د. محمد محمود الأمام
مقدمة:(*)
تظل قضية الوحدة العربية تشغل الأذهان، وتفرض نفسها ليس فقط على المجتمع العربي، بل وعلى المجتمعات الأخرى التي تولي اهتماماً خاصاً للإقليم الذي يقع فيه الوطن العربي، وتتصدى بإصرار لقضية العروبة التي تظل حية رغم كل الجهود التي بذلت من أجل وأدها، ورغم قيام العرب أنفسهم باستكمال تلك الجهود بسعيهم الدائم إلى التناحر فيما بينهم وإلى الارتباط بمن ليسوا منهم. وإذا كان بعض دعاة الوحدة قد جعلوا منها حتمية تاريخية، نبتت جذورها عبر قرون طوال من التلاحم والتقارب الذي عززته كل القوى التي تجعل من إقليم معين موطناً لنظام إقليمي قائم بذاته ومتميز بخصائصه وصفاته، وصاغوا دعاواهم في قالب عاب عليه البعض أنه يتضمن قدراً غير قليل من الرومانسية، كتعبير مهذب لوصفه بالبعد عن الواقعية والموضوعية، فإن ما شهده الربع الثالث من القرن العشرين الحافل من تدافع نحو الاستقلال السياسي من ناحية، وتكالب على تحقيق التنمية الاقتصادية الاجتماعية وما تعنيه من استقلال اقتصادي ومن تأكيد للهوية الذاتية الثقافية والاجتماعية من ناحية أخرى، أسفر عن تيار فكري يؤكد الحاجة إلى الوحدة العربية من منطلق الضرورة المصيرية المستقبلية؛ أو على الأقل يحبذ العمل على تحقيق "التكامل الإقليمي" باعتباره أجدى مما عداه من أساليب لتنظيم العلاقات الدولية لمختلف أقطار الوطن العربي. ونشأ هذا التيار بوجه خاص بين المهمومين بشؤون التنمية، وجلهم مثلي من الاقتصاديين الذين ضاق صدرهم بالقيد الحديدي الذي يفرضه أساطين علم الاقتصاد في الفكر الغربي، وهو الفكر الغالب في عصرنا الحالي، فمالوا إلى تحطيم القيود بتناول علم مجتمعي أكبر، يجمع بين مختلف أوجه الحياة الإنسانية في تشابك وتفاعل دائمين، ويربط بين التكتل والتنمية والأمن القومي في اعتماد جماعي على النفس.
كانت بدايات النصف الثاني من القرن العشرين مفعمة بآمال الوحدة وطموحات التنمية، بقدر ما انطوت على عوامل الصراع الذي تحالفت فيه قوى داخلية وخارجية من أجل إجهاض مساعي الوحدة والتنمية معاً، حتى في اللحظات التي شهدت امتلاك العرب إمكانات وعدت بأن يصبحوا القوة السادسة في العالم. ثم جاء العقد الأخير حاملاً معه كمّاً من الأحداث والتغيرات على الأصعدة العالمية والإقليمية والقطرية يدعو إلى إعادة النظر في كثير من المفاهيم والمعتقدات، ومراجعة المواقف والاستراتيجيات، وفي مقدمتها ما يتعلق بقضيتي الوحدة والتنمية بوجه خاص. ما الذي تغير، وكيف؟ هذا هو السؤال الأول الذي يتعين علينا الإجابة عليه، بقدر تعلق الأمر بهاتين القضيتين. في ضوء الإجابة نستطيع أن نستخلص مغزى هذه التغيرات بالنسبة إلى العوامل المحددة للموقف من قضية الوحدة، ومدى دفعها للحركة نحو الوحدة أو بعيداً عنها، وفي أي اتجاه. وحتى تتبين لنا قواعد الحركة في المستقبل علينا أن نتفق على عدد من المعايير التي يمكن الاستناد إليها في الإجابة على السؤالين الرئيسيين اللذين نختتم بهما هذه الدراسة: ما هوالموقف الأنسب من قضية الوحدة استناداً إلى تلك المعايير؛ ثم ما هي المكاسب والمغارم التي تعود من تحقيقها على النحو المقترح، بالمقارنة بالبدائل الممكنة والمحتملة.
ما الذي تغير؟
منذ سنوات عشر اجتمع في صنعاء أكثر من 90 مفكراً وباحثاً عربياً من شتى المشارب ومختلف الأجيال، ليتداولوا حول "الوحدة العربية... تجاربها وتوقعاتها". وجرى تناول الموضوع وفق مخطط تفصيلي أريد له أن يكون شاملاً من الوجهات التاريخية والتحليلية والتطبيقية، واختتموا أعمالهم بحوار مفتوح حول "ما العمل في مواجهة تحديات المستقبل". والمتأمل لمجمل الحوار يجد أن الإجابات مثيرة للآمال في جانب ومحبطة لها في جانب آخر. فمن ناحية نجد أنه كان هناك نوع من الاتفاق العام على أهمية الوحدة وضرورتها المستقبلية، وعلى تقييم جدواها في مواجهة التحديات التي كان في مقدمتها النزعات القطرية، وإن تحسّب البعض من احتمالات تفتت الأقطار ذاتها، وحذرت قلة من أن تقضي عليها مخططات يراد بها إحالة الوطن العربي إلى جزء تابع فيما يسمى الشرق الأوسط. أي أن الخطر الماثل في الأذهان كان هو التجزئة والتشتت الذي تدعمه أطراف خارجية، أكثر منه قيام هذه الأطراف باستيعاب الأقطار في تشكيلات إقليمية بديلة.
وكان هناك اعتراف من التيارات الأخرى، خارج التيار القومي العربي، بأهمية الوحدة وتأسيسها على النطاق العربي؛ يستوي في ذلك رموز من التيار الإسلامي وأخرى من التيار الماركسي، وإن ظلت الشكوك تراود البعض حول محاولات التيار الإسلامي ابتلاع الوطن العربي من خارجه. وكان هناك تقدير من البعض لإنجازات تمت على مستوى العمل العربي المشترك، وتأكيد على أن التراكم المتوالي لهذه الأمور، مهما بدا بعضها صغير الشأن، يصب في النهاية في الهدف الأساسي. مثل ذلك أيضاً موقف البعض من التكتلات الجزء إقليمية، وإن حذر آخرون من كونها تتم في حقيقة الأمر على أرضية تباعدية لا تقاربية. أمر اتفق عليه الجميع، وهو الصلة الوثيقة بين القضية الفلسطينية وقضية الوحدة، وميل إلى اعتبار أن الأرجح هو أن تصبح الأولى الطريق إلى الثانية، بعد أن عجز الاتجاه العكسي عن فرض نفسه. ولم يتوقف الجمع كثيراً عند تخوّف أحدهم من أن يرتضي أصحاب الانتفاضة تفاوضاً على ما هو دون التحرير التام واسترداد كامل الحقوق.
بالمقابل كان هناك من شكك في تأسيس الوحدة على القومية، مبيناً أن القومية ليست شرطاً موجباً للوحدة، ومستدعياً شواهد تاريخية ومعاصرة على ذلك. كان هناك أيضاً جدل احتدم أحياناً، حول الموقف من القطرية، التي كسبت مطالبين بضرورة أخذها في الاعتبار كواقع لا يمكن تجاهله، والدعوة للتأمل في أسباب تجذرها. كان هناك أيضاً نوع من المحاكمة للفكر الوحدوي التقليدي الذي ظل يراوح مكانه، بما فيه من ميل إلى الرومانسية، وافتراض غير صحيح بأن العرب سبق لهم أن أقاموا دولة وحدة في سعي واعٍ لتخطي قطرية لم تكن مقوماتها قد اكتملت في يوم من الأيام. فما كان بينهم هو أن راية واحدة جمعتهم، أساساً تحت مظلة خلافة إسلامية. وما حدث من غياب للحدود ومن عوائق تقام عليها حائلة دون انتقال البشر وفعالياتهم كان مرجعه ببساطة إلى أن تلك الحدود وما يحيط بها من إجراءات بدعة لم تكن قد عرفت بعد. وبالتالي فالعرب على أحسن الفروض كانوا ولايات ضمن كيان جمعه تآلف ثقافي له بعد سياسي مرتبط بالأساس الحضاري الإسلامي، أكثر منه تعلقاً بأهداف تشكلت وفق خصوصيات ذاتية، وبالتالي فإن تحول الولايات إلى أقطار جاء انعكاساً لمحاولاتها مقاومة ما ابتلي كل منها به من استعمار. وتبقى الحقيقة الملفتة للنظر أن مداولات الجلسة الأخيرة عجزت عن أن تقدم برنامجاً محدداً للعمل، خاصة وأن المقترحات الواعدة بشيء من الفاعلية كانت تدعو إلى الكفاح الثوري، وتلك مهمة لا تندرج ضمن صلاحيات جماعة من المثقفين يدرسون ويتحاورون، وإن اتفقوا على أن الأمر يقتضي تحركاً طبيعته سياسية في المقام الأول، سواء ذهب التحرك إلى حد الثورة الشعبية أو اكتفى بأسلوب التغيير من الداخل وفق النهج الإصلاحي الذي دعا إليه عدد من المفكرين، حيث فضل البعض أسلوب محمد عبده على منهج جمال الدين الأفغاني.
ما الذي تغير منذ ذلك التاريخ عبر العقد الأخير؟ نقول لقد حدث الكثير، ولكن الأهم أننا أصبحنا ندرك أيضاً الكثير، بعد أن أعطينا أنفسنا ترف تجاهل إرهاصات بقينا نتناولها في إطار شبه أصولي، يميل إلى تأكيد صحة مواقف سابقة والدعوة إلى التمسك بنفس الأدوات وانتهاج نفس السبل. القائمة تطول، ولكننا سوف ننتقي منها ما يمس موضوعنا، وهو ليس بالقليل بل يبلغ الأربعين عدداً:
* الاستشعار المتزايد بظاهرة الكوكبة، أو ما يسمى العولمة، أسبابها وتداعياتها، التي لها صلات وثيقة بالكثير من الأبعاد التالية، ومغزاها بالنسبة لاستراتيجيات الأقطار العربية وقضية الوحدة.
* تفكك المعسكر الاشتراكي، وانتهاء الحرب الباردة والصراع الأيديولوجي، وعواقب ذلك على الوطن العربي، أقطاره ووحدته وقضاياه.
* تعامل الولايات المتحدة مع ظاهرة الكوكبة في ظل غياب القطب والمعسكر الاشتراكيين، وإعلان رئيسها بوش مولد نظام عالمي جديد، في تعبير واضح على إنهاء سياسة العزلة واختيار الهيمنة.
* إعادة ترتيب البيت الأوروبي، والتحول من أوروبا 1992 إلى "أوروبا من الأطلسي حتى الأورال" (وفق نداء ديجول) واتساع "المجال الأوروبي" كاستراتيجية مواجهة ما بعد انتهاء الحرب الباردة.
* تولي مجموعة السبعة التي تسيطر على ثلاثة أرباع الإنتاج العالمي إدارة الرأسمالية العالمية.
* ظهور الصين كقوة اقتصادية سريعة النمو، وسعيها إلى غزو أسواق الدول النامية، مع إدارة صراع اقتصادي مع الولايات المتحدة.
* وترتبط الكوكبة بتداعيات الثورة التكنولوجية، أو ما يسمى الموجة الثالثة، وما يتولد عنها من تغيرات كبيرة في الهياكل الاقتصادية، وتركيبة القوى العاملة، وفي نظم الإدارة وأدوات السيطرة والتحكم عن بعد، واتضاح مدى خطورة مضامينها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
* إدراك أهمية المعرفة النظرية والتطبيقية كعنصر رئيسي، يرتبط بشكل وثيق بتقدم التعليم وارتقاء البحث العلمي والتطوير التكنولوجي، وما يعنيه هذا من ضرورة مراجعة العرب لأسلوب تعاملهم مع التكنولوجيا على أنها المنتجات الصلبة للمعرفة. ويعني هذا ثبوت عجز عمليات البيع والشراء أو المقايضة بالنفط، وضرورة توفير قاعدة بحثية عريضة تتجاوز حدود القطر الواحد.
* إلا أن الثورة التكنولوجية أضافت إلى جيوش البطالة في الدولة الصناعية الكبرى، التي بدأت في البحث عن تعاون في مواجهتها، بعد أن بدأت تتحول إلى اضطرابات اجتماعية متفاقمة.
* ومن هذا المنطلق تتعرض حركة البشر للتقييد، وتعمل دول الشمال على الحد من الهجرة من دول الجنوب، مما زاد من تفاقم مشكلة البطالة في دول العالم الثالث عامة والعربية خاصة.
* انتهاء جولة أوروجواي للجات باتفاقيات "مراكش"، وانضمام منظمة التجارة العالمية إلى الإطار المؤسسي الذي ترعاه القوى الفاعلة في الكوكبة، لتفرض قواعد إلزامية لتنظيم التدفقات الاقتصادية الدولية، متجاوزة التجارة في السلع الصناعية إلى الزراعة والخدمات ورأس المال.
* استمرار السياسات الحمائية للدول الرأسمالية، تحت ستار المواصفات وحماية الملكية الفردية، وإلغاء المزايا النسبية للدول النامية بما يسمى الشروط الاجتماعية للعمل ومستويات الأجور.
* استخدام أزمة الديون لإحداث ضغوط على الدول النامية لإحلال تدفقات رأس المال الأجنبي الخاص محل الاعتماد على القروض قصيرة وطويلة الأجل، التجارية والرسمية. وفتح هذا الباب أمام رأس المال النقدي قصير الأجل، المنشغل بالمضاربات الرأسمالية أكثر من قيامه بالمشاركة في النشاط وجاءت كارثة النمور الآسيوية، قديمها وحديثها، مجسدة لمخاطر هذا المنهج.
* ورغم ذلك يستمر السعي إلى استكمال حلقة الأسواق المالية العربية وتوثيق صلاتها بالأسواق العالمية، لتنشئ قواعد دائمة لحركة التدفقات المالية من وإلى الوطن العربي، واضعة حدا للدعاوى السابقة التي طالبت رأس المال العربي بدعم التنمية العربية كعماد للتكامل العربي.
* تكثيف الجهود الدولية لفتح الاقتصادات أمام الاستثمار الأجنبي المباشر، مع منحه حرية ممارسة النشاط الاقتصادي في أرجاء الوطن العربي، بدوافع ليس من بينها توثيق عرى التشابك الاقتصادي بين أجزائه. يقابلها تهافت الدول العربية على اجتذابه، بل والتسابق نحو إسرائيل ظناً بأنها المفتاح السحري إليه، إلى حد الصراع بينها حول إقامة مؤتمرات التآمر الشرق أوسطي.
* إصرار الدول الصناعية المتقدمة على إغلاق باب المعونات، بدعوى التحول من منح تفضيلات إلى شراكة في ظل عدم تكافؤ، وفرض شروطها بشأن النظام الاقتصادي وإدارة العلاقات الدولية.
* حصول قضايا البيئة على أولوية في الاهتمامات الدولية، وضآلة ما تعهدت به الدول الصناعية من التزامات للتعامل معها، في الوقت الذي تتخذ فيه منها أدوات جديدة للحد من القدرات التنافسية للدول النامية، بل وتحويلها إلى آلية للعقاب، كما في حالة ضريبة الكربون.
* الإقليمية الجديدة، الهادفة إلى ربط الدول النامية بعجلة القوى الرأسمالية الكبرى، كبديل للإقليمية التقليدية القائمة على مفاهيم التكامل الإقليمي التي ظلت حتى الآن طريقاً مرشحاً لبناء الوحدة بأسلوب تدريجي، في أقاليم مختلفة منها العربي.
* محاولات أطراف خارجية فرض هذه الإقليمية الجديدة على الوطن العربي، تجلت في تبني الجماعة الأوروبية سياسة متوسطية جديدة، والتفاوض المستمر على تحرير التجارة مع الخليج.
* انضمام الدول العربية إلى قائمة الدول النامية التي يعتبر عقد الثمانينات بالنسبة لها "العقد الضائع للتنمية". وتعرض نماذج التنمية القطرية المطبقة لانتقادات شديدة بقدر تعرض نماذج التنمية المستقلة بالاعتماد الجماعي على النفس لهجوم شرس.
* تطبيق عدد كبير من الدول العربية برامج إصلاح اقتصادي، إن طوعاً وإن كرهاً، على النمط الذي تصوغه المؤسسات الاقتصادية الدولية. واتباع استراتيجيات تنموية تقوم على مزيد من الاندماج في الاقتصاد العالمي بتكثيف التصدير ومن ثم الاستيراد، والارتباط بشركاء من دول رأسمالية سعياً إلى جلب استثمارات منها أملاً في أن تساعدها على التصدير إليها!
* تجريد العرب من "سلاح النفط" بل واستخدامه ضدهم، وتراجع ظاهرة الفوائض التي شغلت الأذهان بعض الوقت وعدم تحقق التنبؤات بارتفاع أسعار النفط اعتباراً من منتصف التسعينات.
* تزايد المخاطر الأمنية الإقليمية لتتصدرها قضية المياه، التي توظفها كل من إسرائيل وتركيا، ومن خلفها الولايات المتحدة، في تقييد الإرادة العربية، وتبديد الموارد الشحيحة أصلاً لديها.
* نجاح شطري اليمن في 1990 في إنهاء حقبة طويلة من الخلاف على كيفية تحقيق وحدة اليمنين، ثم تعرض هذه الوحدة بعد قليل لمخاطر الصراع الذي غذته أطراف عربية.
* بالمقابل تعددت حالات تفتت الدولة القطرية، وإن اجتاز لبنان محنته الداخلية بعد تجميد قوى العراق الذي كان يستغلها في الصراع العقائدي مع سوريا، من أرضية الوحدة!
* انتهاء حرب الخليج الأولى والتطورات في مواقف الثورة الإيرانية من قضايا المد الإسلامي ومن دول الجوار العربية، ومن القضايا العربية بما في ذلك القضية الفلسطينية.
* اتجاه منظمة التعاون الاقتصادي التي تضم بقايا حلف السنتو (إيران وباكستان وتركيا) للتوسع باتجاه الجمهوريات الإسلامية المستقلة عن الاتحاد السوفيتي السابق في وسط آسيا.
* دعوة تركيا في ظل حكم الرفاه إلى تبني فكرة جماعة الثمانية كمنظمة إقليمية ذات وجه إسلامي في محاولة لإكتساب موقع استراتيجي مؤثر تجاه جاراتها العربية وإيران.
