فيليب غولوب
ابتدأت حركة التمركز المديني منذ العصر النيوليتي، ولكنّها تسرّعت كموجة عارمة مع الثورة الصناعيّة: فأضحت المدينة رافعةً لإعادة هيكلة العلاقات الاجتماعيّة.
للمرّة الأولى في تاريخ البشرية، تجاوزت نسبة سكّان العالم المقيمين في المدن بين 2007 و2008 نسبة سكان المناطق الريفية. فقد بات 3.3 مليار نسمة يعيشون المدن، منهم 500 مليون في مدنٍ مترامية الأطراف mégapoles تضمّ الواحدة منها أكثر من 10 ملايين نفس، أو مدنٍ كبرى يعيش في الواحدة منها أكثر من خمسة ملايين. وبحسب توقعات الأمم المتحدة، سوف تزداد النسبة العالمية للتحضّر بصورة متعاظِمة في العقود القادمة، لتصِل إلى 59.7 في المئة عام 2030 والى 69.6 في المئة عام 2050؛ وسوف تشهد الحواضر القديمة والجديدة القسم الأساسي من النموّ الديموغرافي الآتي [1].
سيطال هذا التحوّل الكبير من باب أولى المناطق الفقيرة والصاعدة الأكثر كثافّةً سكانياً. أمّا البلدان الأكثر نمواً والتي تعيش نسقاً مدنياً مرتفعاً، فستشهد نمواً حضريّاً ضعيفاً، يرفع النسبة من 74 في المئة راهناً إلى 85 في المئة عند منتصف القرن الحالي؛ ما يوصل قدرة المدن على التوسّع إلى حدودها القصوى. تنطبق الملاحظة نفسها على أميركا اللاتينية، التي تشكّل استثناءً بين المناطق الصاعدة بفعل تحضّرها المبكِّر، ابتداءً من مطلع القرن العشرين. لكنّ النسق المدينيّ هناك يختلف عمّا شهدته البلدان الغنيّة.
أمّا إفريقيا وآسيا فستشهد - بل هي تشهد اليوم - انقلاباً في التوازنات، حيث سيبلغ عدد الأفارقة المقيمين في المدن 1.2 مليار نسمة عام 2050، أي نسبة 63 في المئة من السكان؛ بعد أن تضاعف عدد سكان الحواضر في هذه القارة عشر مرات بين 1950 واليوم، ليرتفع من 33 إلى 373 مليوناً. وفي حال آسيا، سيتضاعف عدد السكّان الحضر، المقدّر في منتصف القرن الماضي بـ237 مليون نسمة والبالغ اليوم 1.65 ملياراً تقريباً، بحيث سيبلغ 3.5 مليار نسمة عام 2050. هكذا سيعيش أكثر من نصف الهنود في المدن، ومثلهم ثلاثة أرباع الصينيين، وأربعة أخماس الإندونيسيين.
بالمختصر وتبعاً للعبارة الاستشرافية للمؤرخ لويس ممفورد [2]، فإن العالم كلّه "تحوّل إلى مدينةٍ" كبيرة، أو بالأحرى إلى كوكبة من الأقطاب المدينيّة الشاسِعة التي تشكل مراكز تقاطع في الحيّز الاقتصادي المعولم. فالتحضّر الواسع النطاق للمناطق الفقيرة والصاعدة يغيّر في العمق أنماط الحياة والنشاط الاقتصادي لدى قسمٍ كبير من البشر؛ وسيستمرّ في إظهار نتائجه بصورةٍ متسارعة. والظاهرة التي تنتُج عن موجات الهجرة وتتسبّب بتكثيفها في الوقت نفسه، تولّد تراتبيات اجتماعية جديدة، وتزيد من حركة التحوّلات في النظام البيئي الكوني عن طريق العامل البشري.
من أجل إدراك البعد الحقيقي لما يحدث، يجدر النظر إليه من وجهة نظرٍ تاريخيّة طويلة المدى. فقد ارتبط التحضّر الجماهيري الواسع ارتباطاً وثيقاً بظهور "عصر الإنسان" (anthropocène)، وهي العبارة التي ابتكرها عالم الطقس جيمس هانسن الذي أراد أن يبرهن أنّ الإنسان قد أضحى تقريباً قوّةً جيولوجيّة منذ بداية الثورة الصناعية. فبسبب الاستخدام المكثّف لمصادر الطاقة الأحفورية اللازمة لها، بدّلت هذه الثورة في العمق من طبيعة المسكن.
