علي بدوان
قمة سرت خطوة، ولكن
متتاليات الموقف الأميركي
التحول المؤقت والعودة للتراجع التدريجي
القدس والمقدسيون صمود وانتظار
شكلت قمة صمود القدس (العربية) في مدينة سرت الليبية (صرخة الخجل) للنظام الرسمي العربي بعد (همود وخمود) طال واستطال في المواقف العربية الرسمية إزاء ما جرى مؤخرا وما يجري حاليا من حملات تهويد غير مسبوقة للمدينة المقدسة، وفي لحظات حاسمة يتعالى فيها ضجيج بلدوزرات الهدم والتهويد الإسرائيلية الصهيونية، وأصوات بساطير جنود الاحتلال في شوارعها وأزقتها وحتى داخل باحات المسجد الأقصى وحرمه. في وقت مازالت فيه المواقف الأميركية تشكل الغطاء لسياسات الاحتلال بالنسبة للمدينة المقدسة.
فما حقيقة الموقف الأميركي من قضية القدس، وما العوامل التي أدت إلى حدوث اتجاهات وانعطافات في المواقف الأميركية إزاء قضية القدس. أسئلة سنحاول الإجابة عليها في سياق التكثيف التالي، مع محاولة استشراف المواقف الأميركية في المدى المنظور.
قمة سرت خطوة، ولكن
شكلت قمة سرت العربية، ورغم غياب العديد من قادة بعض الدول العربية الكبرى خطوة إلى الأمام في سياق الجهود المطلوبة من أجل نصرة القدس وشعب فلسطين ومد يد المساعدة العربية له على كل مستوياتها، ورفع الحصار الجائر والظالم عن قطاع غزة.
ومن المفارقات التي شهدتها قاعات المؤتمر أن كلمة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان جعلت منه نجم الحفل الافتتاحي بحق، فقد كانت كلمته واضحة وشفافة وصريحة وعلى مسامع الوفود الأممية المشاركة في افتتاح أعمال القمة، فكان الصوت الأعلى في نصرة القدس وفي شحن المؤتمرين لدفعهم نحو الارتقاء في مواقفهم العملية تجاه ما هو مطلوب منهم من أجل قضية القدس على المستويات كافة المادية والسياسية.
ومهما يكن من أمر فإن إعادة استصدار العديد من القرارات المتعلقة بالقدس، وإعادة إحياء صندوق القدس ورفع قيمة المشاركة المالية فيه، خطوات تنتظر الترجمة العملية.
ولكن الدعم السياسي المنشود لا يقل أهمية عن الدعم المادي المطلوب، فالدعم السياسي ضرورة لتشكيل مظلة الحماية للشعب الفلسطيني، كما يفترض به أن يسير باتجاه وقف الانحدار في العملية السياسية الجارية في الشرق الأوسط تحت إدارة واشنطن التي مازالت تتخذ مواقف منحازة وبعيدة عن منطق التوازن في النظر لقضايا التسوية، بما في ذلك بالنسبة لمصير المدينة المقدسة، حيث تتبنى الولايات المتحدة في واقع الحال الرؤية الأقرب للموقف الإسرائيلي، في متوالية سياسية سارت عليها الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ ما بعد حرب يونيو/حزيران 1967، تبدت الآن أكثر فأكثر في ظل الوضع المعقد الذي تعيشه المدينة المقدسة وأبناؤها من المواطنين الفلسطينيين.
متتاليات الموقف الأميركي
بعيد حرب يونيو/حزيران 1967، واصلت إدارة الرئيس الأميركي ليندون جونسون وضع منهج جديد كانت قد ابتدأته الإدارات الأميركية المتعاقبة بعد ولادة قضية القدس عام 1948 ويقوم على دعم فكرة التدويل، غير أن التحول الأميركي الأول وقع في نهاية عهد الرئيس جونسون، إذ قال في خطاب عام حول القدس بعد عدوان 1967 "يجب الاعتراف بعدالة المطالب الخاصة للأديان الثلاثة الكبرى في الأماكن المقدسة في القدس"، متجاوزا في ذلك الموقف السابق للولايات المتحدة، وقافزا عن دعوات ومطالبات بالتدويل.
وعاد البيت الأبيض يؤكد خطاب الرئيس ليندون جونسون بعد القرار الإسرائيلي بضم المدينة بعيد عدوان 1967، حيث أصدرت الخارجية الأميركية بيانا جاء فيه أن الولايات المتحدة لن تعترف بالإجراءات من طرف واحد لأي دولة تجاه ما يخص وضع القدس. وطالبت الولايات المتحدة بعد ذلك بألا يقرر وضع القدس انفراديا ولكن بالتشاور مع كل الجهات المعنية.
