محمد الوقيدي
- 1 -
نريد أن نبدأ هذا الحديث بعقد الصلة بينه وبين مجموعة من الأبحاث السابقة التي تناولنا فيها بالدرس مسألة الديمقراطية بصفة عامة. وقصدنا من هذه الخطوة المنهجية أن يتخذ بحثنا هذا موقعه الطبيعي ضمن مجموعة الأبحاث التي يتابع مسعاها. ففي هذا الإطار سيفهم معنى دعوتنا في الوقت الحاضر إلى التفكير في الموضوع في إطار ما دعوناه بنقد الديمقراطية.
طرحنا الديمقراطية في السابق لا بوصفها تنظيما سياسيا للمجتمع، بل بوصفها بعدا أساسيا من أبعاده، وهذا طرح يجعل التنظيم الديمقراطي السياسي للمجتمع، جزءا من تنظيم آخر أشمل منه لا يقتصر على الحياة السياسية ويعم، بدلا من ذلك، كل مظاهر الحياة المجتمعية. وأخذ الديمقراطية على أنها بعد من أبعاد المجتمع التي تهم حياته اليومية معناه النظر إليها من حيث هي تعايش بين مكونات المجتمع بكل مستوياتها، وبين مؤسسات المجتمع بكل وظائفها.
نرى من الملائم أن نعرض بإيجاز لبعض النتائج التي توصلنا إليها في السابق والتي تسمح في نظرنا بفهم معنى النقد الذي ندعو له الآن، علما منا بأن العنوان الذي وضعناه لبحثنا الحالي قد يوحي بالسير في طرق أخرى غير الطريق الذي نريد السير فيه.
لقد نظرنا إلى البعد الديمقراطي بوصفه من أهم أبعاد المجتمع مثبتين أن لحضوره وغيابه على السواء تأثيرا واضحا على صيرورة المجتمع.
ونظرنا إلى البعد الديمقراطي بوصفه بعدا يضفي صبغة إنسانية على حياة المجتمع ويجعلها ممكنة في إطار من التعايش والتضامن بين الأفراد والكفاءات، وبين مكونات المجتمع المختلفة إثنيا ولغويا وعقائديا وإيديولوجيا.
واعتبرنا البعد الديمقراطي صيغة لتعاقد مجتمعي دون أن نميل إلى القول بتعاقد تام ونهائي، بل بقولنا بعقد مجتمعي متجدد.
دفعنا كل ما سبق ذكره إلى اعتبار مظاهر حضور الديمقراطية أو غيابها معيارا على وضع كل مجتمع بالنسبة لذاته، من جهة، حيث يكون التوازن بين مكوناته هو ما ينتج عن الديمقراطية ويدل على وجودها ويكون غيابها دلالة على فقدان التوازن؛ ثم إن حضور الديمقراطية في مجتمع ما يكون كذلك معيارا على سير المجتمع في الطريق الذي يسم عصرنا، علما بأن ما وصل إليه المجتمع الإنساني في زمننا هذا جاء تطورا لتحولات دامت قرونا.
صارت الديمقراطية في عصرنا ضرورية لا غنى عنها، واختيارا لا مفر منه، فهي معيار صلاحية الاختيارات الأخرى على صعيد السياسة والاجتماع والاقتصاد. إنها ما يمنح هذه الاختيارات الأخرى جميعها بعدها الإنساني.
رأينا لكي نصل إلى هذا المعنى الأكثر سعة وعمقا في نظرنا أن الديمقراطية كانت علامة من علامات العصر لأنها بدت للمحللين لأشكال النظم المجتمعية والسياسية أفضل السبل لتحقيق التوازن المطلوب في كل مجتمع. ويظهر الدور الإيجابي للبعد الديمقراطي بصورة أوضح في المجتمعات ذات المكونات المختلفة من حيث أصولها الإثنية وجذورها الثقافية، وكذلك في المجتمعات التي تكون مكوناتها الإنسانية مختلفة من حيث اعتقاداها الدينية والإيديولوجية. فغياب البعد الديمقراطي في مجتمعات مثل هذه من شأنه أن يجعل الطريق مفتوحا نحو صراعات لا يبدو أن لها نهاية. ومن شأن الابتعاد عن الاختيار الديمقراطي أن يعوق النمو الطبيعي الذي يقود نحو أهداف التقدم والسلم. فسلام المجتمع داخليا يكمن في هذا التوازن الذي يضمنه حضور البعد الديمقراطي فيه. وإذا كنا نقول بأن البعد الديمقراطي للمجتمع يضمن توازنه، فإن هذا لا يعني أبدا أن ذلك البعد يلغي في المجتمع كل أنواع الصراع، بل إن الغاية منه هي عقلنة تلك الصراعات بين المكونات المختلفة وجعل التنوع مصدر تأثير إيجابي بالنسبة لحركية الحياة فيه. فالديمقراطي هي الانطلاق من تنوع واختلاف مقبولين، وهي كذلك الاتجاه نحو انسجام يضمن الحرية والاختلاف ولا يتأسس على قمعهما. الديمقراطية هي الوسيلة الفعالة لكي تتعايش الأصول المختلفة، وتتعايش التصورات والعقائد المتباينة، وهذا معناه دفع الاختلاف في الاتجاه الذي لا يكون فيه متوحشا، ودفع الصراع لكي لا يكون عرقلة للنمو المجتمعي المتوازن الذي يشمل كل مكونات المجتمع.
كل هذا الذي ذكرناه، في الواقع، هو ما دفعنا إلى اعتبار الديمقراطية بعدا إنسانيا في كل مجتمع يأخذ بتعاليمها وينتظم حسب مقتضياتها. ذلك أن الديمقراطية هي الشرط المجتمعي الذي يفتح الباب أمام تطور يستوعب كل طاقات المجتمع وفئاته، كما يستوعب كل كفاءاته، وأما غياب البعد الديمقراطي للمجتمع، فإن ما يؤدي إليه هو التنافي وتبادل الإقصاء بين مكوناته، وهو كذلك ضياع الكفاءات وهدر الطاقات، ولهذا رأينا في حضور الديمقراطية شرطا للنمو الطبيعي الذي يستثمر كل إمكانات المجتمع المادية والبشرية، ورأينا في غيابها الشرط المعيق لذلك النمو.
كان البعد الإنساني للديمقراطية يعني، بالنسبة لتوجه تحليلنا لهذا النظام المجتمعي والسياسي، أن هذا النظام يسمح أكثر من غيره بالسير في الطريق الذي يجعل قيمة الإنسان أعلى مما عداها، ويجعل الحياة الإنسانية أكثر وعيا بنضجها الذي تحقق لها عبر تطورات وتناقضات وصراعات، وأكثر إلحاحا على طلب المزيد من هذا النضج الذي تكون به القيمة الإنسانية المتصورة معادلة لذاتها وهي متجسدة في مؤسسات تعمل على حفاظها وفي وقائع يومية تدل على استمرار اعتبار القيمة الأعلى(1).
- 2 -
كان التذكير بالمعطيات السالفة الذكر محاولة لتأطير فكرة نقد الديمقراطية لكي تأخذ هذه الفكرة مكانها الطبيعي ضمن مجموعة من التصورات التي تعبر عن الديمقراطية بوصفها مطلبا من أجل توازن كل مجتمع تسود فيه. فنقد الديمقراطية بالنسبة إلينا تفكير يندمج ضمن طلب الديمقراطية ذاته، ولا يندرج أبدا ضمن رغبة في السير في طريق تجاوز الديمقراطية، لأن هذا التجاوز لا يكون إلا في طريق رفع تناقضات هذا النظام المجتمعي السياسي ذاته، لأنه يظل رغم تناقضاته التي قد يصل إليها المحللون أفضل الممكنات بالنسبة لنظام يمكن أن يضمن توازن المجتمع. لن يؤدي النقد، الذي نريد لهذه الدراسة أن تكون بداية له ووضعا لبرنامج عمل للسير في طريقه، سوى إلى الديمقراطية ذاتها في صيغة حضور أفضل لها ودينامية أقوى لشروطها في إطار التعايش بين كل مكونات المجتمع ومؤسساته وطاقاته وكفاءاته البشرية. يتعلق الأمر، إذن، بنقد داخلي، وهذا منهج يسير بموضوعه في نفس اتجاهه الذي كان فيه لأنه عامل يؤثر فيه لكي يحافظ على اتجاهه. النقد الذي نقصده هنا للديمقراطية يقصد الحفاظ عليها كمكسب عرفه تطور المجتمعات الإنسانية، كما يقصد أن يجد المزيد من التطوير للبعد الإنساني للديمقراطية. ليس القصد من النقد الذي ندعو له أن تتراجع إلى الوراء لكي نبحث عن أصول، أو لكي نجد للنظم الديمقراطية الحالية أسلافا في نظم سياسة سابقة، إذ ليس ما يهمنا هنا هو اللفظ ذاته بل الواقع الذي أصبح هذا اللفظ يشير إليه منذ ماض ليس بالبعيد، إذا ما نظرنا إليه في ضوء التاريخ الطويل للنظم السياسية والمجتمعي والاقتصادية التي عرفتها الإنسانية. نعتبر أن التراجع إلى الوراء للبحث عن أصول جزء من النقد بمعناه العام، من حيث إنه ينطلق من الواقع الراهن للبحث عن أشكال أولية لما هو ماثل في الوقت الحاضر أمام الملاحظ، ومن حيث إن هذه الأشكال الأولية قد تفيد في إلقاء الضوء على الوضع الحاضر للديمقراطية بوصفه تطورا عنها. ومع هذا، فإننا نقول إن معنى النقد الذي نقصده هو الذي ينطلق من الحاضر إلى المستقبل، وليس من الحاضر إلى الماضي بحثا عن تفسير. والنقد الذي يتجه إلى المستقبل لا يقصد التفسير بل يقصد التجاوز.