قبل هذه القطيعة، كانت الحياة الاقتصادية والاجتماعية تدور طوال آلاف السنين على إيقاع الاقتصادات التقليدية البطيء، حيث كانت القرى والمدن الأولى "تتعايش مع محيطها الطبيعي" [3]. كان للمجتمع بالطبع تأثيره المحلّي على الطبيعة، لكنّه لم يكُن من القوّة بحيث يضرب التوازنات الطبيعية. فبين الثورة الزراعية في العصر النيوليتي، التي فتحت الباب أمام التحضّر وتمركز السكّان، وبين القرن التاسع عشر، بقيت نسبة سكّان المدن في العالم محدودة. فوفقاً لتقديرات المؤرخ بول بايروخ، الذي رفع من التقديرات السابقة، فإنّ هذه النسبة كانت تتراوح، تبعاً للمناطق والحقبات الزمنية، بين 9 و14 في المئة [4].
شهدنا بالطبع تكوّن تجمعات سكنية كبيرة خلال تلك الفترة الطويلة ما قبل الصناعية، أمثال بابل وروما والقسطنطينية وبغداد وكسيان وبكين وهانغزو ونانكين، إلخ.. وقد شكّلت بعض هذه المدن قلب أمبراطوريّات واسعة، وقطنها عشرات، لا بل مئات الألوف. ففي حدود العام 1300، كانت بكّين تعدّ ما بين 500 و600 ألف نسمة [5]؛ كما عرفت أوروبا ما يسميها بايروخ "اندفاعة مدينيّة" في القرون الوسطى، مع تشكّل شبكةٍ من المدن التجارية والمدن-الدول التي يصل عدد سكّانها إلى 20 ألف نسمة وأكثر. لكن ذلك لم يغيّر جوهرياً في التوازن البيئي بين المدينة والريف، كما لم يبدّل في العمق العلاقات الاجتماعية.
المدينة هي عقدة الثورة الصناعية، تخلق الصلة بين رأس المال والعمل
في العام 1780، كان يمكن إحصاء ما يقلّ عن مئة مدينة تضمّ أكثر من 100 الف نسمة. ولم يكن بالتالي مُمكناً الكلام عن سيطرة مدينيّة في أوروبا أو غيرها. فإعادة الإنتاج الاجتماعية ما قبل الرأسمالية كانت ترتكِز في كلّ مكانٍ على الزراعة، وعلى القاعدة الريفية التي وفّرت الإطار العام لنشاط المجتمع.
فقط ابتداءً من الثورة الصناعية، تأكّدت "علاقة تعايش عضويّة جديدة بين التحضّر والتصنيع" [6]. فقد دفع التصنيع المتطلّب لتمركز العمل ورأس المال نحو إعادة هيكلة تقسيم العمل ونحو تحضّرٍ غير مسبوق. فسكّان المدن البريطانية الذين كانت نسبتهم المرتفعة قياساً على بلدانٍ أخرى عام 1750، تبلغ 20 في المئة، قد ارتقوا خلال قرنٍ ونصف إلى نسبة 80 في المئة. وفي المعدّل، تضاعفت عشر مرات نسبة التحضّر في المناطق الحديثة التصنيع (باستثناء اليابان) بين سنتي 1800 و1914، ليصل عديد أهل المدن إلى 212 مليوناً. وقد توافق هذا النمو المرتفع ثلاثة أضعاف عن معدّل النمو السكاني، مع متوسط معدّل للتحضّر ارتفع ما بين 10 و35 في المئة عام 1914. حينها استوعبت الصناعة نصف الوظائف المدينيّة تقريباً، بحيث تلازم هذا التطوّر مع ارتفاعٍ منتظم في الإنتاجيّة الزراعية. ولا يُفتَرَض بنا هنا التخفيف من تأثيرات العنف الناجم عن هذا التحوّل: والبرهان على ذلك هو ما عرفته ظروف معيشة وعمل الطبقة العاملة بين الصغار والبالغين من تردٍّ في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. لكن هذه الحركة اندرجت ضمن تطوّرٍ بطيءٍ في اتجاه ارتفاعٍ عام لمستويات المعيشة شهده القرن العشرين.
