د. إبراهيم الحيدري *
الشرق الأوسط - الخميـس 23 جمـادى الأولـى 1421 هـ 24 أغسطس 2000 العدد 10337
ثمة تساؤل مهم يطرح دوماً عن دور ووظيفة الفلسفة في المجتمع، والحلول التي تقدمها حول أزمة الإنسان المعاصر وهمومه وتطلعاته المستقبلية. فالفلسفة، هي قبل كل شيء، وسيلة معرفية نقدية تهدف إلى إنقاذ الإنسان وانتشاله من هوة الجهل والخرافة والقدر الأعمى وتعريفه بنفسه ونقدها بهدف إيقاظ الوعي الإنساني فيها. والحقيقة كان النقد ولا يزال من أهم وأخطر الأدوات المعرفية التي من الممكن ان تقوم بها الفلسفة، ليس نقد الأفكار فحسب، بل وممارستها في الواقع الاجتماعي. وهذا هو ما قامت به النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت باعتبارها أول تيار فلسفي ـ اجتماعي نقدي ومعاصر وجه نقده إلى الأفكار التي دعا إليها عصر التنوير ونكص عن تحقيقها، في محاولة لوضع نظرية نقدية للمجتمع تربط بين التفكير والممارسة ربطاً جدلياً.
إن التعريف بفكر وفلسفة مدرسة فرانكفورت النقدية وروادها الأوائل بعجالة أمر ليس بهين، بعد ان أصبحت هذه المدرسة اليوم أساساً لأغلب النظريات والاتجاهات النقدية لما بعد الحداثة، وخاصة في الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس والإنثروبولوجيا وحتى في الأدب والفن والموسيقى، وكذلك متابعة مصادرها وخطوط تطورها المتشابكة وتبلور نظريتها النقدية منذ نشأتها، محاولين قدر الإمكان توضيح العلاقات المعقدة لأفكار روادها الأوائل وخاصة في علاقتهم مع الفلسفات الهيغيلية والماركسية والوضعية من جهة، وحركات الشباب والطلاب التي تفجرت في منتصف الستينات من القرن الماضي من جهة أخرى، محاولين استعراض النظرية النقدية في ابعادها الفكرية والفلسفية والاجتماعية ونتائجها على تطور التفكير الاجتماعي والحركات الاجتماعية والثقافية والسياسية في الغرب، التي ميزتها عن غيرها من النظريات الفلسفية والاجتماعية، والتعرض إلى أهم المشاكل التي واجهتها في مسيرتها الفكرية الطويلة. وعلى الرغم من انطفاء شمعات أغلب روادها الكبار الا ان أفكارها الفلسفية والاجتماعية النقدية ما زالت حية، وهذا دليل على حيويتها وقوة تأثيرها وفاعليتها، التي مثلت جيلاً غير اعتيادي مرت لحظته التاريخية مروراً متميزاً وغير اعتيادي أيضاً ولم يبق من روادها الكبار اليوم سوى يورغن هبرماس، الذي يعد واحداً من أهم المفكرين والفلاسفة النقديين الكبار في أوروبا.
نظرية نقدية للمجتمع يرتبط اسم النظرية النقدية بمدرسة فرانكفورت للبحث الاجتماعي، التي هي قبل كل شيء نظرية نقدية للمجتمع التي تركز على الجانب الاجتماعي العملي في السلوك وتسعى جاهدة للبحث عن الطاقات الكامنة في الحرية والعدالة والسعادة حين تمارس تحت ظروف وشروط تاريخية محددة وتهدف إلى نظام اجتماعي أفضل يحقق تلك الطاقات والظروف. وكنظرية اجتماعية معيارية تحاول النظرية النقدية فهم وتشخيص أسباب الأوضاع السيئة في الواقع الاجتماعي. وينطبق هذا الهدف مع مقولات الرواد الأوائل لها، وعلى رأسهم ماكس هوركهايمر وثيودور ادورنو مثلما ينطبق ذلك على آراء زملائهم وتلامذتهم المعاصرين، وعلى رأسهم يورغن هبرماس.