فكرة النقد الداخلي التي نقصدها هنا منبثقة، في الواقع، من النتائج التي استخلصناها من جملة الدراسات التي سبقت لنا في الموضوع، والتي اكتفينا حينئذ بالتلميح لها. فدراستنا هذه منطلق جديد لتناول تلك القضايا التي سبق لنا ملاحظتها دون الوقوف عندها بالصورة التي تستحقها. كان هدفنا في السابق هو أن ندلل على ضرورة الديمقراطية باعتبارها أفضل الممكنات للسير بالمجتمع نحو واقع أكثر إنسانية، فكان تصورنا للديمقراطية حينئذ يبدو وكأنه واقع بدون إشكال أو واقع يقبل الاتجاه إلى أمام دون أن تظهر فيه تناقضات أو تظهر في صيرورته عوائق.
الفكرة المدخل التي انبثقت لدينا في التفكير في الديمقراطية هي النظر إلى هذا النظام المجتمعي والسياسي بوصفه مثالا مطلوبا لكل المجتمعات الإنسانية. لا ننظر أبدا إلى الديمقراطية على أنها واقع متجسد في جهة ما من العالم، وعلى أنه ليس لجهات العالم الأخرى سوى أن تسعى إلى اتباع هذا النموذج المتحقق بالسعي إلى اكتساب خصائصه. فالديمقراطية نتاج لتطور في تصور النظام المجتمعي، ولكنها هي ذاتها واقع متطور قابل لتحولات مستمرة يكون السعي فيها تنظيم العلاقات داخل المجتمع بالكيفية التي تسمح بالتعايش بين مكوناته الإثنية والثقافية والمؤسساتية.
حين نقول بأن الديمقراطية نتاج لتاريخ، فإن هذا الأمر يعني لدينا أن هناك خطوات مرت قبل الوصول إلى المرحلة الحالية، أي قبل الأشكال التي تظهر عليها النظم السياسية والمجتمعية الراهنة الموسومة بكونها ديمقراطية. ويطرح هذا الأمر، بطبيعة الحال، مسألة الصفة النموذجية لتلك الخطوات التي تحققت في التاريخ وللواقع الناتج عن التطورات السابقة. ويصبح الأمر عندئذ بالصيغة التالية: إن إنجاز الديمقراطية هي العودة إلى النموذج الذي تحقق والبحث في الشروط التي تحقق بفضلها، ثم محاولة القيام بإنجاز جديد لتلك الشروط.
لكن، حين نقول بأن النقد الذي ندعو إليه للديمقراطية هو توجه بها إلى المستقبل، فإن ذلك يعني لدينا أن تاريخ الديمقراطية لن ينحصر في نموذج متحقق، بل سيشمل أيضا ما سيكون على الجهد الإنساني الساعي إلى إنجاز نظام أفضل وأكثر توازنا أن يحققه. وهكذا، فإن التاريخ المطلوب من الديمقراطية الآن لا ينحصر في الماضي الذي تشكلت خصائصها كنظام بفضله، بل إنه أيضا التاريخ المقبل الذي ستصنعه الإنسانية في ظل تطوير الديمقراطية ذاتها.
يبدو من خلال ما قلناه سابقا أننا نطرح إشكالا بالنسبة للديمقراطية تظهر به لا بوصفها تاريخا منتهيا، بل تاريخا يستأنف باستمرار من جديد. فالديمقراطية حسب هذا التصور الذي بلورناه توازن يتجه باستمرار نحو توازن أفضل.
هذا التصور الذي ينطلق من اعتبار الديمقراطية مثالا غير مكتمل التحقيق يطرح على من يفكر في هذا النظام المجتمعي والسياسي عددا من الأسئلة. وأول هذه الأسئلة قيمة النموذج بالنسبة للتفكير في هذا النمط من التنظيم المجتمعي والسياسي الذي ندعوه بالديمقراطية. فهل النموذج المتحقق الموصوف بكونه ديمقراطية ضرورة لا مناص من اتباعها؟ إذا كان الجواب عن هذا السؤال بالإيجاب، فإن هذا سيعني أن ما بين البلدان التي يقوم فيها نظام ديمقراطي والبلدان التي لا يوجد بها هذا النظام فرقا لا يتعدى تأخرا تاريخيا، وأن البلدان اللاديمقراطية يمكنها أن تسير في نفس خط التطور الذي سارت فيه البلدان الديمقراطية لكي تصل إلى إقامة هذا النظام المجتمعي والسياسي الذي أصبح مطلوبا في عصرنا بوصفه علامة من علامات الانتماء إلى هذا العصر. لكن الأمر في نظرنا أعقد من هذا الوصف الخطي المستقيم لتطور الديمقراطية في أنحاء العالم، وتفاوت حضور هذا النظام المجتمعي والسياسي في مجتمعات متباينة من حيث خلفياتها التاريخية ومن حيث التطورات التي عرفتها في مستويات مختلفة من حياتها، وبخاصة من تطور الحياة السياسية فيها، فالأمر لا يتعلق بنموذج ينبغي اتباعه لأن هذا النموذج غير قابل للاستعادة بنفس شروطه التي تكون بها في البلدان التي نحكم اليوم بأن نظام الحكم فيها ديمقراطي. ومن جهة أخرى، فإن ما نراه اليوم من أشكال متعددة في مظاهرها للأنظمة المجتمعية والسياسية الموصوفة بأنها ديمقراطية جاءت نتيجة لتطورات متنوعة. فالديمقراطية في عالم اليوم تطورت عبر أزمنة طويلة وانبثقت من تجارب متنوعة حسب كل بلاد أو منطقة أو جهة، حسب كل تقليد سياسي ومجتمعي كانت متابعة له أو كانت، على العكس من ذلك، سيرا في الاتجاه المضاد له. ولذلك، فإن ما نعنيه بالديمقراطية اليوم هو مزيج من مفاهيم تطورت لدى اليونانيين والرومانيين، ثم خلال العصر الوسيط وعصر النهضة(2).
هكذا، إذن، فإنه إن صح الحديث عن نموذج بصدد الديمقراطية لم يعن ذلك لدينا أن النموذج ثابت وأن المهمة في الحاضر بالنسبة للبلاد التي تسعى إلى إقرار النظام الديمقراطي على اتباعه. فلسنا أمام نموذج جاد نتيجة لتحولات ثم أصبح واقعا مستمرا، بل إننا أمام نموذج ما يزال في تحولات مستمرة يتطور عبر نقد أضداده كما يتطور عبر النقد الذاتي لمكوناته.
إذا كانت الديمقراطية واقعا له تاريخ، فإن هذا التاريخ الذي نستطيع أن نفترض له بداية معينة منذ وضع الكلمة ذاتها لم ينته بعد، نحن أمام تاريخ مازال يجدد بداياته بالبحث في أشكال أكثر ضبطا وأكثر استجابة لما يمكن أن ندعوه بالمجتمع الديمقراطي. أكثر من ذلك، فإننا حين ننبه إلى المضمون الذي تعبر عنه كلمة ديمقراطية ولا نقف عند الكلمة ذاتها فحسب، ننتبه إلى أن الديمقراطية واقع ناتج عن أشكال مختلفة من التطور. فما دام الأمر يتعلق بنوع من الحكم يشرك الأغلبية بدل أن يكون قائما على رأي الأقلية، ويروم التشاور بدل أن يكون قائما على الاستبداد بالرأي، فإن البدايات يمكن أن تكون مختلفة لهذا النظام المجتمعي والسياسي، وذلك تبعا للتاريخ الذي يمكن أن تكون قد مرت منه كل حضارة أو كل أمة أو جماعة بشرية. هذا التاريخ المختلف هو الذي يوجد نوعا من الالتباس في مفهوم الديمقراطية، بل وفي الواقع الذي يدل عليه هذا المفهوم ذاته. فإن أشكالا مختلفة من النظم المجتمعية والسياسية تنسب ذاتها رغم اختلاف مظاهرها إلى النظام الديمقراطي، بل وإنها تجعل من نفسها أفضل تجسيد له، فمما لاشك فيه أن الديمقراطية مطلب في المجتمعات المعاصر تقاس به مظاهر ملاءمتها للعصر. غير أن هذا الأمر جعل الديمقراطية مفهوما شائعا تنسب لذاتها أنظمة مجتمعية وسياسية متباينة، بل وحتى الذين يعارضون الديمقراطية في مجتمعاتهم ويقيمون بديلا عنها نظما سياسية أخرى معارضة لتعاليمها أو يرضون بمثل هذه النظم قد يصرحون بأن النظم التي يقيمونها طريق أفضل للوصول إلى الديمقراطية ذاتها، أو يعتبرونها مرحلة من مراحل بلوغها. فتأجيل الديمقراطية لعدم نضج الشروط الملائمة لها، هو أحد أشكال الاعتراض عليها دون ادعاء معارضتها، أو هو الشكل الأكثر تعبيرا عن الاعتراض عليها دون ادعاء رفضها رفضا حاسما(3).
هناك جانب آخر قد يربك التفكير في الديمقراطية ويجعل دعاتها أنفسهم يواجهون بالنقد أنظمة تدعيها صفة لها، ونقصد بذلك أن التوسع الكوني في هذا النظام المجتمعي والسياسي قد جعل صفة الديمقراطية شائعة الاستخدام، وهو ما يؤدي إلى نتيجة عكسية. وكما يقول أحد الباحثين في هذا المجال فإن العبارة التي تعني أي شيء لا تدل على شيء. وهكذا بات الأمر يتعلق بالديمقراطية التي لا تمثل في يومنا هذا عبارة ذات معنى خاص ومحدد بقدر ما هي امتداد مبهم لمفهوم شعبي(4).
نرى، إذن، هذه النتيجة التي توصلنا إليها بوصفها منبثقة عن هذا الطريق الذي اتخذناه والذي دعوناه بنقد الديمقراطية. فقد كانت الفكرة المدخل بالنسبة إلينا هي اعتبار الديمقراطية مثالا تضعه الإنسانية أمامها، وتجتهد باستمرار لبلوغ درجة أفضل منه باعتباره توازنا للمجتمع، أو الشرط الأسمى الذي يتلازم وجوده مع التوازن المجتمعي، وهذا الاعتبار الذي توصلنا إليه، والذي يمكن أن تنبني عليه نتائج أخرى، يجعل تاريخ الديمقراطية منفتحا على مستقبل متجدد، وذلك ضد كل تصور يجعل منها نموذجا مطلقا وثابتا ويجعل من تاريخها تاريخا منتهيا عند هذا النموذج.
