرتبطة بمستوى النظام الدولي، فان درجة تأثير الأشخاص الرئيسيين في عملية صناعة القرار تتباين هي الأخرى. فبالنسبة لألمانيا فان للمستشار دور أساسي في صناعة السياسة الخارجية؛ إلا انه لا يملك حق احتكار هذه العملية كما هو الحال في النظم الرئاسية كأمريكا. فلوزير الخارجية في ألمانيا دور فاعل يعتمد بشكل كبير على طبيعة الائتلاف الحكومي الذي قد يكون فيه المستشار من حزب، كما هو الأمر بالنسبة للمستشارة الحالية أنجيلا ميريكل ( من الحزب المسيحي)، ووزير الخارجية من حزب آخر، كما الحال بالنسبة لشتايمر (من الحزب الاشتراكي). وبالتالي فان طبيعة العلاقة بين المستشار ووزير الخارجية تلعب دورا أساسيا في صناعة وتوجيه وممارسة السياسة الخارجية الألمانية.[21] فعلاقة الانسجام والتفاهم الواضح بين المستشار الاشتراكي فيلي براندت ووزير خارجيته المسيحي فالتر شيل في الفترة من عام 1969-1974 ساعدت على إيجاد سياسة خارجية موحدة ومشتركة فيما يتعلق بالصراع بين الشرق والغرب تقوم على مبدأ تخفيف حدة التوتر. وكذلك الأمر بالنسبة لتحالف شرودر(اشتراكي)-فيشر (الخضر–يساري) الذي مكَّن ألمانيا من تبني سياسة خارجية أكثر استقلالية عن الولايات المتحدة.

أما في أمريكا فان الرئيس والذي يعتبر أيضا رئيس الحكومة والقائد العام للقوات المسلحة هو الذي يسيطر ويتحكم بالسياسية الخارجية. كما انه يعين أعضاء الحكومة والذين عادة ما يكونوا من نفس الحزب- و يشترط بالطبع موافقة مجلس الشيوخ على التعيين. إلا أن سيطرة الرئيس ودوره المركزي في عملية صناعة وممارسة السياسية الخارجية لا يعني عدم وجود فواعل مؤثرين آخرين. فوزير الخارجية ومستشار الأمن القومي ووزير الدفاع لهم دور هام في هذه العملية، وقد تنامى هذا الدور بشكل خاص خلال الحرب الباردة بسبب تزايد أهمية ومفهوم السياسة الخارجية الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية. إلا أن طبيعة الصلاحيات الدستورية التي يتمتع بها الرئيس في هذا المجال والتي من ضمنها الحق بترشيح وتعيين هذه الفواعل، فان الرئيس يبقى الأساس في اتخاذ القرارات المتعلقة بالسياسة الخارجية، ولا تملك الفواعل الأخرى ضمن الحكومة معارضة إرادة الرئيس. بينما قد لا يستطيع المستشار في ألمانيا اتخاذ قرارات على المستوى الخارجي بدون موافقة حزبه من جهة، وشركائه في الائتلاف من جهة أخرى. ومن هنا فان طبيعة الحكم وتقاسم الأدوار والمسؤوليات التي يفرضها وجود الائتلاف بين الأحزاب الرئيسية يُعتبر محددا هاما لعملية صناعة السياسة الخارجية الألمانية أكثر مما هو الحال بالنسبة للولايات المتحدة.

