التخطي إلى المحتوى الرئيسي

قراءة في مقالة دانكوارت رستو التحول الديمقراطي باتجاه نموذج ديناميكي

نادية أبو زاهر
nadiaas1@googlemail.com
- 2007 / 11 / 7
مقدمة:
"ما هي الشروط التي تجعل الديمقراطية ممكنة وما هي الشروط التي تجعلها تنجح؟". واحد من الأسئلة التي شغلت كثيرا منظري التحولات الديمقراطية، وهو السؤال الذي استهل به دانكوارت رستو Dankwart Rustow مقالته: "التحول الديمقراطي باتجاه نموذج ديناميكي" "Transitions to Democracy: Toward a Dynamic Model"، التي نشرت في مجلة ""Comparative Politics* في ربيع 1970 مجلة. رغم أن مقالة رستو نشرت في السبعينات إلا أنه يجدر بنا إلقاء مزيد من الضوء عليها لأنها تعتبر مرجعا هاما للباحثين في الانتقال الديمقراطي، وتدرّس في الجامعات والمعاهد. كما أنها شكلت البداية لترسيم نظرية هامة عن التحول الديمقراطي، فاعتبرت تحولا مهما في النظريات الديمقراطية، واعتبر روستو نتيجة مقالته أبا لنظريات التحول الديمقراطي. إلا أنه وعلى الرغم من أهميتها لم تأخذ حقها من الدراسة والتحليل عربيا.

نقد روستو للمدارس الرئيسة للتحليلات السياسية بالنسبة للتحولات الديمقراطية:
يناقش روستو في مطلع مقالته بأن الكتابات الحديثة لعلماء الاجتماع والسياسة الأمريكيين يفضلون ثلاثة أنواع من التعليلات حول الشروط التي تجعل الديمقراطية ممكنة أحدها التي قدمها "ليبست"، "فيليبس" وغيرهم الذين يربطون الديمقراطية المستقلة بظروف اجتماعية واقتصادية مثل الدخل الفردي، التعليم المنتشر وسكن المناطق المدنية الشائع. ونوع آخر من التعليل يكمن في الحاجة إلى اعتقادات معينة أو سلوك نفسي بين المواطنين. والنوع الثالث ينظر إلى سمات معينة البنية الاجتماعية والسياسية، حيث يؤكد العديد من العلماء أن النزاع والمصالحة ضروريان للديمقراطية. كما أكد "دال وهربرت ومكلوسكي" أن ثبات الديمقراطية يحتاج إلى التزام للقيم والأحكام الديمقراطية. إلا أن روستو يرى بأن السؤال لا ينبغي أن يكون حول كيفية بناء الديمقراطية وإنما حول كيفية المحافظة على الديمقراطية الموجودة في الأصل. ويعطي مثالا ليدلل على صحة رأيه بوجود فرق واضح بين الديمقراطيات الأمريكية والاسكندنافية بالمقارنة مع الفرنسية والألمانية، حيث نجحت الأولى بشكل غير متوقع بينما انهارت الثانية خلال فترة الأجيال الثالثة والرابعة. ويضيف بأن الطلاب في المناطق النامية مثل الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية وجنوب آسيا وأفريقيا الوسطى لديهم الفضول المغاير حول الديمقراطية، والسبب الذي يربكهم هو الفرق بين الديمقراطية الناضجة مثل تلك الموجودة في أمريكا وبريطانيا والسويد وتلك التي تناضل لكي تصل إلى درجة من الديمقراطية مثل "لبنان، تركيا، سيلان، بيرو وفنزويلا" وهذا سوف يجعلهم يتساءلون حول كيفية نشوء الديمقراطية أولاً.

إذن، من خلال ما ناقشه روستو يتبين لنا بأنه ينتقد المدارس الرئيسية للتحليل التي هيمنت على العلوم السياسية الأمريكية وهي:
• نظرية الحداثة التي نادى بها "ليبست"، والتي تركز على أن الديمقراطية الثابتة مرتبطة بظروف الخلفية الاجتماعية والاقتصادية.
• الثقافة المدنية التي نادى بها كل من "جابرييل ألمند وسيدني فيربا"، والتي تركز على أن الثقافة المدنية هي التي تؤدي إلى الديمقراطية.
• النزاعة والمصالحة التي ينادي بها كل من "أليند ليجبهارت ورالف داهريندورف"، والتي تركز على أن النزاع والمصالحة هي التي تؤدي إلى الديمقراطية.

