منير شفيق
لنضع جانبا ما يمكن اعتباره توظيفا لعقد قمّة ضمّت رؤساء ووفودا من 47 دولة، مثّلا حاجة أوباما وإدارته للظهور بمظهر القوّة القادرة على قيادة 47 دولة بعد أن لاحَقَها الفشل طوال عام 2009، وأفقد أوباما صدقيته في ما وعد به من تغيير، وزاد من أزمات أميركا في العراق وأفغانستان وباكستان وفلسطين والعالم الإسلامي عموما، كما هي حال علاقاتها بالصين وروسيا.
هذا الهدف الجانبي تحقق بالتأكيد ولكنه يظل فقاعة ما دام لم يذهب إلى معالجة الأسباب الحقيقية الكامنة وراء أزمات أميركا، وتدهوُر صدقيتها وهيبتها ومكانتها عالميا.
ولنضع جانبا توظيف اللقاءات الثنائية في حلّ إشكالات أميركا مع الصين، في موضوع حشد التأييد لقرار عقوبات جديدة ضدّ إيران، أو لقاءاته الثنائية العربية للخروج من بعض أوجُه الأزمة الأميركية في "عملية السلام". وقد استطاع أن يحصل على وعد صيني ببحث الموضوع ولكن ليس من دون دفع ثمن أميركي مقابل. أما بالنسبة إلى لقاءاته العربية فقد غمس خارج الصحن الحقيقي لأزمته مع اللوبي اليهودي الأميركي ونتنياهو.
البعض اعتبر أن لقاء أوباما مع الرئيس الصيني هو جين تاو أهمّ ما حققه المؤتمر على الصعيد العملي بالنسبة إليه. ولكن هذه القمّة حملت بالضرورة أهدافا أخرى تتعلق بالتمهيد "لخريطة طريق دولية وبرنامج عمل للسيطرة الكاملة على المواد النووية لمنع وصولها إلى أيدي مجموعات إرهابية". وهو ما يحتاج إلى تفكيك وتحليل من أجل وضع اليد على الهدف الحقيقي الأول في موضوع السيطرة على المواد النووية لدى دول أخرى، تحت حجّة منع وصولها إلى أيدي مجموعات إرهابية.
من حيث الظاهر حاول أوباما أن يضع جميع الدول التي تملك المواد النووية على قدم المساواة في ضرورة السيطرة على ضمان عدم تسرّبها للمنظمات الإرهابية. ولكن ذلك مجرّد قنبلة دخان لإخفاء الدول المستهدفة أو المقصودة عمليا. وهي بالتأكيد هنا باكستان التي تنفرد بكونها البلد المسلم الوحيد الذي يمتلك القنبلة النووية.
حاول أوباما أيضا أن يبعد الشبهات عن هذا الهدف بالإعلان أنه مطمئن للإجراءات الباكستانية في ضمان حماية المواد النووية التي لديها. وقد كان هنا في موقع "المريب الذي كاد يقول خذوني". لأن هذا التصريح يتناقض مع عدد من التصريحات الأميركية الرسمية التي سبق أن أبدت قلقها من تسرّب مواد نووية لمنظمات إرهابية من خلال باكستان التي تواجه حربا أهلية. وتتعرّض لمخاطر حقيقية على تماسك الأمن فيها وحتى على وحدة دولتها.
وكذلك نسِي أوباما أن أميركا اتهمّت باكستان بالتعاون مع ليبيا وإيران لا في تهريب مواد نووية فحسب، وإنما في المساعدة أيضا على الوصول إلى القنبلة النووية نفسها.
لا يخطر ببال أحد أن المقصود بإحكام السيطرة بالكامل على المواد النووية يستهدف روسيا أو الصين أو بريطانيا أو فرنسا أو الهند أو الولايات المتحدة نفسها، ناهيك عن الكيان الصهيوني. فها هنا ممنوع الاقتراب من قِبَل أيّة جهة غير دولة البلد المعني.
هذا ولا يشمل المقصود بإحكام السيطرة أيضا ما لدى أوكرانيا أو جنوب أفريقيا أو الأرجنتين فهذه كلها تبرّعت قبل المؤتمر أو في أثنائه بالتخلص مما لديها إما بالبيع، أو الإتلاف، أو نقله إلى مكان آخر. فأوكرانيا مثلاً بالتفاهم مع روسيا، عَرَضت على أميركا مساعدتها للتخلص مما لديها. وذلك من خلال الدفع عدًّا ونقدًا ثمنًا له.
وإن الأمر كذلك حين يُشار إلى بلدان متهمّة بحق أو بلا حق، بوجود منظمات إرهابية فيها تريد الوصول إلى تلك المواد، مثل نيجيريا والصومال واليمن وأفغانستان فهذه البلدان خالية من مثل هذه المواد. ومَنْ تريد أميركا الوصول إليه لا يحتاج إلى هذا المؤتمر وقراراته، لأن الأمر في كل الأحوال تحقق أو يتحقق من دون انتظار خريطة الطريق العتيدة.