* دعوة منظمة الوحدة الأفريقية إلى إنشاء جماعة افريقية، بدءاً بإقامة مناطق تجارة حرة إقليمية في أقاليم تغطي القارة، وتضم الدول العربية الإفريقية.
* إعطاء منظمة المؤتمر الإسلامي وزناً أكبر لإقامة تعاون اقتصادي إقليمي يضم أعضاءها السبعة وخمسين، وإن ظلت غير فاعلة بالنسبة للقضايا التي دعت لظهورها وفي مقدمتها قضية القدس.
* محاولة بث الحياة في مجموعة السبعة والسبعين، وتبني دول عدم الانحياز إقامة مجموعة الخمس عشرة دولة على نطاق القارات الثلاث، مشتملة دولتين عربيتين (الجزائر ومصر).
* تعرض الوطن العربي لكارثة بالاجتياح العراقي للكويت، وما ترتب عليه من ضرب قوى الوحدة، خاصة في الجزيرة العربية، في الصميم. وفتح الباب واسعاً أمام الولايات المتحدة لتعيد رسم خريطة المنطقة، وتحقق احتلال منابع النفط الذي هددت به منذ السبعينات، ولكن بدعوة من أهلها.
* سيطرة مفهوم الأمن الإقليمي، وتغلبه على الأمن القومي، وقد كان هذا الأخير من أكبر أسانيد وحدة العرب، وارتبط بالتوجه إلى التنمية العربية.
* وفي هذه الظروف سنحت فرصة لا يمكن أن تتكرر لإجهاض الانتفاضة الفلسطينية، ولفرض تسوية أنهت كفاح العرب، وأزالت القاعدة التي ربطت بين الوحدة والقضية القومية.
* ورغم الإدعاء بأن التحرك نحو السلام يحرر موارد للتنمية، فإن ما يوجه إلى التسليح تزايد بدلاً من أن يتناقص، بما في ذلك تسليح إسرائيل المحتفظة بقوى التدمير الشامل.
* محاولة الولايات المتحدة تطبيق الإقليمية الجديدة، سواء بإقامة شراكات ثنائية مع دول عربية، أو تأكيد دور إسرائيل كرأس حربة لاستعمار بوضعها على رأس ما يسمى التعاون الشرق أوسطي، وبدء مسلسل احتواء دول الجوار الإسرائيلي، بإقامة منطقة حرة تضم معهما الأردن.
* تجريد العرب من مصادر دخل بديلة للنفط تأكيداً للسيطرة الرأسمالية عليه، بتعريض أرصدتهم الخارجية للضياع، بدءاً بانهيار بنك الاعتماد وتبديد الاستثمارات الكويتية الخارجية.
* عودة محاولات التكامل الجزء إقليمي، ولكن لتتراجع بسرعة. فتكامل وادي النيل أصبح في خبر كان، ومجلس التعاون العربي ثبت فساد مقاصد بعض أطرافه، وما لبث أن طواه النسيان. أما المجلس المغربي فقد آذن بنوع من الهدنة المغربية، لتعاود أطرافه مساعي الالتحاق بأوروبا.
* الميل مؤخراً إلى تكثيف صيغة الاتفاقيات الثنائية، بما في ذلك إقامة مناطق تجارية حرة ثنائية.
* التوصل إلى اتفاق حول إقامة ما يسمى منطقة تجارة حرة عربية كبرى، كمخرج من مجافاة اتفاقية تيسير وتنمية التبادل التجاري لشروط الجات، وتبنى مصر عملية إعادة إحياء السوق العربية المشتركة، التي تجمدت أمداً طويلاً.
تلك كانت قائمة ضمت أربعين عنصراً فاعلاً في تغيير الأوضاع التي يعيشها العالم العربي، والعالم أجمع من حوله، برزت بشكل واضح في العقد الأخير، بعضها كانت له بدايات سابقة، ولكنه اتخذ أبعاداً ذات شأن ليصبح من مواضيع الساعة، وبعضها ظهر وتبلور خلال العقد ليشكل مع غيره منظومة تكاد تصب في اتجاهات محددة، أقل ما توصف به أنها أبعد ما تكون عن آمال الأمة العربية وطموحاتها، وفي مقدمتها قضية الوحدة. وهي في واقع الأمر محصلة تطور في النظام الاقتصادي العالمي، وصل به إلى أعتاب مرحلة جديدة تكاد تنفصم جميع صلاتها بالماضي.
التطور في النظام الاقتصادي العالمي:
نظراً لكون قضية الوحدة تقع في نطاق العلاقات الدولية، ولأنها كما سنرى فيما بعد تجنح إلى تغليب العنصر الاقتصادي، رغم كونها عملية سياسية في المقام الأول، فإن من المهم أن نتعرف على ما إذا كانت التغيرات السابقة الذكر قد حدثت بصورة تلقائية خضعت فيها كل ظاهرة لعوامل خاصة بها، لتتجمع منها بعد ذلك صورة مركبة تبدو مغايرة لما سبقها، أم أنها وليدة تغير أصاب النظام الاقتصادي العالمي، باعتبار أنه يشمل النظام الاقتصادي الدولي، المعبر عن العلاقات بين الدول كأحد شقيه، أما الشق الآخر والأكبر فهو النظم الاقتصادية الداخلية للدول، وهي بالضرورة شديدة التنوع. يذكر في هذا الصدد أنه جرت محاولات في الأمم المتحدة خلال السبعينات لتصويب النظام الاقتصادي الدولي، فإذا الأمر يتحول سريعاً إلى تغيرات في الأنظمة الداخلية، انعكس بالضرورة على العلاقات الدولية، بما فيها قضايا التكامل والوحدة عامة والعربية خاصة. وفي اعتقادنا أن كثيراً من الحوار حول هذه القضايا، بتجاهله هذه البعد ، أخرجها من إطارها الموضوعي، واصطدم بالدعوة إلى مناهج وآليات لم تعد متفقة مع التطورات العالمية.
وقد ارتبطت التطورات التي مر بها النظام العالمي بتعاقب الثورات الصناعية وما أدت إليه من تطور في نظم الإنتاج الرأسمالي، وتغيرات في الهياكل الإنتاجية، وما تنطوي عليه من علاقات أولية تتعلق بمراكز اتخاذ القرار على المستوى الإفرادي وبخاصة المنشأة، ومغزاها بالمستوى الكلي لاتخاذ القرارات أي الدولة، وبالنسبة للعلاقات الدولية، وإلى الأسواق وتطور العلاقات بينها بحكم أن الإنتاج الصناعي هو أساساً إنتاج للسوق، وانعكاس ذلك على العلاقات الاقتصادية الدولية. من جهة أخرى فإن العلاقات بين دول تتفاوت اقتصاداتها من حيث القوة تأثرت بعملية "الهيمنة"، التي تنعكس في شكل استيلاء بعض الأقطار على موقع القطبية من النظام وسعي دول أخرى إلى البقاء في مركزه من خلال تطوير طبيعة الاستعمار، وهو ما يتطلب دراسة تطوره. وهكذا نجد أن النظام الاقتصادي العالمي مر بثلاثة مراحل شهد القرن العشرون نهايات أولها في بدايته، ومقدمات ثالثها في أواخره. ونظراً لأننا لسنا هنا بصدد دراسة تفصيلية لتطور النظام العالمي، فسوف نركز فيما يلي على أهم معالم المراحل الثلاث وفقاً للعناصر السابقة، ومغزى ذلك بالنسبة إلى عملية الاندماج الإقليمي.
فالمرحلة الأولى اقترنت بالثورة الصناعية الأولى، وتميزت بالآتي:
* كانت المنشأة هي المنتج الفردي، الذي يغلب عليه صغر الحجم.
* وبالتالي اتسمت الأسواق داخل الدول الصناعية بالمنافسة الحرة.
* وفرض هذا على الدولة أن تلعب دور الحارس، الذي يوفر الأمن ويكفل الحريات، دون أن يكون له دور مباشر في الإنتاج في الداخل.
* بينما مارست في الخارج تأمين مصادر المواد الأولية الشحيحة، وتيسير النفاذ إلى الأسواق الخارجية، وحجب كل منهما عن الدول المنافسة. وكانت أداتها في ذلك الاستعمار المباشر.
* وهكذا أقامت الدول الاستعمارية تكاملاً قسرياً، لا يتخذ شكل تكامل إقليمي بالصيغة المعهودة، بل تكامل بين إقليمين أو أكثر، أحدها هو أحد دول المركز والباقي مجموعة من الدول المتخلفة في الأطراف. وغطى النهب المنظم لموارد المستعمرات تكلفة الأعباء السياسية والعسكرية.
* وحماية لموقعها الرائد للتحول الصناعي، عمدت بريطانيا إلى تعزيز قدراتها الاستعمارية إزاء القوى المنافسة بشغل موقع القطب الأكبر، اعتماداً على أساطيل عسكرية وتجارية ضخمة، وبفكر اقتصادي يدعو لتقسيم عمل يقوم على المزايا النسبية، ويبرز تخصص الدول النامية في المواد الأولية.
* أما الدول التي عجزت عن الدخول في لعبة الاستعمار، فقد لجأت إلى الحماية لاجتياز مرحلة التعلم الصناعي في وجه منافسة الدول الاستعمارية، وحدث هذا في دول حديثة العهد بالاتحاد.
فهو بدأ على يد هاميلتون في أواخر القرن الثامن عشر في الولايات المتحدة، بعد تكوين دولتها الاتحادية. وهو تكرر في ألمانيا على يد ليست حين بدأت ولاياتها في التجمع في اتحاد جمركي (الزولفرين) في منتصف القرن التاسع عشر. وكان هذا إيذاناً بارتباط فكرة التكامل الإقليمي بالحماية والتصدي لما تفرضه الحرية الشاملة للتجارة التي تفرضها دول المركز من عدم تكافؤ.
وبدأت المرحلة الثانية في ظل الثورة الصناعية الثانية، التي بدأت القيادة تنتقل فيها إلى الولايات المتحدة. وتميزت هذه المرحلة بالآتي:
* تحول المنشأة إلى الشركة الوطنية الكبيرة Corporation، التي تتطلب اقتصادياتها اتساع السوق.
* وأدى كبر الحجم إلى صعوبة المحافظة على المنافسة الحرة في الأسواق المحلية، فحدث تحول إلى منافسة احتكارية أو منقوصة في الداخل، ومحاولات لاحتكار أسواق الدول الأقل تقدماً.
* كذلك أدى كبر الحجم إلى سيطرة كبار الرأسماليين على الحكم، أو قيام الحكومات في النظم التي لا تولي هؤلاء ثقتها (كالنظم الاشتراكية والفاشية) بدور رأس المالي، خاصة وأن الحجم الكبير يمكنها من ذلك. وبالتالي أصبحت الدولة مسيطرة على النشاط الاقتصادي، كما بدأت تلعب دوراً أكبر في عملية إعادة التوزيع وإقامة دولة الرفاهة، وكذلك في التنمية بالنسبة للدول النامية.
* ومع التعقد في عمليات التصنيع والتوسع في تصنيع المستلزمات كبديل للخامات جرى نقل مراحل من الإنتاج إلى الدول النامية التي اتجهت إلى تصنيع منتجات نهائية اعتماداً على استيراد السلع الوسيطة والرأسمالية من الدول المتقدمة، بل والسلع الاستهلاكية المتطورة. واستطاعت هذه الاحتياجات أن تخفف الحاجة للاستعمار المباشر، ليحل محله الاستعمار الجديد غير المباشر.
* ومع الدور القيادي للدولة تغيرت قواعد القطبية، لتصبح صراعاً بين الأنظمة، أخذ خلال الحرب العالمية الثانية شكل صراع قادته بريطانيا ضد فاشية دول المحور، انتقلت فيه قيادة نظام السوق إلى الولايات المتحدة لتبدأ صراعاً مع نظام يتزعمه الاتحاد السوفيتي يقوم على الإدارة الجماعية ويختلف في أسسه الاجتماعية. وعمدت في البداية إلى تحصيل تكاليف الصراع من مشاركات دول أوروبا الغربية، وعن طريق إقامة نظام اقتصادي ونقدي دوليين يتيحان لها استمرار تحويل موارد من باقي العالم إليها. وكان لا بد لهذا الوضع من الانهيار، وهو ما حدث في السبعينات،التي سنحت خلالها فرصة للعرب سرعان ما ضاعت، وجرت إعادة تنظيم صفوف الدول الرأسمالية وقيامها بإدارة تضخم رغم الركود الذي عانته، تم فيه استنزاف العالمين الثاني والثالث.
* ونظراً لحاجة الدول الأوروبية إلى ملاحقة التطور الذي تمخضت عنه الشركات الكبيرة، سعت إلى تنظيم التكامل الإقليمي الذي اختارته كسبيل للتغلب على صراعاتها، على أساس اقتصادي يتيح لها الاستفادة من السوق الإقليمية الكبيرة. وشجعتها الولايات المتحدة على ذلك حتى تتسع أمامها السوق الأوروبية، خاصة في ظل تزايد اعتماد أوروبا عليها نتيجة للتخريب الذي أحدثته الحرب.
* وكان على الدول الأوروبية واليابان أن تتصارع لإصرار الولايات المتحدة على حرية التجارة الدولية متعددة الأطراف. وعمدت الدول النامية إلى الإحلال محل الواردات في ظل الحماية، كما نجحت حركة عدم الانحياز في الحصول على تفضيلات في المعاملة من الدول الصناعية. إلا أن الدول الصناعية تفننت في أساليب الحماية التي حدّت من قدرة الدول النامية على النفاذ إلى أسواقها . وفي الوقت نفسه لم تلق جهود التكامل الاقليمي التي جرت في أقاليم العالم الثالث خطاً يذكر من النجاح، بسبب كثافة علاقات الدول النامية بدول المركز التي زادها الاستعمار الجديد.
وكان من الواضح أن النظام الذي نشأ خلال المرحلة الثانية لم يكن قابلاً للاستقرار والاستمرار. وبالتالي بدأت المرحلة الثالثة، خاصة بعد أن تشكلت ملامح الثورة التكنولوجية، التي يراها البعض ثورة صناعية ثالثة، ويعرفها البعض بدقة أكبر بأنها موجة ثالثة، قوامها الخدمات شديدة التطور:
* فنشاط الشركات الكبرى لم يقتصر على التمركز في مواطنها والاكتفاء بالتصدير إلى باقي العالم، بل امتدت بنشاطها إلى الخارج لتصبح عابرات للقوميات، في تدويل مستمر للنشاط الإنتاجي.
* وحتى تنشر أنشطتها في أرجاء العالم، بدأت تدفع نحو تحرير الأسواق والربط بينها في شبكة من الأسواق المتداخلة ليبدأ حديث عن "أسواق عالمية" و"أسعار عالمية". وتحول جانب كبير من التبادل الدولي إلى تجارة بين فروع العابرات أكثر منه تجارة بين الدول.
* وبالتالي فإن الرأسمالية الكبيرة بدأت تخرج على الدولة، وتجند الدول جميعها لخدمتها. وهكذا تحولت الدولة إلى الدولة المديرة، المسؤولة عن ترتيب شؤون البيت Housekeeping من أجل توفير الظروف الممكنة لعابرات القوميات لتتمكن من اتخاذ قراراتها وتحريك تدفقاتها دون عائق.
* وتغيرت قواعد الاستعمار ليقوم على تحريك حركات رأس المال وما يتطلبه من حرية ممارسة النشاط وعلى تحرير الخدمات، ومن ثم إجبار الدول جميعاً على تغيير نظمها الداخلية لتتفق مع ما تفرضه العابرات التي حلت محل الحكومات في إدارة الاقتصاد العالمي، بشقيه الدولي والمحلي.
يعزز هذا سيطرة العابرات على شبكات التمويل والتسويق، وقيام الصندوق والبنك بتأمين التحول في الأنظمة المحلية، بينما تتولى منظمة التجارة العالمية الإشراف على العلاقات الدولية.
* ومن موقع القطبية قامت الولايات المتحدة بدور "الدولة المدبرة الكبرى" بتوجيهها التغيرات نحو النظام القائم على تدويل الإنتاج، ولكنها باتت عاجزة عن الجمع بين الهيمنة السياسية واستمرار التفوق التكنولوجي في ظل تنامي العجز الاقتصادي، وتراجع حدود النهب من العالم الثاني بتحوله إلى نظام السوق، ومن العالم الثالث بسبب تراجع نموه. وترفض الدول الصناعية، لا سيما ألمانيا واليابان تحمل مزيد من الأعباء الاقتصادية إلا بالحصول على دور سياسي أكبر. وبذلك يصعب على الولايات المتحدة الخروج من مأزقها الاقتصادي بأي من الأسلوبين، الاستمرار في الانفراد بالهيمنة السياسية، أو قبول شركاء فيها، خاصة بعد أن قاربت من استنفاد الغرض منها برضوخ معظم دول العالم للنظام الذي تتزعمه، وتمكن العابرات من التغلغل في مختلف أرجاء العالم.
* وكان أحد الأساليب التي لجأت إليها الولايات المتحدة تحويل التكامل الإقليمي عن مفهومه الأساسي الرامي إلى خلق كيانات تتصف بقدر من التكافؤ الاقتصادي غير متوفر دولياً، إلى إقليمية جديدة (انظر بعده)، تربط بها جاراتها في نصف الكرة الغربي، وتعبر به المحيطات إلى أسواق جنوب شرق آسيا (الآبك) وتتغلغل في الأسواق العربية عن طريق إصرارها على الشرق أوسطية.
* وحل محل مبدأ الحماية الذي كانت تحمي به دول أو تجمعات إقليمية أسواقها الداخلية الضيقة من المنافسة العالمية، مفهوم الكتلة الحرجة Critical mass، الذي يرفع القدرة التنافسية للأنشطة الاقتصادية برفع كفاءتها داخلياً في نطاق سوق متسعة. وقد اختارت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية كمعيار لهذه الكتلة حداً أدنى للحجم بمقياسين: عدد سكان لا يقل عن 150 مليون نسمة، وناتج محلي لا يقل عن 150 بليون دولار. ووفق هذا المعيار ستتمكن خمس دول من تحقيق نمو سريع في ناتجها المحلي وفي نصيبها من الصادرات العالمية، وهي إندونيسيا والبرازيل وروسيا والصين والهند. ويعني هذا ضمناً عدم قدرة التكتلات الإقليمية رغم محاولات إضفاء مزيد من الجدية على جهودها التكاملية، انطلاقاً من مقولة إننا نعيش عصر الكيانات الكبيرة، على مجاراة ما يمكن أن يتوفر لدولة موحدة ذات حجم كبير من قدرة على النمو. والواقع أن هامش الحركة المستقلة بدأ يضيق كثيراً أمام التجمعات الإقليمية بسبب ما يفرضه النظام العالمي من إسقاط للحدود على المستوى الدولي يفوق في بعض الأحيان ما تسعى هذه التجمعات إلى تحقيقه.
