التخطي إلى المحتوى الرئيسي

إدوارد سعيد ودَين مدرسة فرانكفورت عليه



سليم بن حيولة

لو لم يكتب إدوارد سعيد سوى كتابه " الاستشراق" لكفى لأن يبوِّئه المكانة التي يستحقها كناقد فذ وألمعي، ولكنه مضى في مشروعه التقويضي للفكر الغربي إلى أبعد

مداه من خلال إصداره لكتبه اللاحقة مثل " الثقافة والإمبريالية " و"صور المثقف". أشار إدوارد سعيد أكثر من مرة في كتابه الأول الذي صدر في عام 1978 في الولايات المتحدة إلى الدَّين المنهجي لكل من الفيلسوفين الفرنسيين" ميشال فوكو" (1926-1984) و"جاك دريدا" (1930-2004) هذا الأخير تأثر به إدوارد سعيد في تحليله للميتافيزيقا الغربية والذي امتد إلى النقد الأدبي وعلم الاجتماع والنظرية السياسية وكذلك إلى علم النفس والأنثروبولوجيا دون نسيان اللاهوت، الأمر الذي قاده إلى تفكيك الخطابات والنظم الفكرية المسيطرة في الغرب وألمَّ بالبؤر الفكرية الأساسية المطمورة فيها، وكان على إدوارد سعيد أن يعي تمام الوعي هذا الجهد الكبير الذي قام به الفيلسوف دريدا وخصوصا في عدم فصله بين الخطاب الفلسفي والخطاب الجمالي ليقوم بعد ذلك بتوظيف تلك المنهجية التي عُرفت بالتفكيكية ويُصدر كتابه " الاستشراق" من أجل تفكيك الأسس الإبستمولوجية التي قام عليها خطاب الاستشراق، وهذا رغم أن دريدا نفسه يقر بأن التفكيكية لم يقصد منها أن تكون منهجا وإنه لا يمكن لها أن تكون كذلك.
أما ميشال فوكو فيمكن القول بأنه هو الذي دفع بإدوارد سعيد على نقل خطه النقدي إلى سكة الخطاب بدل سكة النص أو البنية، فهو الذي اهتم بإبراز كيفية تشكل السلطة وتبعية المعرفة لها، ففي نقده للأنظمة المعرفية الغربية انتبه إلى السلطة التي يفرضها خطاب ما على متقبله، ولعل الجهد الكبير الذي قام به تمثَّل في تنقيباته الدقيقة في تاريخ الجنون والسجن والجنس خصوصا في كتابيه" تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي" و" ميلاد العيادة " حيث بيَّن بأن أوروبا مارست عملية نفي على بعضٍ من ذاتها من خلال المعاملة القاسية للمجنون والشاذ جنسيا والمريض والطفل، ليضيف إدوارد سعيد عنصرا آخر هو الشرقي بعد أن أضاف قبله إيمي سيزار وفرانز فانون السود والبعض الآخر المرأة، فقد قامت أوروبا بحشد عدد كبير من الأوصاف التقزيمية والتدنيسية لتسم بها الشرقيين والسود كأفراد ومجتمعات وثقافات مما يمكن القول معه بأن إدوارد سعيد قد وضع مفاهيم ميشال فوكو موضع التطبيق والأكثر من ذلك استعمل المصطلحات نفسها التي عرفت عنده من مثل " الحقيقة" و"التمثيل" و"السيطرة" و"الإقصاء" و" القوة" و"المعرفة" وخصوصا مفهوم "الخطاب" الذي أشرنا إليه منذ قليل فما كان نظريا، ربما، لدى فوكو أصبح لدى إدوارد سعيد تطبيقيا حين ذهب به إلى أبعد مداه في معالجة موضوع الخطاب المؤسساتي عن الشرق.

يعترف إدوارد سعيد أكثر من مرة في كتابه بدَين هذين الفيلسوفين عليه ولكن الأمر المهم الذي أغفله ولم يشر إليه صراحة هو دَين مدرسة فرانكفورت عليه، فلو بحثنا عن موقع هذه المدرسة لن نجد لها ذكرا لا في مقدمة الطبعة الأولى في 1978 ولا في ؛المقدِّمة التي كتبها في طبعة 1994.

صحيح أنه أشار إلى بعض أفكار تيودور أدورنو وهربرت ماركيوز وحنة أرندت إلا أنه لا يكفي للإشارة إلى عمل المدرسة ككل، حين نعلم أن هؤلاء الثلاثة عملوا في جامعة كولومبيا التي أصبح إدوارد سعيد فيها فيما بعد متربعا على كرسي "الأدب الإنكليزي والمقارن".
إن ارتباط النقد الذي قدمته مدرسة فرانكفورت بما بعد الحداثة كان ارتباطا قويا وغير عفوي ولعل نواة هذه النظرية النقدية ترجع إلى أحد مؤسسيها الأوائل وهو ماكس هوركهايمر في مقاله الصادر في عام 1937 المسمى" النظرية التقليدية والنظرية النقدية" حيث حدد فيه الخطوط العامة للنظرية النقدية التي عرفت بها المدرسة إلى اليوم والتي هي مدرسة متعارف عليها بهذا الاسم فقط" مدرسة فرنكفورت" والتي تبلورت لتكون البداية الفعلية للمشروع النقدي الذي قام بها هؤلاء رفقة والتر بنيامين" والقائم على محاولة نقد الأنظمة المهيمنة على الثقافة الغربية وخصوصا الخطابية منها، ساعدهم في ذلك قراءتهم المتعمقة التي قاموا بها للتراث الأوروبي مستخدمين أدوات تحليلية ونقدية من أجل فهم طبيعة الأغلال الإيديولوجية والمؤسساتية سعيا من أجل تحرير الإنسان منها، هذه الإيديولوجيات والمؤسسات هي التي برَّرت التسلط الذي تمارسه أنظمة فكرية معينة، ومن هذا يمكن لنا فهم العلاقة الوثيقة بين الاتجاه النقدي لمدرسة فرنكفورت ممثلة في الأعضاء المؤسسين المذكورين وبين النقد الذي قدمه إدوارد سعيد للاستشراق باعتبارأن الاستشراق بدأ لاهوتيا ثم أصبح اندهاشيا ليصير في الأخير تابعا لمؤسسة تصدر خطابا يؤثر في متقبله وهذا عين ماأراد إدوارد سعيد أن يقوله من خلال كتابه "الاستشراق" حين كشف تبرير تلك المؤسسات للتسلط الممارس في حق الإنسان الشرقي .
ويبقى الأمر المهم في كل هذا هو أن مسيرة إدوارد سعيد الفكرية ساهمت في بروز كتابه " الاستشراق" إلى الوجود وعلى الأخص عمله الأكاديمي الذي قدمه لنيل الدكتوراه حول السيرة الذاتية في رواية قلب الظلام للكاتب البريطاني ذي الأصول البولونية جوزاف كونراد ولعل عبارة هذا الأخير " تحت أعين الغرب" الغرب كان هو العين التي تنظر وتحاكِم" هي التي أوحت لإدوارد سعيد بفكرة الكتاب.