ومع مجيء الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون (1968-1974) إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة الأميركية، طرح وزير خارجيتها وليم روجرز في 9 ديسمبر/كانون الأول 1969، مقترحاته ومشروعه الشهير للتسوية، تم التأكيد فيه على مبدأين بالنسبة للمدينة المقدسة: أولهما بقاء القدس مدينة موحدة، وثانيهما تسوية مسألة القدس من خلال المفاوضات بين الطرف العربي والإسرائيلي، وهو مبدأ جديد طرح في حينها، وهدف إلى إسقاط أي دور للأمم المتحدة، وفكرة تدويل المدينة والأماكن المقدسة.
وحافظت إدارة الرئيس الأميركي جيمي كارتر على الموقف نفسه بالنسبة لقضية القدس بدعوتها لضرورة بقاء المدينة موحدة. وضمان حرية الوصول إلى الأماكن المقدسة لجميع السكان وبغض النظر عن طوائفهم. وفصل القدس عن بقية الأراضي المحتلة عام 1967 في الضفة الغربية وقطاع غزة، والتعامل معها على نحو منفصل.
لكن ومع صعود رونالد ريغان إلى سدة القرار والحكم في الولايات المتحدة (1980-1988) انكشف انزياح موقف الإدارة الأميركية باتجاه التصورات الإسرائيلية إزاء قضية القدس، فقد أدلى الرئيس الأميركي رونالد ريغان وأصدر عدة بيانات في مناسبات عديدة عدّ من خلالها "القدس عاصمة دولة إسرائيل"، وأنه يجب "أن تبقى دائما تحت السيادة الإسرائيلية"، وجاء في وقتها توقيع اتفاق التعاون الإستراتيجي بين الولايات المتحدة وإسرائيل ليصب في عصب الإستراتيجية الأميركية إزاء الصراع العربي-الإسرائيلي، فكان الغزو الإسرائيلي للبنان صيف العام 1982، وضرب الوجود العسكري للمقاومة الفلسطينية ومنظمة التحرير هناك، ثم جاء مشروع "رونالد ريغان" يوم خروج الدفعة الأولى من مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت، مستهدفا جني ثمار العدوان، وشق الطريق لمشروع الحكم الذاتي في الضفة وقطاع غزة كما ورد في الشق الفلسطيني من اتفاق كامب ديفد الأول.
لكن هذا المشروع فشل وأهيل عليه التراب بفعل نهوض المقاومة اللبنانية في وقت لاحق، وقيام منظمة التحرير بلملمة وبلسمة جراحها الناتجة جراء اجتياح العام 1982، وتجاوزها لعملية الانقسام والانشقاق المدمر الذي ضرب صفوفها عام 1983، وانطلاقة الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي دقت أبواب العالم بأسره.
التحول المؤقت والعودة للتراجع التدريجي
ولكن، وبعد كارثة وحرب الخليج الثانية، التي عدتها الإدارة الأميركية "هزيمة لكل العرب" على حد تعبير وزير الخارجية سنتذاك جيمس بيكر، وبسبب من التحضيرات التي بدأتها إدارة الرئيس (جورج بوش الأب) لعقد مؤتمر مدريد للتسوية في الشرق الأوسط، فإن تحولا مؤقتا في الموقف الأميركي تجاه القدس بدا من خلال رسالة بعث بها الرئيس بوش الأب إلى إسرائيل، وفيها قوله "يجب أن تقسم القدس ثانية، تلك سياستي".
وعلى أثرها أوقف الرئيس (جورج بوش الأب) ضمانات القروض الأميركية بقيمة (400) مليون دولار لإسكان المهاجرين من اليهود السوفيات في أوائل العام 1991بسبب أن "الاعتراض الأميركي على المستوطنات يشمل القدس الشرقية، وأن القدس الشرقية أرض محتلة"، إلا أن الرئيس جورج بوش قرر التراجع الفعلي عن شروطه لإعطاء قرض أخر بقيمة عشرة مليارات دولار لإسرائيل في أغسطس/آب 1992، فحصلت إسرائيل على ضوء أخضر لمزيد من الاستيطان في ضواحي القدس، وأراضي القرى العربية المجاورة لها، بعد أن تغاضت إدارة بوش عن الموضوع الشائك بنشاطات البناء اليهودي في القدس الشرقية، واكتفت هذه الإدارة بتعهد لفظي قطعه إسحاق رابين على نفسه في مايو/أيار 1992، بوقف الاستيطان في الضفة الغربية.
أما فترة إدارة الرئيس بيل كلينتون الممتدة بين أعوام (1993-2001) فقد تضمنت ومن خلال الحملة الانتخابية التي خاضها كلينتون إشارات واضحة على أن القدس الموحدة العاصمة الأبدية لإسرائيل، وانتقد سلفه الرئيس (جورج بوش الأب) حين ربط ضمانات القروض بضرورة تجميد الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة ومناطق القدس على وجه الخصوص، وبعد وصوله إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة الأميركية تركزت تصريحات كلينتون حول ضرورة البت في قضية القدس في مفاوضات الوضع النهائي بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، وفي الوقت نفسه لم تعلن إدارة كلينتون أي موقف إزاء ضرورة وقف الاستيطان الإسرائيلي في مدينة القدس المحتلة.