السياق التاريخي وتأثيره على رؤية صناع القرار لدوره ودور بلاده

بالإضافة إلى الاختلاف في هيكل اتخاذ القرار الخارجي، نجد أن هناك تباينا في النشأة السياسة والتاريخية للنخب السياسة في كل من الدولتين. فهناك عوامل متعددة تؤثر على الأفراد الفاعلين في عملية صناعة وتوجيه السياسة الخارجية. فما يميز الفرد شخصيته وتاريخه. ولان البشر لا يستطيعون العيش بمفردهم منعزلين فهم بحاجة إلى التفاعل مع غيرهم من البشر. وبالتالي فإنهم يتأثرون بالمحيط الاجتماعي الذي يتفاعلون معه، ومن ثم بالسياق التاريخي الذي يعيشون فيه.[22] وللظروف الاجتماعية والسياق التاريخي دور هام في تطوير مفاهيم الفرد عن العالم، وفهمه وتفسيره للواقع الدولي الذي يعيشه. ومن خلال هذه المفاهيم يَتشكل تصوره لطبيعة دوره الشخصي من جهة، ودور بلاده على الساحة الدولية من جهة أخرى. ولا شك أن هذه المفاهيم تتأثر وتتشكل بدورها بفعل عوامل أخرى كالقيم السائدة والمعتقدات الدينية والمبادئ والايدولوجيا المسيطرة والخبرات المكتسبة أيضا. ولهذا فان فهم السياق التاريخي الذي يعيشه الأفراد صناع القرار مهم جدا لفهم السياسة الخارجية لكل من ألمانيا والولايات المتحدة.

فبالنسبة لألمانيا، فقد كانت قوة مسيطرة في أوروبا، ونتيجة لاختلال توازن القوى لصالحها مرتين: الأولى في بداية القرن العشرين، والثانية في الربع الثاني منه، نشأت حربين عالميتين. وكانت النتيجة ليس فقط تدمير ألمانيا وهزيمتها، وإنما أيضا احتلالها وتحميلها المسؤولية الكاملة عن الحرب وعن كل ما صاحبها "كالمجازر التي تقول إسرائيل أن النظام النازي قد ارتكبها بحق اليهود في أوروبا."

وبالتالي فان هزيمة ألمانيا في الحرب وتحميلها المسؤولية الأولى عنها شكل دافعا أساسيا للنخب الألمانية بضرورة تبني سياسة خارجية حكيمة لا تقوم على استخدام القوة أو العنف، أو الرغبة في الهيمنة العالمية أو حتى السيطرة الإقليمية. وبسبب هذا تشكلت رؤية جديدة في ألمانيا على المستويين الرسمي والشعبي تقوم على تبني سياسة سلمية بحته، والتركيز على الاقتصاد والتجارة. وبالفعل بدأت تتشكل تقاليد للسياسة الخارجية الألمانية مختلفة تماما عن تلك التي سادت لعقود منذ تأسيس الرايخ الأول وحتى انتهاء الحرب الثانية. وقد عملت أول حكومة ألمانية بعد الاحتلال عام 1949 بقيادة اديناور على تكريس هذا التوجه، واستمرت الحكومات المتعاقبة الاشتراكية منها والمسيحية في تبني سياسة خارجية هادئة جدا تقوم على مبادئ من أهمها العمل المتعدد الأطراف واحترام الشرعية الدولية وعدم الانخراط في أي نزاعات مسلحة .[23]

أما بالنسبة لأمريكا فان الأمر مختلفا إلى حد كبير، فهي دولة منتصرة في الحرب وظهرت على أثرها كقوة عظمى ومسيطرة في النظام الدولي، ساعدها على تحقيق ذلك قدراتها الاقتصادية الضخمة وترسانتها العسكرية الهائلة. ثم جاءت الحرب الباردة وأعطت الولايات المتحدة الفرصة لإبراز دورها العالمي الجديد كقائد للعالم الغربي في صراعه مع الشرق. وفي ظل الأحداث المتلاحقة التي شهدتها فترة الحرب الباردة خاصة في العقدين الأولين منها سادت في أمريكا مبادئ وسياسات تقوم على الهيمنة والسيطرة العالمية. وعلى الرغم من أن أحداث الحرب الباردة هي التي أدت بشكل أساسي إلى ظهور ثقافة الهيمنة، فان هذا النهج اخذ يَتكرَّس بعد انتهاء الحرب الباردة، حيث برزت الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة تسعى إلى صياغة العالم وفقا لقيمها وخدمة لمصالحها الخاصة. وقد انعكس هذا الواقع بشكل واضح على طبيعة النخب والزعامات السياسية التي حكمت الولايات المتحدة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى الآن، وهي نخب في مجملها تؤمن بالسيطرة الأمريكية وسيادتها المطلقة على النظام الدولي. وكان من نتيجة هذا أن أصبحت الولايات المتحدة تتصرف كيفما تشاء دون مراعاة للشرعية الدولية، وتتبنى سياسات هدفها الأساسي إعادة صياغة العالم وفقا للرؤية الأمريكية.