تظهر لدينا، إذن، فكرة معارضة لتلك التي صرح بها المفكر المعاصر فرنسيس فوكوياما حين قال بنهاية التاريخ. نعلم أن فوكوياما لا يقصد نهاية فعلية لتاريخ الإنسانية، بل يعني نهاية تاريخ معني. فما كان يهمه ليس هو التاريخ الذي تتعاقب فيه الأحداث لأن هذا التاريخ لن ينتهي عند نقطة بعينها نستطيع تحديدها. فالتاريخ الذي حكم فوكوياما بنهايته هو هذه السيرورة البسيطية والمترابطة التي تأخذ بعين الاعتبار تجربة كل الشعوب في الوقت ذاته. والواقع، فإن النهاية التي يتحدث عنها فوكوياما للتاريخ هي في الوقت ذاته بداية جديدة له. لابد من أن نثبت لفوكوياما أن نهاية التاريخ عنده كانت تعني، فضلا عن التوضيع السابق، شكلا وحيدا من الدولة هو الذي سيسود العالم منذ اليوم، وهو الذي سيكون الإطار الموحد الذي ستتعاقب فيه أحداث التاريخ في جميع الأمم، وذلك لأن تاريخ الصراع بين نظام المجتمع الذي تشكله هذه الدولة وبين أي نظام يناقضه قد انتهى لصالح هذا النظام الذي هو الدولة الديمقراطية الليبرالية(5).
ليس فوكوياما وحده من يقول، مع ذلك، بفكرة نهاية التاريخ عند هذا الشكل من الدولة. فهو نفسه يصرح بأنه استوحاها من فيلسوفين سابقين هما هيغل وماركس. فقد تصور هيغل وماركس بعده أن التاريخ الإنساني، منذ البدايات الأولى للمجتمعات الإنسانية إلى اليوم، سلسلة متماسكة من الوقائع والأحداث والتطورات التي أدت إلى الانتقال من المجتمع العشائري إلى المجتمع الحديث. لكن هيغل وماركس بعده لم يتصورا التاريخ مستمرا في تطوراته وتناقضاته إلى ما لا نهاية، بل قال كل منهما بنهاية التاريخ عندما تقود تطوراته نحو تشكيل مجتمع يلبي فيه الإنسان رغباته العميقة والأساسية. غير أن هيغل وماركس اختلفا في تصور الشكل الذي يكون بالنسبة إليهما نهاية تاريخ تطور أشكال النظام المجتمعي، إذ قال هيغل بأنه الدولة الليبرالية وقال ماركس بأنه المجتمع الشيوعي.
يستلهم فوكوياما كلا من هيغل وماركس، ولكنه يختلف عنهما نسبيا في التصور الذي يصل إليه عن نهاية التاريخ. فهو يقول بأن نهاية التاريخ تتمثل في الشكل الذي استطاع أن يفرض ذاته اليوم في عدد كبير من المجتمعات، وبصفة خاصة في المجتمعات التي لها دور حاسم في التطور الحاصل في عالمنا. فالشكل الأخير لتطور نظام المجتمع في ما نجده اليوم في أكبر دول العالم، أي الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما نجده كذلك في الدول الأساسية في أوربا، وهو الذي تسعى كثير من البلدان في أمريكا وأوربا وخارج هاتين القارتين إلى إقراره كنظام مجتمعي لها، لقد أدت الأزمات التي عرفتها الأنظمة الأخرى إلى نهايتها ليبقى النظام الوحيد القابل للاستمرار بلا نهاية هو الدولة الليبرالية الديمقراطية. كشفت أشكال الأزمات عن مظاهر ضعف في الأشكال الأخرى من النظام المجتمعي والسياسي، فقادت هذه الأزمات إلى انهيارها. ولكن هذا الأمر لا ينطبق على النظام الذي تمثله الدولة الليبرالية الديمقراطية التي تمثل نهاية التاريخ الخاص بأشكال تنظيم المجتمع، إذ هي الشكل الذي يبدو قادرا باستمرار على مواجهة كل أشكال الأزمات التي لم تستطع الأنظمة الأخرى الصمود في طريقها(6).
عبرنا في محاولة سابقة خصصناها للتعليق على كتاب فوكوياما والفكرة الأساسية التي يتضمنها عن نهاية التاريخ عن عدم اتفاقنا التام مع هذه الفكرة. وإذا كنا قد أبرزنا المعنى الخاص الذي يؤكد فيه فوكوياما على فكرته عن نهاية التاريخ، حيث لا يعني ذلك توقف التاريخ الإنساني واتصافه بالسكونية، بل يعني فحسب أن اتجاهه لن يكون من الآن فصاعدا إلا في إطار الدولة الليبرالية الديمقراطية. فالمسائل الكبرى تم حلها، في نظر فوكوياما، بقيام هذه الدولة. فنهاية التاريخ مرتبطة لديه بالقول باتجاه الديكتاتورية والشمولية نحو الأفول، وهي أيضا التطورات التي سمحت بألاّ يظل أمام الإنسانية إلا اختيار واحد هو الدولة الليبرالية الديمقراطية. لقد صار انتصار هذا الشكل من الدولة نهائيا. ولم يعد هناك إمكان للتراجع في مسيرة التاريخ التي لن تعرف تطورات إلا في إطار هذا الشكل الأخير من النظام المجتمعي، فالسير دائما يكون إلى الأمام. وكل مجتمع لا يسير نحو هذا التطور سيواجه أكثر فأكثر التناقضات التي تقوده بالضرورة نحو السير في طريق بناء الدولة الليبرالية الديمقراطية، أي أن كل مجتمع سيسير بالضرورة نحو نهاية التاريخ الخاصة به بوصوله إلى تنظيم ذاته وفق معيار العصر المتمثل في التنظيم المجتمعي السالف الذكر.
ننطلق في مواجهتنا لهذه الفكرة من تأطيرها المعرفي فنقول إن الحكم الذي يطلقه فوكوياما على التاريخ فيحكم بنهايته عند شكل معين من الدولة ليس هو التاريخ الواقعي نفسه، بل يتعلق الأمر، كما نرى، بتأويل لهذا التاريخ الواقعي. فهذا التأطير الذي يساعدنا على الفصل بين الواقع والتأويل، أي بين الموضوعي والذاتي، يسمح لنا بأن نضع فكرة فوكوياما في إطارها الموضوعي، ويسمح لنا كذلك بإمكان مناقشتها.
هكذا، فإنه مع أخذنا بعين الاعتبار للصفة المجازية لقول فوكوياما، ومع اعتبارنا أن ما يقوله لا يهدف إلى الوقوف عند نقطة تعتبر نهاية للوقائع التاريخية، فإننا نرى أن الموقع الذي حكم منه بنهاية التاريخ عند الدولة الليبرالية الديمقراطية قول قابل للنقاش.
الحكم بنهاية التاريخ، كما يقدمه فوكوياما، لا يخلو من صياغة إيديولوجية، أي أنه يهم هذا الباحث كذات عارفة مؤولة لتاريخ، وكذات ترمز إلى الكيان الجماعي الذي تنتمي إليه وتفكر في الواقع انطلاقا من تصورات. وهكذا، فإن فهم حدود فكرة فوكوياما يكون بالرجوع إلى تأطيرها بالنظام المرجعي الذي انبثقت من داخله ووفق شروط تفكيره وإنتاجه لتصوراته(7).
ما ندعو إليه، إذن، هو فهم فكرة فوكوياما في سياقها، ثم الانطلاق بصدد منقاشتها من مقتضيات سياق آخر هو الشرط الحضاري الراهن الذي تحيا ضمنه مجموعة البدان العربية والإسلامية، وبصفة عامة كل البلدان التي توجد خارج أوربا وشمال أمريكا، والتي يوضع عليها الاختيار الديمقراطي في شروط جديدة وتبعا لمقتضيات ليست مطابقة بالضرورة للمقتضيات التي عرفت التطور الذي أشار إليه فوكوياما.
ما كان يهمنا من فكرة فوكوياما عن نهاية التاريخ ليس هو هذه الفكرة في حد ذاتها وفي صيغتها العامة، بل هو الجانب الذي تهم منه موضوعنا المتعلق بنقد الديمقراطية. فالتاريخ ينتهي عند فوكوياما، كما رأينا ذلك، في المجتمعات التي يكون نظامها السياسي هو الدولة الليبرالية الديمقراطية. ونجد أنفسنا في معارضة هذه الفكرة لأن لها بالنسبة إلينا دلالتين تتعارضان مع المنطق الذي بدأنا منه، أي النظر إلى الديمقراطية باعتبارها مثالا تسعى الإنسانية باستمرار إلى إنجازه في صورة أفضل فأفضل.
الدلالة الأولى التي نعارضها من هذه الوجهة من النظر هي أن الديمقراطية تغدو ضمن التصور الذي نناقشه ذات تاريخ يسير في خط مستقيم تكون له دائما نفس النهاية، أو تكون له بتعبير آخر نفس الغاية المتمثلة في شكل واحد من النظام المجتمعي والسياسي. وهذا يعني أنه مهما يكن تنوع وقائع تاريخ المجتمعات والأمم والحضارات، فإنها تبلغ دائما نفس النهاية. وهكذا، فقد يكون التاريخ الذي يبدأ مختلفا، ولكنه يعود إلى الاتفاق عند الوصول إلى غايته أو نهايته. فالدولة الليبرالية الديمقراطية هي النهاية التي تنتهي إليها كل البدايات المختلفة للتاريخ، وتقود إليها كل التطورات المتنوعة للمجتمعات والحضارات. أما ما نراه في معارضة هذه الفكرة فهو أن التجارب التي مرت منها المجتمعات في تنظيمها السياسي مختلفة، والتاريخ الذي عرفته متباين، وهو ما قاد إلى وجود أشكال مختلفة من التنظيم المجتمعي والسياسي التي يرى كل واحد منها أنه يستحق أن يُنعت بكونه ديمقراطيا، فتاريخ المجتمعات الإنسانية لم يسر في الخط المستقيم الذي رسمه فوكوياما.