مناهج تحقيق الوحدة:
تندرج عملية تحقيق الوحدة بين مجموعة من الأقطار، تحت مسمى عام هو "التكامل الإقليمي" Regional integration عندما يؤدي إلى الاندماج التام بينها في وحدة سياسية. من جهة أخرى ينصب التكامل الاقتصادي Economic integration في معناه الضيق الذي يحدده الفكر الاقتصادي النيوكلاسيكي على الوقوف بين القطرية والعالمية، حيث يأخذ عن الأولى نزوعها للحماية تجاه باقي العالم، وعن الأخيرة تحرير التبادل التجاري البيني. أي أن خطوة على طريق التكامل العالمي من خلال التبادل بمعنى الحرية الشاملة للتجارة. ونظراً لأن الاقتصاد يشكل عنصراً أساسياً في التكامل الإقليمي، فقد جرى خلط بين النوعين، خاصة بسبب استخدام التكامل الاقتصادي كمدخل إلى التكامل الإقليمي، الأمر الذي يفرض على بدايات التوجه نحو التكامل الإقليمي اعتبارات تتأثر بالتغيرات في الفكر الاقتصادي، دون مراعاة لابتعادها عن المتطلبات السياسية والاجتماعية والثقافية. وقد انطوت التجارب التاريخية على حالات تكامل قسري Coercive تولت فيها قوة منطلقة من قطر معين فرض الوحدة بالقوة بضم أقطار أخرى مجاورة لها، معتمدة على ما خلقه الجوار عبر التاريخ من تشابك في العلاقات، دون اشتراط قدرٍ كافٍ من التقارب السياسي أو الاقتصادي. بل لعل من أسباب هذا النوع من التكامل الرغبة في القضاء على مصادر النزاع السياسي، أو في استيلاء على موارد اقتصادية لدى الأقطار التي يجري ضمها. غير أن الفكر العالمي بات يفضل التكامل الطوعي، ويرى فيه سبيلاً للقضاء على دوافع الصراعات السياسية والأطماع الاقتصادية التي قادت إلى حروب عالمية مدمرة. وكان هذا هو الأساس في التكامل الأوروبي وما تمخض عنه من أدبيات تنظّر للتكامل.
ويعني بلوغ حالة الوحدة تولّي سلطة مركزية صلاحيات كانت تتولاها سلطات الأقطار الأعضاء يتوقف مداها على صيغة الوحدة. ففي الصيغة التعاهدية أو الكونفدرالية يجري عقد اتفاقٍ أو معاهدة بين الأعضاء تحتفظ بموجبه بوجودها وتمارس سيادتها خارج الحدود التي تمنح للمنظمة المركزية.
أما إذا تحولت إلى وحدة بين الشعوب لا الدول، فإن الصيغة قد تكون هي الدولة الاتحادية Federal state، التي تتولى الشؤون الخارجية، وجانباً من الشؤون الداخلية مع السماح للمجتمعات الأعضاء باستبقاء قدر من الاستقلالية. وتشير تجربة الولايات المتحدة إلى أن الكونفدرالية التي قامت فيها في 1781 كانت معرضة للانهيار، لولا تحولها إلى دولة اتحادية فيدرالية في 1787. وكان "اتحاد الدول العربية محاولة من هذا النوع بين الجمهورية العربية المتحدة (وهي وحدة اندماجية) والمملكة المتوكلية اليمنية. كما كان اتحاد الجمهوريات العربية محاولة أخرى، بقي منها عدد من المشروعات المشتركة التي استطاعت أن تتجاوز ما آل إليه الوضع بين الأطراف المعنية من نزاعات. وتمثل الإمارات العربية المتحدة نموذجاً من الاتحاد الفيدرالي.
أما الصيغة الأقوى فهي التي تتخذ شكل وحدة اندماجية، تنتقل فيها صلاحيات ومسؤوليات الدول القطرية إلى مركز دولة الوحدة. ويصبح المركز مسؤولاً عن أمرين: الأول هو إزالة ما كان قائماً بين النظم والاستراتيجيات وقواعد رسم السياسات في ظل القطرية من تباينات، وإحلال استراتيجيات ونظم وقواعد موحدة محلها. والثاني هو إدارة شؤون الدول الموحدة تبعاً لذلك باعتبارها دولة تتساوى فيها الحقوق والواجبات بين جميع الرعايا. وطبيعي أن هذا يشترط توافقاً في الأهداف التي تتطلع لها شعوب الأقطار المنضمة، كما يتطلب سيادة شعور بأن المركز الإقليمي الذي يتولى شؤون الدولة الموحدة سوف يكون قادراً على تحقيق تلك الأهداف على نحو أفضل، بل وإضافة قدر آخر من الأهداف التي كانت تبدو مرغوبة ولكنها صعبة المنال في النطاق القطري، حتى وإن جرى بشأنها نوع من التعاون (الإقليمي) مهما كان وثيقاً. بعبارة أخرى يسود شعور بأن القطرية تمثل محددات وقيودا Constraints جديرة بالإزالة، يصحبه غياب التخوف من أن المكاسب من الوحدة لا تعوض ما تنتقصه من مزايا كانت توفرها الدولة القطرية. وبديهي أن كل هذا يتطلب توفر قدر من التوافق السياسي والاقتصادي بمثل ما يتطلب تقارباً اجتماعياً وثقافياً ينشئ قدراً عالياً من الشعور بالجماعية Sense of community القابل للنمو عبر الزمن، دون شبهة واضحة في احتمال تراجعه في الأجل المنظور. فإذا غاب هذا الشعور وحلت محله مشاعر التنابذ واتساع الاختلافات بين الأهداف والوسائل تنشأ الحركة نحو الانفصال، تدفعها التباينات الثقافية والاقتصادية، وما يتولد عنها من فوارق في الحقوق والأوضاع الاجتماعية. وغالباً ما تتدخل عوامل خارجية لتعزيز مشاعر التباين الثقافي والغبن الاقتصادي، وهو ما تعاني منه أقطار عربية في الوقت الحالي. وتلعب فئات المصالح دوراً مهماً في الحالتين، لا سيما في التحالف مع قوى خارجية من أجل تحقيق مكاسب عن طريق الانفصال.
غير أنه إذا لم تتوفر المقومات لإقامة دولة وحدة بصورة مباشرة، فإن التفكير يتجه إلى بنائها على نحو تدريجي، وهو ما يعني أن يجري اتفاق على إيكال قدر من الفعاليات التي لا تثير حساسية المساس بالسيادة لدى الأطراف إلى تنظيم مشترك يتولى سلطة إدارتها بصورة أفضل مما توفره سلطات الدول الأعضاء. ويعتقد أصحاب هذا الرأي أو المنهج الوظيفي Functional أن شعور الأطراف بجدوى هذا الأسلوب في الإدارة المشتركة في بعض النواحي يولد قبولاً لإيكال مزيد من الفعاليات إليه، لينتهي الأمر بالإقتراب من قيام المركز المشترك من المهام الرئيسية للدولة الواحدة، فيصبح إعلانها بصورة رسمية أمراً يسهل الاتفاق عليه. بعبارة أخرى فبدلاً من أن تعلن دولة واحدة أولا لتتولى إدارة شؤون أعضائها وإزالة ما يظل قائماً بينهم من نواحي الاختلاف، يجري العمل في الاتجاه العكسي بإزالة الاختلافات انتهاء بإقامة دولة الوحدة، وهو ما يسمى أحياناً التكامل على دفعات. ويتوقف نجاح هذا الأسلوب على حسن اختيار المجالات الأولية التي يجري تحويلها إلى سلطة فوق وطنية، سواء من حيث خضوعها لأهداف يسهل الاتفاق عليها، أو إثبات كفاءة السلطة فوق الوطنية في إدارتها، أو من حيث القدرة على إزالة الخلافات التي كانت تحول دون تطبيق نفس المنهج على مجالات أخرى من بين المجالات المتبقية، والتي تكون عادة أكثر مساساً بالسيادة.
المنهج التقليدي للتكامل الإقليمي:
ارتبط التفكير التكاملي الأوروبي في بناء الوحدة على مراحل بأمرين نجما عن كثافة العلاقات القائمة على المستوى الإقليمي: الأول هو الشعور بالحاجة إلى الاستمرار في توثيق هذه العلاقات؛ والثاني هو الرغبة في إشاعة الأمن والسلام والاستقرار. وبالمخالفة فإن غياب أي من هذين الأمرين أو كليهما يجعل فاعلية التكامل الإقليمي موضع تساؤل، وهو أمر له أهميته بالنسبة للدول النامية عامة والعربية خاصة. وأول قضية يلزم اتخاذ قرار بشأنها هي اختيار جانب من العلاقات الإقليمية لتجربة التكامل فيها، يليها بيان كيفية المضي في الطريق حتى نهايته. ويذهب البعض إلى البدء بأقل الأمور إثارة للخلاف وفق منهج تعاملي Transactional، يهتم بمد الجسور بين البشر في مختلف المجالات، دون اشتراط إقامة مؤسسات فوق وطنية، بهدف توليد مشاعر الجماعية بينهم، الأمر الذي يدفعهم في النهاية إلى تحويل فكرة الوحدة إلى واقع. غير أن المشكلة هي أن النطاق الجغرافي يختلف من نوع من المعاملات إلى آخر، بل وقد يمتد ليشمل العالم كله ولكن بدرجات مختلفة، دون أن يشكل قاعدة واضحة للانتقال إلى مجالات أخرى. فضلاً عن ذلك فإن إحدى المشاكل التي يرجى من التكامل الاقليمي مواجهتها هي التخلص من كثافة بعض المعاملات من أجل التخلص من عواقبها السلبية.
وقد شهد الوطن العربي عدداً كبيراً من جوانب العمل المشترك ذات صفة إيجابية، بمعنى أنه جرى التعاون الوثيق فيها على مستوى الحكومات والشعوب، دون أن يدفع ذلك إلى حركة فعلية نحو بناء دولة الوحدة. بل إن التعاون في فترة من الفترات يمكن أن يتحول إلى فتور في أخرى نتيجة التشابكات الأخرى في العلاقات البينية.
وبالتالي تظهر الحاجة إلى ثلاثة أمور: الأول أن تتم مأسسة النواحي التي يجري التفاعل فيها بصورة مرضية، دون اكتفاء بما يتفق عليه وحدات اتخاذ القرارات المختلفة. الثاني هو الاتفاق على عدد من المراحل التي تتعاقب بصورة محكمة لتقضي في النهاية إلى الوحدة. الثالثة هو اختيار ذلك المجال القادر على توفير الشرطين السابقين، أخذا في الاعتبار أهمية تقارب القاعدة الثقافية بما يكفل سهولة الاتفاق على الأهداف الوسيطة والنهائية. وقد بنى الفكر الأوروبي اختياره للمجال الاقتصادي كنقطة بداية على ما أثاره التقدم الصناعي من تشابك قوي في العلاقات الاقتصادية، يفسح من ناحية مجالاً لخلافات تقود إلى صراعات يراد تجنبها، ويجعل من ناحية أخرى تحقيق المزيد من التقدم متوقفاً على تعزيز هذا التشابك. يساعد على ذلك ما تتمتع به الدول الأوروبية من تقارب كبير في الأسس الثقافية لمجتمعاتها، عززه التقدم العلمي اللازم للإنتاج الصناعي الحديث القائم على البحث والتطوير، وهو ما أدى إلى تطوير الهياكل الاجتماعية على نحو أكثر ديناميكية داخل كل قطر، وأنشأ مصدراً آخر للتقارب بين الشعوب الأوروبية. وساهم التطور غير المسبوق في وسائل النقل والاتصال، الذي ميز بدايات القرن العشرين، في امتداد الأسواق التي كان يفصلها ارتفاع تكاليف النقل، مما أتاح وفورات نطاق للوحدات الصناعية الضخمة وللمنشآت المتخصصة في صناعة مواد وسيطة قللت من الاعتماد على منتجات الدول النامية من الخامات الطبيعية، التي كانت الدافع الأول في استعمارها. وبناء عليه تحول المنهج الوظيفي إلى المنهج الوظيفي المحدث Neo - functionalism، الذي ينطلق من التكامل في المجال الاقتصادي، مستخدما أدوات "التكامل السلبي"، أي الذي تتفق فيه الدول المعنية على نبذ كل ما من شأنه عرقلة حركة التدفقات الاقتصادية، ثم يتدرج في إدخال أدوات "التكامل الإيجابي"، وهو ما يقتضي قدراً أكبر من التنسيق أو التوحيد على المستوى الكلي (الماكرو) لاتخاذ القرارات.
وهكذا تقع المسئولية الأولية على مراكز اتخاذ القرار على المستوى الإفرادي (المايكرو) لا سيما المنشآت الإنتاجية التي تتوقع منها النظرية النيوكلاسيكية استجابة لإزالة العوائق أمام حركة تبادل المستلزمات والمنتجات، بما يرفع الكفاءة ويخفض التكاليف ويزيد من رفاهة المستهلكين. ومع التقدم نحو مراحل التكامل الإيجابي تزداد القيود على السلطات القطرية، بينما يتسع نطاق الحركة أمام الوحدات، خاصة أصحاب رأس المال ورجال الأعمال والعمال، وهو ما يتطلب سياسة اجتماعية من أجل تحقيق مزيد من التماسك الاجتماعي. من جبهة أخرى فإن الانتقال إلى اتحاد اقتصادي ونقدي تتحول فيه النقود إلى عملة واحدة يديرها بنك مركزي واحد، يشارك مع راسمي السياسات الكلية في إدارة الاقتصاد الإقليمي كما لو كان اقتصاداً واحداً، أو ما يصطلح على تسميته "السوق الموحدة"، يتطلب قدراً أكبر من التقارب السياسي، حتى يمكن الاتفاق على الأهداف التي تبنى عليها السياسات الكلية الموحدة. والمشكلة في هذا الأسلوب أن المرحلة الأولى تنصب على تحرير التجارة البينية، وقد تمتد إلى إقامة اتحاد جمركي إزاء باقي العالم، وهو ما يتوقف عنده التكامل الاقتصادي، الذي تقيّمه النظرية الاقتصادية بمعايير تبنى بالرجوع إلى القاعدة التي يتبناها الفكر النيوكلاسيكي، وهي الاندماج العالمي من خلال تحرير شامل متعدد الأطراف للتجارة، وليس الاقتراب بالإقليم من الجوانب السياسية والاجتماعية المحققة لتكامل إقليمي يفضي إلى وحدة. وقد كانت غلبة هذه الضوابط الاقتصادية هي التي دفعت الدول العربية إلى إقامة منطقة تجارة حرة دون إلتزام بمزيد من خطوات التكامل الإقليمي.
وتشير التجربة العملية لهذا المنهج (أساسا الأوروبية الغربية) إلى:
* أهمية البدء من وجود قدر كبير من التشابك بين المجتمعات المعنية، مع تقارب عميق وتعامل اقتصادي نشط، وشعور بجدوى وأفضلية تعزيز هذا التعامل عن توثيق العلاقات مع دول أخرى.
* الاتفاق منذ البداية على ضرورة المضي في التكامل نحو نهايته، دون الانشغال بتحقيق متطلبات تكامل اقتصادي يقود في النهاية إلى تغليب البعد العالمي على الإقليمي.
* ولا يتم هذا من منظور الانعزال عن باقي العالم، بل من خلال اكتساب الدول الأعضاء قدرة أكبر على التعامل في أسواق عالمية، مما يقنعها بأفضلية العمل من خلال تجمع إقليمي على التمسك بالنزعة القطرية.
* أن حرية انتقال عناصر الإنتاج تتلو استقرار الهياكل الاقتصادية في ظل اتحاد جمركي، نظراً لأن تشوه الاقتصادات والأسواق يخلق مؤشرات غير قابلة للاستمرار لحركة هذه العناصر، وهو ما تثبته تجارب الدول النامية (وبخاصة العربية) في علاقاتها على المستويين العالمي والإقليمي.
* أن توحيد السوق لا يقف عند مجرد حرية انتقال عناصر الإنتاج، لأن هذا الانتقال هو في جوهره انتقال لبشر ولأساليبهم في اتخاذ القرارات والتعبير عن التفضيلات. ولذلك تظهر الحاجة لمزيد من التجانس الاجتماعي وضرورة صياغة سياسات اجتماعية تؤكد التماسك الاجتماعي.
* أن مرحلة الاتحاد الاقتصادي ذاتها تتطلب استعداداً للدخول في وحدة سياسية، لأنها تشهد مزيداً من التقارب في السياسات الاقتصادية التي تحدد كيفية تعبئة الموارد الوطنية وتوجيهها لتلبية احتياجات المجتمع. ويصبح التكامل السياسي شرطاً أكثر منه نتيجة لاستكمال التكامل الاقتصادي.
* أن التوسع المستمر في الجماعة الأوروبية يعود إلى اعتبارين الأول أن انضمام عدد من الدول قد تم بعد زوال موانع أو تحفظات سابقة مع وضع برامج خاصة لتمكينها من اللحاق بما تحقق من خطوات تكاملية، والثاني أن عوامل التقارب الثقافي وكثافة العلاقات الاقتصادية الحالية والمستقبلية كانت من القوة بحيث تدفع تلك الدول لقبول ما اتفقت عليه الجماعة، بما في ذلك مواصلة السير نحو تحقيق وحدة أوروبية شاملة.
ومن الواضح أن غالبية الاعتبارات السابقة لا تتحقق في كثير من الأقاليم النامية، بما في ذلك الإقليم العربي أو أقاليمه الجزئية. فمعظم هذه الأقاليم تبدأ من مستويات متدنية من كثافة العلاقات الاقتصادية البينية، نظراً لشدة اندماجها في الاقتصاد العالمي اعتماداً على هياكل اقتصادية تعاني من كثير من عوامل الاختلال، سواء لغلبة القطاعات الأولية غير القادرة على تحقيق تشابك عضوي فيما بينها، أو لانحصار النشاط الصناعي في فروع استهلاكية نهائية لا تحقق ترابطاً يماثل ما يقوم بين الدول (الأوروبية) الصناعية، فضلاً عن اختلال توزيع الموارد وعدم اكتمال الأسواق، من جهة أخرى فإن ما قد يوجد من عوامل تقارب ثقافي (كاللغة والدين في الوطن العربي) لا ينطوي على الديناميكية الدافعة إلى التحرك نحو الوحدة، وإلى السير في مراحلها المتصاعدة.