أمّا التجربة المدينيّة في مناطق العالم المستعمَرة فكانت مختلفة. إذ أنّ الثورة الصناعية التي تزاوجت مع التوسّع الإقليميّ للغرب، قد أرست في الوقت عينه تقسيماً دولياً جديداً للعمل، لعبت فيه التجارة على المسافات البعيدة والشبكات التجارية دوراً متزايد الأهميّة. وفي وصفه لتلك العولمة الأولى، كتب كارل ماركس في العام 1848: "تمّ استبدال (الصناعات القديمة) بصناعاتٍ جديدة (تستخدم) المواد الأولية المستقدَمة من مناطقٍ بعيدة، كما لا تستهلك منتجات هذه الصناعات في البلد نفسه بل في كافّة أنحاء المعمورة. ومكان الحاجات القديمة التي كانت تلبّيها المنتجات الوطنية، ولدت حاجات جديدة تتطلّب تلبيتها استحضار منتجاتٍ من مناطقٍ ومناخات بعيدة. وبدل العزلة السابقة لأقاليمٍ وأممٍ كانت مكتفية بذاتها، تطوّرت علاقات كونية وتبعيّة متبادلة بين الأمم" [7].
إلاّ أنّ هذه التبعية اللامتوازية، المبنية على علاقات غير متكافئة بين "المركز والأطراف"، تُعيد ترسيم حيّز واقتصاد المناطق المستعمَرة أو التابعة. حيث أدّى الإقحام القسري لهذه المناطق في السوق العالمية إلى تفكيك العُرى التقليدية بين المدينة والريف وإلى هدم الشبكات الاقتصادية الداخلية؛ في صالح إنتاج مواد أوليّة معدّة للتصدير كالقطن والسكّر والأفيون والحبوب والمعادن، الخ. وقد أدّت الشروط المفروضة ضمن العقود المركنتيلية التجارية الاستعمارية إلى تراجعٍ متفاوت بحسب المناطق للنشاطات الصناعية الناشئة في الهند والصين وغيرهما. فالهند التي كانت المُنتِج الأوّل للنسيج في العالم قبل العام 1750، قد شهدت بعد ذلك تراجعاً حادّاً في صناعاتها.
هكذا بقيت ظاهرة التحضّر ضعيفة نسبياً في العموم. لكنّ البنية الجديدة للمبادلات الدولية قد أفضت إلى تضخّم ديموغرافي في المدن الساحلية التي تحوّلت إلى مستودعات للمواد الأولية والمنتجات المعدّة للأسواق العالمية. ومن الشواهد على هذه الظاهرة ازدهار المناطق الساحلية في مناطق إفريقيا جنوب الصحراء على حساب "الداخل القاريّ"، وكذلك التنامي السكاني لكالكوتا أو مدراس مقابل تراجع مدن الداخل الهندي في منتصف القرن التاسع عشر، إضافةً إلى إعادة رسم دور المدن الساحلية في شمال إفريقيا في ظلّ الاستعمار الفرنسي.
انعدام توازن موروث من الحقبة الاستعماريّة ومدفوع بقوى السوق
عموماً، حصل التحضّر السريع لهذه المناطق العالمية في القرن العشرين، وخصوصاً في الحقبة المتسارِعة ابتداءً من 1950، دون تنميةٍ حقيقية، باستثناء المجمّعات المدينيّة الكبرى في البلدان الجديدة المتقدّمة في شرق آسيا (سيول، تايبه، سنغافورة، هونغ كونغ واليوم شنغهاي وبكين). وفي الأماكن الأخرى، تولّد التحضّر الفوضويّ للبلدان المستعمَرة سابقاً من اختلالٍ في التوازنات الاقتصادية والاجتماعية الموروثة غالباً عن بنى المرحلة الكولونيالية، زادت من حدّته عوامل السوق العالمية.
فكان من شأن تدفّق سكان الريف نحو المدن بدافع فقر مناطقهم أن شكّّل في كلٍّ من بلدان إفريقيا جنوب الصحراء وأميركا اللاتينية وآسيا الجنوبية تجمّعات مدينيّة ضخمة. وإزاء النموّ الديموغرافي والانتشار المكاني المتواصل، شهدت هذه التجمّعات بطالةً واسعة وقيام مدن صفيح وبنى تحتيّة متداعية ومشاكل بيئيّة خطيرة؛ كما حصل مثلاً في لاغوس وداكار ومكسيكو وكاراكاس وكالكوتا ودكّا وجاكارتا ومانيلاّ، حيث تتجاور جيوبٌ بالغة الثراء مع أخرى مدقِعة فقيرة، لنصبح على المستوى العالمي أمام "كوكبٍ من مدن الصفيح" [8].