السؤال الذي قد يثار هنا ما هو المفتاح الأساسي الذي استند إليه روستو في نقده للمدارس التحليلية المهيمنة على العلوم السياسية الأمريكية بالنسبة للتحولات الديمقراطية؟
المتفحص لمقالة روستو سيدرك بأنه ركز نقده لهذه المدارس التحليلية لأنها:
• ركزت على عمل الديمقراطيات وليس على كيفية نشوء هذه الديمقراطيات في المقام الأول.
• لم تفرق بين المتطلبات الخلقية والوظيفية للديمقراطية، أي وبمعنى آخر أنها لم تميز بين العوامل التي تؤدي إلى نشوء الديمقراطية والعوامل التي تؤدي إلى تعزيزها واستمرارها.

نموذج روستو الخلقي للعوامل التي تنتج الديمقراطية:
على ما يبدو فإن ما حاول أن يقوم به روستو من خلال النقد الذي وجهه للمداخل التحليلية الثلاث هو الوصول إلى نموذجه التطوري (الخلقي) الديناميكي للعوامل التي تنتج الديمقراطية. فهو يرى أن عملية التحول الديمقراطي هي عملية من الممكن أن تحدث في ظل ظروف يجتمع فيها أكثر من عامل (أي التقاء غير مبرمج للعوامل). ويحدث الانتقال إلى الديمقراطية حسب رؤيته، عند دخول نظام الحكم لدولة ما في أزمة شرعية، الأمر الذي يؤدي إلى حدوث انقسام بين النخب السياسية (وهم اللاعبون الأساسييون في عملية الانتقال إلى الديمقراطية)، ويتراوح هذا الانقسام بين من يريد أن يستمر النظام القديم الذي يمثله النخبة الحاكمة، وبين من يريد تغيير النظام وتمثله المعارضة.
يطلق روستو على نموذج نظريته اسم (Genetic) أي الخلقية أو النشئية ليشير إلى طابع الخلق. لذلك نجده يوضح في مقالته الاختلاف في أنواع الأنظمة السياسية من حيث كيفية نشوئها. فهو يرى بأن الدكتاتوريات العسكرية، تتكون عادة من خلال مؤامرات سرية وثورات عسكرية ويحشدون تأييداً جماهيرياً كبيراً عن طريق التحالف مع المؤسسات المدنية. ويعتقد بأن الزعماء المميزين، يدخلون نطاق الحكم من خلال قيامهم بمعجزات يحافظون عليها بعد ذلك من خلال الروتين. أما النظام الملكي الوراثي، حسبما يناقش، فيقع في النطاق الأكثر أمناً بين الأنظمة السياسية، حيث يحافظ الملك والعائلة على التقليد ولا يمكن أن تنشأ مثل هذه الملكية على أساس ديمقراطي. فيما يرى بأن الأنظمة الشيوعية، أقيمت من خلال نخبة من الثوريين أو من خلال اجتياح أجنبي.