انعكاس السياق التاريخي والاجتماعي على صفات النخب السياسة واختيار صناع القرار

لقد ارتبط السياق التاريخي الذي عاشته ألمانيا وأمريكا بعد الحرب العالمية الثانية بظهور قيادات سياسية وصناع قرار مختلفين في التوجه والنظرة لدور بلادهم على الساحة الخارجية. فالتقاليد السياسة الجديدة في ألمانيا بعد الحرب والتي تقوم على تبني الوسائل السلمية في حل النزاعات وتحقيق التعاون الدولي في المجالات المختلفة والعمل متعدد الأطراف، تَطَلب ظهور قيادات سياسية تتمتع بصفات وقدرات معينة تمكنها من خدمة المصالح الألمانية بعيدا عن الانخراط في صراعات إقليمية أو دولية.[24] فالصفات والقدرات الشخصية للسياسي أو صانع القرار تلعب دور أساسيا في عملية تنظيم وتوجيه السياسة الخارجية. ونتيجة لهذا ساد شعور عام في ألمانيا بان من يتولى السلطة السياسة والمواقع الرفيعة يجب أن يتمتع بمهارات معينة أهمها الحنكة السياسية والقدرة على الحكم والحزم والذكاء كشروط أساسية يجب أن يتمتع بها السياسي الألماني خاصة في المراكز العليا في الدولة كالمستشار وأعضاء الحكومة.[25] ولهذا فان الوصول إلى السلطة في ألمانيا ومراكز صناعة القرار تختلف إلى حد كبير عما هو الحال في أمريكا من حيث أن التركيز يكون منصبا بشكل رئيسي على الصفات القيادية التي تؤمن وتتبني سياسات معيارية سلمية أكثر أخلاقية، وبعيدة عن الرغبة في الهيمنة الإقليمية أو العالمية. أما في أمريكا فغالبا ما يكون صناع القرار الرئيسين من ذوي الخلفيات العسكرية، ويرتبطون في نفس الوقت بجماعات المصالح. بل إن الوصول إلى أي منصب سياسي بارز بما فيه منصب الرئيس وعضوية مجلس الشيوخ والنواب يتطلب بالدرجة الأولى علاقات معينه ضمن الأطر الحزبية من جهة، وضمن اطر جماعات الضغط والمال من جهة أخرى. ولهذا أصبح النموذج السائد لصناع القرار في الولايات المتحدة يتأثر من حيث المبدأ بالعلاقة بجماعات المصالح ورجال الأعمال.[26] وبالتالي فان الصفات الشخصية التي يتمتع بها الرئيس ومعاونيه من جهة، وعلاقة هذه الشخصيات بجماعات المصالح المختلفة يلعب دورا أساسيا في صناعة وتوجيه السياسة الخارجية الأمريكية. ولقد رأينا هذا بشكل واضح في العديد من قرارات السياسة الخارجية ومنها قرار غزو العراق الذي كان لطبيعة النخب الحاكمة وتوجهاتها العسكرية والرغبة بالهيمنة والسيطرة العالمية دورا حاسما في اتخاذه.

ب. الفواعل الاجتماعيين غير الرسميين

هناك محددات داخلية أخرى للسياسة الخارجية للدول غير صناع القرار أو المستويات الرسمية من أهمها الرأي العام والإعلام والأحزاب السياسة وجماعات المصالح أو الضغط. فللفواعل والقوى الاجتماعية تأثير على عملية صناعة السياسة الخارجية في كل من الولايات المتحدة وألمانيا وذلك من خلال المعارضة أو الموافقة على ما تقوم به السلطة في علاقاتها الخارجية. فالرأي العام ووسائل الإعلام تؤثر على توجهات السياسة الخارجية للحكومة وصناع القرار في كلتا الدولتين. وكلا الفاعلين مترابطين بشكل كبير. فوسائل الإعلام تعمل على توعية الرأي العام بتوجهات السياسة الخارجية السائدة، كما أنها في الوقت نفسه -وبسبب عدم استقلاليتها التامة- تساهم بشكل أساسي في توجيه وتشكيل الرأي العام حول هذه السياسة، وهو ما يعتبر أمرا هاما بالنسبة لصانع القرار من اجل الحصول على الدعم الشعبي وأحيانا التشريعي لتوجهات سياسته الخارجية. وبالتالي فان الإعلام يلعب في الواقع دور الوسيط أو الرابط ما بين الرأي العام وصناع السياسة الخارجية.