وعند وصول (جورج بوش الابن) إلى سدة السلطة في الولايات المتحدة الأميركية، كانت الانتفاضة الفلسطينية التي انطلقت شرارتها الأولى في ساحات الأقصى الشريف قد اندلعت قبل أشهر، وكان من المقدمات التي هيأت لشرارة الانتفاضة الضغوط الأميركية والإسرائيلية على المفاوض الفلسطيني في مفاوضات كامب ديفد الثانية التي استمرت لأسابيع، حيث رفض الوفد الفلسطيني التنازل عن القدس الشرقية، واعتبار بعض توسعاتها عاصمة للدولة الفلسطينية المنشودة على كامل مساحة الضفة وقطاع غزة والبالغة نحو 9000 كيلومتر مربع.
وتبعا لاشتداد وطأة المجازر الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني والانتفاضة والخسائر الإسرائيلية من جراء المقاومة المسلحة والضرب في العمق الإسرائيلي، اضطرت إدارة الرئيس (جورج بوش الابن) إرسال مبعوثيها ورسلها وبشكل متواتر إلى منطقة الشرق الأوسط، وذلك من أجل الضغط على الطرف الفلسطيني لإخضاعه وقبوله بالشروط الإسرائيلية، والانقضاض على الانتفاضة التي رفعت شعارات الحرية والاستقلال وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس بعد كنس المستوطنين البالغ عددهم قرابة (200) ألف مستوطن في مستعمرات الضفة الغربية، إضافة إلى نحو (180) ألفا في عشرة أحياء استيطانية تلف القدس من كل الاتجاهات.
القدس والمقدسيون صمود وانتظار
وبالنتيجة، وفي العودة وضع القدس في القرارات الرسمية الأميركية، فان إدارات: ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد وجيمي كارتر ورونالد ريغان وجورج بوش الأب وبل كلينتون وجورج بوش الابن وباراك أوباما، واصلت التراجع التدريجي والثابت عن تدويل القدس إلى تقبل الأمر الواقع، وسياسة تقبل نتائج المفاوضات حول القدس بين الأطراف في ضوء الواقع الديمغرافي الذي أحدثته سلطات الاحتلال على أرض المدينة.
فالحل من الوجهة الأميركية يفترض به أن يأخذ بعين الاعتبار حسب المنسق الأميركي السابق لعملية التسوية دينس روس "الوقائع الجديدة والتغييرات الجغرافية والعمرانية التي قامت بها الحكومات الإسرائيلية المتتالية في الجزء الشرقي من القدس" حتى يتوافق مع الظروف الجديدة، وهي الوجهة التي مازالت تحكم الموقف الأميركي في حقيقته الساطعه تجاه المدينة المقدسة، وإن اختلفت النبرة الإعلامية بين حين وآخر تبعا لتقلبات ومسار وتحولات العملية السياسية في المنطقة، حيث يلحظ أن تلك الأفكار تكرس بشكل أو بآخر الاحتلال والسيادة الإسرائيلية الكاملة على المدينة، وتتجاهل المرجعية الدولية والقرارات ذات الصلة المتعلقة بالقدس الشرقية واعتبارها أراضي محتلة يجب الجلاء عنها وفق بنود القرار 242، والقرارات اللاحقة التي أكدت بأنه لا شرعية لكل عمليات الاستيطان، وأن القدس أرض فلسطينية عربية محتلة.
أخيرا وحتى تصبح قرارات قمة سرت على مستوى التحدي ولو بحدوده الدنيا، وحتى نرد الاعتبار لمأساة القدس ونكبة مقدساتها الإسلامية والمسيحية، وفي مقدمتها نكبة المسجد الأقصى المبارك، فإن الفلسطينيين في المدينة المقدسة وعموم فلسطين صامدون، ينتظرون الترجمة العملية لقرارات القمة بالنسبة للمدينة المقدسة، وينتظرون تفعيل صندوقها الخاص.
فيما يقع على عاتق كل القيادات الروحية الإسلامية والمسيحية في العالم الإسلامي والعربي، وكذلك القيادات السياسية، المبادرة لقرع الأجراس من جديد، عسى أن تتوالد التحركات الجدية العملية والملموسة في الوقت الأخير الخطير الذي تعيشه المدينة المقدس.
فكل من يتغنى بعروبة القدس عليه أن يفعل شيئا من أجل هذه العروبة، فالحفاظ على عروبة القدس لا يحتاج إلى خطابات ولايحتاج إلى استنكار وشجب، بل يحتاج عملا ميدانيا على الأرض لدعم صمود وبقاء المقدسيين فوق أرضهم، وإسناد مؤسساتهم بالدعم المادي الملموس والمباشر.
المصدر: الجزيرة
تعليقات
إرسال تعليق