الإقليمية الجديدة:
وصلت الدول الرأسمالية إلى مأزق تفرضه طبيعة النظام وتطوراته:
* تراجع معدلات الربحية، والالتجاء إلى التضخم كآلية للكسب الرأسمالي كبديل للربح الإنتاجي.
* الاستماتة في فتح الأسواق الخارجية للتخلص من الركود، ومشاكل موازين المدفوعات.
* خروج رأس المال بحثاً عن فرص باتت عزيزة المنال في الداخل، الأمر الذي قلل من فرص توسع الإنتاج المحلي الموجه للتصدير.
* ارتفاع حركية رأس المال وقصر أجله نتيجة اضطراب النظام النقدي الدولي والتضخم، مما أشاع المضاربات الرأسمالية، بما في ذلك المضاربة على العملات نفسها، على حساب الاستثمار المنتج، وأوجد مجالات أوسع للفساد وغسيل الأموال.
* وتضافرت هذه التطورات الاقتصادية مع التطورات التكنولوجية في تغير طبيعة البطالة وتحولها من عارض مؤقت أو دوري إلى ظاهرة مزمنة بل ومتفاقمة.
* ارتداد الغزو الثقافي الذي أفرزته الثورة التكنولوجية إلى أصحابه كغزو اجتماعي في شكل زيادة ضغوط الهجرة من دول الجنوب، وهو ما أضاف إلى مشكلة البطالة.
* التكاليف الاقتصادية والأعباء الاجتماعية ووقع التباينات السياسية في أوروبا المصاحبة لتوسيع مجال تكاملها، والتي يتوقع تزايدها مع استكمال دول أوروبا الشرقية عملية التحول، على نحو ما تشير إليه التجزئة الألمانية.
* وبالمقابل فإن الضغوط التي واجهتها الدول النامية، والإحباطات التي أصابت مساعيها في التنمية، قطرية كانت أم من خلال تكامل إقليمي، أدت إلى تبنيها استراتيجيات بديلة، تستيجيب إلى التغيرات التي فرضتها أوضاع الدول الرأسمالية المتقدمة، بما في ذلك:
* التسابق حول التصدير للأسواق العالمية، كبديل للتركيز على الأسواق المحلية والإقليمية.
* تحول الدول النامية وتجمعاتها الإقليمية من المواقف المتشددة تجاه رأس المال الأجنبي ومن السعي لاكتساب المعرفة الفنية عن طريق التعلم الذاتي وراء جدران حمائية مرتفعة، إلى تسابق على جذبه بأمل تعويض ضعف المدخرات المحلية، واكتساب قدرة تنافسية من خلال المعرفة التي يجلبها.
* وتصل حدة تنافس دول الإقليم الواحد على رأس المال الأجنبي، إلى حد تفضيل التكامل مع دول متقدمة، لتتمكن من التوسع في التصدير، بما في ذلك التصدير إلى الدول الشركاء في الإقليم.
* تقبل ما يصحب هذا التصدير من تزايد الاعتماد على الاستيراد، وبخاصة للسلع والخدمات المتطورة ومن ثم التحول إلى أسواق لمنتجات الدول الصناعية.
* تمكن عابرات القوميات من نشر أنشطتها في الدول النامية، للاستفادة من اتساع أسواقها الإقليمية ومما يتيحه الاعتماد على استيراد المستلزمات الإنتاجية، السلعية والخدمية، من السماح لها بتوثيق صلاتها بفروعها هي وليس بدول الإقليم الذي تقع فيه.
* ويتطلب ذلك التأكيد على حافز الربح، والدور الفردي لرأس المال على حساب وظيفته الاجتماعية باعتباره اقتطاعاً من استهلاك آني ارتضاه المجتمع بغرض توسع مستقبلي في الإنتاج والاستهلاك.
* وإذا كان هذا يعني تشابها أكبر في الأنظمة الاقتصادية مزيلاً أحد العقبات في سبيل تحقيق التكامل الإقليمي بين الدول النامية، إلا أنه يثير مشاكل اقتصادية واجتماعية، بما في ذلك الركود والبطالة المصاحبين لمرحلة التحول نحو سيادة حرية السوق والقطاع الخاص.
* تعاظم وزن الاعتبارات الدولية في إدارة السياسات الاقتصادية وفقدان السيطرة على للسياسات النقدية، مما يضيق من نطاق الأخذ بأهم أدوات التكامل وهو تنسيق السياسات على المستوى الإقليمي وفق متطلبات التكامل.
ويتضح مما تقدم أننا إزاء نوع جديد من التكامل، يقوم على أسس اقتصادية ولكنه يتجاوز بشكل معين، وهو في نفس الوقت لا يسعى إلى ما يرجى من وراء التكامل الإقليمي للدول النامية من التكتل من أجل توثيق العلاقات البيئية التي أضعفتها العلاقات غير السوية الناجمة عن عدم التكافؤ في التعامل الدولي، والوصول بها إلى مرتبة الوحدة. هذا التكامل يتخذ شكل منطقة تجارة حرة بين إقليمين (ربما متجاورين) يتفاوتان بصورة واضحة من حيث مستويات النمو، تربط دولا نامية بدولة أو دول متقدمة لها تجمعها التكاملي الوحدوي الخاص بها من أجل تحقيق مزيد من الاندماج في الاقتصاد العالمي. ونظراً لأن الدول النامية كانت تتمتع سابقاً بمعاملات تفضيلية من جانب الدول الصناعية المتقدمة، فإن ما تضفيه هذه المنطقة هو إزالة التفضيلات بدعوى أن الأساس هو التعامل بالمثل بين شركاء، ومنح الأخيرة امكانية النفاذ إلى إقليم الدول النامية دون عوائق تعترض قيامها بالتصدير السلعي والخدمي، أو الاستثمار وممارسة النشاط في داخلها. والفارق في الانتفاع كبير، إذ أن الدول النامية تفرض عادة رسوماً جمركية أعلى كثيراً مما تفرضه الدول الصناعية، التي تبلغ رسومها 10% في المتوسط، ولكنها تفرض عوائق من خلال المواصفات التي تشترط توفرها في السلع المستوردة، والتي قد تتضمن الإلزام بإتباع أنماط إنتاجية تلائمها أكثر مما تلائم الدول النامية.
ولا ينتظر أن تتحول المنطقة إلى اتحاد جمركي في أجل منظور، نظراً لتفاوت الأسس التي تحدد بها الرسوم في مجموعتي الدول. وبالتالي فلا مجال للتقدم نحو سوق مشتركة، وإن جرى الأخذ منها بحرية انتقال رأس المال، أو نحو اتحاد اقتصادي، لأن هذا يتطلب تجانساً اجتماعياً وتقارباً ثقافياً لا يتحققان في البداية، ولا يوجد ما يشير إلى إمكان تحقيقها مستقبلاً. بل إن أحد الشروط الرئيسية التي تضعها الدول المتقدمة حظر انتقال العمال من الجنوب إليها، خوفاً مما يؤدي إليه من رفع معدلات البطالة المتفاقمة لديها وانخفاض الأجور وتعقد المشاكل الاجتماعية وتهديد التآلف الاجتماعي والاستقرار الاقتصادي. وإذا كانت الدول النامية ترتضي هذه الشروط على أمل أن يؤدي انتقال رأس المال إليها إلى خلق فرص عمل إضافية، إلا أن التكنولوجيات التي يأخذ بها رأس المال المنتقل لا توفر الفرص المطلوبة، أو على الأقل تحتاج إلى فئات مهارة مخالفة لما هو متوفر، خاصة من المتعطلين نتيجة الخصخصة، أو من الملتحقين الجدد بسوق العمل. وتتطرق الشروط أيضاً إلى نواحٍ يقصد بها صبغ الدول النامية بالصبغة الثقافية للدول الصناعية، وإخضاعها لمعايير الأخيرة فيما يتعلق بحقوق الإنسان، وغير ذلك من شروط الإذعان، تأكيداً لخطورة الصيغة الجديدة للاستعمار.
معايير تقييم مناهج الوحدة والتكامل:
تأثر الفكر العربي كما أسلفنا بقضية التناقض بين القطرية والوحدة القومية، بحيث بات يحكم على الصيغ الأخرى للعلاقات الإقليمية من منظور مدى ارتباطها بالقطرية باعتبار أنها تؤدي أساساً إلى تغليب الاندماج في الاقتصاد العالمي كنقيض للاندماج القومي. ويثور السؤال عما إذا كان هذا التوجه يعود إلى المنهج المقترح للوحدة، وما إذا كان من الممكن تحقيق منهج معين لمجموعة من المعايير التي تدفع للأخذ به. بعبارة أخرى، علينا أن نفاضل بين المنهجين الرئيسيين وصيغهما المختلفة، أي منهج الوحدة الفورية فيدرالية كانت أم اندماجية، والمنهج التكاملي أو التدريجي، بدءاً من تكامل اقتصادي يمهد لوحدة اقتصادية ثم سياسية. وتستند المفاضلة إلى عدد من المعايير يمكن أن تصنف تحت ثلاثة عناوين:
* الأهداف التي يرجى تحقيقها من خلال الوحدة.
* المعايير التي تحدد مقومات المنهج الأقدر على تعظيم تحقيق تلك الأهداف.
* القدرة على التعامل مع الصيغ الأخرى لتنظيم العلاقات بين هذه الأطراف، والأسلوب الأفضل الذي يكفل تحقيق الوحدة بأقل تكلفة ممكنة، ويحافظ على قدرتها على التميز في تحقيق الأهداف.
ونتناول فيما يلي هذه المعايير على التوالي، تاركين أمر تطبيقها إلى ما بعد.
أولاً- الأهداف:
يمكن التمييز بين مدخلين للأهداف حسب موقع الوحدة من منظومة الغايات الأساسية للمجتمع:
1-اعتبار الوحدة بذاتها هدفاً أولياً، وهو ما ذهب إليه الفكر القومي العربي التقليدي، وهو ما يجعلها مطلباً مستمراً، ويدفع إلى مناهضة كل ما يعترضها سواء كان هو القطرية، أو المشاريع الإقليمية المختلفة، أو القوى العالمية، بغض النظر عن التغيرات التي أصابتها.
2-اعتبار الوحدة هدفاً مشتقاً، يُستمد من ضرورته لتحقيق أهداف يوليها المجتمع أولوية متقدمة، مع إثبات محددات هذه الضرورة من منظور جميع الأقطار. ويتعين بلورة هذه الأهداف وبيان ما لها من وزن وأهمية لدى كل منها، ومدى اعتبارها الوحدة أفضل السبل لتحقيقها.
ويعتبر هدف التنمية من أهم الدوافع التي تتطلع إليها الدول المختلفة. ولكن هذا بحد ذاته لا يحتم انتهاج الوحدة كسبيل إليه، خاصة مع ضعف التشابكات البينية بالقياس إلى عوامل الاندماج العالمي، وتعرّض الدول العربية لمخاطر دولية متعددة، على رأسها تحالف الصهيونية مع الاستعمار. ولذا فإن اعتبار الأمن احتل موقعاً متقدماً في الأولويات العربية، وهو أمن تعظم فيه القواسم المشتركة، مما يجعله أمناً قومياً. كما أن هدف الاستقلال تحول من نضال امتد عبر الربع الثالث من القرن العشرين، إلى جهود تستهدف التخلص من التبعية وتحقيق الاستقلال الاقتصادي، وهو ما جعل غالبية المتهمين بشؤون التنمية في الوطن العربي يدعون إلى تبني منهج التنمية المستقلة بالاعتماد الجماعي على النفس، باعتبار أنه يلخص مجمل الأهداف السابقة: التنمية والأمن والاستقلال.
ثانياً- المقومات:
يتناول الجانب الثاني تلك المعايير التي يمكن الاحتكام إليها في تقييم المقومات التي يرجى توفرها في الوحدة حتى تحقق الأهداف سالفة الذكر على خير وجه. وتشمل هذه المعايير ما يلي:
أ-معيار النطاق الأمثل:
أي حدود العضوية في دولة الوحدة، سواء في بداياتها أو في صورتها النهائية. والمقصود بصفة "الأمثل" أن يكون الحجم محققاً لأمرين. الأول أنه قادر على وضع الوحدة على الطريق الصحيح الذي يكفل لها الفاعلية والاستمرار، والثاني أنه إذا قضت ظروف معينة بالإقتصار في البداية على عدد محدود من الدول، بما ينشئ تجمعاً جزئياً، فإنه يكون في مقدور هذا التجمع أو التجمعات أن تتسع فيما بعد لتشمل جميع الدول المشكلة للحجم الأمثل النهائي. ويناقش هنا مغزى هذا المعيار بالنسبة إلى كل من المنهجين الرئيسيين للوحدة، الاتحادي والتكاملي، وبالنسبة إلى أساليب تطبيق كل منهما.
ب-معيار الاستدامة وإمكانية الاستمرار والاستكمال:
ويعتمد هذا البعد على مبدأ تكافؤ المنافع والأعباء، خاصة في البداية حيث تكون الذاكرة الفطرية قوية، على الأقل لدى بعض فئات المصالح. كما يعتمد على سرعة اتضاح منافع التكامل، لأن ضعفها، ولو أنه قد لا يفضي إلى نزاعات كما حدث في بعض تجارب للعالم الثالث، إلا أنه يؤدي إلى عدم الاكتراث باستكمال الوحدة كما حدث في تجارب أخرى، منها العربية. ويتطلب هذا نجاح المراحل الأولى في اثبات قدرتها على تحقيق الأهداف من الوحدة، كما أنه يتعزز بقيام الأجهزة المسؤولة عن مسارها بتحقيق بعض الأهداف الجانبية التي تزيد من تمسك الأطراف المعنية، ويتعلق هذا بوجه خاص بما يجري وضعه من برامج لفائدة المجتمعات الأقل نمواً، وتلك التي تتعرض إلى صعوبات، تساعدها على تصحيح أوضاعها، دون تحميل باقي المجتمعات أعباء ثقيلة.
جـ- معيار الكفاءة فيما يوكل لأجهزتها من أعمال:
ويتوقف هذا المعيار على النجاح في بناء الإطار المؤسسي بأذرعه المختلفة، السياسية والقضائية والتشريعية والبيروقراطية، وإمكان نقل الوظائف إليها من الأجهزة القطرية بأقل قدر من المقاومة، إلى جانب حسن القيام بمهام إضافية تمليها عملية التكامل. ويعزز هذا بناء الأجهزة والمنظمات غير الحكومية، وبخاصة الاتحادات الفئوية، واستيعابها مفهوم الوحدة ومتطلباتها. ولهذا الأمر أهميته في المنهج التدريجي، إذ يتوقف على ما يتم إنجازه في المرحلة الأولى احتمالات وسرعة استكمال الهياكل المؤسسية لدولة الوحدة.
د- معيار الفاعلية فيما يعقد عليها من آمال:
والمقصود هنا هو ترجمة الأهداف المنشودة من الوحدة إلى واقع عملي، وقدرة دولة الوحدة على إثبات قدرتها على التصدي إلى التغيرات في البيئة الدولية بنفس المستوى من الفاعلية، وإلى التعامل مع التطورات المحلية، سياسية كان أم اجتماعية أم اقتصادية بما يؤكد للأطراف المعنية أنها توفر لهم قدرات لا توفرها أساليب بديلة، سواء كانت الانحصار في قطرية متزمتة، أو إيجاد قنوات تعاون مع أطراف أخرى إقليمية أو عالمية. ولهذا المعيار أهميته في المرحلة الحالية التي تُحدث فيها موجات الكوكبة وإفرازاتها المختلفة بلبلة في مفاهيم "الدولة" و"الاستقلال".
هـ- معيار الملاءمة والتمشي مع مقتضيات الحال:
ويغلب في هذا المعيار انتقاء أدوات الحركة التي تتلاءم مع ظروف الأطراف الضالعة في الوحدة وانتهاج الاستراتيجيات والسياسات القادرة على تحقيق المعايير السابقة على أفضل وجه، والمؤدية إلى تضييق الفوارق بين أعضاء التكامل، وتطوير النظم السائدة بما يكفل تعظيم القدرة على تحقيق الأهداف في وجه التغيرات المستمرة في البيئة العالمية. ويلعب البعد الخاص بتضييق الفوارق التي قد تكون كبيرة في البداية دوراً محورياً في تعزيز التوجه التكاملي. الأمر الذي يتعين مراعاته هو ألا يتحول التجمع التكاملي أو دولة الوحدة إلى أداة لفرض اندماج عالمي غير متكافئ.
و-معيار تقييم النتائج وتصويب المسار:
ولهذا المعيار أدواته المتعلقة بجانبي البناء التكاملي، الداخلي والخارجي. وحتى وقت قريب كان المعيار الأساسي، وخاصة بالنسبة للتكامل الإقليمي، هو مدى تطور العلاقات البينية، وبخاصة نسب التجارة البينية. وازداد الاهتمام مؤخراً ببناء نماذج تقيس مقدار المكاسب التي تعود على الأطراف المختلفة، خاصة بالنسبة لمستويات الدخل ومعدلات التوظيف. ويلزم إجراء تقدير مسبق لما يمكن أن تخلفه خطوات بناء الوحدة من "آثار" انحسارية Backwash effects، تؤثر سلباً على كيانات أقامت أوضاعها على أساس الحماية القطرية، واتخاذ ما يواجهها من إجراءات وسياسات، بما في ذلك بناء تنظيمات وتخصيص موارد تسهل انتقال عناصر الإنتاج من المناطق والتخصصات المتضررة إلى أخرى متطورة. وتشير التجربة الأوروبية إلى أن أهمية هذا البعد لم تنقص مع الزمن، بل اكتسبت أهمية أكبر عندما تقدمت مسيرة الوحدة.
ثالثاً- التعامل مع الصيغ الأخرى للعلاقات الدولية:
تظهر عملية الوحدة كمنهج يتنافس، على نحو أو آخر، مع المناهج المطروحة على المستويات الثلاثة، القطري والإقليمي والعالمي. من جهة أخرى فإنه خلال عملية بناء الوحدة، وبعدها، يظل الكيان الإقليمي بحاجة إلى تحديد علاقاته مع ما يحيط به من هذه المستويات.