إما بالنسبة للرأي العام نفسه فتأثيره يظهر في عملية صناعة القرار من خلال درجة الموافقة الشعبية على السياسة الخارجية وعلى سلوك الحكومة و المؤسسات الأخرى المؤثرة أو الفاعلة في هذه السياسية. ولهذا فان درجة تأثير الرأي العام والمدى المتاح له للتعيير عن نفسه يُشكل محددا من محددات السياسة الخارجية لكل من الولايات المتحدة وألمانيا.[27] إلا أن درجة تأثيرها في الولايات المتحدة أكثر بكثير مما هو الحال في أمريكا لأسباب من أهمها سيطرة وسائل الإعلام الواسعة و إمكاناتها الهائلة، وارتباطها بجماعات المصالح المختلفة التي تحاول توجيه الرأي العام وفقا لمصالحها الخاصة أو رؤيتها الذاتية للأحداث.

كما أن هناك تأثير لفواعل داخلية أخرى في السياسة الخارجية مثل الأحزاب السياسة وجماعات الضغط بالإضافة إلى منظمات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية التي يتنامى دورها بشكل واضح بفعل العولمة. إلا أن درجة تأثير هذه الفواعل أو العوامل في الولايات المتحدة تختلف عما هو الحال في ألمانيا. ففي أمريكا لا تمثل الأحزاب محدد أو قيد كبيرا على السياسة الخارجية. فالفصل بين السلطات يقلل من تأثير الحزب على الرئيس أو أعضاء حكومته. أما في ألمانيا فان للأحزاب وبسبب خيارها السياسي وشغل أعضاها للبرلمان والحكومة تأثير اكبر على السياسة الخارجية. ومع ذلك فان تأثيرها بشكل عام لا يكون حاسما لان قراراتها تتشكل وتتخذ عادة من قبل قيادة الحزب.

أما بالنسبة لجماعات المصالح فتحاول أن تؤثر في السياسة الخارجية عن طريق اللوبيات التي غالبا ما يكون لها تأثير على الفاعلين الرسميين في السلطة التنفيذية والتشريعية، آو من خلال السيطرة غير المباشرة أو التلاعب والتأثير في الرأي العام. إلا أن درجة تأثير هذه الجماعات ودورها كمحدد للسياسة الخارجية يعتمد بشكل كبير على مجموعة من المعايير منها مدى انتشارها و تعبئتها، وقدرتها على التكييف، ومواردها البشرية والمادية، ومن ثم احتمالات دخولها العمل السياسي مباشرة.[28] وعلى عكس ما هو الحال في ألمانيا فان هذه المعايير متوفرة في جماعات المصالح الأمريكية بشكل كبير، ولهذا غالبا ما يكون لها دور محوري في صناعة السياسة الخارجية الأمريكية. فارتباط هذه الجماعات بالنخب السياسة في الحزبين الرئيسين الجمهوري والديمقراطي، ومن ثم ودعمها المادي والمعنوي للسياسيين والمرشحين في الانتخابات يساعدها على لعب دور أكثر فاعلية في صناعة وتوجيه السياسة الخارجية الأمريكية. ولم يعد خافيا على سبيل المثال تأثير اللوبي اليهودي في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي الإسرائيلي. بل إن كل مرشح للانتخابات يسعى لكسب رضا هذه القوة ودعمها في الانتخابات التشريعية والرئاسية، وغالبا ما تميل الكفة لصالح المرشح المدعوم من قبل هذا اللوبي. كما ظهر دور هذه الجماعات في قرار غزو العراق، فنائب الرئيس الأمريكي نفسه كان مديرا لأكبر شركات النفط الأمريكية، وقد كان الداعي والمنظر الأول للحرب.