يقول روستو بأن الظروف بطريق معين قد تكون أجبرت أو خدعت أو أغوت متملق غير ديمقراطي باتجاه الديمقراطية أو تصرف ديمقراطي وأدت التصرفات أو المعتقدات إلى التأقلم أو التعود عن طريق نظام معين منطقي على التحول الديمقراطي. ويناقش بأن الانتقال إلى الديمقراطية ليس عملية موحدة على نطاق العالم، (بمعنى أنها تحتاج إلى نفس الطبقة من الشعب ونفس المسائل السياسية وحتى نفس أساليب الحل)، على العكس من ذلك، فهو يناقش بأنه من الممكن أن تلتقي الخلافات الاجتماعية والرضا السياسي في الديمقراطية. بالإضافة إلى الطرق الكثيرة المؤدية إلى الديمقراطية من خلال تجارب الدول التي تحولت إلى مجتمعات ديمقراطية. كما يعتقد أن التحول نحو الديمقراطية ليس بتلك العملية الثابتة أو الموحدة والمتجانسة على مر الزمن، فهو يرى بأنه حتى في البلد الواحد وخلال المرحلة نفسها من التحول نحو الديمقراطية فإن السلوك السياسي لا يبدو أنه ينتشر بشكل موحد في المجتمع، حيث أكد العلماء وجود اختلافات في السلوك بين السياسيين المحترفين وحتى بين أفراد المجتمع العاديين في الدول ذات الديمقراطية الناضجة. ويعتقد بأنه لا ينبغي أن نتوقع أن يتشارك جميع السياسيين في نفس السلوك. ويقول حيث أن الديمقراطية مبنية على الاختلاف فإنها تحتاج إلى السلوكين حتى تنتج الجدل وكل هذه تحصل خلال الفترة الأولى التي تتكون وتبنى فيها الديمقراطية ما بين الديمقراطيين وغير الديمقراطيين. ويواصل قوله ملخصا رؤيته لنموذجه الذي يؤدي الانتقال إلى الديمقراطية: "أخيراً يجب أن يسمح النموذج الفعال للانتقال لإمكانية أن تكون الفرق المختلفة ما بين مؤيد ومعارض مما يجعل الأرض خصبة للتحول نحو الديمقراطية". ويلخص نقاشه حول نموذج نظريته الخلقية من خلال طرحه عدد من الاقتراحات وهي:
1. العوامل التي تبقي الديمقراطية ثابتة ليس بالضرورة أن تكون تلك التي بنتها في الأساس: يجب أن تفرق طرق تفسير الديمقراطية بين الوظيفة والنشوء.
2. السبب ليس هو نفسه المسبب فيجب على النظرية السببية أن تركز على الثاني.
3. لا تنبع جميع العوامل المسببة من نفس العوامل الاجتماعية والسياسية.
4. لا تنبع جميع العوامل المسببة من الاعتقاد والسلوك إلى العمل.
5. يحتاج نشوء الديمقراطية إلى أن يكون موحداً من الناحية الجغرافية، فيمكن أن يكون هناك طرق عديدة للديمقراطية.
6. يحتاج نشوء الديمقراطية إلى أن يكون موحداً لفترة مؤقتة: قد تكون العوامل المختلفة حاسمة خلال المراحل المتعاقبة.
7. لا يحتاج نشوء الديمقراطية إلى أن يكون موحداً من الناحية الاجتماعية: حتى وإن اجتمع نفس المكان والزمان فإن السلوك الذي يروج لها ليس بالضرورة أن يكون واحداً بالنسبة للسياسيين والمواطنين.

لكنه بالوقت نفسه يرى بأن نموذج نظريته الخلقية أو النشئية يحتاج إلى وضع بعض القيود وهي أن يتم:

1. تغطية البيانات التجريبية التي تدعم النظرية التكوينية لأي بلد مرحلة من الوقت قبل وبعد حلول الديمقراطية.
2. تجاهل الدول التي جاء إليها دافع من الخارج من أجل فحص منطق الانتقال في النظام السياسي.
3. استخلاص النموذج أو النوع المثالي من الانتقال من خلال بعض الحالات التجريبية والتي فحصت من خلال التطبيق.

الوحدة الوطنية شرطا وحيدا لنموذج نظرية روستو:
يبدأ روستو نموذج نظريته الخلقية بشرط خلفية وحيد وهو (الوحدة الوطنية) وهذا يعني بالنسبة إليه: "أن لا يكون للغالبية العظمى من المواطنين في الدولة المهيأة للانتقال الديمقراطي أي شكوك أو تحفظات عقلية حول المجتمع السياسي الذي ينبغي أن ينتمون إليه". وهذه لا تشمل أوضاع مثل وضع الدولة العثمانية أواخر أيامها، فهو يعتقد أن الديمقراطية هي نظام حكم من الأغلبية المؤقتة وحتى يتغير كل ذلك يجب أن تكون الحدود وتركيبة المواطنين متواصلة. وهذا يعني أن رستو يعتقد بأنه ينبغي أن تكون الشخصية القومية واضحة، وأن يكون شبه إجماع بين المواطنين على المجتمع السياسي الذي ينتمون إليه، وبذلك فهو يعتبر بأن القومية أساس لعملية التحول الديمقراطي.