أ-التعامل مع القطرية:
الأصل هو القطرية التي يعتبر دعاة الوحدة العربية القضاء عليها موازٍ لعملية بناء الوحدة ذاتها. وما لم يحدث اتفاق بين جميع الأطراف على هذا الرأي، فإن القطرية تتصلب في مواقفها، وتعتبر الوحدة فرضاً من أطراف خارجية يهدد وجودها، ويدفعها بالتالي للاستنجاد بتوثيق العلاقات بأطراف خارج إقليم الوحدة لتأمين بقائها. ويشار إلى هذا الأمر على أنه يعني غياب الإرادة السياسية. ومن ثم فإن نجاح المسعى التكاملي يتوقف على النجاح في تشكيل هذه الإرادة، وهو في الواقع المنطق الذي تقوم عليه المناهج التكاملية التدريجية. فإذا كانت نتائج محاولات تطبيق هذه المناهج قد ظلت مخيبة للآمال على مدى أربعة عقود، فإن هذا يدل على عدم توفر الكثافة الكافية في العلاقات البينية المبدئية. ولذلك قد يكون من المناسب أن تبدأ عملية التدرج نحو الوحدة بالعمل بصورة مشتركة على تعديل الهياكل الاقتصادية القطرية، وإنشاء قدر أعلى من التشابك داخل كل منها، ومن الترابط فيما بينها، وهو ما يمكن أن نطلق عليه "إنماء تكاملي"، أي تنمية مشتركة توفر قاعدة أكثر صلابة تمكن من متابعة السير في خطوات التكامل والوحدة.
ب - العمل الإقليمي المشترك:
العمل المشترك هو تعبير محايد لما يقوم بين مجموعة من الدول من تعامل، سواء كانت هذه الدول مرشحة لتكامل يفضي إلى وحدة، أو دول جوار واقعة في نفس الإقليم الجغرافي، أو دولاً منتمية إلى تجمع اقتصادي أو سياسي. ويتخذ هذا التعامل أحد الأشكال التالية:
(1) التعاون الإقليمي: الذي لا يهدف إلى تحقيق الوحدة كهدف قريب أو بعيد، ولكنه قد يتخذ صفة بها قدر من الالتزام الذي تتفق الأطرف المعنية على احترامه. وتبرز أهمية مثل هذا الأسلوب في تنظيم مواقف الدول المعنية من قضايا ذات طبيعة دولية، بما في ذلك المواقف داخل المنظمات الدولية، أو التفاوض أو الحوار المشترك مع أطراف أخرى، أو تنظيم أساليب التصرف في أسواق معينة، كالإتفاق على عمليات الشراء أو البيع في الأسواق العالمية. ويستخدم تعبير "إقليمي" بصورة مجازية، إذ أن التعاون قد يشمل دولاً متقاربة في صفات مميزة مما يجعلها أقرب إلى ما تتصف به دول الإقليم الواحدة (كدول عدم الإنحياز أو أعضاء الأوبك، أو الدول المتشاركة في مصادر طبيعية كأحواض الأنهار...) وسواء بقيت الأقطار منفصلة، أو تكاملت معاً في تجمع إقليمي أو في وحدة، فإن هذا النوع من التعاون بينها، جميعها أو بعضها، وبين أطراف أخرى يمكن أن يستمر، بشرط ألا يتعارض صراحة أو ضمناً مع مساعي الأقطار المعنية (العربية) إلى التكتل أو الوحدة. ويتعين على دولة الوحدة أن تستخدم هذا النوع من العمل المشترك لتعزيز وجودها وزيادة قدرتها على تحقيق أهدافها، خاصة إذا كان التعاون يتم مع أطراف من العالم الثالث تتفق معها في التوجهات، وتسعى مثلها إلى اتخاذ مواقف مؤثرة في المحافل الدولية.
(2)التكامل الإقليمي: وبجانب التكامل الموجه إلى بناء وحدة، يمكن التمييز بين نوعين:
* تكامل اقتصادي ويسعى إلى تعزيز التجارة البينية انطلاقاً من أن التحرير الشامل للتجارة يعرض الاقتصاد إلى منافسة من أطراف عدة في مختلف المجالات تحد من قدرته على النمو. وهو يتوقف عند إقامة اتحاد جمركي. ومن الممكن أن تلجأ دولة الوحدة إلى إقامة منطقة حرة أو اتحاد جمركي مع دولة أو تجمع تكاملي آخر. كما أنه من الممكن خلال مراحل بنائها عن طريق تكامل إقليمي أن تدخل بعض الدول الأعضاء أو التجمع بمجمله في اتفاق منطقة تجارة حرة مع أطراف أخرى.
* تكامل وفق الإقليمية الجديدة، ويتعارض مع التجمع الإقليمي الساعي إلى الوحدة، نظراً لأنه يعيد صياغة العلاقات الدولية غير المتكافئة بصورة جزئية. وهو عادة ينطوي على إقامة منطقة تجارة حرة مع أطراف من خارج الإقليم، ولذلك اعتبرناه تكاملاً بين الأقاليم. ولكنه ينطوي على جوانب أخرى تضع قيوداً على التحرك نحو بناء دولة الوحدة، خاصة بالأسلوب التدريجي. وهو قيود تنجم عن كون هذا النوع يكون الدافع إلى قبوله عادة كثافة العلاقات مع الأطراف الأكثر تقدماً، ويتضمن تحزيراً لحركة رأس المال، وتخضع شهادة المنشأ فيه إلى مواصفات الطرف الأكثر تقدماً، بما له من صلات وثيقة بعابرات القوميات، التي تسعى إلى توطيد العلاقات التشابكية مع فروعها، مما يعرقل عمليات الإنماء التكاملي بين الدول الأعضاء، بتحويله إلى تكامل إنتاجي مع الخارج.
جـ- التعامل مع الإطار العالمي:
في جميع الأحوال يكون هناك ضرورة لتحديد الموقف من الاندماج في الاقتصاد العالمي، الذي كان من أهم الدوافع إلى التكامل الإقليمي، بما في ذلك توجيه هذا التكامل نحو الوحدة. ففي ظل النزعة القطرية، جرى اتباع استراتيجيات دفاعية تهدف لرفع الاكتفاء الذاتي من خلال الإحلال محل الواردات في ظل حماية تجاه العالم، وقد عجزت عن تحقيق ما كان متوقعاً منها. وحالياً يتزايد ضغط الرأسمالية العالمية والمؤسسات الدولية لفرض اتباع استراتيجية اقتحامية بالتوجه إلى التصدير، ومن ثم إلى مزيد من الاندماج العالمي تحت إشراف منظمة التجارة العالمية، كما سبق إيضاحه. ويصحب ذلك دعوة لتراجع دور الدولة في إدارة شؤون المجتمع وفي التنمية، ومعها إدارة العلاقات الدولية بما في ذلك مساعي التكامل الإقليمي، مع التأكيد على دور القطاع الخاص، بل وإعطائه دوراً أكبر في النواحي السياسية والاجتماعية، ومشاركة أساسية في القرارات المتعلقة بعمليات التكامل والوحدة، في وقت تؤدي فيه إعادته لحساباته في ضوء التغير في العلاقات الدولية إلى إضعاف أولوية التكامل الإقليمي أو الوحدة بالنسبة له. وهكذا تكتمل حلقات الصيغة الاستعمارية الجديدة بنشأة قوى ضغط داخلية تتوافق مع أطماع القوى الاستعمارية. بل إن هذه القوى تبدأ في المناداة بالدخول إلى تنظيمات تنتمي إلى الإقليمية الجديدة، على نحو مطالبة رجال الأعمال المصريين بتحويل الشراكة المصرية الأمريكية إلى منطقة حرة بين الدولتين. وفي سبيل الترويج للاندماج في الاقتصاد العالمي أحيطت تجارب النمور الآسيوية بهالة ضخمة، رغم أن واقع هذه التجارب يشير إلى الدور الحيوي للدولة، وإلى الثمن الاجتماعي الباهظ الذي دفعت ثمنه القوى العاملة. وتأتي الأحداث الأخيرة في أسواق المال في هذه الدول جميعاً لتتهاوى الصروح التي اعتمدت على رأس المال الأجنبي، فإذا به ينسحب بين يوم وليلة لتتوالى عمليات الإفلاس وتتفاقم البطالة، وتتبدد نسبة كبيرة من الدخل.
مغزى التجمعات الإقليمية بالنسبة لقضية الوحدة العربية:
يتقاطع عدد من التجمعات الإقليمية مع التجمع الإقليمي العربي، بعضها يمكن تصنيفه ضمن ما يسعى إلى تحقيق تعاون إقليمي بين دول متقاربة في مستويات النمو وإن تباينت من حيث المقومات الأخرى الثقافية والاجتماعية، والبعض الآخر يندرج تحت عنوان الإقليمية الجديدة التي تسعى إلى شد عدد من الدول العربية إلى كيانات ذات صلة وثيقة بالقوى المسيطرة على النظام الاقتصادي الدولي، وبخاصة الولايات المتحدة وأوروبا، وبالتالي يختلف انعكاسها على عملية الوحدة.
أولاً- تجمعات التعاون الإقليمي:
يندرج ضمن هذه الفئة عدد من التجمعات التي تنتمي إلى العالم الثالث، إثنان منهما تغطيان مجالين لهما علاقات خاصة بالوطن العربي هما منظمة المؤتمر الإسلامي ومنظمة الوحدة الإفريقية وما ينبثق عنهما من تنظيمات ومؤسسات؛ وإثنان لهما صفة الجوار القريب من الوطن العربي، هما مجموعة الخمس عشرة، ومجموعة الثمانية.
1-منظمة المؤتمر الإسلامي:
انبثقت هذه المنظمة عن مؤتمر الدول الإسلامية في الرباط عام 1969 استجابة لنداء تحرير القدس، وتضم حالياً 57 دولة وتجمع إسلامي، تشمل جميع الدول العربية. وتهدف المنظمة إلى تعزيز التضامن بين الدول الإسلامية والتعاون في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية وغيرها، وخلق بيئة أفضل للتعاون مع الدول الأخرى. وشهد مؤتمر قمة جدة عام 1981 تأطيراً للتعاون، حيث عقدت اتفاقية عامة للتعاون الاقتصادي والتكنولوجي والتجاري، تستهدف إنشاء مشاريع استثمارية مشتركة وتنسيق التجارة، تبعتها اتفاقية لتشجيع وحماية وضمان الاستثمار بين الدول الأعضاء. ووضعت خطة عمل لتعزيز التعاون الاقتصادي بغرض بناء الاعتماد الجماعي على النفس، وإقامة مشروعات مشتركة في مختلف القطاعات. واعتمد اجتماع لوزراء الصناعة في فبراير 1982 خطوات لتعزيز التعاون الصناعي، بما في ذلك إنشاء مشروعات مشتركة للآلات الزراعية وفي الصناعات الهندسية والأساسية الأخرى. وتتولى لجنة دائمة للتعاون الاقتصادي والتجاري (الكومسيك)، تنفيذ ومتابعة برامج التعاون الاقتصادي بين الدول الأعضاء، وتحقيق تنسيق فعال بين النشاطات الاقتصادية، والنهوض بالمشروعات المشتركة. كما أنشئ في 1983 مركز إسلامي لتنمية التجارة، لتوفير المعلومات التجارية وتنسيق السياسات التجارية وتشجيع الاستثمار بين الأعضاء. ولعل أهم المؤسسات المنشأة البنك الإسلامي للتنمية الذي تبلغ عضويته حالياً 52 دولة. وقد أنشئ في 1973، بغرض دعم التنمية الاقتصادية والتقدم الاجتماعي للدول الأعضاء والمجتمعات الإسلامية بما يتفق والشريعة الإسلامية. وتشير مناقشات مجلس محافظي البنك خلال اجتماعه السنوي الثاني والعشرين، ديسمبر 1997، إلى الحاجة لتعزيز جهوده في تمويل للمشروعات التي تعزز التعاون الإقليمي والتكامل الاقتصادي بين الدول الإسلامية في مواجهة اشتداد المنافسة الدولية وتحديات الكوكبة والتكتلات الدولية والتحديات التي تفرضها اتفاقيات الجات، وإلى مضاعفة دوره في تمويل التجارة البينية، من أجل حل مشكلة نقص التمويل اللازم للعمليات الإنتاجية في الصناعات التصديرية، ودعم صادرات الدول الأعضاء عموماً وزيادة الصادرات البينية فيما بينها بوجه خاص.
ومع ذلك لم يتجاوز حجم التجارة البينية 10% على المستوى العام أو للمجموعات الإقليمية. ويغلب على الصادرات طابع الإنتاج الأولي، وعلى الواردات طابع الإنتاج الصناعي، مما يشير للتبعية الاقتصادية والتكنولوجية. وتظل قدرة الدول الأعضاء على جذب الاستثمارات الأجنبية محدودة بإستثناء إندونيسيا وماليزيا، وهما من النمور، ولو أنهما راحتا ضحيتين لها مؤخراً.
2-منظمة الوحدة الإفريقية:
أما التجمع الآخر وهو التجمع الإفريقي، فإنه يحمل من الوحدة إسمها، حيث نشأ في 1963 في أوج مرحلة التحرر في وقت كان الزعماء الإفريقيون يرددون دعاوى مماثلة لدعوة الوحدة العربية، لإقامة وحدة تقضي على التجزئة التي فرضها الاستعمار، رغم غلبة القبلية وعدم اكتمال مقومات بناء الدولة القطرية المستقلة. وتضمنت الأهداف التي استقر عليها الرأي وحدة الدول الإفريقية وتضامنها وتنسيق جهودها من أجل رفع مستويات المعيشة للشعوب الإفريقية واستئصال الاستعمار من إفريقيا وحماية استقلال ووحدة أراضي الدول الإفريقية. وانضمت الدول العربية الإفريقية العشر إلى المنظمة، إلا أن المغرب انسحب في 1985بسبب قبول عضوية إقليم الصحراء. ووضعت أمانة المنظمة بالإشتراك مع اللجنة الاقتصادية لإفريقيا "خطة عمل لاجوس" وبموجبها أقرت القمة الاقتصادية التي عقدتها المنظمة في مايو 1980 اتخاذ خطوات من أجل إقامة سوق إفريقية مشتركة بحلول عام 2000، وقد اتجهت المنظمة مؤخراً بموجب اتفاقية أبوجا التي وقعت عليها 9 دول عربية مع 42 دولة إفريقية أخرى في 1993، إلى إقامة ما يسمى "الجماعة الإفريقية" على مراحل، بدءاً باستكمال المجموعات الاقتصادية الإقليمية وتعزيز القائم منها، وصولاً إلى اندماج الكامل بينها. وتسعى الاتفاقية إلى إلغاء الحواجز بين الدول الأعضاء، ووضع سياسة تجارية موحدة تجاه الغير، وإنشاء منطقة جمركية، وتحرير انتقال الأشخاص والسلع والخدمات ورؤوس الأموال فيما بين الدول الأعضاء وكفالة حق الإقامة، مع مراعاة أوضاع الدول الأقل نمواً. ونظراً لأن جماعة شرق إفريقيا كانت قد تعرضت للتوقف، فقد أنشئ عوضاً عنها "السوق المشتركة لدول شرق وجنوب إفريقيا" Comesa، من 23دولة منها 3 دول عربية في شرق إفريقيا وهي جيبوتي والسودان والصومال وانضمت إليها مصر مؤخراً. وتسعى إلى تطوير التجارة البينية وإزالة كافة العوائق أمامها بحلول عام 2000، ووضع نظام لتسوية المدفوعات، وتعزيز التعاون في كافة المجالات الاقتصادية. وقطعت المجموعة شوطاً كبيراً في تحرير التجارة، وإنشاء مراكز لتطوير ونقل التكنولوجيا، وجرت دراسات لمشروعات صناعات في قطاعات مختلفة لتطوير شبكات النقل البرية بين الدول الأعضاء. ورغم أن هذه الجماعة فاقت في نشاطها التجمعات الأخرى، مثل المجموعة الاقتصادية لدول غرب افريقيا Ecowas، فإن نسبة التجارة البينية فيها لا تتجاوز 7% وواضح أن حدود الأقاليم تلائم التقارب الجغرافي أكثر مما تحقق شروطاً موضوعية للتكامل. ومن غير المتوقع أن يكون لهذه التجمعات وزن مهم بالنسبة للتكامل العربي في الأجل المنظور.
3-مجموعة الخمس عشرة:
تأسست مجموعة الدول الـ 15 في سبتمبر عام 1989 خلال اجتماعات القمة التاسعة لحركة عدم الانحياز في بلجراد، كمجموعة منبثقة عن حركة عدم الانحياز ومجموعة الـ 77، تستطيع أن تتمتع بقدر من المرونة والديناميكية، بما في ذلك الانعقاد على مستوى القمة، وهو ما لم تستطع مجموعة الـ77 تحقيقه. وهي كالأخيرة تضم أعضاء من القارات الثلاثة، إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، من بينها دولتان عربيتان هما الجزائر ومصر. وتحتفظ المجموعة باسمها رغم ضم كينيا مؤخراً لعضويتها.
وتحددت مهامها الرئيسية في تحقيق الاعتماد الجماعي على النفس لدول العالم الثالث، وتعزيز التعاون بين دول الجنوب، وقيادة الحوار مع دول الشمال. فهي تتولى التنسيق بين أعضائها في المجال الاقتصادي والمالي والتعاون في مجال البيئة ومقاومة الفقر والتصحر والمجاعات والكوارث الطبيعية في الدول الفقيرة. كما أنها سعت إلى المساهمة في حل مشكلة الديون في العالم الثالث، وبحث موقف دول العالم الثالث من مفاوضات أوروجواي 1986 للجات، والعمل على إلغاء الحماية الجمركية التي تفرضها الدول الرأسمالية والغنية على صادراتها إليها. وتزايدت مسئوليتها بعد انحسار دور الأنكتاد عقب إنشاء منظمة التجارة العالمية، وتعرض مجموعة الـ 77 إلى الضعف، خاصة بعد التقسيم إلى مجموعات قارية داخل الأنكتاد، وتصنيف أعضائها وفق معايير تسعى إلى إبراز التفاوت فيما بينها، مثل مستوى الدخل ومعدلات النمو أو التصدير أو المديونية، فضلاً عن التقسيمات الإقليمية التي تنشغل بقضايا التعاون الإقليمي على حساب التعاون العام بين دول الجنوب الذي حقق لها جميعاً مكاسب، لا سيما في الستينات.