يشير هوركهايمر إلى ان النظرية النقدية هي في المقام الأول ليست نظرية للمعرفة أو نظرية للحقيقة، مع انها جزء من المحاولات المستمرة التي تهدف للوصول إليها، انطلاقاً من اهتماماتها بالجانب الفلسفي للعلاقات الاجتماعية، فهي لذلك محاولة جادة لإيجاد بديل نظري ـ نقدي واضح المعالم للوقوف امام التيارات الفكرية والفلسفية التقليدية التي مارست انواعاً من السلطة التي هدفت إلى تقويض طوعي في تاريخ الفلسفة، الذي اجبر النظرية على التراجع، وقامت على أساس منهجي قويم هو الربط الجدلي بين النظرية والممارسة. كما أكد هوركهايمر، ان جدلية النظرية والممارسة يجب أن تكون داخلية، حتى لو تنكرت النظرية لكل فهم ذاتي وفي لحظة تشكيل المصلحة، لكن على النظرية النقدية أيضاً ان تستغني، في الوقت ذاته، عن المماثلة والأحكام القاطعة التي تثير المصالح أو ترتبط بها، كما عليها ان تستغني عن كل وساطة، لأن قيمة أية نظرية نقدية للمجتمع لا تتقرر بالفصل الشكلي للحقيقة وإنما بالشروع في لحظة تاريخية معينة بالقيام بواجبها تجاه القوى الاجتماعية، وان اتخاذ مثل هذا الموقف انما يهدف أساساً إلى توجيه المعرفة الذاتية نحو المجتمع ونحو مصلحة عقلانية إيجابية، وهو ما مكنها من ان تكون فلسفة اجتماعية هدفها نقد المجتمع وتعريته من خلال نقد النظام القائم والكشف عن جوانب الخلل فيه ورفضه اذا كان سلبياً. وبمعنى آخر تعرية المجتمع الصناعي ـ البرجوازي وعقلانيته التكنولوجية وما يرتبط بها من إيديولوجية، لأن نقد المجتمع، هو في الوقت ذاته، نقد ذاتي للأفكار التي تصدر عنه.
تمثلت النظرية النقدية بعدد من المفكرين الاجتماعيين الذين ينتمي الغالبية منهم إلى «اليسار الأوروبي» بعامة والألماني بخاصة، الذين سبقوا غيرهم في إثارة كثير من التساؤلات المعرفية التي تدعو إلى الشك والقلق والجدل، عن طريق نقدهم الفلسفي والاجتماعي والسياسي ورفضهم للنظام الاجتماعي القائم وكذلك إيديولوجيته. وكان من أبرز ما ميزهم عن غيرهم هو انتقالهم من نقد المجتمع ومؤسساته إلى نقد الفكر وآلياته، في محاولة لصياغة نظرية نقدية للمجتمع، وهو ما أثار اهتمام المثقف الأوروبي والأميركي وحرك في الستينات من القرن الماضي الشباب والطلاب للقيام بحركات اصلاحية في الجامعات والمؤسسات العلمية التابعة لها وكذلك في المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
مدرسة فرانكفورت ارتبط اسم النظرية النقدية بمؤسسها ماكس هوركهايمر (1895 ـ 1973) وزميله ثيودور أدورنو (1903 ـ 1969)، كما ارتبط اسمهما بمعهد البحث الاجتماعي بجامعة غوته بفرانكفورت، الذي اتخذ في ما بعد اسم «مدرسة فرانكفورت».
تمثلت مدرسة فرانكفورت باتجاهات فلسفية واجتماعية مختلفة يمكننا ايجازها بما يلي:
1 ـ اتجاه هوركهايمر وادورنو الذي تمثل بالمنهج النقدي الجدلي الذي يهدف إلى توحيد النظرية بالممارسة العملية وتقديم نظرية نقدية للمجتمع تستطيع الوقوف امام فكرة التسلط، العنف وتسعى إلى جعل الفكر النقدي ليبراليا وغير ليبرالي في الوقت ذاته، وأن لا تخجل من الصراع الاجتماعي الواقعي وأن لا تبخل عن أية مهادنة، مع أية سلطة، ما دامت تهدف إلى الاستقلالية وإلى تحقيق سلطة الإنسان على حياته الذاتية، مثلما هي على الطبيعة.
2 ـ اتجاه هربرت ماركوزة (1898 ـ 1984)، الذي تمثل في رفض المجتمع القمعي القائم والثورة عليه من خلال تأكيده على الدور الحاسم والثوري للعقل في حياة الإنسان وعدم النظر إلى المجتمع من رؤية ذات بعد واحد.