من أجل أن تتحقق عملية الانتقال الديمقراطي بالنسبة لروستو، يرى بأنه لا بد أن تمر عبر عدة مراحل، ورغم أنه يعتقد بأن المرور في إحدى المراحل لا يعني بالضرورة الوصول إلى مرحلة أخرى إلا أنه يعتقد بضرورة أن تسبق الوحدة الوطنية جميع المراحل الأخرى. كما أنه لا يعتقد بأن مسألة التوقيت هامة كثيرا حيث يمكن أن تحقق بعض الدول ذلك قبل التاريخ مثل حالات اليابان والسويد ويمكن أن تسبق المراحل الأخرى بمئات أو عشرات السنين في دول مثل فرنسا وتركيا. كما يناقش بأنه ليس من المهم الكيفية التي تحققت بها الوحدة الوطنية، ففي عصر الحداثة لن يشعر الناس أنهم متفوقون إلا في حال ولائهم لنظام سياسي معين كبير إلى حد يمكنه من تحقيق درجة كبيرة من العصرية في الحياة الاقتصادية والاجتماعية. ويناقش بأن القومية التي ظهرت بدأت من أناس شعروا بعدم الاستقرار في بلادهم مثل الألمان والإيطاليين القرن الماضي والعرب والأفريقيين هذا القرن، ومن أجل اعتبار القومية على أنها الأساس في شرط الخلفية لا تتضمن الحد الأدنى من التطور الاقتصادي أو الفروقات الاجتماعية التي تعتبر مستلزم للديمقراطية، هذه العوامل الاجتماعية والاقتصادية تدخل النموذج بشكل غبر مباشر كأحد الخيارات البانية للوحدة الوطنية، لكن النموذج يترك الاحتمال مفتوحاً أمام الديمقراطية ما قبل القومية بمستوى ضئيل من التطور الاقتصادي.

مراحل الانتقال إلى الديمقراطية في نموذج نظرية روستو:
لا بد أن تمر عملية التحول الديمقراطي حتى تتحقق، بالنسبة لروستو حسب نموذج نظريته، في عدة مراحل وهذه المراحل هي: المرحلة التحضيرية، ومرحلة القرار أو الاختيار، ومرحلة التعود.

* المرحلة التحضيرية:
المرحلة التي أطلق عليها روستو التحضيرية هي مرحلة بداية الصراع، أي أنها تبدأ عندما تحدث أزمة في النظام ويصبح هناك صراع بين النخب (النخب الحاكمة، والنخب المعارضة).
فيفترض روستو أن العملية الفعالة للديمقراطية نفسها معدة من قبل نزاع سياسي غير محسوم ومطول، حيث أن الطبقات الاجتماعية من الصفوة والطبقات الأخرى ستختلف من بلد لآخر أو في نفس البلد من فترة لفترة أخرى. والصراع بالنسبة لروستو من الممكن أن يكون ما بين الفئات المختلفة من المجتمع أو حتى بين أفراد الفئة الواحدة مثل الطبقة الغنية والغنية الحديثة العهد مثل الذي حصل في تركيا خلال العشرين سنة الماضية، أو من الممكن أن يكون نزاع طبقي بين الفالحين والطبقة الوسطى حيث خلقت جواً مشحوناً خلال فترة حاسمة جداً.
من دون شك، كما يقول روستو، سيحدث الكثير من مشاكل في المرحلة التحضيرية مثل أن تسحق إحدى الفرق الفرقة الأخرى، وفي هذه الحالة يمكن لمشروع الديمقراطية أن ينحرف عن المسار. ويرى بأنه في حال فشل هذه المرحلة ستكون المشاكل أكبر.

* مرحلة القرار (الاختيار):
المرحلة التالية للمرحلة التحضيرية هي مرحلة القرار أو الاختيار، وهي المرحلة التي يتم فيها الاتفاق أو عدم الاتفاق على قواعد اللعبة الديمقراطية. ويناقش روستو بأن الانتقال نحو الديمقراطية هو عملية غير مخطط لها وابتكار جديد، وهي عملية معقدة قد تطول إلى عقود حتى تتحقق، ولا يرد فيها أن حرية الطرف الآخر خلال المرحلة التحضيرية ستكون واردة، فالذي يختصر المرحلة التحضيرية هو القرار المدروس من قبل القادة السياسيين لقبول وجود التعددية، وفي النهاية بناء وجه حاسم للعمل الديمقراطي. ويقول روستو بأن القرار يعني الخيار وحين يكون القرار الديمقراطي غير ظاهر حتى تتهيأ الظروف والقاعدة يكون القرار حقيقياً ولا يتبع لأي من الشروط الأولى، والقرار يأتي عادة من تفاعل العديد من القوى. ويعتقد بأنه قد ترضخ بعض القوى المتشددة أو القومية للإجماع وتقبل بالقرار ليس بسبب الرضي وإنما حرصاً على مصالحها أو مستقبلها، مثل الذي فعلة الهويغي في بريطانيا، أو قرار التعددية الحزبية في تركيا. أو لتخوف بعض الأطراف من حرب أهلية قد تستغرق أعواماً طويلة حتى تضع أوزارها.