وتنعقد المجموعة على مستوى القمة في اجتماعات سنوية، وإن تصاعدت آراء في القمة العربية
مقدمة:(*)
تظل قضية الوحدة العربية تشغل الأذهان، وتفرض نفسها ليس فقط على المجتمع العربي، بل وعلى المجتمعات الأخرى التي تولي اهتماماً خاصاً للإقليم الذي يقع فيه الوطن العربي، وتتصدى بإصرار لقضية العروبة التي تظل حية رغم كل الجهود التي بذلت من أجل وأدها، ورغم قيام العرب أنفسهم باستكمال تلك الجهود بسعيهم الدائم إلى التناحر فيما بينهم وإلى الارتباط بمن ليسوا منهم. وإذا كان بعض دعاة الوحدة قد جعلوا منها حتمية تاريخية، نبتت جذورها عبر قرون طوال من التلاحم والتقارب الذي عززته كل القوى التي تجعل من إقليم معين موطناً لنظام إقليمي قائم بذاته ومتميز بخصائصه وصفاته، وصاغوا دعاواهم في قالب عاب عليه البعض أنه يتضمن قدراً غير قليل من الرومانسية، كتعبير مهذب لوصفه بالبعد عن الواقعية والموضوعية، فإن ما شهده الربع الثالث من القرن العشرين الحافل من تدافع نحو الاستقلال السياسي من ناحية، وتكالب على تحقيق التنمية الاقتصادية الاجتماعية وما تعنيه من استقلال اقتصادي ومن تأكيد للهوية الذاتية الثقافية والاجتماعية من ناحية أخرى، أسفر عن تيار فكري يؤكد الحاجة إلى الوحدة العربية من منطلق الضرورة المصيرية المستقبلية؛ أو على الأقل يحبذ العمل على تحقيق "التكامل الإقليمي" باعتباره أجدى مما عداه من أساليب لتنظيم العلاقات الدولية لمختلف أقطار الوطن العربي. ونشأ هذا التيار بوجه خاص بين المهمومين بشؤون التنمية، وجلهم مثلي من الاقتصاديين الذين ضاق صدرهم بالقيد الحديدي الذي يفرضه أساطين علم الاقتصاد في الفكر الغربي، وهو الفكر الغالب في عصرنا الحالي، فمالوا إلى تحطيم القيود بتناول علم مجتمعي أكبر، يجمع بين مختلف أوجه الحياة الإنسانية في تشابك وتفاعل دائمين، ويربط بين التكتل والتنمية والأمن القومي في اعتماد جماعي على النفس.
كانت بدايات النصف الثاني من القرن العشرين مفعمة بآمال الوحدة وطموحات التنمية، بقدر ما انطوت على عوامل الصراع الذي تحالفت فيه قوى داخلية وخارجية من أجل إجهاض مساعي الوحدة والتنمية معاً، حتى في اللحظات التي شهدت امتلاك العرب إمكانات وعدت بأن يصبحوا القوة السادسة في العالم. ثم جاء العقد الأخير حاملاً معه كمّاً من الأحداث والتغيرات على الأصعدة العالمية والإقليمية والقطرية يدعو إلى إعادة النظر في كثير من المفاهيم والمعتقدات، ومراجعة المواقف والاستراتيجيات، وفي مقدمتها ما يتعلق بقضيتي الوحدة والتنمية بوجه خاص. ما الذي تغير، وكيف؟ هذا هو السؤال الأول الذي يتعين علينا الإجابة عليه، بقدر تعلق الأمر بهاتين القضيتين. في ضوء الإجابة نستطيع أن نستخلص مغزى هذه التغيرات بالنسبة إلى العوامل المحددة للموقف من قضية الوحدة، ومدى دفعها للحركة نحو الوحدة أو بعيداً عنها، وفي أي اتجاه. وحتى تتبين لنا قواعد الحركة في المستقبل علينا أن نتفق على عدد من المعايير التي يمكن الاستناد إليها في الإجابة على السؤالين الرئيسيين اللذين نختتم بهما هذه الدراسة: ما هوالموقف الأنسب من قضية الوحدة استناداً إلى تلك المعايير؛ ثم ما هي المكاسب والمغارم التي تعود من تحقيقها على النحو المقترح، بالمقارنة بالبدائل الممكنة والمحتملة.
ما الذي تغير؟
منذ سنوات عشر اجتمع في صنعاء أكثر من 90 مفكراً وباحثاً عربياً من شتى المشارب ومختلف الأجيال، ليتداولوا حول "الوحدة العربية... تجاربها وتوقعاتها". وجرى تناول الموضوع وفق مخطط تفصيلي أريد له أن يكون شاملاً من الوجهات التاريخية والتحليلية والتطبيقية، واختتموا أعمالهم بحوار مفتوح حول "ما العمل في مواجهة تحديات المستقبل". والمتأمل لمجمل الحوار يجد أن الإجابات مثيرة للآمال في جانب ومحبطة لها في جانب آخر. فمن ناحية نجد أنه كان هناك نوع من الاتفاق العام على أهمية الوحدة وضرورتها المستقبلية، وعلى تقييم جدواها في مواجهة التحديات التي كان في مقدمتها النزعات القطرية، وإن تحسّب البعض من احتمالات تفتت الأقطار ذاتها، وحذرت قلة من أن تقضي عليها مخططات يراد بها إحالة الوطن العربي إلى جزء تابع فيما يسمى الشرق الأوسط. أي أن الخطر الماثل في الأذهان كان هو التجزئة والتشتت الذي تدعمه أطراف خارجية، أكثر منه قيام هذه الأطراف باستيعاب الأقطار في تشكيلات إقليمية بديلة.
وكان هناك اعتراف من التيارات الأخرى، خارج التيار القومي العربي، بأهمية الوحدة وتأسيسها على النطاق العربي؛ يستوي في ذلك رموز من التيار الإسلامي وأخرى من التيار الماركسي، وإن ظلت الشكوك تراود البعض حول محاولات التيار الإسلامي ابتلاع الوطن العربي من خارجه. وكان هناك تقدير من البعض لإنجازات تمت على مستوى العمل العربي المشترك، وتأكيد على أن التراكم المتوالي لهذه الأمور، مهما بدا بعضها صغير الشأن، يصب في النهاية في الهدف الأساسي. مثل ذلك أيضاً موقف البعض من التكتلات الجزء إقليمية، وإن حذر آخرون من كونها تتم في حقيقة الأمر على أرضية تباعدية لا تقاربية. أمر اتفق عليه الجميع، وهو الصلة الوثيقة بين القضية الفلسطينية وقضية الوحدة، وميل إلى اعتبار أن الأرجح هو أن تصبح الأولى الطريق إلى الثانية، بعد أن عجز الاتجاه العكسي عن فرض نفسه. ولم يتوقف الجمع كثيراً عند تخوّف أحدهم من أن يرتضي أصحاب الانتفاضة تفاوضاً على ما هو دون التحرير التام واسترداد كامل الحقوق.
بالمقابل كان هناك من شكك في تأسيس الوحدة على القومية، مبيناً أن القومية ليست شرطاً موجباً للوحدة، ومستدعياً شواهد تاريخية ومعاصرة على ذلك. كان هناك أيضاً جدل احتدم أحياناً، حول الموقف من القطرية، التي كسبت مطالبين بضرورة أخذها في الاعتبار كواقع لا يمكن تجاهله، والدعوة للتأمل في أسباب تجذرها. كان هناك أيضاً نوع من المحاكمة للفكر الوحدوي التقليدي الذي ظل يراوح مكانه، بما فيه من ميل إلى الرومانسية، وافتراض غير صحيح بأن العرب سبق لهم أن أقاموا دولة وحدة في سعي واعٍ لتخطي قطرية لم تكن مقوماتها قد اكتملت في يوم من الأيام. فما كان بينهم هو أن راية واحدة جمعتهم، أساساً تحت مظلة خلافة إسلامية. وما حدث من غياب للحدود ومن عوائق تقام عليها حائلة دون انتقال البشر وفعالياتهم كان مرجعه ببساطة إلى أن تلك الحدود وما يحيط بها من إجراءات بدعة لم تكن قد عرفت بعد. وبالتالي فالعرب على أحسن الفروض كانوا ولايات ضمن كيان جمعه تآلف ثقافي له بعد سياسي مرتبط بالأساس الحضاري الإسلامي، أكثر منه تعلقاً بأهداف تشكلت وفق خصوصيات ذاتية، وبالتالي فإن تحول الولايات إلى أقطار جاء انعكاساً لمحاولاتها مقاومة ما ابتلي كل منها به من استعمار. وتبقى الحقيقة الملفتة للنظر أن مداولات الجلسة الأخيرة عجزت عن أن تقدم برنامجاً محدداً للعمل، خاصة وأن المقترحات الواعدة بشيء من الفاعلية كانت تدعو إلى الكفاح الثوري، وتلك مهمة لا تندرج ضمن صلاحيات جماعة من المثقفين يدرسون ويتحاورون، وإن اتفقوا على أن الأمر يقتضي تحركاً طبيعته سياسية في المقام الأول، سواء ذهب التحرك إلى حد الثورة الشعبية أو اكتفى بأسلوب التغيير من الداخل وفق النهج الإصلاحي الذي دعا إليه عدد من المفكرين، حيث فضل البعض أسلوب محمد عبده على منهج جمال الدين الأفغاني.
ما الذي تغير منذ ذلك التاريخ عبر العقد الأخير؟ نقول لقد حدث الكثير، ولكن الأهم أننا أصبحنا ندرك أيضاً الكثير، بعد أن أعطينا أنفسنا ترف تجاهل إرهاصات بقينا نتناولها في إطار شبه أصولي، يميل إلى تأكيد صحة مواقف سابقة والدعوة إلى التمسك بنفس الأدوات وانتهاج نفس السبل. القائمة تطول، ولكننا سوف ننتقي منها ما يمس موضوعنا، وهو ليس بالقليل بل يبلغ الأربعين عدداً:
* الاستشعار المتزايد بظاهرة الكوكبة، أو ما يسمى العولمة، أسبابها وتداعياتها، التي لها صلات وثيقة بالكثير من الأبعاد التالية، ومغزاها بالنسبة لاستراتيجيات الأقطار العربية وقضية الوحدة.
* تفكك المعسكر الاشتراكي، وانتهاء الحرب الباردة والصراع الأيديولوجي، وعواقب ذلك على الوطن العربي، أقطاره ووحدته وقضاياه.
* تعامل الولايات المتحدة مع ظاهرة الكوكبة في ظل غياب القطب والمعسكر الاشتراكيين، وإعلان رئيسها بوش مولد نظام عالمي جديد، في تعبير واضح على إنهاء سياسة العزلة واختيار الهيمنة.
* إعادة ترتيب البيت الأوروبي، والتحول من أوروبا 1992 إلى "أوروبا من الأطلسي حتى الأورال" (وفق نداء ديجول) واتساع "المجال الأوروبي" كاستراتيجية مواجهة ما بعد انتهاء الحرب الباردة.
* تولي مجموعة السبعة التي تسيطر على ثلاثة أرباع الإنتاج العالمي إدارة الرأسمالية العالمية.
* ظهور الصين كقوة اقتصادية سريعة النمو، وسعيها إلى غزو أسواق الدول النامية، مع إدارة صراع اقتصادي مع الولايات المتحدة.
* وترتبط الكوكبة بتداعيات الثورة التكنولوجية، أو ما يسمى الموجة الثالثة، وما يتولد عنها من تغيرات كبيرة في الهياكل الاقتصادية، وتركيبة القوى العاملة، وفي نظم الإدارة وأدوات السيطرة والتحكم عن بعد، واتضاح مدى خطورة مضامينها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
* إدراك أهمية المعرفة النظرية والتطبيقية كعنصر رئيسي، يرتبط بشكل وثيق بتقدم التعليم وارتقاء البحث العلمي والتطوير التكنولوجي، وما يعنيه هذا من ضرورة مراجعة العرب لأسلوب تعاملهم مع التكنولوجيا على أنها المنتجات الصلبة للمعرفة. ويعني هذا ثبوت عجز عمليات البيع والشراء أو المقايضة بالنفط، وضرورة توفير قاعدة بحثية عريضة تتجاوز حدود القطر الواحد.
* إلا أن الثورة التكنولوجية أضافت إلى جيوش البطالة في الدولة الصناعية الكبرى، التي بدأت في البحث عن تعاون في مواجهتها، بعد أن بدأت تتحول إلى اضطرابات اجتماعية متفاقمة.
* ومن هذا المنطلق تتعرض حركة البشر للتقييد، وتعمل دول الشمال على الحد من الهجرة من دول الجنوب، مما زاد من تفاقم مشكلة البطالة في دول العالم الثالث عامة والعربية خاصة.
* انتهاء جولة أوروجواي للجات باتفاقيات "مراكش"، وانضمام منظمة التجارة العالمية إلى الإطار المؤسسي الذي ترعاه القوى الفاعلة في الكوكبة، لتفرض قواعد إلزامية لتنظيم التدفقات الاقتصادية الدولية، متجاوزة التجارة في السلع الصناعية إلى الزراعة والخدمات ورأس المال.
* استمرار السياسات الحمائية للدول الرأسمالية، تحت ستار المواصفات وحماية الملكية الفردية، وإلغاء المزايا النسبية للدول النامية بما يسمى الشروط الاجتماعية للعمل ومستويات الأجور.
* استخدام أزمة الديون لإحداث ضغوط على الدول النامية لإحلال تدفقات رأس المال الأجنبي الخاص محل الاعتماد على القروض قصيرة وطويلة الأجل، التجارية والرسمية. وفتح هذا الباب أمام رأس المال النقدي قصير الأجل، المنشغل بالمضاربات الرأسمالية أكثر من قيامه بالمشاركة في النشاط وجاءت كارثة النمور الآسيوية، قديمها وحديثها، مجسدة لمخاطر هذا المنهج.
* ورغم ذلك يستمر السعي إلى استكمال حلقة الأسواق المالية العربية وتوثيق صلاتها بالأسواق العالمية، لتنشئ قواعد دائمة لحركة التدفقات المالية من وإلى الوطن العربي، واضعة حدا للدعاوى السابقة التي طالبت رأس المال العربي بدعم التنمية العربية كعماد للتكامل العربي.
* تكثيف الجهود الدولية لفتح الاقتصادات أمام الاستثمار الأجنبي المباشر، مع منحه حرية ممارسة النشاط الاقتصادي في أرجاء الوطن العربي، بدوافع ليس من بينها توثيق عرى التشابك الاقتصادي بين أجزائه. يقابلها تهافت الدول العربية على اجتذابه، بل والتسابق نحو إسرائيل ظناً بأنها المفتاح السحري إليه، إلى حد الصراع بينها حول إقامة مؤتمرات التآمر الشرق أوسطي.
* إصرار الدول الصناعية المتقدمة على إغلاق باب المعونات، بدعوى التحول من منح تفضيلات إلى شراكة في ظل عدم تكافؤ، وفرض شروطها بشأن النظام الاقتصادي وإدارة العلاقات الدولية.
* حصول قضايا البيئة على أولوية في الاهتمامات الدولية، وضآلة ما تعهدت به الدول الصناعية من التزامات للتعامل معها، في الوقت الذي تتخذ فيه منها أدوات جديدة للحد من القدرات التنافسية للدول النامية، بل وتحويلها إلى آلية للعقاب، كما في حالة ضريبة الكربون.
* الإقليمية الجديدة، الهادفة إلى ربط الدول النامية بعجلة القوى الرأسمالية الكبرى، كبديل للإقليمية التقليدية القائمة على مفاهيم التكامل الإقليمي التي ظلت حتى الآن طريقاً مرشحاً لبناء الوحدة بأسلوب تدريجي، في أقاليم مختلفة منها العربي.
* محاولات أطراف خارجية فرض هذه الإقليمية الجديدة على الوطن العربي، تجلت في تبني الجماعة الأوروبية سياسة متوسطية جديدة، والتفاوض المستمر على تحرير التجارة مع الخليج.
* انضمام الدول العربية إلى قائمة الدول النامية التي يعتبر عقد الثمانينات بالنسبة لها "العقد الضائع للتنمية". وتعرض نماذج التنمية القطرية المطبقة لانتقادات شديدة بقدر تعرض نماذج التنمية المستقلة بالاعتماد الجماعي على النفس لهجوم شرس.
* تطبيق عدد كبير من الدول العربية برامج إصلاح اقتصادي، إن طوعاً وإن كرهاً، على النمط الذي تصوغه المؤسسات الاقتصادية الدولية. واتباع استراتيجيات تنموية تقوم على مزيد من الاندماج في الاقتصاد العالمي بتكثيف التصدير ومن ثم الاستيراد، والارتباط بشركاء من دول رأسمالية سعياً إلى جلب استثمارات منها أملاً في أن تساعدها على التصدير إليها!
* تجريد العرب من "سلاح النفط" بل واستخدامه ضدهم، وتراجع ظاهرة الفوائض التي شغلت الأذهان بعض الوقت وعدم تحقق التنبؤات بارتفاع أسعار النفط اعتباراً من منتصف التسعينات.
* تزايد المخاطر الأمنية الإقليمية لتتصدرها قضية المياه، التي توظفها كل من إسرائيل وتركيا، ومن خلفها الولايات المتحدة، في تقييد الإرادة العربية، وتبديد الموارد الشحيحة أصلاً لديها.
* نجاح شطري اليمن في 1990 في إنهاء حقبة طويلة من الخلاف على كيفية تحقيق وحدة اليمنين، ثم تعرض هذه الوحدة بعد قليل لمخاطر الصراع الذي غذته أطراف عربية.
* بالمقابل تعددت حالات تفتت الدولة القطرية، وإن اجتاز لبنان محنته الداخلية بعد تجميد قوى العراق الذي كان يستغلها في الصراع العقائدي مع سوريا، من أرضية الوحدة!
* انتهاء حرب الخليج الأولى والتطورات في مواقف الثورة الإيرانية من قضايا المد الإسلامي ومن دول الجوار العربية، ومن القضايا العربية بما في ذلك القضية الفلسطينية.
* اتجاه منظمة التعاون الاقتصادي التي تضم بقايا حلف السنتو (إيران وباكستان وتركيا) للتوسع باتجاه الجمهوريات الإسلامية المستقلة عن الاتحاد السوفيتي السابق في وسط آسيا.
* دعوة تركيا في ظل حكم الرفاه إلى تبني فكرة جماعة الثمانية كمنظمة إقليمية ذات وجه إسلامي في محاولة لإكتساب موقع استراتيجي مؤثر تجاه جاراتها العربية وإيران.
* دعوة منظمة الوحدة الأفريقية إلى إنشاء جماعة افريقية، بدءاً بإقامة مناطق تجارة حرة إقليمية في أقاليم تغطي القارة، وتضم الدول العربية الإفريقية.