بالطبع، وكما يبرهن ذلك جيّداً عالم الاجتماع مانويل كاستلز، فإنّ المراكز المدينيّة الكبرى في البلدان الغنية باتت ذات طبيعةٍ "ثنائية"، تضمّ "الجنوب" و"الشمال" ضمنها: فبفعل تراتبيّتها الاجتماعية الحادّة، يتمركز فيها حشدٌ من عمّال المهن الحقيرة والمهمّشين القادمين في الغالب من المستعمرَات السابقة [9]. بيد أن عدم المساواة الاجتماعية في المدن المسمّاة معولمة والتي تتمركز فيها الثروة والثقافة والمعارف والمهارات، أمثال نيويورك ولوس أنجلس ولندن وطوكيو، لا تقارن بتاتاً بتلك في التجمّعات المدينية المعولمة في "العالم الثالث".
من أجل إيجاد حلٍّ للمشكلة الاجتماعية الناجمة عن أحياء الصفيح في العصر الفيكتوري، تمّ تصوّر لامركزية مدينية من خلال تجمّعات أصغر حجماً وأكثر "قابليةً للعيش"
يُمَركز التحضّر المديني توتّرات وتناقضات التصنيع والعولمة ويعبّر عنها. هذا ما كان لاحظه هنري لوفيفر عندما كتب يقول: " إنّ المجتمع المديني هو معنى وغاية التصنيع، وهو يتشكّل في حين يبحث عن ذاته" [10]. فظاهرة التحضّر لا عودة عنها، وتطرح أسئلة أساسيّة عن قدرتنا على إنتاج الخدمات العامة، وخصوصاً التربية والثقافة والصحّة والبيئة الصحيّة لجميع السكان؛ وهذا شرطٌ أوّل لقيام تنميةٍ مستدامة تؤمّن الرفاه العام وبالتالي توسّع الحريات الفردية.
وقد أثار تكوّن المراكز الكبرى في البلدان الصناعية، نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، فيضاً من الأسئلة والأفكار. فمن أجل إيجاد حلٍّ للمشكلة الاجتماعية الناجمة عن أحياء الصفيح في العصر الفيكتوري، اقترح مهندسو المدن الإصلاحيين لامركزية مدينيّة من خلال بناء تجمعات أصغر حجماً وأكثر "قابليةً للعيش"، تسهّل إدارة الشؤون الواسعة؛ وهذا هو الاتجاه الذي تسلكه اليوم السلطات الوطنيّة والمحلية الصينية أو الهندية. وقد تخيّل ممفورد وغيره، في وقتٍ لاحق، تخفيف الاحتقان المديني من خلال تخطيط إقليميّ ومحليّ، يقوم على استغلال الموارد المحليّة وعلى شبكات تموينٍ قصيرة تهدف إلى إرساء توازنٍ بيئي (ما بات يسمّى "التنمية المستدامة" المدينيّة). لكن هذه الجهود النظريّة لم تصِل إلى خواتيمها.
ثمّ ازدهرت في سبعينات وثمانينات القرن الماضي فكرة التنمية المدينيّة "الجماعاتية"، أي سيطرة المواطنين على الحيّز الذي يعيشون فيه community design [11]. واليوم، ما تزال مطروحة كتحدٍّ رئيسي في هذا القرن مسألة تملّك المواطنين لمدينّتهم وشروط إنتاج الحيّزات المدينية.
* استاذ في جامعة باريس الثامنة وصحافي
[1] « World Urbanisation Prospects, the 2007 Revision Population Database », United Nations Population Division (UNPD), Department of Economic and Social Affairs ; http://esa.un.or/unup
[2] Lewis Mumford, The City in History : Its Origins, Its Transformations, and Its Prospects, Harcourt Brace International, New York, [1961] 1986.
[3] Mumford, op. cit.
[4] Paul Bairoch, De Jéricho à Mexico : villes et économie dans l’histoire, Gallimard, Paris, 1985.
[5] Tertius Chandler, Four Thousand Years of Urban Growth, Edwin Mellen, Lewiston, 1987.
[6] Edward W. Soja, Postmetropolis : Critical Studies of Cities and Regions, Blackwell, Oxford, 2000.
[7] Karl Marx & Friedrich Engels, Manifeste du Parti Communiste, Flammarion, Paris, 1999.
[8] Mike Davis, Planète bidonville, Ab Irato, Paris, 2005.
[9] Manuel Castells, The Informational City : Information, Technology, Economic Restructuring and the Urban-Regional Process, Blackwell, Cambridge, 1989, et Dual City : Restructuring New York, Russell Sage Foundation, New York, 1991.
[10] Rémi Hess, Henri Lefebvre et l’aventure du siècle, Métailié, Paris, 1988, p. 276.
[11] Peter Hall, Cities of Tomorrow, Blackwell, Oxford, 1996.