3 ـ الاتجاه النفسي ـ التحليلي الذي يتمثل بآراء ارك فروم والفرويديين الجدد، وهو اتجاه يقوم على مقدمات ماركسية في التحليل النفسي.
4 ـ اتجاه يورغن هبرماس (1929) وهو اتجاه فلسفي إنثروبولوجي يؤكد على دراسة الرأسمالية المتأخرة كمجتمع صناعي عقلاني ذي آيديولوجية تكنوقراطية، كما صاغها في نظريته في السلوك الاتصالي. مما مر ذكره أعلاه يلاحظ المرء أن النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت اتخذت في مسارها الطويل اتجاهات مختلفة، بسبب الخلفيات الاجتماعية لروادها من جهة واهتماماتهم المختلفة التي ارتبطت بأفكار عصر التنوير، من مثالية كانت وهيغل إلى تأويلية ماكس فيبر وفينومينولوجية هوسرل. ومع ذلك فإن هناك ما يجمع بين روادها، مع اختلاف اتجاهاتهم، وهو نقدهم للمجتمع الصناعي الشمولي وما يفرزه من تناقضات، وبخاصة في ثقافة البرجوازية.
النظرية والممارسة كما أن من أهم العوامل التي دفعت إلى نشوء النظرية النقدية، التي تختلف تماماً عما كان سائداً في الجماعات الألمانية التقليدية، هو ما تركته الحرب العالمية الأولى من آثار اجتماعية واقتصادية ونفسية وخيمة وما سببته من موت وخراب ودمار، وما تبعها من أزمات اقتصادية حادة وتحولات سياسية كبرى كان في مقدمتها الثورة البولشفية عام 1917 وتأسيس أول دولة اشتراكية في أوروبا، وكذلك قيام جمهورية فايمار عام 1919 في ألمانيا وما تبعها من صراعات وانقسامات سياسية في صفوف اليسار الأوروبي التي خلقت موقفاً ثالثاً كان أساساً لتشكيل فكر نقدي جديد يدور حول العلاقة بين النظرية وممارستها في الواقع الاجتماعي وكذلك تطوير معيار جديد يطعم الممارسة بإدراك نظري لكن من منطلق نقدي يوحد جدلياً النظرية بالممارسة بحيث يصبح النقد هدفاً لكل فعالية ثورية. كما ان فشل الحركات العمالية في أوروبا وتحولها عن أهدافها الطبقية كان عاملاً آخر قاد إلى صعود النازية في ألمانيا. ان هذه العوامل وغيرها كونت إشكالية قامت على المسرح السياسي والفكري وشكلت «لعبة مأساوية» على حد تعبير هوركهايمر، دفعت بدورها إلى تجمع «اليسار الجديد» في أوروبا، مثل اجدادهم «الهيغيليين الشباب»، لمعالجة القضايا العميقة التي واجهتهم، وعقد ندوة «احياء الماركسية» التي شارك فيها كبار الفلاسفة والمفكرين، كان من بينهم لوكاش وفتفوغل وغيرهما وترافقت مع صدور كتاب لوكاش «التاريخ والوعي الطبقي»، الذي أثار سجالاً واسعاً وشديداً بسبب نقده للديالكتيك المادي لفردريك إنغلز، تلك السجالات الفكرية التي أثرت على تطور النظرية النقدية ودفعت في الأخير إلى تأسيس معهد للبحث الاجتماعي في جامعة غوته بفرانكفورت الذي هدف إلى مواصلة البحث والنقاش والدعوة إلى تأسيس نظرية نقدية من الممكن ان تقف أمام النظريات الاجتماعية التقليدية التي لا تزال تسيطر على الفكر الاجتماعي والفلسفي في الجامعات الألمانية. وفي الحقيقة، فإن الأثر المباشر الذي أحدثته النظرية النقدية آنذاك هو انشقاق في صفوف اليسار الأوروبي المثقف، وبخاصة في مواقفهم من الماركسية التقليدية، الذي سنتكلم حوله في حلقة مقبلة.
* كاتب عراقي مقيم في بريطانيا
محمد انا بحاجةالى هذا الموضوع ارسله لي عبر الاميل*فريال*
ردحذفشكرا
شكرا جزيلا تسلم اليد التي كتبته
ردحذف