* إعطاء منظمة المؤتمر الإسلامي وزناً أكبر لإقامة تعاون اقتصادي إقليمي يضم أعضاءها السبعة وخمسين، وإن ظلت غير فاعلة بالنسبة للقضايا التي دعت لظهورها وفي مقدمتها قضية القدس.
* محاولة بث الحياة في مجموعة السبعة والسبعين، وتبني دول عدم الانحياز إقامة مجموعة الخمس عشرة دولة على نطاق القارات الثلاث، مشتملة دولتين عربيتين (الجزائر ومصر).
* تعرض الوطن العربي لكارثة بالاجتياح العراقي للكويت، وما ترتب عليه من ضرب قوى الوحدة، خاصة في الجزيرة العربية، في الصميم. وفتح الباب واسعاً أمام الولايات المتحدة لتعيد رسم خريطة المنطقة، وتحقق احتلال منابع النفط الذي هددت به منذ السبعينات، ولكن بدعوة من أهلها.
* سيطرة مفهوم الأمن الإقليمي، وتغلبه على الأمن القومي، وقد كان هذا الأخير من أكبر أسانيد وحدة العرب، وارتبط بالتوجه إلى التنمية العربية.
* وفي هذه الظروف سنحت فرصة لا يمكن أن تتكرر لإجهاض الانتفاضة الفلسطينية، ولفرض تسوية أنهت كفاح العرب، وأزالت القاعدة التي ربطت بين الوحدة والقضية القومية.
* ورغم الإدعاء بأن التحرك نحو السلام يحرر موارد للتنمية، فإن ما يوجه إلى التسليح تزايد بدلاً من أن يتناقص، بما في ذلك تسليح إسرائيل المحتفظة بقوى التدمير الشامل.
* محاولة الولايات المتحدة تطبيق الإقليمية الجديدة، سواء بإقامة شراكات ثنائية مع دول عربية، أو تأكيد دور إسرائيل كرأس حربة لاستعمار بوضعها على رأس ما يسمى التعاون الشرق أوسطي، وبدء مسلسل احتواء دول الجوار الإسرائيلي، بإقامة منطقة حرة تضم معهما الأردن.
* تجريد العرب من مصادر دخل بديلة للنفط تأكيداً للسيطرة الرأسمالية عليه، بتعريض أرصدتهم الخارجية للضياع، بدءاً بانهيار بنك الاعتماد وتبديد الاستثمارات الكويتية الخارجية.
* عودة محاولات التكامل الجزء إقليمي، ولكن لتتراجع بسرعة. فتكامل وادي النيل أصبح في خبر كان، ومجلس التعاون العربي ثبت فساد مقاصد بعض أطرافه، وما لبث أن طواه النسيان. أما المجلس المغربي فقد آذن بنوع من الهدنة المغربية، لتعاود أطرافه مساعي الالتحاق بأوروبا.
* الميل مؤخراً إلى تكثيف صيغة الاتفاقيات الثنائية، بما في ذلك إقامة مناطق تجارية حرة ثنائية.
* التوصل إلى اتفاق حول إقامة ما يسمى منطقة تجارة حرة عربية كبرى، كمخرج من مجافاة اتفاقية تيسير وتنمية التبادل التجاري لشروط الجات، وتبنى مصر عملية إعادة إحياء السوق العربية المشتركة، التي تجمدت أمداً طويلاً.
تلك كانت قائمة ضمت أربعين عنصراً فاعلاً في تغيير الأوضاع التي يعيشها العالم العربي، والعالم أجمع من حوله، برزت بشكل واضح في العقد الأخير، بعضها كانت له بدايات سابقة، ولكنه اتخذ أبعاداً ذات شأن ليصبح من مواضيع الساعة، وبعضها ظهر وتبلور خلال العقد ليشكل مع غيره منظومة تكاد تصب في اتجاهات محددة، أقل ما توصف به أنها أبعد ما تكون عن آمال الأمة العربية وطموحاتها، وفي مقدمتها قضية الوحدة. وهي في واقع الأمر محصلة تطور في النظام الاقتصادي العالمي، وصل به إلى أعتاب مرحلة جديدة تكاد تنفصم جميع صلاتها بالماضي.
التطور في النظام الاقتصادي العالمي:
نظراً لكون قضية الوحدة تقع في نطاق العلاقات الدولية، ولأنها كما سنرى فيما بعد تجنح إلى تغليب العنصر الاقتصادي، رغم كونها عملية سياسية في المقام الأول، فإن من المهم أن نتعرف على ما إذا كانت التغيرات السابقة الذكر قد حدثت بصورة تلقائية خضعت فيها كل ظاهرة لعوامل خاصة بها، لتتجمع منها بعد ذلك صورة مركبة تبدو مغايرة لما سبقها، أم أنها وليدة تغير أصاب النظام الاقتصادي العالمي، باعتبار أنه يشمل النظام الاقتصادي الدولي، المعبر عن العلاقات بين الدول كأحد شقيه، أما الشق الآخر والأكبر فهو النظم الاقتصادية الداخلية للدول، وهي بالضرورة شديدة التنوع. يذكر في هذا الصدد أنه جرت محاولات في الأمم المتحدة خلال السبعينات لتصويب النظام الاقتصادي الدولي، فإذا الأمر يتحول سريعاً إلى تغيرات في الأنظمة الداخلية، انعكس بالضرورة على العلاقات الدولية، بما فيها قضايا التكامل والوحدة عامة والعربية خاصة. وفي اعتقادنا أن كثيراً من الحوار حول هذه القضايا، بتجاهله هذه البعد ، أخرجها من إطارها الموضوعي، واصطدم بالدعوة إلى مناهج وآليات لم تعد متفقة مع التطورات العالمية.
وقد ارتبطت التطورات التي مر بها النظام العالمي بتعاقب الثورات الصناعية وما أدت إليه من تطور في نظم الإنتاج الرأسمالي، وتغيرات في الهياكل الإنتاجية، وما تنطوي عليه من علاقات أولية تتعلق بمراكز اتخاذ القرار على المستوى الإفرادي وبخاصة المنشأة، ومغزاها بالمستوى الكلي لاتخاذ القرارات أي الدولة، وبالنسبة للعلاقات الدولية، وإلى الأسواق وتطور العلاقات بينها بحكم أن الإنتاج الصناعي هو أساساً إنتاج للسوق، وانعكاس ذلك على العلاقات الاقتصادية الدولية. من جهة أخرى فإن العلاقات بين دول تتفاوت اقتصاداتها من حيث القوة تأثرت بعملية "الهيمنة"، التي تنعكس في شكل استيلاء بعض الأقطار على موقع القطبية من النظام وسعي دول أخرى إلى البقاء في مركزه من خلال تطوير طبيعة الاستعمار، وهو ما يتطلب دراسة تطوره. وهكذا نجد أن النظام الاقتصادي العالمي مر بثلاثة مراحل شهد القرن العشرون نهايات أولها في بدايته، ومقدمات ثالثها في أواخره. ونظراً لأننا لسنا هنا بصدد دراسة تفصيلية لتطور النظام العالمي، فسوف نركز فيما يلي على أهم معالم المراحل الثلاث وفقاً للعناصر السابقة، ومغزى ذلك بالنسبة إلى عملية الاندماج الإقليمي.
فالمرحلة الأولى اقترنت بالثورة الصناعية الأولى، وتميزت بالآتي:
* كانت المنشأة هي المنتج الفردي، الذي يغلب عليه صغر الحجم.
* وبالتالي اتسمت الأسواق داخل الدول الصناعية بالمنافسة الحرة.
* وفرض هذا على الدولة أن تلعب دور الحارس، الذي يوفر الأمن ويكفل الحريات، دون أن يكون له دور مباشر في الإنتاج في الداخل.
* بينما مارست في الخارج تأمين مصادر المواد الأولية الشحيحة، وتيسير النفاذ إلى الأسواق الخارجية، وحجب كل منهما عن الدول المنافسة. وكانت أداتها في ذلك الاستعمار المباشر.
* وهكذا أقامت الدول الاستعمارية تكاملاً قسرياً، لا يتخذ شكل تكامل إقليمي بالصيغة المعهودة، بل تكامل بين إقليمين أو أكثر، أحدها هو أحد دول المركز والباقي مجموعة من الدول المتخلفة في الأطراف. وغطى النهب المنظم لموارد المستعمرات تكلفة الأعباء السياسية والعسكرية.
* وحماية لموقعها الرائد للتحول الصناعي، عمدت بريطانيا إلى تعزيز قدراتها الاستعمارية إزاء القوى المنافسة بشغل موقع القطب الأكبر، اعتماداً على أساطيل عسكرية وتجارية ضخمة، وبفكر اقتصادي يدعو لتقسيم عمل يقوم على المزايا النسبية، ويبرز تخصص الدول النامية في المواد الأولية.
* أما الدول التي عجزت عن الدخول في لعبة الاستعمار، فقد لجأت إلى الحماية لاجتياز مرحلة التعلم الصناعي في وجه منافسة الدول الاستعمارية، وحدث هذا في دول حديثة العهد بالاتحاد.
فهو بدأ على يد هاميلتون في أواخر القرن الثامن عشر في الولايات المتحدة، بعد تكوين دولتها الاتحادية. وهو تكرر في ألمانيا على يد ليست حين بدأت ولاياتها في التجمع في اتحاد جمركي (الزولفرين) في منتصف القرن التاسع عشر. وكان هذا إيذاناً بارتباط فكرة التكامل الإقليمي بالحماية والتصدي لما تفرضه الحرية الشاملة للتجارة التي تفرضها دول المركز من عدم تكافؤ.
وبدأت المرحلة الثانية في ظل الثورة الصناعية الثانية، التي بدأت القيادة تنتقل فيها إلى الولايات المتحدة. وتميزت هذه المرحلة بالآتي:
* تحول المنشأة إلى الشركة الوطنية الكبيرة Corporation، التي تتطلب اقتصادياتها اتساع السوق.
* وأدى كبر الحجم إلى صعوبة المحافظة على المنافسة الحرة في الأسواق المحلية، فحدث تحول إلى منافسة احتكارية أو منقوصة في الداخل، ومحاولات لاحتكار أسواق الدول الأقل تقدماً.
* كذلك أدى كبر الحجم إلى سيطرة كبار الرأسماليين على الحكم، أو قيام الحكومات في النظم التي لا تولي هؤلاء ثقتها (كالنظم الاشتراكية والفاشية) بدور رأس المالي، خاصة وأن الحجم الكبير يمكنها من ذلك. وبالتالي أصبحت الدولة مسيطرة على النشاط الاقتصادي، كما بدأت تلعب دوراً أكبر في عملية إعادة التوزيع وإقامة دولة الرفاهة، وكذلك في التنمية بالنسبة للدول النامية.
* ومع التعقد في عمليات التصنيع والتوسع في تصنيع المستلزمات كبديل للخامات جرى نقل مراحل من الإنتاج إلى الدول النامية التي اتجهت إلى تصنيع منتجات نهائية اعتماداً على استيراد السلع الوسيطة والرأسمالية من الدول المتقدمة، بل والسلع الاستهلاكية المتطورة. واستطاعت هذه الاحتياجات أن تخفف الحاجة للاستعمار المباشر، ليحل محله الاستعمار الجديد غير المباشر.
* ومع الدور القيادي للدولة تغيرت قواعد القطبية، لتصبح صراعاً بين الأنظمة، أخذ خلال الحرب العالمية الثانية شكل صراع قادته بريطانيا ضد فاشية دول المحور، انتقلت فيه قيادة نظام السوق إلى الولايات المتحدة لتبدأ صراعاً مع نظام يتزعمه الاتحاد السوفيتي يقوم على الإدارة الجماعية ويختلف في أسسه الاجتماعية. وعمدت في البداية إلى تحصيل تكاليف الصراع من مشاركات دول أوروبا الغربية، وعن طريق إقامة نظام اقتصادي ونقدي دوليين يتيحان لها استمرار تحويل موارد من باقي العالم إليها. وكان لا بد لهذا الوضع من الانهيار، وهو ما حدث في السبعينات،التي سنحت خلالها فرصة للعرب سرعان ما ضاعت، وجرت إعادة تنظيم صفوف الدول الرأسمالية وقيامها بإدارة تضخم رغم الركود الذي عانته، تم فيه استنزاف العالمين الثاني والثالث.
* ونظراً لحاجة الدول الأوروبية إلى ملاحقة التطور الذي تمخضت عنه الشركات الكبيرة، سعت إلى تنظيم التكامل الإقليمي الذي اختارته كسبيل للتغلب على صراعاتها، على أساس اقتصادي يتيح لها الاستفادة من السوق الإقليمية الكبيرة. وشجعتها الولايات المتحدة على ذلك حتى تتسع أمامها السوق الأوروبية، خاصة في ظل تزايد اعتماد أوروبا عليها نتيجة للتخريب الذي أحدثته الحرب.
* وكان على الدول الأوروبية واليابان أن تتصارع لإصرار الولايات المتحدة على حرية التجارة الدولية متعددة الأطراف. وعمدت الدول النامية إلى الإحلال محل الواردات في ظل الحماية، كما نجحت حركة عدم الانحياز في الحصول على تفضيلات في المعاملة من الدول الصناعية. إلا أن الدول الصناعية تفننت في أساليب الحماية التي حدّت من قدرة الدول النامية على النفاذ إلى أسواقها . وفي الوقت نفسه لم تلق جهود التكامل الاقليمي التي جرت في أقاليم العالم الثالث خطاً يذكر من النجاح، بسبب كثافة علاقات الدول النامية بدول المركز التي زادها الاستعمار الجديد.
وكان من الواضح أن النظام الذي نشأ خلال المرحلة الثانية لم يكن قابلاً للاستقرار والاستمرار. وبالتالي بدأت المرحلة الثالثة، خاصة بعد أن تشكلت ملامح الثورة التكنولوجية، التي يراها البعض ثورة صناعية ثالثة، ويعرفها البعض بدقة أكبر بأنها موجة ثالثة، قوامها الخدمات شديدة التطور:
* فنشاط الشركات الكبرى لم يقتصر على التمركز في مواطنها والاكتفاء بالتصدير إلى باقي العالم، بل امتدت بنشاطها إلى الخارج لتصبح عابرات للقوميات، في تدويل مستمر للنشاط الإنتاجي.
* وحتى تنشر أنشطتها في أرجاء العالم، بدأت تدفع نحو تحرير الأسواق والربط بينها في شبكة من الأسواق المتداخلة ليبدأ حديث عن "أسواق عالمية" و"أسعار عالمية". وتحول جانب كبير من التبادل الدولي إلى تجارة بين فروع العابرات أكثر منه تجارة بين الدول.
* وبالتالي فإن الرأسمالية الكبيرة بدأت تخرج على الدولة، وتجند الدول جميعها لخدمتها. وهكذا تحولت الدولة إلى الدولة المديرة، المسؤولة عن ترتيب شؤون البيت Housekeeping من أجل توفير الظروف الممكنة لعابرات القوميات لتتمكن من اتخاذ قراراتها وتحريك تدفقاتها دون عائق.
* وتغيرت قواعد الاستعمار ليقوم على تحريك حركات رأس المال وما يتطلبه من حرية ممارسة النشاط وعلى تحرير الخدمات، ومن ثم إجبار الدول جميعاً على تغيير نظمها الداخلية لتتفق مع ما تفرضه العابرات التي حلت محل الحكومات في إدارة الاقتصاد العالمي، بشقيه الدولي والمحلي.
يعزز هذا سيطرة العابرات على شبكات التمويل والتسويق، وقيام الصندوق والبنك بتأمين التحول في الأنظمة المحلية، بينما تتولى منظمة التجارة العالمية الإشراف على العلاقات الدولية.
* ومن موقع القطبية قامت الولايات المتحدة بدور "الدولة المدبرة الكبرى" بتوجيهها التغيرات نحو النظام القائم على تدويل الإنتاج، ولكنها باتت عاجزة عن الجمع بين الهيمنة السياسية واستمرار التفوق التكنولوجي في ظل تنامي العجز الاقتصادي، وتراجع حدود النهب من العالم الثاني بتحوله إلى نظام السوق، ومن العالم الثالث بسبب تراجع نموه. وترفض الدول الصناعية، لا سيما ألمانيا واليابان تحمل مزيد من الأعباء الاقتصادية إلا بالحصول على دور سياسي أكبر. وبذلك يصعب على الولايات المتحدة الخروج من مأزقها الاقتصادي بأي من الأسلوبين، الاستمرار في الانفراد بالهيمنة السياسية، أو قبول شركاء فيها، خاصة بعد أن قاربت من استنفاد الغرض منها برضوخ معظم دول العالم للنظام الذي تتزعمه، وتمكن العابرات من التغلغل في مختلف أرجاء العالم.
* وكان أحد الأساليب التي لجأت إليها الولايات المتحدة تحويل التكامل الإقليمي عن مفهومه الأساسي الرامي إلى خلق كيانات تتصف بقدر من التكافؤ الاقتصادي غير متوفر دولياً، إلى إقليمية جديدة (انظر بعده)، تربط بها جاراتها في نصف الكرة الغربي، وتعبر به المحيطات إلى أسواق جنوب شرق آسيا (الآبك) وتتغلغل في الأسواق العربية عن طريق إصرارها على الشرق أوسطية.
* وحل محل مبدأ الحماية الذي كانت تحمي به دول أو تجمعات إقليمية أسواقها الداخلية الضيقة من المنافسة العالمية، مفهوم الكتلة الحرجة Critical mass، الذي يرفع القدرة التنافسية للأنشطة الاقتصادية برفع كفاءتها داخلياً في نطاق سوق متسعة. وقد اختارت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية كمعيار لهذه الكتلة حداً أدنى للحجم بمقياسين: عدد سكان لا يقل عن 150 مليون نسمة، وناتج محلي لا يقل عن 150 بليون دولار. ووفق هذا المعيار ستتمكن خمس دول من تحقيق نمو سريع في ناتجها المحلي وفي نصيبها من الصادرات العالمية، وهي إندونيسيا والبرازيل وروسيا والصين والهند. ويعني هذا ضمناً عدم قدرة التكتلات الإقليمية رغم محاولات إضفاء مزيد من الجدية على جهودها التكاملية، انطلاقاً من مقولة إننا نعيش عصر الكيانات الكبيرة، على مجاراة ما يمكن أن يتوفر لدولة موحدة ذات حجم كبير من قدرة على النمو. والواقع أن هامش الحركة المستقلة بدأ يضيق كثيراً أمام التجمعات الإقليمية بسبب ما يفرضه النظام العالمي من إسقاط للحدود على المستوى الدولي يفوق في بعض الأحيان ما تسعى هذه التجمعات إلى تحقيقه.