المصدر : لوموند ديبلوماتيك
ابتدأت حركة التمركز المديني منذ العصر النيوليتي، ولكنّها تسرّعت كموجة عارمة مع الثورة الصناعيّة: فأضحت المدينة رافعةً لإعادة هيكلة العلاقات الاجتماعيّة.
للمرّة الأولى في تاريخ البشرية، تجاوزت نسبة سكّان العالم المقيمين في المدن بين 2007 و2008 نسبة سكان المناطق الريفية. فقد بات 3.3 مليار نسمة يعيشون المدن، منهم 500 مليون في مدنٍ مترامية الأطراف mégapoles تضمّ الواحدة منها أكثر من 10 ملايين نفس، أو مدنٍ كبرى يعيش في الواحدة منها أكثر من خمسة ملايين. وبحسب توقعات الأمم المتحدة، سوف تزداد النسبة العالمية للتحضّر بصورة متعاظِمة في العقود القادمة، لتصِل إلى 59.7 في المئة عام 2030 والى 69.6 في المئة عام 2050؛ وسوف تشهد الحواضر القديمة والجديدة القسم الأساسي من النموّ الديموغرافي الآتي [1].
سيطال هذا التحوّل الكبير من باب أولى المناطق الفقيرة والصاعدة الأكثر كثافّةً سكانياً. أمّا البلدان الأكثر نمواً والتي تعيش نسقاً مدنياً مرتفعاً، فستشهد نمواً حضريّاً ضعيفاً، يرفع النسبة من 74 في المئة راهناً إلى 85 في المئة عند منتصف القرن الحالي؛ ما يوصل قدرة المدن على التوسّع إلى حدودها القصوى. تنطبق الملاحظة نفسها على أميركا اللاتينية، التي تشكّل استثناءً بين المناطق الصاعدة بفعل تحضّرها المبكِّر، ابتداءً من مطلع القرن العشرين. لكنّ النسق المدينيّ هناك يختلف عمّا شهدته البلدان الغنيّة.
أمّا إفريقيا وآسيا فستشهد - بل هي تشهد اليوم - انقلاباً في التوازنات، حيث سيبلغ عدد الأفارقة المقيمين في المدن 1.2 مليار نسمة عام 2050، أي نسبة 63 في المئة من السكان؛ بعد أن تضاعف عدد سكان الحواضر في هذه القارة عشر مرات بين 1950 واليوم، ليرتفع من 33 إلى 373 مليوناً. وفي حال آسيا، سيتضاعف عدد السكّان الحضر، المقدّر في منتصف القرن الماضي بـ237 مليون نسمة والبالغ اليوم 1.65 ملياراً تقريباً، بحيث سيبلغ 3.5 مليار نسمة عام 2050. هكذا سيعيش أكثر من نصف الهنود في المدن، ومثلهم ثلاثة أرباع الصينيين، وأربعة أخماس الإندونيسيين.
بالمختصر وتبعاً للعبارة الاستشرافية للمؤرخ لويس ممفورد [2]، فإن العالم كلّه "تحوّل إلى مدينةٍ" كبيرة، أو بالأحرى إلى كوكبة من الأقطاب المدينيّة الشاسِعة التي تشكل مراكز تقاطع في الحيّز الاقتصادي المعولم. فالتحضّر الواسع النطاق للمناطق الفقيرة والصاعدة يغيّر في العمق أنماط الحياة والنشاط الاقتصادي لدى قسمٍ كبير من البشر؛ وسيستمرّ في إظهار نتائجه بصورةٍ متسارعة. والظاهرة التي تنتُج عن موجات الهجرة وتتسبّب بتكثيفها في الوقت نفسه، تولّد تراتبيات اجتماعية جديدة، وتزيد من حركة التحوّلات في النظام البيئي الكوني عن طريق العامل البشري.
من أجل إدراك البعد الحقيقي لما يحدث، يجدر النظر إليه من وجهة نظرٍ تاريخيّة طويلة المدى. فقد ارتبط التحضّر الجماهيري الواسع ارتباطاً وثيقاً بظهور "عصر الإنسان" (anthropocène)، وهي العبارة التي ابتكرها عالم الطقس جيمس هانسن الذي أراد أن يبرهن أنّ الإنسان قد أضحى تقريباً قوّةً جيولوجيّة منذ بداية الثورة الصناعية. فبسبب الاستخدام المكثّف لمصادر الطاقة الأحفورية اللازمة لها، بدّلت هذه الثورة في العمق من طبيعة المسكن.