* مرحلة التعود:
بعد مرحلة القرار تأتي مرحلة التعود حيث تصبح الديمقراطية أمرا طبيعيا يتم التعود عليها. فعملية الديمقراطية نفسها تفرض عملية مضاعفة من الانتقائية الدارونية لمصلحة الديمقراطيين المقتنعين، واحد فقط من بين الأحزاب المرشحة في الانتخابات العامة وآخر من بين السياسيين يتنافس للقيادة. أول من ينجح من بين هذه الأحزاب التي تبنت الديمقراطية يمكن أن يشجع القوى السياسية وقادتها لتقديم الأسئلة الرئيسية الأخرى من أجل الإقرار بالإجراءات الديمقراطية. يقول روستو بأن قرارا بالإكراه سوف يكون مستساغا أكثر إذا أجبرت على العيش معه، الخبرة اليومية تزودنا بالأدلة القاطعة على صحة هذه الاحتمالية. ويرى أن الديمقراطية بتعريفها هي عملية تنافسية تعطي التميز للذين يبررون التزامهم بها وتميزاً أكبر للذين يؤمنون بها. ويضيف بأن السياسة ليست فقط منافسة في المكتب وإنما عملية لفض النزاعات بين المجموعات البشرية التي قد تنشأ بسبب تناقض المصالح أو الشك بالمستقبل، وبتطبيقاتها الأساسية للجدل المتعدد الجوانب تتضمن الديمقراطية بشكل خاص عملية المحاولة والخطأ. والنجاح الأول، حسبما يناقش، قد يشجع القوى السياسية وقادتها على طرح أمور أخرى لفضها على الطريقة الديمقراطية.
يواصل روستو نقاشه للتمييز بين مرحلة التعود ومرحلة القرار: "قد يتطلب الانتقال إلى الديمقراطية سلوكا عاما وبعض السلوك الخاص من قبل السياسي والمواطن العام، الفرق واضح تماماً أثناء مرحلة القرار حيث هناك القادة يتفقون على المساومة بينما أتباعهم يتابعون بقلق حاملين يافطات النزاع القديم. وتصبح أكثر وضوحاً في مرحلة التعويد حيث يتعلم كل من القادة والمجتمع من المصالحة الناجحة أن يتركوا بعض الثقة للنظام الجديد، ثم أن المجتمع بأكمله سيصبح ملائماً للتركيبة الجديدة عن طريق بناء الأحزاب والممثلين في البرلمان".

مكونات لا غنى عنها في النموذج الخلقي لنظرية روستو:
النموذج الخلقي الذي يطرحه روستو يبين عددا من المراحل التي ينبغي المرور بها من أجل الانتقال إلى الديمقراطية. وبذلك فإن روستو يؤكد على أمور يعتبرها مكونات لا غنى عنها من أجل بناء أو خلق الديمقراطية. حيث يجب أن يكون هناك الوحدة الوطنية. ثم يجب أن ينشأ النزاع الجاد والمطوق. من بعد ذلك لا بد من الاختيار المدرك للحكم الديمقراطي. وفي النهاية يجب على كل من السياسيين والمنتخبين التعود على هذا الحكم الديمقراطي.
يؤكد روستو في نموذجه على ضرورة تجمع هذه المكونات في نفس الوقت ولكنه يتجاهل البحث عن ضرورات عاملة للديمقراطية، كما ويقترح تسلسل واحد من الوحدة الوطنية كخلفية ثم النزاع فالاختيار فالتعود. الإجماع على الأساسيات هو شرط مسبق غير قابل للتصديق، فقاعدة الديمقراطية ليست الإجماع الأعلى بل أكثر إلى حل وسط. في عملية بناء الديمقراطية يدخل مصطلح الإجماع في ثلاثة نقاط على الأقل، فيجب أن يكون هناك نوع من الحس الاجتماعي فوق مجرد الرأي أو الاتفاق كما يجب أن يكون هناك تبني مدرك للحكم الديمقراطي، حيث أن عمل هذه القواعد سوف يوسع رقعة الإجماع خطوة بخطوة.
لكن أموراً جديدة ستطرأ من غير شك، كما يعتقد روستو، إضافة إلى أن نزاعات جديدة يمكن أن تهدد الاتفاقات المكتسبة. وهنا يأتي دور البرلمان والمنتخبين، حسبما يناقش روستو، في حل أي من هذه المسائل التي قد تطرأ، حيث أن أساس الديمقراطية هو سلوك النزاع والمصالحة حول مسائل متغيرة ووسط انحيازات دائمة التغير.