الدلالة الثانية التي نعارضها تتعلق بدورها بسير التاريخ في خط مستقيم، ولكن عندما يتعلق الأمر بالمستقبل. وذلك أنه بعد الانتهاء إلى شكل الدولة الليبرالية الديمقراطية لن يكون هناك إلا تطور وحيد داخل هذا النظام المجتمعي نفسه، ولن تكون هناك إلا تناقضات داخل هذا النظام. وهذا ما عبر عنه فوكوياما بالقول إن انتصار النظام الليبرالي الديمقراطي صار نهائيا ولا مجال فيه للتراجع. والواقع أننا نرى القول بنهاية التاريخ مع شكل الدولة الليبرالية الديمقراطية حكم قيمة لا حكم واقع، كما نرى أن التنبؤ بأن المستقبل لن يكون إلا طريقا وحيدا حكما تتعلق قيمته بحكم القيمة الذي يصدر عنه.
هكذا، فإذا كنا ندعو إلى ممارسة تفكير نقدي في الديمقراطية، فإن من بين الاتجاهات التي نرى أن على هذا الفكر أن يسير فيها البحث في الأشكال المختلفة للنظم المجتمعية والسياسية التي تقدم نفسها اليوم بكونها نظما ديمقراطية، وذلك للبحث في التطورات التي قادت إلى كل واحد منها، والبحث في صلاحية كل واحد منها بالنسبة لما يمكن أن نتصور أنه نظام ديمقراطي حق. فهذا البحث هو الذي سيمكننا من الجواب عن السؤال المتعلق بوحدة النظام الديمقراطي من حيث شكله أو بإمكان تعدد أشكاله وعدم حصر الصلاحية في نظام واحد منها.
هكذا، فإننا نرى أن هذه الكيفية من النظر يمكن أن تُدمج البحث في الأصول وفي التاريخ الخاص بكل مجتمع أو أمة أو حضارة في إطار ما دعوناه بنقد الديمقراطية. فلابد من البحث في التطورات والمراحل. والإشكالات التي عرفها كل مجتمع ناتجة عن تطورات كانت بدورها مختلفة في مراحلها ومظاهرها. فالأمر لا يتعلق بتطور خطي ومستقيم يتخذ شكلا واحدا بالنسبة لكل المجتمعات. ديمقراطية اليوم ناتجة عن تنوع، وهي في مظاهرها متنوعة، ونرى أنها في المستقبل لن تكون إلا كذلك، والنقد يعني في هذه الحالة البحث في هذا النظام السياسي والمجتمعي بالكيفية التي يظهر بها متنوعا في تاريخه ومتنوعا في واقعه الحاضر.
- 3 -
نعود الآن إلى فكرتنا التي اعتبرناها مدخلا لما دعوناه بنقد الديمقراطية، وذلك للانطلاق من هذه الفكرة بوصفها برنامج عمل للبحث في هذا النظام المجتمعي والسياسي. ونرى، في هذا المستوى، أن ما يمكن تناوله بالدراسة في ضوء برنامج العمل هذا جوانب كثيرة، كما أن الأسئلة التي تُطرح على البحث في هذا الاتجاه متعددة ومتنوعة في الوقت ذاته.
يعني اعتبار الديمقراطية مثالا أنها واقع تسعى الإنسانية إلى بلوغه، وأن ما تحقق منها في واقع فئة من المجتمعات وتصفه بها كنظام مجتمعي وسياسي لا يعني الحضور المكتمل الذي لم يعد أمام الإنسانية سوى أن تسير في طريقه، كما أن شكلها الحالي، وليكن هو الليبرالية الديمقراطية مادامت هي الشكل السائد، ليس الاختيار الوحيد أمام إنسانية المستقبل. وهذا ما دفعنا في محاولتنا السابقة التي ناقشنا فيها فكرة فوكوياما عن نهاية التاريخ إلى القول بأن هناك تاريخا لم ينته بعد وهناك تاريخ آخر لم يبدأ بعد. وهذا هو معنى دعوتنا إلى أن نفكر في الموضوع من خلال نظام مرجعي آخر لنتمكن من فهم دلالة المستويين اللذين أشرنا إليهما أعلاه. فما فكر فيه فوكوياما هو تاريخ بلغت فيه الإنسانية من التطور ما سمح له بأن يتصور أن هذا التاريخ قد انتهى لبلوغه نقطة لن يتطور بعد ذلك إلا في توجهها. ولم يكن بإمكانه أن ينطلق من التاريخ الذي لم ينته لأنه لم يبدأ بعد، وهو تاريخ البلدان التي لم يتجه تطورها بعد نو الديمقراطية(8).
إننا ننتمي إلى جهة من العالم تود فيها الديمقراطية في وضعية المهمة التي ينبغي أن تقع البداية في إنجازها لا في وضعية قابلة لأن نعتبر بأنها الدرجة الأقصى لتطورات تاريخية سابقة. البُعد الديمقراطي في البلاد العربية ما يزال في حاجة إلى إنجاز، وشروطه ذاتها ما تزال موضع جدال وفي سبيل التحقق. وبما أن الديمقراطية ما تزال مطلبا أكثر منها واقعا في البلدان التي توجد خارج أوربا وأمريكا، وحيث إننا جزء من هذه البلدان، فإننا نقول إن هذه البلدان في حاجة إلى إعادة توجهها التاريخي لكي تبدأ فيها التطورات التي ستقودها نحو شروط النظام المجتمعي والسياسي الذي يمكن أن نصفه بأنه ديمقراطي. إن هذه البلدان توجد الآن، مادام المطلب الديمقراطي قائما فيها، في حالة يمكن أن ندعوها ما قبل الديمقراطية. إنها فترة تهيئ، ولكن دون أن تكون الشروط القائمة فيها قد بلغت بالناس هذا النظام المجتمعي والسياسي المطلوب من أجل توازنها. وأسئلة هذا الوضع كثيرة ومتنوعة قد تصل إلى حد طرح السؤال حول طبيعة النظام الديمقراطي ذاته. وحيث إن فكرة نقد الديمقراطية التي عبرنا عنها هنا ليست بالنسبة إلينا إلا برنامج عمل، وحيث إنها ليست إلا فكرة نلج بها جملة من الأسئلة، فإننا نقول إن أسئلتنا قادمة لا حاضرة حضورا كليا في دراستنا الحالية. ومن هذه الأسئلة: هل النظام الديمقراطي هو حلم الأغلبية، وكيف يتم تشكيل هذه الأغلبية منها؟ هل هناك مساهمات مختلفة للفئات المجتمعية المكونة للمجتمع، وما هو دور كل منها؟ ما دور الشروط السياسية والاقتصادية في بناء الديمقراطية؟ ما هو الوضع الحالي لعلاقة الثقافة والفئات التي تشتغل بها بشروط مجتمع تغيب فيه الديمقراطية أو يكون التطور نحوها عسيرا وبطيئا؟ ما هو دور الفئات الثقافية في بناء الديمقراطية بوصفها مطلبا مجتمعيا؟ تلك نماذج من الأسئلة القادمة، وهي الأسئلة التي ستؤطر فكرة نقد الديمقراطية توجهنا في الإجابة عنها.
نرى من الملائم في نهاية هذا البحث عن نشير إلى أن نقد الديمقراطية في البلدان التي يكون هذا النظام المجتمعي والسياسي ما يزال مطلبا فيها يكون نقدا ذا مهمات تختلف عن البلدان التي تكون قد قطعت أشواطا في إنجاز شروط هذا النظام. فهناك، في نظرنا، فرق بين نقد يبحث عن نقائض في رقامة النظام الديمقراطي ويسعى إلى تجاوزها، الشروط الأولوية لهذا النظام. هناك فرق بالنسبة للذات التي تفكر في إطار النقد بين الحالة ما قبل الديمقراطية وبين حالة التطور في إطار النظام الديمقراطي. ولذلك، فإن المجهود النقدي بالنسبة لمفكري البلدان التي توجد في حالة تأخر تاريخي بالنسبة لإقرار النظام الديمقراطي يكون مضاعفا. فمن جهة أولى ينبغي الانتباه إلى حالة ما قبل الديمقراطية ومواجهة الاعتراضات القائمة ضد التطور في سبيل بلوغ هذا النظام ذاته، ولكن الأمر يتعلق، من جهة أخرى، بالانتباه إلى التحولات الناتجة عن تطور ذلك النظام ذاته، وهي التحولات التي ترتبط بتطورات مجتمعية واقتصادية وسياسية، ولكنها ترتبط أيضا بالنقد المستمر، فالنقد لا يساهم في تأسيس الديمقراطية فحسب، ولكنه يساهم في تطويرها. يؤدب هذا النقد المضاعف المطلوب إلى بذل مجهود أكبر يفكر في الديمقراطية في مستويات متعددة في الوقت ذاته(9).
هوامش:
1) قصدنا هنا ما نشرناه من دراسات ضمن كتابنا: البعد الديمقراطي، دار الطليعة، بيروت، 1997.
2) راجع روبرت دال، الديمقراطية ونقادها، ترجمة نمير عباس مظفر، دار الفارس للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، 1995، ص13.
3) راجع الفصل الأول من كتابنا السالف الذكر، البعد الديمقراطي وهو تحت عنوان: البعد الديمقراطي بين الرغبة والإرجاء، نفس المعطيات السابقة.
4) راجع روبرت دال، الديمقراطية ونقادها، نفس المعطيات السابقة، ص12-13.
6) نفس المرجع السابق، نفس المعطيات، ص44.
7) راجع مقالنا: التاريخ الذي لم ينته بعد والتاريخ الذي لم يبدأ بعد، مجلة فكر ونقد، الرباط، مارس 1998.
8) راجع مقالنا: التاريخ الذي لم ينته بعد والتاريخ الذي لم يبدأ بعد، نفس المعطيات السابقة.
9) راجع كتاب علي أومليل: مواقف الفكر العربي من التغيرات الدولية، الديمقراطية والعولمة، منتدى الفكر العربي، 1998، ويثير هذا الكتاب قضايا سنعود إليها لاحقا.