قبل هذه القطيعة، كانت الحياة الاقتصادية والاجتماعية تدور طوال آلاف السنين على إيقاع الاقتصادات التقليدية البطيء، حيث كانت القرى والمدن الأولى "تتعايش مع محيطها الطبيعي" [3]. كان للمجتمع بالطبع تأثيره المحلّي على الطبيعة، لكنّه لم يكُن من القوّة بحيث يضرب التوازنات الطبيعية. فبين الثورة الزراعية في العصر النيوليتي، التي فتحت الباب أمام التحضّر وتمركز السكّان، وبين القرن التاسع عشر، بقيت نسبة سكّان المدن في العالم محدودة. فوفقاً لتقديرات المؤرخ بول بايروخ، الذي رفع من التقديرات السابقة، فإنّ هذه النسبة كانت تتراوح، تبعاً للمناطق والحقبات الزمنية، بين 9 و14 في المئة [4].
شهدنا بالطبع تكوّن تجمعات سكنية كبيرة خلال تلك الفترة الطويلة ما قبل الصناعية، أمثال بابل وروما والقسطنطينية وبغداد وكسيان وبكين وهانغزو ونانكين، إلخ.. وقد شكّلت بعض هذه المدن قلب أمبراطوريّات واسعة، وقطنها عشرات، لا بل مئات الألوف. ففي حدود العام 1300، كانت بكّين تعدّ ما بين 500 و600 ألف نسمة [5]؛ كما عرفت أوروبا ما يسميها بايروخ "اندفاعة مدينيّة" في القرون الوسطى، مع تشكّل شبكةٍ من المدن التجارية والمدن-الدول التي يصل عدد سكّانها إلى 20 ألف نسمة وأكثر. لكن ذلك لم يغيّر جوهرياً في التوازن البيئي بين المدينة والريف، كما لم يبدّل في العمق العلاقات الاجتماعية.
المدينة هي عقدة الثورة الصناعية، تخلق الصلة بين رأس المال والعمل
في العام 1780، كان يمكن إحصاء ما يقلّ عن مئة مدينة تضمّ أكثر من 100 الف نسمة. ولم يكن بالتالي مُمكناً الكلام عن سيطرة مدينيّة في أوروبا أو غيرها. فإعادة الإنتاج الاجتماعية ما قبل الرأسمالية كانت ترتكِز في كلّ مكانٍ على الزراعة، وعلى القاعدة الريفية التي وفّرت الإطار العام لنشاط المجتمع.
فقط ابتداءً من الثورة الصناعية، تأكّدت "علاقة تعايش عضويّة جديدة بين التحضّر والتصنيع" [6]. فقد دفع التصنيع المتطلّب لتمركز العمل ورأس المال نحو إعادة هيكلة تقسيم العمل ونحو تحضّرٍ غير مسبوق. فسكّان المدن البريطانية الذين كانت نسبتهم المرتفعة قياساً على بلدانٍ أخرى عام 1750، تبلغ 20 في المئة، قد ارتقوا خلال قرنٍ ونصف إلى نسبة 80 في المئة. وفي المعدّل، تضاعفت عشر مرات نسبة التحضّر في المناطق الحديثة التصنيع (باستثناء اليابان) بين سنتي 1800 و1914، ليصل عديد أهل المدن إلى 212 مليوناً. وقد توافق هذا النمو المرتفع ثلاثة أضعاف عن معدّل النمو السكاني، مع متوسط معدّل للتحضّر ارتفع ما بين 10 و35 في المئة عام 1914. حينها استوعبت الصناعة نصف الوظائف المدينيّة تقريباً، بحيث تلازم هذا التطوّر مع ارتفاعٍ منتظم في الإنتاجيّة الزراعية. ولا يُفتَرَض بنا هنا التخفيف من تأثيرات العنف الناجم عن هذا التحوّل: والبرهان على ذلك هو ما عرفته ظروف معيشة وعمل الطبقة العاملة بين الصغار والبالغين من تردٍّ في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. لكن هذه الحركة اندرجت ضمن تطوّرٍ بطيءٍ في اتجاه ارتفاعٍ عام لمستويات المعيشة شهده القرن العشرين.