النتيجة

هناك تباين بين السياسة الخارجية الأمريكية والألمانية فيما يتعلق بالعديد من المسائل الدولية. وعلى الرغم من أن هذا التباين يعود من حيث المبدأ إلى الاختلاف في الأهداف من جهة والقدرات من جهة أخرى، إلا انه يرتبط أيضا بمجموعة من العوامل الداخلية والخارجية التي تُمثل محددات للسياسة الخارجية لكلا الدولتين. فعلى المستوى الداخلي، هناك اختلاف بين الدولتين فيما يتعلق بصانع القرار، من جانبين: الأول يرتبط بالأطر التي يتم فيها صناعة وممارسة السياسة الخارجية. ففي ألمانيا تعتمد هذه العملية على طبيعة ألائتلاف الحاكم الذي قد يكون فيه المستشار من حزب ووزير الخارجية من حزب آخر، وبالتالي غالبا ما تكون السياسة الخارجية الألمانية انعكاسا لطبيعة وقواعد هذا الائتلاف. أما في الولايات المتحدة فالرئيس يسيطر على عملية السياسة الخارجية وهو صانع القرار الأول، وعادة ما يكون معاونيه -خاصة وزراء الخارجية والدفاع ومستشار الأمن القومي - من نفس الحزب، علاوة على أنهم يُختارون مبدئيا من قبل الرئيس. الثانية، تتعلق بصفات صانع القرار نفسه، والبيئة الاجتماعية والسياق التاريخي الذي يوجد فيه، و من خلاله يَنظر إلى دوره ودور بلاده في الساحة الدولية. ففي ألمانيا يتطلب الوصول إلى مكان بارز وجود مواصفات شخصية تتمتع بالحكمة والحنكة السياسة وتتوافق والقيم التي سادت ألمانيا بعد هزيمتها في الحرب الثانية. أما في أمريكا فان صناع القرار الرئيسين ومعاونيه غالبا ما يكونوا من ذوي الخلفيات العسكرية، كما يتطلب وصولهم إلى السلطة علاقات قوية بجماعات المصالح ورجال الإعمال، على عكس ما هو الحال في ألمانيا. أما فيما يتعلق بالفواعل الاجتماعيين غير الرسمين كالإعلام والرأي العام وجماعات الضغط فهي تتمتع بتأثير اقل على السياسة الخارجية في ألمانيا مقارنة بالولايات المتحدة.

أما على المستوى الخارجي، فان هيكل النظام الدولي القائم يُمثل محددا كبير على سلوك ألمانيا الخارجي، على عكس ما هو الحال بالنسبة لأمريكا التي تنفرد بالسيطرة على هذا النظام. فالنظام الأحادي الذي تتمتع فيه الولايات المتحدة بقدرات عسكرية واقتصادية ضخمة يُمكنها من السيطرة على مجريات النظام الدولي، بل وتوجيه التفاعلات الدولية بما يخدم أو يتماشى والرغبات والمصالح الأمريكية. وهذه السيطرة تُشكل في الحقيقة قيدا أو محدد على سلوك ألمانيا الخارجية حيث لا تملك الإمكانات المماثلة التي تؤهلها لموازنة أمريكا، أو التأثير في القرار الدولي فيما يتعلق في العديد من المسائل الدولية كما تفعل الولايات المتحدة.