المصدر مجلة مدارات فلسفية
- 1 -
نريد أن نبدأ هذا الحديث بعقد الصلة بينه وبين مجموعة من الأبحاث السابقة التي تناولنا فيها بالدرس مسألة الديمقراطية بصفة عامة. وقصدنا من هذه الخطوة المنهجية أن يتخذ بحثنا هذا موقعه الطبيعي ضمن مجموعة الأبحاث التي يتابع مسعاها. ففي هذا الإطار سيفهم معنى دعوتنا في الوقت الحاضر إلى التفكير في الموضوع في إطار ما دعوناه بنقد الديمقراطية.
طرحنا الديمقراطية في السابق لا بوصفها تنظيما سياسيا للمجتمع، بل بوصفها بعدا أساسيا من أبعاده، وهذا طرح يجعل التنظيم الديمقراطي السياسي للمجتمع، جزءا من تنظيم آخر أشمل منه لا يقتصر على الحياة السياسية ويعم، بدلا من ذلك، كل مظاهر الحياة المجتمعية. وأخذ الديمقراطية على أنها بعد من أبعاد المجتمع التي تهم حياته اليومية معناه النظر إليها من حيث هي تعايش بين مكونات المجتمع بكل مستوياتها، وبين مؤسسات المجتمع بكل وظائفها.
نرى من الملائم أن نعرض بإيجاز لبعض النتائج التي توصلنا إليها في السابق والتي تسمح في نظرنا بفهم معنى النقد الذي ندعو له الآن، علما منا بأن العنوان الذي وضعناه لبحثنا الحالي قد يوحي بالسير في طرق أخرى غير الطريق الذي نريد السير فيه.
لقد نظرنا إلى البعد الديمقراطي بوصفه من أهم أبعاد المجتمع مثبتين أن لحضوره وغيابه على السواء تأثيرا واضحا على صيرورة المجتمع.
ونظرنا إلى البعد الديمقراطي بوصفه بعدا يضفي صبغة إنسانية على حياة المجتمع ويجعلها ممكنة في إطار من التعايش والتضامن بين الأفراد والكفاءات، وبين مكونات المجتمع المختلفة إثنيا ولغويا وعقائديا وإيديولوجيا.
واعتبرنا البعد الديمقراطي صيغة لتعاقد مجتمعي دون أن نميل إلى القول بتعاقد تام ونهائي، بل بقولنا بعقد مجتمعي متجدد.
دفعنا كل ما سبق ذكره إلى اعتبار مظاهر حضور الديمقراطية أو غيابها معيارا على وضع كل مجتمع بالنسبة لذاته، من جهة، حيث يكون التوازن بين مكوناته هو ما ينتج عن الديمقراطية ويدل على وجودها ويكون غيابها دلالة على فقدان التوازن؛ ثم إن حضور الديمقراطية في مجتمع ما يكون كذلك معيارا على سير المجتمع في الطريق الذي يسم عصرنا، علما بأن ما وصل إليه المجتمع الإنساني في زمننا هذا جاء تطورا لتحولات دامت قرونا.
صارت الديمقراطية في عصرنا ضرورية لا غنى عنها، واختيارا لا مفر منه، فهي معيار صلاحية الاختيارات الأخرى على صعيد السياسة والاجتماع والاقتصاد. إنها ما يمنح هذه الاختيارات الأخرى جميعها بعدها الإنساني.
رأينا لكي نصل إلى هذا المعنى الأكثر سعة وعمقا في نظرنا أن الديمقراطية كانت علامة من علامات العصر لأنها بدت للمحللين لأشكال النظم المجتمعية والسياسية أفضل السبل لتحقيق التوازن المطلوب في كل مجتمع. ويظهر الدور الإيجابي للبعد الديمقراطي بصورة أوضح في المجتمعات ذات المكونات المختلفة من حيث أصولها الإثنية وجذورها الثقافية، وكذلك في المجتمعات التي تكون مكوناتها الإنسانية مختلفة من حيث اعتقاداها الدينية والإيديولوجية. فغياب البعد الديمقراطي في مجتمعات مثل هذه من شأنه أن يجعل الطريق مفتوحا نحو صراعات لا يبدو أن لها نهاية. ومن شأن الابتعاد عن الاختيار الديمقراطي أن يعوق النمو الطبيعي الذي يقود نحو أهداف التقدم والسلم. فسلام المجتمع داخليا يكمن في هذا التوازن الذي يضمنه حضور البعد الديمقراطي فيه. وإذا كنا نقول بأن البعد الديمقراطي للمجتمع يضمن توازنه، فإن هذا لا يعني أبدا أن ذلك البعد يلغي في المجتمع كل أنواع الصراع، بل إن الغاية منه هي عقلنة تلك الصراعات بين المكونات المختلفة وجعل التنوع مصدر تأثير إيجابي بالنسبة لحركية الحياة فيه. فالديمقراطي هي الانطلاق من تنوع واختلاف مقبولين، وهي كذلك الاتجاه نحو انسجام يضمن الحرية والاختلاف ولا يتأسس على قمعهما. الديمقراطية هي الوسيلة الفعالة لكي تتعايش الأصول المختلفة، وتتعايش التصورات والعقائد المتباينة، وهذا معناه دفع الاختلاف في الاتجاه الذي لا يكون فيه متوحشا، ودفع الصراع لكي لا يكون عرقلة للنمو المجتمعي المتوازن الذي يشمل كل مكونات المجتمع.
كل هذا الذي ذكرناه، في الواقع، هو ما دفعنا إلى اعتبار الديمقراطية بعدا إنسانيا في كل مجتمع يأخذ بتعاليمها وينتظم حسب مقتضياتها. ذلك أن الديمقراطية هي الشرط المجتمعي الذي يفتح الباب أمام تطور يستوعب كل طاقات المجتمع وفئاته، كما يستوعب كل كفاءاته، وأما غياب البعد الديمقراطي للمجتمع، فإن ما يؤدي إليه هو التنافي وتبادل الإقصاء بين مكوناته، وهو كذلك ضياع الكفاءات وهدر الطاقات، ولهذا رأينا في حضور الديمقراطية شرطا للنمو الطبيعي الذي يستثمر كل إمكانات المجتمع المادية والبشرية، ورأينا في غيابها الشرط المعيق لذلك النمو.
كان البعد الإنساني للديمقراطية يعني، بالنسبة لتوجه تحليلنا لهذا النظام المجتمعي والسياسي، أن هذا النظام يسمح أكثر من غيره بالسير في الطريق الذي يجعل قيمة الإنسان أعلى مما عداها، ويجعل الحياة الإنسانية أكثر وعيا بنضجها الذي تحقق لها عبر تطورات وتناقضات وصراعات، وأكثر إلحاحا على طلب المزيد من هذا النضج الذي تكون به القيمة الإنسانية المتصورة معادلة لذاتها وهي متجسدة في مؤسسات تعمل على حفاظها وفي وقائع يومية تدل على استمرار اعتبار القيمة الأعلى(1).
- 2 -
كان التذكير بالمعطيات السالفة الذكر محاولة لتأطير فكرة نقد الديمقراطية لكي تأخذ هذه الفكرة مكانها الطبيعي ضمن مجموعة من التصورات التي تعبر عن الديمقراطية بوصفها مطلبا من أجل توازن كل مجتمع تسود فيه. فنقد الديمقراطية بالنسبة إلينا تفكير يندمج ضمن طلب الديمقراطية ذاته، ولا يندرج أبدا ضمن رغبة في السير في طريق تجاوز الديمقراطية، لأن هذا التجاوز لا يكون إلا في طريق رفع تناقضات هذا النظام المجتمعي السياسي ذاته، لأنه يظل رغم تناقضاته التي قد يصل إليها المحللون أفضل الممكنات بالنسبة لنظام يمكن أن يضمن توازن المجتمع. لن يؤدي النقد، الذي نريد لهذه الدراسة أن تكون بداية له ووضعا لبرنامج عمل للسير في طريقه، سوى إلى الديمقراطية ذاتها في صيغة حضور أفضل لها ودينامية أقوى لشروطها في إطار التعايش بين كل مكونات المجتمع ومؤسساته وطاقاته وكفاءاته البشرية. يتعلق الأمر، إذن، بنقد داخلي، وهذا منهج يسير بموضوعه في نفس اتجاهه الذي كان فيه لأنه عامل يؤثر فيه لكي يحافظ على اتجاهه. النقد الذي نقصده هنا للديمقراطية يقصد الحفاظ عليها كمكسب عرفه تطور المجتمعات الإنسانية، كما يقصد أن يجد المزيد من التطوير للبعد الإنساني للديمقراطية. ليس القصد من النقد الذي ندعو له أن تتراجع إلى الوراء لكي نبحث عن أصول، أو لكي نجد للنظم الديمقراطية الحالية أسلافا في نظم سياسة سابقة، إذ ليس ما يهمنا هنا هو اللفظ ذاته بل الواقع الذي أصبح هذا اللفظ يشير إليه منذ ماض ليس بالبعيد، إذا ما نظرنا إليه في ضوء التاريخ الطويل للنظم السياسية والمجتمعي والاقتصادية التي عرفتها الإنسانية. نعتبر أن التراجع إلى الوراء للبحث عن أصول جزء من النقد بمعناه العام، من حيث إنه ينطلق من الواقع الراهن للبحث عن أشكال أولية لما هو ماثل في الوقت الحاضر أمام الملاحظ، ومن حيث إن هذه الأشكال الأولية قد تفيد في إلقاء الضوء على الوضع الحاضر للديمقراطية بوصفه تطورا عنها. ومع هذا، فإننا نقول إن معنى النقد الذي نقصده هو الذي ينطلق من الحاضر إلى المستقبل، وليس من الحاضر إلى الماضي بحثا عن تفسير. والنقد الذي يتجه إلى المستقبل لا يقصد التفسير بل يقصد التجاوز.