ملاحظات ختامية
حاولنا أن نقدم قراءة لمقالة روستو، ولن يكون ما قدمناه من قراءة لهذه المقالة بديلا عن قراءتها، فهي مكتوبة بلغة متخصصة ولا يجد الجلد على قراءتها إلا المتخصصون. فما يميز هذه المقالة أنها ركزت على عملية التحول نفسها وليس على شروط التحول كما فعلت نظريات أخرى. فاعتبرت نظريته حول الانتقال إلى الديمقراطية أساسا لما يسمى بالتوجهات النظرية اللاحقة المرتكز على عملية الانتقال الديمقراطي وليس على الشروط.

إضافة إلى أن روستو يعتبر أول من استطاع أن يميز بين العوامل المؤدية للديمقراطية والعوامل المساهمة في تعزيزها واستمرارها، وذلك عندما قال: "العوامل التي تحافظ على الديمقراطية مستقرة ربما أنها ليست نفس العوامل التي تجلب الديمقراطية إلى الوجود، تفسيرات الديمقراطية يجب أن تميز بين الوظيفية والخلقية" فقد اعتبر أن الارتباط ليس نفسه السببية، ورأى بأنه يمكن أن تكون العوامل سبب أو نتيجة للديمقراطية، أو كلاهما معا (سبب ونتيجة معا للديمقراطية)، أو قد لا يكون أي منهما (لا تكون سبب ولا نتيجة).

ما قام به روستو من تمييز بين العوامل المؤدية إلى الديمقراطية وتلك المساهمة في تعزيزها أدى ذلك فيما بعد إلى إيجاد جدل كبير حول دور المجتمع المدني باعتباره عاملا مؤديا إلى الانتقال إلى الديمقراطية أو مساهما في تعزيزها واستمرارها. ويتلخص الجدل بين الكتّاب الذين يشترطون وجود الديمقراطية من أجل وجود المجتمع المدني لاعتقادهم بأنه ينتج بعد أن تتحقق الديمقراطية ويساهم في تعزيزها، فيما لم يشترط كتّاب آخرون وجود الديمقراطية لوجود المجتمع المدني معتقدين بأن له دورا في الانتقال إلى الديمقراطية. وبالنسبة لروستو فيصعب الحديث بالنسبة إليه عن مجتمع مدني دون وجود ديمقراطية، أي أن المجتمع المدني ينتج عن الديمقراطية وليس شرطا مسبقا لوجودها. فالمجتمع المدني بالنسبة له هو مجموعة من القيم مثل حرية الاجتماع والتنظيم وغيرها، وينتج عن الديمقراطية ويحتاج لعدة سنوات حتى يتكون. فقد أشار روستو في مقالته إلى أن معظم التحولات تحدث نتيجة صراع سياسي مطول وغير حاسم. وأضاف كذلك بأن الجيل الواحد هو الفترة الزمنية الأقل التي يمكن أن تحدث فيه تلك التحولات.

رغم جميع ما يميز مقالة روستو، إلا أن ما قد يؤخذ عليها من وجهة نظرنا أنها واحدة من النظريات التي تركز على النخب، فروستو في نموذج نظريته اعتمد على النخب (اللاعبين) وعلى استراتيجيتهم أي أنه ينظر إلى أن الانتقال الديمقراطي يحدث من الأعلى، وهنا ينبغي التنويه إلى أنه ورغم أهمية دور النخب في عملية التحول الديمقراطي، إلا أن النخب في أية دولة تبقى وليدة ظروفها وتتأثر بها. وفي عملية التحول لا يوجد طابع أكيد وذلك لصعوبة التنبؤ في تصرفات اللاعبين، والنظام الجديد الذي سينشأ سيتغير بناء على تغير في مواقف اللاعبين، لا ينبغي النظر إلى عملية التحول بأنها فقط لعبة نخب فعملية التحول أعقد بكثير.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بحث عن التنمية المستدامة ( البحث منقول)