ومن هنا فكل هذا اللف والدوران يستهدف باكستان بالدرجة الأولى. وهذا الاستهداف لا يرمي إلى الحيلولة دون وصول مواد نووية لمجموعات إرهابية بقدر ما يرمي إلى وضع القنبلة النووية ومنشآتها ومستتبعاتها من حيث أتت تحت السيطرة الأميركية، أو إبعادها.
وجهة أخرى فما معنى أن يُعاد وضع "المجموعات الإرهابية" على رأس أولويات الإستراتيجية الأميركية بما لا يختلف كثيرا عن شعار جورج دبليو بوش: إعلان "الحرب العالمية على الإرهاب". فكما كانت هنالك مبالغة فاضحة في رفع الخطر الإرهابي إلى هذا المستوى، وعدم وضعه في حدوده، يُراد اليوم القول إن أكبر خطر على الأمن العالمي يمثله سعي مجموعات إرهابية للحصول على مواد نووية.
أي أننا أمام تكرار لإستراتيجية المحافظين الجدد من قِبَل من جاء ليُخلِّص أميركا والعالم من هذا الانحراف في تحديد الأولويات. ومن ثم ما ترتبّ عليه من نتائج وخيمة على شعوب بأسرها. وذلك حين ترجم شعار "الحرب على الإرهاب"، إلى حروب غزو واحتلال للعراق وأفغانستان وحروب عدوان على فلسطين 2002 ولبنان 2006، وعلى قطاع غزة في 2008-2009.
حقًّا إن كانت إستراتيجية بوش مأساة للعالم وحتى لأميركا فإن إستراتيجية أوباما ستكون مأساة وملهاة في آن واحد. وذلك حين تنحرف بوصلة تحديد الأولويات وتسعى لتأخذ دولاً أخرى معها لتبنّي الانحراف نفسه. هذا يعني أن أوباما رمى قرد أميركا، مرّة أخرى، على "طحين العالم الإسلامي": وذلك بإعطاء الأولوية لخطر المجموعات الإرهابية من دون أن يسمّيها "الإسلامية". وهذا هو التغيير الوحيد الذي أحدثه عن سلفه، والمحتوى واحد في الحالتين.
باختصار، إذا أردنا أن نتحدّث عن الدول الأكثر خطرًا على "الأمن العالمي" فهي الدول التي شنّت حروب الاحتلال والعدوان من دون التقليل من أخطار متفرّقة ومحدودة. وإذا أردنا أن نتحدث عن الخطر النووي الأكبر الذي يهدّد الأمن النووي العالمي فيجب أن يُرى في الدول التي تملك القنابل النووية ووسائط نقلها. وقد استخدمتها في ناغازاكي وهيروشيما.
وكانت ذات سوابق، أو هدّدت باستخدامها كما في الحرب الكورّية 1951، وفي حرب الخليج الثانية (في الحالتين أميركا) أو في حرب الفوكلاند (بريطانيا)، أو حكومة غولدا مائير في حرب أكتوبر1973، أو عبور "غوّاصات نووية إسرائيلية" من قناة السويس مؤخرًا، ثم خطاب أوباما نفسه الذي حدّد الإستراتيجية النووية الأميركية إذ أبقى على استعداد أميركا لاستخدام القنبلة النووية حاضرًا، ولو "في الظروف القصوى". أي بما يتعدّى نظرية الردع النووي ضد هجوم نووي.
فأوباما يريد تحويل أنظار العالم إلى خطر افتراضي (حصول منظمات إرهابية على مواد نووية) دونه خرط القتاد، في حين أن الخطر الحقيقي كامن في مكان آخر، والأعجب أنه يريد إقناع العرب والمسلمين بأنه لا خطر عليهم من مئات الرؤوس النووية التي توجد لدى الكيان الصهيوني، إذن لمن هذه الرؤوس النووية؟ وبالمناسبة، رحم الله المتنبي حين قال:
وكن فارقًا بين دعوى أردتُ *** ودعوى فعلتُ بشأوٍ بعيد
وخلاصة: إذا أردنا الإفادة من تجربة جورج دبليو بوش فسنجد أن الخطأ في تحديد أولويات الإستراتيجية من جهة وإخفاء الأهداف الحقيقية من وراء اتخاذ الإرهاب فزّاعة في حين أن العين على دول أخرى لاحتلالها من جهة أخرى، يؤدّي إلى الفشل بل ومسلسل الهزائم.
ولهذا عندما يكرّر أوباما النهج نفسه من حيث رفع خطر حصول منظمات إرهابية على مواد نووية إلى قمّة الخطر على الأمن العالمي فيما عينه الفعلية على دول أخرى ولتحقيق أهداف أخرى، فسوف يؤدّي إلى الفشل ومسلسل الهزائم لا محالة.
المصدر: الجزيرة
تعليقات
إرسال تعليق