أمّا التجربة المدينيّة في مناطق العالم المستعمَرة فكانت مختلفة. إذ أنّ الثورة الصناعية التي تزاوجت مع التوسّع الإقليميّ للغرب، قد أرست في الوقت عينه تقسيماً دولياً جديداً للعمل، لعبت فيه التجارة على المسافات البعيدة والشبكات التجارية دوراً متزايد الأهميّة. وفي وصفه لتلك العولمة الأولى، كتب كارل ماركس في العام 1848: "تمّ استبدال (الصناعات القديمة) بصناعاتٍ جديدة (تستخدم) المواد الأولية المستقدَمة من مناطقٍ بعيدة، كما لا تستهلك منتجات هذه الصناعات في البلد نفسه بل في كافّة أنحاء المعمورة. ومكان الحاجات القديمة التي كانت تلبّيها المنتجات الوطنية، ولدت حاجات جديدة تتطلّب تلبيتها استحضار منتجاتٍ من مناطقٍ ومناخات بعيدة. وبدل العزلة السابقة لأقاليمٍ وأممٍ كانت مكتفية بذاتها، تطوّرت علاقات كونية وتبعيّة متبادلة بين الأمم" [7].
إلاّ أنّ هذه التبعية اللامتوازية، المبنية على علاقات غير متكافئة بين "المركز والأطراف"، تُعيد ترسيم حيّز واقتصاد المناطق المستعمَرة أو التابعة. حيث أدّى الإقحام القسري لهذه المناطق في السوق العالمية إلى تفكيك العُرى التقليدية بين المدينة والريف وإلى هدم الشبكات الاقتصادية الداخلية؛ في صالح إنتاج مواد أوليّة معدّة للتصدير كالقطن والسكّر والأفيون والحبوب والمعادن، الخ. وقد أدّت الشروط المفروضة ضمن العقود المركنتيلية التجارية الاستعمارية إلى تراجعٍ متفاوت بحسب المناطق للنشاطات الصناعية الناشئة في الهند والصين وغيرهما. فالهند التي كانت المُنتِج الأوّل للنسيج في العالم قبل العام 1750، قد شهدت بعد ذلك تراجعاً حادّاً في صناعاتها.
هكذا بقيت ظاهرة التحضّر ضعيفة نسبياً في العموم. لكنّ البنية الجديدة للمبادلات الدولية قد أفضت إلى تضخّم ديموغرافي في المدن الساحلية التي تحوّلت إلى مستودعات للمواد الأولية والمنتجات المعدّة للأسواق العالمية. ومن الشواهد على هذه الظاهرة ازدهار المناطق الساحلية في مناطق إفريقيا جنوب الصحراء على حساب "الداخل القاريّ"، وكذلك التنامي السكاني لكالكوتا أو مدراس مقابل تراجع مدن الداخل الهندي في منتصف القرن التاسع عشر، إضافةً إلى إعادة رسم دور المدن الساحلية في شمال إفريقيا في ظلّ الاستعمار الفرنسي.
انعدام توازن موروث من الحقبة الاستعماريّة ومدفوع بقوى السوق
عموماً، حصل التحضّر السريع لهذه المناطق العالمية في القرن العشرين، وخصوصاً في الحقبة المتسارِعة ابتداءً من 1950، دون تنميةٍ حقيقية، باستثناء المجمّعات المدينيّة الكبرى في البلدان الجديدة المتقدّمة في شرق آسيا (سيول، تايبه، سنغافورة، هونغ كونغ واليوم شنغهاي وبكين). وفي الأماكن الأخرى، تولّد التحضّر الفوضويّ للبلدان المستعمَرة سابقاً من اختلالٍ في التوازنات الاقتصادية والاجتماعية الموروثة غالباً عن بنى المرحلة الكولونيالية، زادت من حدّته عوامل السوق العالمية.
فكان من شأن تدفّق سكان الريف نحو المدن بدافع فقر مناطقهم أن شكّّل في كلٍّ من بلدان إفريقيا جنوب الصحراء وأميركا اللاتينية وآسيا الجنوبية تجمّعات مدينيّة ضخمة. وإزاء النموّ الديموغرافي والانتشار المكاني المتواصل، شهدت هذه التجمّعات بطالةً واسعة وقيام مدن صفيح وبنى تحتيّة متداعية ومشاكل بيئيّة خطيرة؛ كما حصل مثلاً في لاغوس وداكار ومكسيكو وكاراكاس وكالكوتا ودكّا وجاكارتا ومانيلاّ، حيث تتجاور جيوبٌ بالغة الثراء مع أخرى مدقِعة فقيرة، لنصبح على المستوى العالمي أمام "كوكبٍ من مدن الصفيح" [8].