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بحث عن التنمية المستدامة ( البحث منقول)

مقدمة الفصل: لقد أستحوذ موضوع التنمية المستدامة اهتمام العالم خلال 15 سنة المنصرمة وهذا على صعيد الساحة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية العالمية ،حيث أصبحت الاستدامة التنموية مدرسة فكرية عالمية تنتشر في معظم دول العالمي النامي والصناعي على حد سواء تتبناها هيئات شعبية ورسمية وتطالب بتطبيقها فعقدت من أجلها القمم والمؤتمرات والندوات.ورغم الانتشار السريع لمفهوم التنمية المستدامة منذ بداية ظهورها إلا أن هذا المفهوم مازال غامضا بوصفه مفهوما وفلسفة وعملية ،ومازال هذا المفهوم يفسر بطرق مختلفة من قبل الكثيرين ولذلك فقد تم التطرق في هذا الفصل إلى مبحثين رئيسيين:المبحث الأول: ماهية التنمية المستدامة;المبحث الثاني: محاور أساسية في التنمية المستدامة;المبحث الأول: ماهية التنمية المستدامةبدأ استخدام مصطلح التنمية المستدامة كثيرا في الأدب التنموي المعاصر وتعتبر الاستدامة نمط تنموي يمتاز بالعقلانية والرشد، وتتعامل مع النشاطات الاقتصادية التي ترمي للنمو من جهة ومع إجراءات المحافظة على البيئة والموارد الطبيعية من جهة أخرى، وقد أصبح العالم اليوم على قناعة بأن التنمية المستدامة التي تقضي على قضايا التخ

عوامل قوة الدولة

ان لعوامل القوة المتاحة للدولة دور كبير في تحديد مكانتها على الساحة الدولية لكن قبل التعرض لهذه العوامل يجب علينا ان نعرج على بعض المفاهيم إن القوة ـ كما أوضحت تعريفاتها ـ ليست التأثير ، وإنما القدرة على التأثير . وتستند هذه القدرة على امتلاك الدولة إمكانيات (خصائص ، موارد ، قدرات ، مؤسسات) معينة تشكل مقومات القوة القومية Elements of National Power التى تمكنها من التأثير على سلوكيات الدول الأخرى فى الاتجاهات التى تحقق مصالحها، كالمساحة الجغرافية ، وعدد السكان ، والموارد الطبيعية ، والقدرات الإقتصادية ، والقوة العسكرية ، والبنية التكنولوجية ، والفعاليات الثقافية، والمؤسسات السياسية ، والحالة المعنوية للشعب ، وغيرها . لكن ، على الرغم من أن هذه الإمكانيات المتداخلة تشكل فى مجموعها عوامل القوة الشاملة لأى دولة ، فإن هناك اختلافات أساسية فيما بينها ، ترتبط باعتبارات عملية ، تتصل بالقدرة على استخدامها فى عملية التأثير ، خاصة خلال المواقف التى يتعرض في

المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية

المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية "تمثل مدرسة الواقعية السياسية التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية ردة فعل أساسية على تيار المثالية. وهدفت الواقعية إلى دراسة وفهم سلوكيات الدول والعوامل المؤثرة في علاقاتها بعضها مع بعض. . . [لقد] جاءت الواقعية لتدرس وتحلل ما هو قائم في العلاقات الدولية, وتحديداً, سياسة القوة والحرب والنزاعات, ولم تهدف كما فعلت المثالية إلى تقديم . . . [مقترحات] وأفكار حول ما يجب أن تكون عليه العلاقات الدولية". "وقد حاول الواقعيون الحصول على أجوبة لأسئلة مازال يطرحها الأكاديميون والمهتمون بالشؤون الدولية منذ الستينات وحتى يومنا هذا. إذن هدفت الواقعية إلى تقديم نظرية سياسية لتحليل وفهم واستيعاب الظواهر الدولية". يرى مورغنثاو (وهوا من ابرز منظري الواقعية) بان السياسة الدولية تتميز (وتنفرد) "كفرع أكاديمي عن دراسة التاريخ والقانون الدولي والأحداث الجارية والإصلاح السياسي". أهم المسلمات الأساسية في الفكر الواقعي 1. "أن السياسة لا يمكن أن تحددها الأخلاق كما يقول المثاليون بل العكس هو الصحيح. وبالتالي فالمبادىء الأخلاقية لا يمكن تط