كما يظهر التباين في تأثير هذه المحددات من خلال العمل في الأطر المؤسساتية الدولية كالأمم المتحدة، والأحلاف العسكرية كحلف شمال الأطلسي (الناتو). فتمتع الولايات المتحدة بدور مهيمن في الأمم المتحدة وامتلاكها لحق النقض في مجلس الأمن يُقلل من تأثير هذه المنظمة على سياسة أمريكا الخارجية. بل إن الولايات المتحدة عادة ما تعمل خارج هذا الإطار بشكل منفرد، يساعدها على ذلك تمتعها بإمكانات القوة الشاملة والسيطرة على النظام الدولي. أما ألمانيا وعلى الرغم من دورها المتنامي في إطار الأمم المتحدة وسعيها المتواصل للحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن فهي لا تتمتع بنفس النفوذ الأمريكي في المنظمة الدولية؛ ولأن ألمانيا تتبنى سياسة خارجية معيارية تعتمد بشكل عام على العمل متعدد الأطراف، فان الأمم المتحدة تُعتبر محدد لسياستها الخارجية. فرغبة ألمانيا في العمل المشترك ودعوتها الدائمة لحل النزاعات والخلافات الدولية بالطرق السلمية و في إطار جماعي أو أممي يُشكل في الواقع محددا من محددات السياسة الخارجية الألمانية. أما في إطار الناتو وعلى الرغم من تمتع كلا الدولتين فيه بحق النقض، فان أمريكا لا زالت تتمتع بنفوذ كبير في الحلف، وعادة ما تسعى لاستغلاله لخدمة مصالحها ودعم سياساتها العسكرية في العالم. ولهذا فان تأثير التحالف كمحدد على السياسية الخارجية الأمريكية اقل من تأثيره على السياسة الألمانية. فألمانيا تسعى للعمل وفق الإطار الأوروبي ليس فقط امنيا وإنما أيضا سياسيا واقتصاديا، ولهذا فهي تحاول أن تتبني سياسة خارجية منسجمة مع التوجهات الأوروبية العامة، وهذا في النهاية يُشكِّلُ محددا هاما على السياسة الخارجية الألمانية بينما لا نجد مثل التأثير في حالة الولايات المتحدة.



[1] Timothy Dunne, “Realism,” in Baylis and Steve (ed.), The Globalization of World Politics: An Introduction to International Relations, Oxford: Oxford University Press, 1999, p. 117, 122.

[2] Michael E. Brown, Sean M. Lynn-Jones, and Steven E. Miller, (eds.), The Perils of Anarchy: Contemporary Realism and International Security, Cambridge, MA: MIT Press, 1995.

[3] Barry Buzan, Charles Jones, and Richard Little, The Logic of Anarchy: Neorealism to Structural Realism, New York: Columbia University Press, 1993; Barry Buzan, "Rethinking System and Structure," in Buzan, Jones, and Little, Ibid. pp. 20-25.

[4] K. Waltz, “The Emerging Structure of International Politics,” International Security, Vol. 18, No. 2, Fall 1993, pp. 44-45.

[5]لمزيد من التفصيل انظر:

Kenneth Waltz, “The Stability of A Bipolar World,” Daedalus, Vol. 93, No. 3, Summer 1964, pp. 881-909; Karl W. Deutsch and J. David Singer, "Multipolar Power Systems and International Stability,” World Politics, Vol. 1, April 1964, pp. 390-406; Charles W. Kegley, Jr. and Gregory A. Raymond, “Must We Fear a Post-Cold War Multipolar System?” The Journal of Conflict Resolution, Vol. 36, September 1992, pp. 573-582.

[6] William B. Moul, “Balances of Power: Analogy, Arguments, and Some Evidence,” In David G. Haglund and Michael K. Hawes (eds.), World Politics. Power, Interdependence & Dependence, Toronto: Harcourt Brace Jovanovich, 1990, p. 58.

[7] Mohammad Abo Kazleh, The Inter-relationship between Economics and National Security: Links between Security and Non-security Issues in US-Japan Alliance Relations. Munich: GRIN Scholarly Publishing, 2006.

[8] لمزيد من التفصيل انظر: Hans Mouritzen, “Kenneth Waltz: a Critical rationalist between International Politics and Foreign Policy,” In Iver B. Neumann and Ole Wæver (eds.), The Future of International Relations. Masters in the Making, London: Routledge, 1997, pp. 66-67.

[9] Peter A. Gourevitch, “Squaring the Circle: The Domestic Sources of International Cooperation,” International Organization, Vol. 50, No. 2, Spring1996, pp 350.