بالطبع، وكما يبرهن ذلك جيّداً عالم الاجتماع مانويل كاستلز، فإنّ المراكز المدينيّة الكبرى في البلدان الغنية باتت ذات طبيعةٍ "ثنائية"، تضمّ "الجنوب" و"الشمال" ضمنها: فبفعل تراتبيّتها الاجتماعية الحادّة، يتمركز فيها حشدٌ من عمّال المهن الحقيرة والمهمّشين القادمين في الغالب من المستعمرَات السابقة [9]. بيد أن عدم المساواة الاجتماعية في المدن المسمّاة معولمة والتي تتمركز فيها الثروة والثقافة والمعارف والمهارات، أمثال نيويورك ولوس أنجلس ولندن وطوكيو، لا تقارن بتاتاً بتلك في التجمّعات المدينية المعولمة في "العالم الثالث".
من أجل إيجاد حلٍّ للمشكلة الاجتماعية الناجمة عن أحياء الصفيح في العصر الفيكتوري، تمّ تصوّر لامركزية مدينية من خلال تجمّعات أصغر حجماً وأكثر "قابليةً للعيش"
يُمَركز التحضّر المديني توتّرات وتناقضات التصنيع والعولمة ويعبّر عنها. هذا ما كان لاحظه هنري لوفيفر عندما كتب يقول: " إنّ المجتمع المديني هو معنى وغاية التصنيع، وهو يتشكّل في حين يبحث عن ذاته" [10]. فظاهرة التحضّر لا عودة عنها، وتطرح أسئلة أساسيّة عن قدرتنا على إنتاج الخدمات العامة، وخصوصاً التربية والثقافة والصحّة والبيئة الصحيّة لجميع السكان؛ وهذا شرطٌ أوّل لقيام تنميةٍ مستدامة تؤمّن الرفاه العام وبالتالي توسّع الحريات الفردية.
وقد أثار تكوّن المراكز الكبرى في البلدان الصناعية، نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، فيضاً من الأسئلة والأفكار. فمن أجل إيجاد حلٍّ للمشكلة الاجتماعية الناجمة عن أحياء الصفيح في العصر الفيكتوري، اقترح مهندسو المدن الإصلاحيين لامركزية مدينيّة من خلال بناء تجمعات أصغر حجماً وأكثر "قابليةً للعيش"، تسهّل إدارة الشؤون الواسعة؛ وهذا هو الاتجاه الذي تسلكه اليوم السلطات الوطنيّة والمحلية الصينية أو الهندية. وقد تخيّل ممفورد وغيره، في وقتٍ لاحق، تخفيف الاحتقان المديني من خلال تخطيط إقليميّ ومحليّ، يقوم على استغلال الموارد المحليّة وعلى شبكات تموينٍ قصيرة تهدف إلى إرساء توازنٍ بيئي (ما بات يسمّى "التنمية المستدامة" المدينيّة). لكن هذه الجهود النظريّة لم تصِل إلى خواتيمها.
ثمّ ازدهرت في سبعينات وثمانينات القرن الماضي فكرة التنمية المدينيّة "الجماعاتية"، أي سيطرة المواطنين على الحيّز الذي يعيشون فيه community design [11]. واليوم، ما تزال مطروحة كتحدٍّ رئيسي في هذا القرن مسألة تملّك المواطنين لمدينّتهم وشروط إنتاج الحيّزات المدينية.
* استاذ في جامعة باريس الثامنة وصحافي
[1] « World Urbanisation Prospects, the 2007 Revision Population Database », United Nations Population Division (UNPD), Department of Economic and Social Affairs ; http://esa.un.or/unup
[2] Lewis Mumford, The City in History : Its Origins, Its Transformations, and Its Prospects, Harcourt Brace International, New York, [1961] 1986.
[3] Mumford, op. cit.
[4] Paul Bairoch, De Jéricho à Mexico : villes et économie dans l’histoire, Gallimard, Paris, 1985.
[5] Tertius Chandler, Four Thousand Years of Urban Growth, Edwin Mellen, Lewiston, 1987.
[6] Edward W. Soja, Postmetropolis : Critical Studies of Cities and Regions, Blackwell, Oxford, 2000.
[7] Karl Marx & Friedrich Engels, Manifeste du Parti Communiste, Flammarion, Paris, 1999.
[8] Mike Davis, Planète bidonville, Ab Irato, Paris, 2005.
[9] Manuel Castells, The Informational City : Information, Technology, Economic Restructuring and the Urban-Regional Process, Blackwell, Cambridge, 1989, et Dual City : Restructuring New York, Russell Sage Foundation, New York, 1991.
[10] Rémi Hess, Henri Lefebvre et l’aventure du siècle, Métailié, Paris, 1988, p. 276.
[11] Peter Hall, Cities of Tomorrow, Blackwell, Oxford, 1996.
المصدر : لوموند ديبلوماتيك
تعليقات
إرسال تعليق