فكرة النقد الداخلي التي نقصدها هنا منبثقة، في الواقع، من النتائج التي استخلصناها من جملة الدراسات التي سبقت لنا في الموضوع، والتي اكتفينا حينئذ بالتلميح لها. فدراستنا هذه منطلق جديد لتناول تلك القضايا التي سبق لنا ملاحظتها دون الوقوف عندها بالصورة التي تستحقها. كان هدفنا في السابق هو أن ندلل على ضرورة الديمقراطية باعتبارها أفضل الممكنات للسير بالمجتمع نحو واقع أكثر إنسانية، فكان تصورنا للديمقراطية حينئذ يبدو وكأنه واقع بدون إشكال أو واقع يقبل الاتجاه إلى أمام دون أن تظهر فيه تناقضات أو تظهر في صيرورته عوائق.
الفكرة المدخل التي انبثقت لدينا في التفكير في الديمقراطية هي النظر إلى هذا النظام المجتمعي والسياسي بوصفه مثالا مطلوبا لكل المجتمعات الإنسانية. لا ننظر أبدا إلى الديمقراطية على أنها واقع متجسد في جهة ما من العالم، وعلى أنه ليس لجهات العالم الأخرى سوى أن تسعى إلى اتباع هذا النموذج المتحقق بالسعي إلى اكتساب خصائصه. فالديمقراطية نتاج لتطور في تصور النظام المجتمعي، ولكنها هي ذاتها واقع متطور قابل لتحولات مستمرة يكون السعي فيها تنظيم العلاقات داخل المجتمع بالكيفية التي تسمح بالتعايش بين مكوناته الإثنية والثقافية والمؤسساتية.
حين نقول بأن الديمقراطية نتاج لتاريخ، فإن هذا الأمر يعني لدينا أن هناك خطوات مرت قبل الوصول إلى المرحلة الحالية، أي قبل الأشكال التي تظهر عليها النظم السياسية والمجتمعية الراهنة الموسومة بكونها ديمقراطية. ويطرح هذا الأمر، بطبيعة الحال، مسألة الصفة النموذجية لتلك الخطوات التي تحققت في التاريخ وللواقع الناتج عن التطورات السابقة. ويصبح الأمر عندئذ بالصيغة التالية: إن إنجاز الديمقراطية هي العودة إلى النموذج الذي تحقق والبحث في الشروط التي تحقق بفضلها، ثم محاولة القيام بإنجاز جديد لتلك الشروط.
لكن، حين نقول بأن النقد الذي ندعو إليه للديمقراطية هو توجه بها إلى المستقبل، فإن ذلك يعني لدينا أن تاريخ الديمقراطية لن ينحصر في نموذج متحقق، بل سيشمل أيضا ما سيكون على الجهد الإنساني الساعي إلى إنجاز نظام أفضل وأكثر توازنا أن يحققه. وهكذا، فإن التاريخ المطلوب من الديمقراطية الآن لا ينحصر في الماضي الذي تشكلت خصائصها كنظام بفضله، بل إنه أيضا التاريخ المقبل الذي ستصنعه الإنسانية في ظل تطوير الديمقراطية ذاتها.
يبدو من خلال ما قلناه سابقا أننا نطرح إشكالا بالنسبة للديمقراطية تظهر به لا بوصفها تاريخا منتهيا، بل تاريخا يستأنف باستمرار من جديد. فالديمقراطية حسب هذا التصور الذي بلورناه توازن يتجه باستمرار نحو توازن أفضل.
هذا التصور الذي ينطلق من اعتبار الديمقراطية مثالا غير مكتمل التحقيق يطرح على من يفكر في هذا النظام المجتمعي والسياسي عددا من الأسئلة. وأول هذه الأسئلة قيمة النموذج بالنسبة للتفكير في هذا النمط من التنظيم المجتمعي والسياسي الذي ندعوه بالديمقراطية. فهل النموذج المتحقق الموصوف بكونه ديمقراطية ضرورة لا مناص من اتباعها؟ إذا كان الجواب عن هذا السؤال بالإيجاب، فإن هذا سيعني أن ما بين البلدان التي يقوم فيها نظام ديمقراطي والبلدان التي لا يوجد بها هذا النظام فرقا لا يتعدى تأخرا تاريخيا، وأن البلدان اللاديمقراطية يمكنها أن تسير في نفس خط التطور الذي سارت فيه البلدان الديمقراطية لكي تصل إلى إقامة هذا النظام المجتمعي والسياسي الذي أصبح مطلوبا في عصرنا بوصفه علامة من علامات الانتماء إلى هذا العصر. لكن الأمر في نظرنا أعقد من هذا الوصف الخطي المستقيم لتطور الديمقراطية في أنحاء العالم، وتفاوت حضور هذا النظام المجتمعي والسياسي في مجتمعات متباينة من حيث خلفياتها التاريخية ومن حيث التطورات التي عرفتها في مستويات مختلفة من حياتها، وبخاصة من تطور الحياة السياسية فيها، فالأمر لا يتعلق بنموذج ينبغي اتباعه لأن هذا النموذج غير قابل للاستعادة بنفس شروطه التي تكون بها في البلدان التي نحكم اليوم بأن نظام الحكم فيها ديمقراطي. ومن جهة أخرى، فإن ما نراه اليوم من أشكال متعددة في مظاهرها للأنظمة المجتمعية والسياسية الموصوفة بأنها ديمقراطية جاءت نتيجة لتطورات متنوعة. فالديمقراطية في عالم اليوم تطورت عبر أزمنة طويلة وانبثقت من تجارب متنوعة حسب كل بلاد أو منطقة أو جهة، حسب كل تقليد سياسي ومجتمعي كانت متابعة له أو كانت، على العكس من ذلك، سيرا في الاتجاه المضاد له. ولذلك، فإن ما نعنيه بالديمقراطية اليوم هو مزيج من مفاهيم تطورت لدى اليونانيين والرومانيين، ثم خلال العصر الوسيط وعصر النهضة(2).
هكذا، إذن، فإنه إن صح الحديث عن نموذج بصدد الديمقراطية لم يعن ذلك لدينا أن النموذج ثابت وأن المهمة في الحاضر بالنسبة للبلاد التي تسعى إلى إقرار النظام الديمقراطي على اتباعه. فلسنا أمام نموذج جاد نتيجة لتحولات ثم أصبح واقعا مستمرا، بل إننا أمام نموذج ما يزال في تحولات مستمرة يتطور عبر نقد أضداده كما يتطور عبر النقد الذاتي لمكوناته.
إذا كانت الديمقراطية واقعا له تاريخ، فإن هذا التاريخ الذي نستطيع أن نفترض له بداية معينة منذ وضع الكلمة ذاتها لم ينته بعد، نحن أمام تاريخ مازال يجدد بداياته بالبحث في أشكال أكثر ضبطا وأكثر استجابة لما يمكن أن ندعوه بالمجتمع الديمقراطي. أكثر من ذلك، فإننا حين ننبه إلى المضمون الذي تعبر عنه كلمة ديمقراطية ولا نقف عند الكلمة ذاتها فحسب، ننتبه إلى أن الديمقراطية واقع ناتج عن أشكال مختلفة من التطور. فما دام الأمر يتعلق بنوع من الحكم يشرك الأغلبية بدل أن يكون قائما على رأي الأقلية، ويروم التشاور بدل أن يكون قائما على الاستبداد بالرأي، فإن البدايات يمكن أن تكون مختلفة لهذا النظام المجتمعي والسياسي، وذلك تبعا للتاريخ الذي يمكن أن تكون قد مرت منه كل حضارة أو كل أمة أو جماعة بشرية. هذا التاريخ المختلف هو الذي يوجد نوعا من الالتباس في مفهوم الديمقراطية، بل وفي الواقع الذي يدل عليه هذا المفهوم ذاته. فإن أشكالا مختلفة من النظم المجتمعية والسياسية تنسب ذاتها رغم اختلاف مظاهرها إلى النظام الديمقراطي، بل وإنها تجعل من نفسها أفضل تجسيد له، فمما لاشك فيه أن الديمقراطية مطلب في المجتمعات المعاصر تقاس به مظاهر ملاءمتها للعصر. غير أن هذا الأمر جعل الديمقراطية مفهوما شائعا تنسب لذاتها أنظمة مجتمعية وسياسية متباينة، بل وحتى الذين يعارضون الديمقراطية في مجتمعاتهم ويقيمون بديلا عنها نظما سياسية أخرى معارضة لتعاليمها أو يرضون بمثل هذه النظم قد يصرحون بأن النظم التي يقيمونها طريق أفضل للوصول إلى الديمقراطية ذاتها، أو يعتبرونها مرحلة من مراحل بلوغها. فتأجيل الديمقراطية لعدم نضج الشروط الملائمة لها، هو أحد أشكال الاعتراض عليها دون ادعاء معارضتها، أو هو الشكل الأكثر تعبيرا عن الاعتراض عليها دون ادعاء رفضها رفضا حاسما(3).
هناك جانب آخر قد يربك التفكير في الديمقراطية ويجعل دعاتها أنفسهم يواجهون بالنقد أنظمة تدعيها صفة لها، ونقصد بذلك أن التوسع الكوني في هذا النظام المجتمعي والسياسي قد جعل صفة الديمقراطية شائعة الاستخدام، وهو ما يؤدي إلى نتيجة عكسية. وكما يقول أحد الباحثين في هذا المجال فإن العبارة التي تعني أي شيء لا تدل على شيء. وهكذا بات الأمر يتعلق بالديمقراطية التي لا تمثل في يومنا هذا عبارة ذات معنى خاص ومحدد بقدر ما هي امتداد مبهم لمفهوم شعبي(4).
نرى، إذن، هذه النتيجة التي توصلنا إليها بوصفها منبثقة عن هذا الطريق الذي اتخذناه والذي دعوناه بنقد الديمقراطية. فقد كانت الفكرة المدخل بالنسبة إلينا هي اعتبار الديمقراطية مثالا تضعه الإنسانية أمامها، وتجتهد باستمرار لبلوغ درجة أفضل منه باعتباره توازنا للمجتمع، أو الشرط الأسمى الذي يتلازم وجوده مع التوازن المجتمعي، وهذا الاعتبار الذي توصلنا إليه، والذي يمكن أن تنبني عليه نتائج أخرى، يجعل تاريخ الديمقراطية منفتحا على مستقبل متجدد، وذلك ضد كل تصور يجعل منها نموذجا مطلقا وثابتا ويجعل من تاريخها تاريخا منتهيا عند هذا النموذج.