[10] Thomas Jäger and Beckmann, Rasmus: “Die internationalen Rahmenbedingungen deutscher Außenpolitik“, in: Jäger, Thomas/Oppermann, Kai/Höse, Alexander (Hrsg.): Deutsche Außenpolitik, Wiesbaden i.E., pp. 2, 16.

[11] Thomas Jäger. Deutsche und amerikanische Außenpolitik im Vergleich. Köln: Jeannine Hausmann, 2007. p 12.

[12] William C. Wohlforth, Transatlantic Relations in a Unipolar World”, in: Occasional Papers Series, Nr. 41 (2002), available at http://www.gcsp.ch/E/publications/Issues_Institutions/TA_Relations/Occ_Papers/41-Wohlforth.pdf. accessed on 01.03.2007), p. 2.

[13] Wohlforth Ibid. p.3.

[14] Jaeger and Beckmann: Ibid., p. 21.

[15] W. Michael Reisman. "The United States and International Institutions”, in: Ikenberry, G. John (Hrsg.), American Foreign Policy, New York 2002, p. 41.

[16] Kai Oppermann and Alexander Höse, "Die innenpolitischen Restriktionen deutscher Außenpolitik“,

in: Thomas Jäger, Kai Oppermann and Alexander Höse (Hrsg.): Deutsche Außenpolitik, Wiesbaden i.E.,

p. 40.

[17] George W. Bush, National Security Strategy of the United States, Washington, DC: The White House, September 2002, p. 1.

[18] Gunther Hellmann, “Ex occidente Lux…Warum der deutsche Anspruch auf einen ständigen Sitz im UN-Sicherheitsrat schlecht begründet ist und wie Deutschland auf anderem Wege _dauerhaft mehr Verantwortung übernehmen’ kann“, in: Politische Vierteljahresschrift, Jg. 45 (2004), Heft 4, p. 482.

[19] Thomas Jäger and Rasmus Beckmann, "Die internationalen Rahmenbedingungen deutscher Außenpolitik“, in: Thomas Jäger, Oppermann, Kai and Alexander Höse (Hrsg.), Deutsche Außenpolitik, Wiesbaden i.E., p. 32.

[20] Beverly Crawford, Power and German Foreign Policy Embedded Hegemony in Europe, Macmillan Publishers Limited, Hampshire, 2007, pp. 1-3.

[21] Lecture by Professor Dr. Christian Hacke, "Die Bedeutung von Personen und ihren Beziehungen im deutsch-amerikanischen Verhältnis nach dem Zweiten Weltkrieg" {The Concept of Persons and their relations in the German-American relationship after the Second World War} 09.11.2006 im Rahmen des Hauptseminars Deutsche und amerikanische Außenpolitik im Vergleich des Lehrstuhls für internationale Politik und Außenpolitik der Universität zu Köln.) p. 11.

[22] Ibid. p. 11

[23] Beverly Crawford. Power and German Foreign Policy Embedded Hegemony in Europe, Macmillan Publishers Limited, Hampshire, 2007.

[24] Hacke, Ibid. p. 12

[25] Thomas Jäger, "Deutsche und amerikanische Außenpolitik im Vergleich“ Jeannine Hausmann, Köln Wintersemester 2006/2007, p. 11.

[26] Jäger, Ibid., p. 12.

[27] Kai Oppermann and Alexander Höse, "Die innenpolitischen Restriktionen deutscher Außenpolitik“, in: Thomas Jäger, Kai Oppermann and Höse Alexander (Hrsg.): Deutsche Außenpolitik, Wiesbaden i.E., p. 54.