مقدمة الفصل: لقد أستحوذ موضوع التنمية المستدامة اهتمام العالم خلال 15 سنة المنصرمة وهذا على صعيد الساحة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية العالمية ،حيث أصبحت الاستدامة التنموية مدرسة فكرية عالمية تنتشر في معظم دول العالمي النامي والصناعي على حد سواء تتبناها هيئات شعبية ورسمية وتطالب بتطبيقها فعقدت من أجلها القمم والمؤتمرات والندوات.ورغم الانتشار السريع لمفهوم التنمية المستدامة منذ بداية ظهورها إلا أن هذا المفهوم مازال غامضا بوصفه مفهوما وفلسفة وعملية ،ومازال هذا المفهوم يفسر بطرق مختلفة من قبل الكثيرين ولذلك فقد تم التطرق في هذا الفصل إلى مبحثين رئيسيين:المبحث الأول: ماهية التنمية المستدامة;المبحث الثاني: محاور أساسية في التنمية المستدامة;المبحث الأول: ماهية التنمية المستدامةبدأ استخدام مصطلح التنمية المستدامة كثيرا في الأدب التنموي المعاصر وتعتبر الاستدامة نمط تنموي يمتاز بالعقلانية والرشد، وتتعامل مع النشاطات الاقتصادية التي ترمي للنمو من جهة ومع إجراءات المحافظة على البيئة والموارد الطبيعية من جهة أخرى، وقد أصبح العالم اليوم على قناعة بأن التنمية المستدامة التي تقضي على قضايا التخ

عوامل قوة الدولة

ان لعوامل القوة المتاحة للدولة دور كبير في تحديد مكانتها على الساحة الدولية لكن قبل التعرض لهذه العوامل يجب علينا ان نعرج على بعض المفاهيم إن القوة ـ كما أوضحت تعريفاتها ـ ليست التأثير ، وإنما القدرة على التأثير . وتستند هذه القدرة على امتلاك الدولة إمكانيات (خصائص ، موارد ، قدرات ، مؤسسات) معينة تشكل مقومات القوة القومية Elements of National Power التى تمكنها من التأثير على سلوكيات الدول الأخرى فى الاتجاهات التى تحقق مصالحها، كالمساحة الجغرافية ، وعدد السكان ، والموارد الطبيعية ، والقدرات الإقتصادية ، والقوة العسكرية ، والبنية التكنولوجية ، والفعاليات الثقافية، والمؤسسات السياسية ، والحالة المعنوية للشعب ، وغيرها . لكن ، على الرغم من أن هذه الإمكانيات المتداخلة تشكل فى مجموعها عوامل القوة الشاملة لأى دولة ، فإن هناك اختلافات أساسية فيما بينها ، ترتبط باعتبارات عملية ، تتصل بالقدرة على استخدامها فى عملية التأثير ، خاصة خلال المواقف التى يتعرض في

المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية

المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية "تمثل مدرسة الواقعية السياسية التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية ردة فعل أساسية على تيار المثالية. وهدفت الواقعية إلى دراسة وفهم سلوكيات الدول والعوامل المؤثرة في علاقاتها بعضها مع بعض. . . [لقد] جاءت الواقعية لتدرس وتحلل ما هو قائم في العلاقات الدولية, وتحديداً, سياسة القوة والحرب والنزاعات, ولم تهدف كما فعلت المثالية إلى تقديم . . . [مقترحات] وأفكار حول ما يجب أن تكون عليه العلاقات الدولية". "وقد حاول الواقعيون الحصول على أجوبة لأسئلة مازال يطرحها الأكاديميون والمهتمون بالشؤون الدولية منذ الستينات وحتى يومنا هذا. إذن هدفت الواقعية إلى تقديم نظرية سياسية لتحليل وفهم واستيعاب الظواهر الدولية". يرى مورغنثاو (وهوا من ابرز منظري الواقعية) بان السياسة الدولية تتميز (وتنفرد) "كفرع أكاديمي عن دراسة التاريخ والقانون الدولي والأحداث الجارية والإصلاح السياسي". أهم المسلمات الأساسية في الفكر الواقعي 1. "أن السياسة لا يمكن أن تحددها الأخلاق كما يقول المثاليون بل العكس هو الصحيح. وبالتالي فالمبادىء الأخلاقية لا يمكن تط