تظهر لدينا، إذن، فكرة معارضة لتلك التي صرح بها المفكر المعاصر فرنسيس فوكوياما حين قال بنهاية التاريخ. نعلم أن فوكوياما لا يقصد نهاية فعلية لتاريخ الإنسانية، بل يعني نهاية تاريخ معني. فما كان يهمه ليس هو التاريخ الذي تتعاقب فيه الأحداث لأن هذا التاريخ لن ينتهي عند نقطة بعينها نستطيع تحديدها. فالتاريخ الذي حكم فوكوياما بنهايته هو هذه السيرورة البسيطية والمترابطة التي تأخذ بعين الاعتبار تجربة كل الشعوب في الوقت ذاته. والواقع، فإن النهاية التي يتحدث عنها فوكوياما للتاريخ هي في الوقت ذاته بداية جديدة له. لابد من أن نثبت لفوكوياما أن نهاية التاريخ عنده كانت تعني، فضلا عن التوضيع السابق، شكلا وحيدا من الدولة هو الذي سيسود العالم منذ اليوم، وهو الذي سيكون الإطار الموحد الذي ستتعاقب فيه أحداث التاريخ في جميع الأمم، وذلك لأن تاريخ الصراع بين نظام المجتمع الذي تشكله هذه الدولة وبين أي نظام يناقضه قد انتهى لصالح هذا النظام الذي هو الدولة الديمقراطية الليبرالية(5).
ليس فوكوياما وحده من يقول، مع ذلك، بفكرة نهاية التاريخ عند هذا الشكل من الدولة. فهو نفسه يصرح بأنه استوحاها من فيلسوفين سابقين هما هيغل وماركس. فقد تصور هيغل وماركس بعده أن التاريخ الإنساني، منذ البدايات الأولى للمجتمعات الإنسانية إلى اليوم، سلسلة متماسكة من الوقائع والأحداث والتطورات التي أدت إلى الانتقال من المجتمع العشائري إلى المجتمع الحديث. لكن هيغل وماركس بعده لم يتصورا التاريخ مستمرا في تطوراته وتناقضاته إلى ما لا نهاية، بل قال كل منهما بنهاية التاريخ عندما تقود تطوراته نحو تشكيل مجتمع يلبي فيه الإنسان رغباته العميقة والأساسية. غير أن هيغل وماركس اختلفا في تصور الشكل الذي يكون بالنسبة إليهما نهاية تاريخ تطور أشكال النظام المجتمعي، إذ قال هيغل بأنه الدولة الليبرالية وقال ماركس بأنه المجتمع الشيوعي.
يستلهم فوكوياما كلا من هيغل وماركس، ولكنه يختلف عنهما نسبيا في التصور الذي يصل إليه عن نهاية التاريخ. فهو يقول بأن نهاية التاريخ تتمثل في الشكل الذي استطاع أن يفرض ذاته اليوم في عدد كبير من المجتمعات، وبصفة خاصة في المجتمعات التي لها دور حاسم في التطور الحاصل في عالمنا. فالشكل الأخير لتطور نظام المجتمع في ما نجده اليوم في أكبر دول العالم، أي الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما نجده كذلك في الدول الأساسية في أوربا، وهو الذي تسعى كثير من البلدان في أمريكا وأوربا وخارج هاتين القارتين إلى إقراره كنظام مجتمعي لها، لقد أدت الأزمات التي عرفتها الأنظمة الأخرى إلى نهايتها ليبقى النظام الوحيد القابل للاستمرار بلا نهاية هو الدولة الليبرالية الديمقراطية. كشفت أشكال الأزمات عن مظاهر ضعف في الأشكال الأخرى من النظام المجتمعي والسياسي، فقادت هذه الأزمات إلى انهيارها. ولكن هذا الأمر لا ينطبق على النظام الذي تمثله الدولة الليبرالية الديمقراطية التي تمثل نهاية التاريخ الخاص بأشكال تنظيم المجتمع، إذ هي الشكل الذي يبدو قادرا باستمرار على مواجهة كل أشكال الأزمات التي لم تستطع الأنظمة الأخرى الصمود في طريقها(6).
عبرنا في محاولة سابقة خصصناها للتعليق على كتاب فوكوياما والفكرة الأساسية التي يتضمنها عن نهاية التاريخ عن عدم اتفاقنا التام مع هذه الفكرة. وإذا كنا قد أبرزنا المعنى الخاص الذي يؤكد فيه فوكوياما على فكرته عن نهاية التاريخ، حيث لا يعني ذلك توقف التاريخ الإنساني واتصافه بالسكونية، بل يعني فحسب أن اتجاهه لن يكون من الآن فصاعدا إلا في إطار الدولة الليبرالية الديمقراطية. فالمسائل الكبرى تم حلها، في نظر فوكوياما، بقيام هذه الدولة. فنهاية التاريخ مرتبطة لديه بالقول باتجاه الديكتاتورية والشمولية نحو الأفول، وهي أيضا التطورات التي سمحت بألاّ يظل أمام الإنسانية إلا اختيار واحد هو الدولة الليبرالية الديمقراطية. لقد صار انتصار هذا الشكل من الدولة نهائيا. ولم يعد هناك إمكان للتراجع في مسيرة التاريخ التي لن تعرف تطورات إلا في إطار هذا الشكل الأخير من النظام المجتمعي، فالسير دائما يكون إلى الأمام. وكل مجتمع لا يسير نحو هذا التطور سيواجه أكثر فأكثر التناقضات التي تقوده بالضرورة نحو السير في طريق بناء الدولة الليبرالية الديمقراطية، أي أن كل مجتمع سيسير بالضرورة نحو نهاية التاريخ الخاصة به بوصوله إلى تنظيم ذاته وفق معيار العصر المتمثل في التنظيم المجتمعي السالف الذكر.
ننطلق في مواجهتنا لهذه الفكرة من تأطيرها المعرفي فنقول إن الحكم الذي يطلقه فوكوياما على التاريخ فيحكم بنهايته عند شكل معين من الدولة ليس هو التاريخ الواقعي نفسه، بل يتعلق الأمر، كما نرى، بتأويل لهذا التاريخ الواقعي. فهذا التأطير الذي يساعدنا على الفصل بين الواقع والتأويل، أي بين الموضوعي والذاتي، يسمح لنا بأن نضع فكرة فوكوياما في إطارها الموضوعي، ويسمح لنا كذلك بإمكان مناقشتها.
هكذا، فإنه مع أخذنا بعين الاعتبار للصفة المجازية لقول فوكوياما، ومع اعتبارنا أن ما يقوله لا يهدف إلى الوقوف عند نقطة تعتبر نهاية للوقائع التاريخية، فإننا نرى أن الموقع الذي حكم منه بنهاية التاريخ عند الدولة الليبرالية الديمقراطية قول قابل للنقاش.
الحكم بنهاية التاريخ، كما يقدمه فوكوياما، لا يخلو من صياغة إيديولوجية، أي أنه يهم هذا الباحث كذات عارفة مؤولة لتاريخ، وكذات ترمز إلى الكيان الجماعي الذي تنتمي إليه وتفكر في الواقع انطلاقا من تصورات. وهكذا، فإن فهم حدود فكرة فوكوياما يكون بالرجوع إلى تأطيرها بالنظام المرجعي الذي انبثقت من داخله ووفق شروط تفكيره وإنتاجه لتصوراته(7).
ما ندعو إليه، إذن، هو فهم فكرة فوكوياما في سياقها، ثم الانطلاق بصدد منقاشتها من مقتضيات سياق آخر هو الشرط الحضاري الراهن الذي تحيا ضمنه مجموعة البدان العربية والإسلامية، وبصفة عامة كل البلدان التي توجد خارج أوربا وشمال أمريكا، والتي يوضع عليها الاختيار الديمقراطي في شروط جديدة وتبعا لمقتضيات ليست مطابقة بالضرورة للمقتضيات التي عرفت التطور الذي أشار إليه فوكوياما.
ما كان يهمنا من فكرة فوكوياما عن نهاية التاريخ ليس هو هذه الفكرة في حد ذاتها وفي صيغتها العامة، بل هو الجانب الذي تهم منه موضوعنا المتعلق بنقد الديمقراطية. فالتاريخ ينتهي عند فوكوياما، كما رأينا ذلك، في المجتمعات التي يكون نظامها السياسي هو الدولة الليبرالية الديمقراطية. ونجد أنفسنا في معارضة هذه الفكرة لأن لها بالنسبة إلينا دلالتين تتعارضان مع المنطق الذي بدأنا منه، أي النظر إلى الديمقراطية باعتبارها مثالا تسعى الإنسانية باستمرار إلى إنجازه في صورة أفضل فأفضل.
الدلالة الأولى التي نعارضها من هذه الوجهة من النظر هي أن الديمقراطية تغدو ضمن التصور الذي نناقشه ذات تاريخ يسير في خط مستقيم تكون له دائما نفس النهاية، أو تكون له بتعبير آخر نفس الغاية المتمثلة في شكل واحد من النظام المجتمعي والسياسي. وهذا يعني أنه مهما يكن تنوع وقائع تاريخ المجتمعات والأمم والحضارات، فإنها تبلغ دائما نفس النهاية. وهكذا، فقد يكون التاريخ الذي يبدأ مختلفا، ولكنه يعود إلى الاتفاق عند الوصول إلى غايته أو نهايته. فالدولة الليبرالية الديمقراطية هي النهاية التي تنتهي إليها كل البدايات المختلفة للتاريخ، وتقود إليها كل التطورات المتنوعة للمجتمعات والحضارات. أما ما نراه في معارضة هذه الفكرة فهو أن التجارب التي مرت منها المجتمعات في تنظيمها السياسي مختلفة، والتاريخ الذي عرفته متباين، وهو ما قاد إلى وجود أشكال مختلفة من التنظيم المجتمعي والسياسي التي يرى كل واحد منها أنه يستحق أن يُنعت بكونه ديمقراطيا، فتاريخ المجتمعات الإنسانية لم يسر في الخط المستقيم الذي رسمه فوكوياما.