[28] Oppermann and Höse, Ibid. p. 59.
المصدر مجلة علوم انسانية

تعليقات

  1. هل من جديد جيب الجديد قاعدين تعمرو في الدراهم او ماتقولوناش معا HAMADI

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بحث عن التنمية المستدامة ( البحث منقول)

مقدمة الفصل: لقد أستحوذ موضوع التنمية المستدامة اهتمام العالم خلال 15 سنة المنصرمة وهذا على صعيد الساحة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية العالمية ،حيث أصبحت الاستدامة التنموية مدرسة فكرية عالمية تنتشر في معظم دول العالمي النامي والصناعي على حد سواء تتبناها هيئات شعبية ورسمية وتطالب بتطبيقها فعقدت من أجلها القمم والمؤتمرات والندوات.ورغم الانتشار السريع لمفهوم التنمية المستدامة منذ بداية ظهورها إلا أن هذا المفهوم مازال غامضا بوصفه مفهوما وفلسفة وعملية ،ومازال هذا المفهوم يفسر بطرق مختلفة من قبل الكثيرين ولذلك فقد تم التطرق في هذا الفصل إلى مبحثين رئيسيين:المبحث الأول: ماهية التنمية المستدامة;المبحث الثاني: محاور أساسية في التنمية المستدامة;المبحث الأول: ماهية التنمية المستدامةبدأ استخدام مصطلح التنمية المستدامة كثيرا في الأدب التنموي المعاصر وتعتبر الاستدامة نمط تنموي يمتاز بالعقلانية والرشد، وتتعامل مع النشاطات الاقتصادية التي ترمي للنمو من جهة ومع إجراءات المحافظة على البيئة والموارد الطبيعية من جهة أخرى، وقد أصبح العالم اليوم على قناعة بأن التنمية المستدامة التي تقضي على قضايا التخ

عوامل قوة الدولة

ان لعوامل القوة المتاحة للدولة دور كبير في تحديد مكانتها على الساحة الدولية لكن قبل التعرض لهذه العوامل يجب علينا ان نعرج على بعض المفاهيم إن القوة ـ كما أوضحت تعريفاتها ـ ليست التأثير ، وإنما القدرة على التأثير . وتستند هذه القدرة على امتلاك الدولة إمكانيات (خصائص ، موارد ، قدرات ، مؤسسات) معينة تشكل مقومات القوة القومية Elements of National Power التى تمكنها من التأثير على سلوكيات الدول الأخرى فى الاتجاهات التى تحقق مصالحها، كالمساحة الجغرافية ، وعدد السكان ، والموارد الطبيعية ، والقدرات الإقتصادية ، والقوة العسكرية ، والبنية التكنولوجية ، والفعاليات الثقافية، والمؤسسات السياسية ، والحالة المعنوية للشعب ، وغيرها . لكن ، على الرغم من أن هذه الإمكانيات المتداخلة تشكل فى مجموعها عوامل القوة الشاملة لأى دولة ، فإن هناك اختلافات أساسية فيما بينها ، ترتبط باعتبارات عملية ، تتصل بالقدرة على استخدامها فى عملية التأثير ، خاصة خلال المواقف التى يتعرض في

المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية

المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية "تمثل مدرسة الواقعية السياسية التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية ردة فعل أساسية على تيار المثالية. وهدفت الواقعية إلى دراسة وفهم سلوكيات الدول والعوامل المؤثرة في علاقاتها بعضها مع بعض. . . [لقد] جاءت الواقعية لتدرس وتحلل ما هو قائم في العلاقات الدولية, وتحديداً, سياسة القوة والحرب والنزاعات, ولم تهدف كما فعلت المثالية إلى تقديم . . . [مقترحات] وأفكار حول ما يجب أن تكون عليه العلاقات الدولية". "وقد حاول الواقعيون الحصول على أجوبة لأسئلة مازال يطرحها الأكاديميون والمهتمون بالشؤون الدولية منذ الستينات وحتى يومنا هذا. إذن هدفت الواقعية إلى تقديم نظرية سياسية لتحليل وفهم واستيعاب الظواهر الدولية". يرى مورغنثاو (وهوا من ابرز منظري الواقعية) بان السياسة الدولية تتميز (وتنفرد) "كفرع أكاديمي عن دراسة التاريخ والقانون الدولي والأحداث الجارية والإصلاح السياسي". أهم المسلمات الأساسية في الفكر الواقعي 1. "أن السياسة لا يمكن أن تحددها الأخلاق كما يقول المثاليون بل العكس هو الصحيح. وبالتالي فالمبادىء الأخلاقية لا يمكن تط