الدلالة الثانية التي نعارضها تتعلق بدورها بسير التاريخ في خط مستقيم، ولكن عندما يتعلق الأمر بالمستقبل. وذلك أنه بعد الانتهاء إلى شكل الدولة الليبرالية الديمقراطية لن يكون هناك إلا تطور وحيد داخل هذا النظام المجتمعي نفسه، ولن تكون هناك إلا تناقضات داخل هذا النظام. وهذا ما عبر عنه فوكوياما بالقول إن انتصار النظام الليبرالي الديمقراطي صار نهائيا ولا مجال فيه للتراجع. والواقع أننا نرى القول بنهاية التاريخ مع شكل الدولة الليبرالية الديمقراطية حكم قيمة لا حكم واقع، كما نرى أن التنبؤ بأن المستقبل لن يكون إلا طريقا وحيدا حكما تتعلق قيمته بحكم القيمة الذي يصدر عنه.
هكذا، فإذا كنا ندعو إلى ممارسة تفكير نقدي في الديمقراطية، فإن من بين الاتجاهات التي نرى أن على هذا الفكر أن يسير فيها البحث في الأشكال المختلفة للنظم المجتمعية والسياسية التي تقدم نفسها اليوم بكونها نظما ديمقراطية، وذلك للبحث في التطورات التي قادت إلى كل واحد منها، والبحث في صلاحية كل واحد منها بالنسبة لما يمكن أن نتصور أنه نظام ديمقراطي حق. فهذا البحث هو الذي سيمكننا من الجواب عن السؤال المتعلق بوحدة النظام الديمقراطي من حيث شكله أو بإمكان تعدد أشكاله وعدم حصر الصلاحية في نظام واحد منها.
هكذا، فإننا نرى أن هذه الكيفية من النظر يمكن أن تُدمج البحث في الأصول وفي التاريخ الخاص بكل مجتمع أو أمة أو حضارة في إطار ما دعوناه بنقد الديمقراطية. فلابد من البحث في التطورات والمراحل. والإشكالات التي عرفها كل مجتمع ناتجة عن تطورات كانت بدورها مختلفة في مراحلها ومظاهرها. فالأمر لا يتعلق بتطور خطي ومستقيم يتخذ شكلا واحدا بالنسبة لكل المجتمعات. ديمقراطية اليوم ناتجة عن تنوع، وهي في مظاهرها متنوعة، ونرى أنها في المستقبل لن تكون إلا كذلك، والنقد يعني في هذه الحالة البحث في هذا النظام السياسي والمجتمعي بالكيفية التي يظهر بها متنوعا في تاريخه ومتنوعا في واقعه الحاضر.
- 3 -
نعود الآن إلى فكرتنا التي اعتبرناها مدخلا لما دعوناه بنقد الديمقراطية، وذلك للانطلاق من هذه الفكرة بوصفها برنامج عمل للبحث في هذا النظام المجتمعي والسياسي. ونرى، في هذا المستوى، أن ما يمكن تناوله بالدراسة في ضوء برنامج العمل هذا جوانب كثيرة، كما أن الأسئلة التي تُطرح على البحث في هذا الاتجاه متعددة ومتنوعة في الوقت ذاته.
يعني اعتبار الديمقراطية مثالا أنها واقع تسعى الإنسانية إلى بلوغه، وأن ما تحقق منها في واقع فئة من المجتمعات وتصفه بها كنظام مجتمعي وسياسي لا يعني الحضور المكتمل الذي لم يعد أمام الإنسانية سوى أن تسير في طريقه، كما أن شكلها الحالي، وليكن هو الليبرالية الديمقراطية مادامت هي الشكل السائد، ليس الاختيار الوحيد أمام إنسانية المستقبل. وهذا ما دفعنا في محاولتنا السابقة التي ناقشنا فيها فكرة فوكوياما عن نهاية التاريخ إلى القول بأن هناك تاريخا لم ينته بعد وهناك تاريخ آخر لم يبدأ بعد. وهذا هو معنى دعوتنا إلى أن نفكر في الموضوع من خلال نظام مرجعي آخر لنتمكن من فهم دلالة المستويين اللذين أشرنا إليهما أعلاه. فما فكر فيه فوكوياما هو تاريخ بلغت فيه الإنسانية من التطور ما سمح له بأن يتصور أن هذا التاريخ قد انتهى لبلوغه نقطة لن يتطور بعد ذلك إلا في توجهها. ولم يكن بإمكانه أن ينطلق من التاريخ الذي لم ينته لأنه لم يبدأ بعد، وهو تاريخ البلدان التي لم يتجه تطورها بعد نو الديمقراطية(8).
إننا ننتمي إلى جهة من العالم تود فيها الديمقراطية في وضعية المهمة التي ينبغي أن تقع البداية في إنجازها لا في وضعية قابلة لأن نعتبر بأنها الدرجة الأقصى لتطورات تاريخية سابقة. البُعد الديمقراطي في البلاد العربية ما يزال في حاجة إلى إنجاز، وشروطه ذاتها ما تزال موضع جدال وفي سبيل التحقق. وبما أن الديمقراطية ما تزال مطلبا أكثر منها واقعا في البلدان التي توجد خارج أوربا وأمريكا، وحيث إننا جزء من هذه البلدان، فإننا نقول إن هذه البلدان في حاجة إلى إعادة توجهها التاريخي لكي تبدأ فيها التطورات التي ستقودها نحو شروط النظام المجتمعي والسياسي الذي يمكن أن نصفه بأنه ديمقراطي. إن هذه البلدان توجد الآن، مادام المطلب الديمقراطي قائما فيها، في حالة يمكن أن ندعوها ما قبل الديمقراطية. إنها فترة تهيئ، ولكن دون أن تكون الشروط القائمة فيها قد بلغت بالناس هذا النظام المجتمعي والسياسي المطلوب من أجل توازنها. وأسئلة هذا الوضع كثيرة ومتنوعة قد تصل إلى حد طرح السؤال حول طبيعة النظام الديمقراطي ذاته. وحيث إن فكرة نقد الديمقراطية التي عبرنا عنها هنا ليست بالنسبة إلينا إلا برنامج عمل، وحيث إنها ليست إلا فكرة نلج بها جملة من الأسئلة، فإننا نقول إن أسئلتنا قادمة لا حاضرة حضورا كليا في دراستنا الحالية. ومن هذه الأسئلة: هل النظام الديمقراطي هو حلم الأغلبية، وكيف يتم تشكيل هذه الأغلبية منها؟ هل هناك مساهمات مختلفة للفئات المجتمعية المكونة للمجتمع، وما هو دور كل منها؟ ما دور الشروط السياسية والاقتصادية في بناء الديمقراطية؟ ما هو الوضع الحالي لعلاقة الثقافة والفئات التي تشتغل بها بشروط مجتمع تغيب فيه الديمقراطية أو يكون التطور نحوها عسيرا وبطيئا؟ ما هو دور الفئات الثقافية في بناء الديمقراطية بوصفها مطلبا مجتمعيا؟ تلك نماذج من الأسئلة القادمة، وهي الأسئلة التي ستؤطر فكرة نقد الديمقراطية توجهنا في الإجابة عنها.
نرى من الملائم في نهاية هذا البحث عن نشير إلى أن نقد الديمقراطية في البلدان التي يكون هذا النظام المجتمعي والسياسي ما يزال مطلبا فيها يكون نقدا ذا مهمات تختلف عن البلدان التي تكون قد قطعت أشواطا في إنجاز شروط هذا النظام. فهناك، في نظرنا، فرق بين نقد يبحث عن نقائض في رقامة النظام الديمقراطي ويسعى إلى تجاوزها، الشروط الأولوية لهذا النظام. هناك فرق بالنسبة للذات التي تفكر في إطار النقد بين الحالة ما قبل الديمقراطية وبين حالة التطور في إطار النظام الديمقراطي. ولذلك، فإن المجهود النقدي بالنسبة لمفكري البلدان التي توجد في حالة تأخر تاريخي بالنسبة لإقرار النظام الديمقراطي يكون مضاعفا. فمن جهة أولى ينبغي الانتباه إلى حالة ما قبل الديمقراطية ومواجهة الاعتراضات القائمة ضد التطور في سبيل بلوغ هذا النظام ذاته، ولكن الأمر يتعلق، من جهة أخرى، بالانتباه إلى التحولات الناتجة عن تطور ذلك النظام ذاته، وهي التحولات التي ترتبط بتطورات مجتمعية واقتصادية وسياسية، ولكنها ترتبط أيضا بالنقد المستمر، فالنقد لا يساهم في تأسيس الديمقراطية فحسب، ولكنه يساهم في تطويرها. يؤدب هذا النقد المضاعف المطلوب إلى بذل مجهود أكبر يفكر في الديمقراطية في مستويات متعددة في الوقت ذاته(9).
هوامش:
1) قصدنا هنا ما نشرناه من دراسات ضمن كتابنا: البعد الديمقراطي، دار الطليعة، بيروت، 1997.
2) راجع روبرت دال، الديمقراطية ونقادها، ترجمة نمير عباس مظفر، دار الفارس للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، 1995، ص13.
3) راجع الفصل الأول من كتابنا السالف الذكر، البعد الديمقراطي وهو تحت عنوان: البعد الديمقراطي بين الرغبة والإرجاء، نفس المعطيات السابقة.
4) راجع روبرت دال، الديمقراطية ونقادها، نفس المعطيات السابقة، ص12-13.
6) نفس المرجع السابق، نفس المعطيات، ص44.
7) راجع مقالنا: التاريخ الذي لم ينته بعد والتاريخ الذي لم يبدأ بعد، مجلة فكر ونقد، الرباط، مارس 1998.
8) راجع مقالنا: التاريخ الذي لم ينته بعد والتاريخ الذي لم يبدأ بعد، نفس المعطيات السابقة.
9) راجع كتاب علي أومليل: مواقف الفكر العربي من التغيرات الدولية، الديمقراطية والعولمة، منتدى الفكر العربي، 1998، ويثير هذا الكتاب قضايا سنعود إليها لاحقا.
المصدر مجلة مدارات فلسفية
تعليقات
إرسال تعليق