مناهج تحقيق الوحدة:
تندرج عملية تحقيق الوحدة بين مجموعة من الأقطار، تحت مسمى عام هو "التكامل الإقليمي" Regional integration عندما يؤدي إلى الاندماج التام بينها في وحدة سياسية. من جهة أخرى ينصب التكامل الاقتصادي Economic integration في معناه الضيق الذي يحدده الفكر الاقتصادي النيوكلاسيكي على الوقوف بين القطرية والعالمية، حيث يأخذ عن الأولى نزوعها للحماية تجاه باقي العالم، وعن الأخيرة تحرير التبادل التجاري البيني. أي أن خطوة على طريق التكامل العالمي من خلال التبادل بمعنى الحرية الشاملة للتجارة. ونظراً لأن الاقتصاد يشكل عنصراً أساسياً في التكامل الإقليمي، فقد جرى خلط بين النوعين، خاصة بسبب استخدام التكامل الاقتصادي كمدخل إلى التكامل الإقليمي، الأمر الذي يفرض على بدايات التوجه نحو التكامل الإقليمي اعتبارات تتأثر بالتغيرات في الفكر الاقتصادي، دون مراعاة لابتعادها عن المتطلبات السياسية والاجتماعية والثقافية. وقد انطوت التجارب التاريخية على حالات تكامل قسري Coercive تولت فيها قوة منطلقة من قطر معين فرض الوحدة بالقوة بضم أقطار أخرى مجاورة لها، معتمدة على ما خلقه الجوار عبر التاريخ من تشابك في العلاقات، دون اشتراط قدرٍ كافٍ من التقارب السياسي أو الاقتصادي. بل لعل من أسباب هذا النوع من التكامل الرغبة في القضاء على مصادر النزاع السياسي، أو في استيلاء على موارد اقتصادية لدى الأقطار التي يجري ضمها. غير أن الفكر العالمي بات يفضل التكامل الطوعي، ويرى فيه سبيلاً للقضاء على دوافع الصراعات السياسية والأطماع الاقتصادية التي قادت إلى حروب عالمية مدمرة. وكان هذا هو الأساس في التكامل الأوروبي وما تمخض عنه من أدبيات تنظّر للتكامل.
ويعني بلوغ حالة الوحدة تولّي سلطة مركزية صلاحيات كانت تتولاها سلطات الأقطار الأعضاء يتوقف مداها على صيغة الوحدة. ففي الصيغة التعاهدية أو الكونفدرالية يجري عقد اتفاقٍ أو معاهدة بين الأعضاء تحتفظ بموجبه بوجودها وتمارس سيادتها خارج الحدود التي تمنح للمنظمة المركزية.
أما إذا تحولت إلى وحدة بين الشعوب لا الدول، فإن الصيغة قد تكون هي الدولة الاتحادية Federal state، التي تتولى الشؤون الخارجية، وجانباً من الشؤون الداخلية مع السماح للمجتمعات الأعضاء باستبقاء قدر من الاستقلالية. وتشير تجربة الولايات المتحدة إلى أن الكونفدرالية التي قامت فيها في 1781 كانت معرضة للانهيار، لولا تحولها إلى دولة اتحادية فيدرالية في 1787. وكان "اتحاد الدول العربية محاولة من هذا النوع بين الجمهورية العربية المتحدة (وهي وحدة اندماجية) والمملكة المتوكلية اليمنية. كما كان اتحاد الجمهوريات العربية محاولة أخرى، بقي منها عدد من المشروعات المشتركة التي استطاعت أن تتجاوز ما آل إليه الوضع بين الأطراف المعنية من نزاعات. وتمثل الإمارات العربية المتحدة نموذجاً من الاتحاد الفيدرالي.
أما الصيغة الأقوى فهي التي تتخذ شكل وحدة اندماجية، تنتقل فيها صلاحيات ومسؤوليات الدول القطرية إلى مركز دولة الوحدة. ويصبح المركز مسؤولاً عن أمرين: الأول هو إزالة ما كان قائماً بين النظم والاستراتيجيات وقواعد رسم السياسات في ظل القطرية من تباينات، وإحلال استراتيجيات ونظم وقواعد موحدة محلها. والثاني هو إدارة شؤون الدول الموحدة تبعاً لذلك باعتبارها دولة تتساوى فيها الحقوق والواجبات بين جميع الرعايا. وطبيعي أن هذا يشترط توافقاً في الأهداف التي تتطلع لها شعوب الأقطار المنضمة، كما يتطلب سيادة شعور بأن المركز الإقليمي الذي يتولى شؤون الدولة الموحدة سوف يكون قادراً على تحقيق تلك الأهداف على نحو أفضل، بل وإضافة قدر آخر من الأهداف التي كانت تبدو مرغوبة ولكنها صعبة المنال في النطاق القطري، حتى وإن جرى بشأنها نوع من التعاون (الإقليمي) مهما كان وثيقاً. بعبارة أخرى يسود شعور بأن القطرية تمثل محددات وقيودا Constraints جديرة بالإزالة، يصحبه غياب التخوف من أن المكاسب من الوحدة لا تعوض ما تنتقصه من مزايا كانت توفرها الدولة القطرية. وبديهي أن كل هذا يتطلب توفر قدر من التوافق السياسي والاقتصادي بمثل ما يتطلب تقارباً اجتماعياً وثقافياً ينشئ قدراً عالياً من الشعور بالجماعية Sense of community القابل للنمو عبر الزمن، دون شبهة واضحة في احتمال تراجعه في الأجل المنظور. فإذا غاب هذا الشعور وحلت محله مشاعر التنابذ واتساع الاختلافات بين الأهداف والوسائل تنشأ الحركة نحو الانفصال، تدفعها التباينات الثقافية والاقتصادية، وما يتولد عنها من فوارق في الحقوق والأوضاع الاجتماعية. وغالباً ما تتدخل عوامل خارجية لتعزيز مشاعر التباين الثقافي والغبن الاقتصادي، وهو ما تعاني منه أقطار عربية في الوقت الحالي. وتلعب فئات المصالح دوراً مهماً في الحالتين، لا سيما في التحالف مع قوى خارجية من أجل تحقيق مكاسب عن طريق الانفصال.
غير أنه إذا لم تتوفر المقومات لإقامة دولة وحدة بصورة مباشرة، فإن التفكير يتجه إلى بنائها على نحو تدريجي، وهو ما يعني أن يجري اتفاق على إيكال قدر من الفعاليات التي لا تثير حساسية المساس بالسيادة لدى الأطراف إلى تنظيم مشترك يتولى سلطة إدارتها بصورة أفضل مما توفره سلطات الدول الأعضاء. ويعتقد أصحاب هذا الرأي أو المنهج الوظيفي Functional أن شعور الأطراف بجدوى هذا الأسلوب في الإدارة المشتركة في بعض النواحي يولد قبولاً لإيكال مزيد من الفعاليات إليه، لينتهي الأمر بالإقتراب من قيام المركز المشترك من المهام الرئيسية للدولة الواحدة، فيصبح إعلانها بصورة رسمية أمراً يسهل الاتفاق عليه. بعبارة أخرى فبدلاً من أن تعلن دولة واحدة أولا لتتولى إدارة شؤون أعضائها وإزالة ما يظل قائماً بينهم من نواحي الاختلاف، يجري العمل في الاتجاه العكسي بإزالة الاختلافات انتهاء بإقامة دولة الوحدة، وهو ما يسمى أحياناً التكامل على دفعات. ويتوقف نجاح هذا الأسلوب على حسن اختيار المجالات الأولية التي يجري تحويلها إلى سلطة فوق وطنية، سواء من حيث خضوعها لأهداف يسهل الاتفاق عليها، أو إثبات كفاءة السلطة فوق الوطنية في إدارتها، أو من حيث القدرة على إزالة الخلافات التي كانت تحول دون تطبيق نفس المنهج على مجالات أخرى من بين المجالات المتبقية، والتي تكون عادة أكثر مساساً بالسيادة.
المنهج التقليدي للتكامل الإقليمي:
ارتبط التفكير التكاملي الأوروبي في بناء الوحدة على مراحل بأمرين نجما عن كثافة العلاقات القائمة على المستوى الإقليمي: الأول هو الشعور بالحاجة إلى الاستمرار في توثيق هذه العلاقات؛ والثاني هو الرغبة في إشاعة الأمن والسلام والاستقرار. وبالمخالفة فإن غياب أي من هذين الأمرين أو كليهما يجعل فاعلية التكامل الإقليمي موضع تساؤل، وهو أمر له أهميته بالنسبة للدول النامية عامة والعربية خاصة. وأول قضية يلزم اتخاذ قرار بشأنها هي اختيار جانب من العلاقات الإقليمية لتجربة التكامل فيها، يليها بيان كيفية المضي في الطريق حتى نهايته. ويذهب البعض إلى البدء بأقل الأمور إثارة للخلاف وفق منهج تعاملي Transactional، يهتم بمد الجسور بين البشر في مختلف المجالات، دون اشتراط إقامة مؤسسات فوق وطنية، بهدف توليد مشاعر الجماعية بينهم، الأمر الذي يدفعهم في النهاية إلى تحويل فكرة الوحدة إلى واقع. غير أن المشكلة هي أن النطاق الجغرافي يختلف من نوع من المعاملات إلى آخر، بل وقد يمتد ليشمل العالم كله ولكن بدرجات مختلفة، دون أن يشكل قاعدة واضحة للانتقال إلى مجالات أخرى. فضلاً عن ذلك فإن إحدى المشاكل التي يرجى من التكامل الاقليمي مواجهتها هي التخلص من كثافة بعض المعاملات من أجل التخلص من عواقبها السلبية.
وقد شهد الوطن العربي عدداً كبيراً من جوانب العمل المشترك ذات صفة إيجابية، بمعنى أنه جرى التعاون الوثيق فيها على مستوى الحكومات والشعوب، دون أن يدفع ذلك إلى حركة فعلية نحو بناء دولة الوحدة. بل إن التعاون في فترة من الفترات يمكن أن يتحول إلى فتور في أخرى نتيجة التشابكات الأخرى في العلاقات البينية.
وبالتالي تظهر الحاجة إلى ثلاثة أمور: الأول أن تتم مأسسة النواحي التي يجري التفاعل فيها بصورة مرضية، دون اكتفاء بما يتفق عليه وحدات اتخاذ القرارات المختلفة. الثاني هو الاتفاق على عدد من المراحل التي تتعاقب بصورة محكمة لتقضي في النهاية إلى الوحدة. الثالثة هو اختيار ذلك المجال القادر على توفير الشرطين السابقين، أخذا في الاعتبار أهمية تقارب القاعدة الثقافية بما يكفل سهولة الاتفاق على الأهداف الوسيطة والنهائية. وقد بنى الفكر الأوروبي اختياره للمجال الاقتصادي كنقطة بداية على ما أثاره التقدم الصناعي من تشابك قوي في العلاقات الاقتصادية، يفسح من ناحية مجالاً لخلافات تقود إلى صراعات يراد تجنبها، ويجعل من ناحية أخرى تحقيق المزيد من التقدم متوقفاً على تعزيز هذا التشابك. يساعد على ذلك ما تتمتع به الدول الأوروبية من تقارب كبير في الأسس الثقافية لمجتمعاتها، عززه التقدم العلمي اللازم للإنتاج الصناعي الحديث القائم على البحث والتطوير، وهو ما أدى إلى تطوير الهياكل الاجتماعية على نحو أكثر ديناميكية داخل كل قطر، وأنشأ مصدراً آخر للتقارب بين الشعوب الأوروبية. وساهم التطور غير المسبوق في وسائل النقل والاتصال، الذي ميز بدايات القرن العشرين، في امتداد الأسواق التي كان يفصلها ارتفاع تكاليف النقل، مما أتاح وفورات نطاق للوحدات الصناعية الضخمة وللمنشآت المتخصصة في صناعة مواد وسيطة قللت من الاعتماد على منتجات الدول النامية من الخامات الطبيعية، التي كانت الدافع الأول في استعمارها. وبناء عليه تحول المنهج الوظيفي إلى المنهج الوظيفي المحدث Neo - functionalism، الذي ينطلق من التكامل في المجال الاقتصادي، مستخدما أدوات "التكامل السلبي"، أي الذي تتفق فيه الدول المعنية على نبذ كل ما من شأنه عرقلة حركة التدفقات الاقتصادية، ثم يتدرج في إدخال أدوات "التكامل الإيجابي"، وهو ما يقتضي قدراً أكبر من التنسيق أو التوحيد على المستوى الكلي (الماكرو) لاتخاذ القرارات.
وهكذا تقع المسئولية الأولية على مراكز اتخاذ القرار على المستوى الإفرادي (المايكرو) لا سيما المنشآت الإنتاجية التي تتوقع منها النظرية النيوكلاسيكية استجابة لإزالة العوائق أمام حركة تبادل المستلزمات والمنتجات، بما يرفع الكفاءة ويخفض التكاليف ويزيد من رفاهة المستهلكين. ومع التقدم نحو مراحل التكامل الإيجابي تزداد القيود على السلطات القطرية، بينما يتسع نطاق الحركة أمام الوحدات، خاصة أصحاب رأس المال ورجال الأعمال والعمال، وهو ما يتطلب سياسة اجتماعية من أجل تحقيق مزيد من التماسك الاجتماعي. من جبهة أخرى فإن الانتقال إلى اتحاد اقتصادي ونقدي تتحول فيه النقود إلى عملة واحدة يديرها بنك مركزي واحد، يشارك مع راسمي السياسات الكلية في إدارة الاقتصاد الإقليمي كما لو كان اقتصاداً واحداً، أو ما يصطلح على تسميته "السوق الموحدة"، يتطلب قدراً أكبر من التقارب السياسي، حتى يمكن الاتفاق على الأهداف التي تبنى عليها السياسات الكلية الموحدة. والمشكلة في هذا الأسلوب أن المرحلة الأولى تنصب على تحرير التجارة البينية، وقد تمتد إلى إقامة اتحاد جمركي إزاء باقي العالم، وهو ما يتوقف عنده التكامل الاقتصادي، الذي تقيّمه النظرية الاقتصادية بمعايير تبنى بالرجوع إلى القاعدة التي يتبناها الفكر النيوكلاسيكي، وهي الاندماج العالمي من خلال تحرير شامل متعدد الأطراف للتجارة، وليس الاقتراب بالإقليم من الجوانب السياسية والاجتماعية المحققة لتكامل إقليمي يفضي إلى وحدة. وقد كانت غلبة هذه الضوابط الاقتصادية هي التي دفعت الدول العربية إلى إقامة منطقة تجارة حرة دون إلتزام بمزيد من خطوات التكامل الإقليمي.
وتشير التجربة العملية لهذا المنهج (أساسا الأوروبية الغربية) إلى:
* أهمية البدء من وجود قدر كبير من التشابك بين المجتمعات المعنية، مع تقارب عميق وتعامل اقتصادي نشط، وشعور بجدوى وأفضلية تعزيز هذا التعامل عن توثيق العلاقات مع دول أخرى.
* الاتفاق منذ البداية على ضرورة المضي في التكامل نحو نهايته، دون الانشغال بتحقيق متطلبات تكامل اقتصادي يقود في النهاية إلى تغليب البعد العالمي على الإقليمي.
* ولا يتم هذا من منظور الانعزال عن باقي العالم، بل من خلال اكتساب الدول الأعضاء قدرة أكبر على التعامل في أسواق عالمية، مما يقنعها بأفضلية العمل من خلال تجمع إقليمي على التمسك بالنزعة القطرية.
* أن حرية انتقال عناصر الإنتاج تتلو استقرار الهياكل الاقتصادية في ظل اتحاد جمركي، نظراً لأن تشوه الاقتصادات والأسواق يخلق مؤشرات غير قابلة للاستمرار لحركة هذه العناصر، وهو ما تثبته تجارب الدول النامية (وبخاصة العربية) في علاقاتها على المستويين العالمي والإقليمي.
* أن توحيد السوق لا يقف عند مجرد حرية انتقال عناصر الإنتاج، لأن هذا الانتقال هو في جوهره انتقال لبشر ولأساليبهم في اتخاذ القرارات والتعبير عن التفضيلات. ولذلك تظهر الحاجة لمزيد من التجانس الاجتماعي وضرورة صياغة سياسات اجتماعية تؤكد التماسك الاجتماعي.
* أن مرحلة الاتحاد الاقتصادي ذاتها تتطلب استعداداً للدخول في وحدة سياسية، لأنها تشهد مزيداً من التقارب في السياسات الاقتصادية التي تحدد كيفية تعبئة الموارد الوطنية وتوجيهها لتلبية احتياجات المجتمع. ويصبح التكامل السياسي شرطاً أكثر منه نتيجة لاستكمال التكامل الاقتصادي.
* أن التوسع المستمر في الجماعة الأوروبية يعود إلى اعتبارين الأول أن انضمام عدد من الدول قد تم بعد زوال موانع أو تحفظات سابقة مع وضع برامج خاصة لتمكينها من اللحاق بما تحقق من خطوات تكاملية، والثاني أن عوامل التقارب الثقافي وكثافة العلاقات الاقتصادية الحالية والمستقبلية كانت من القوة بحيث تدفع تلك الدول لقبول ما اتفقت عليه الجماعة، بما في ذلك مواصلة السير نحو تحقيق وحدة أوروبية شاملة.
ومن الواضح أن غالبية الاعتبارات السابقة لا تتحقق في كثير من الأقاليم النامية، بما في ذلك الإقليم العربي أو أقاليمه الجزئية. فمعظم هذه الأقاليم تبدأ من مستويات متدنية من كثافة العلاقات الاقتصادية البينية، نظراً لشدة اندماجها في الاقتصاد العالمي اعتماداً على هياكل اقتصادية تعاني من كثير من عوامل الاختلال، سواء لغلبة القطاعات الأولية غير القادرة على تحقيق تشابك عضوي فيما بينها، أو لانحصار النشاط الصناعي في فروع استهلاكية نهائية لا تحقق ترابطاً يماثل ما يقوم بين الدول (الأوروبية) الصناعية، فضلاً عن اختلال توزيع الموارد وعدم اكتمال الأسواق، من جهة أخرى فإن ما قد يوجد من عوامل تقارب ثقافي (كاللغة والدين في الوطن العربي) لا ينطوي على الديناميكية الدافعة إلى التحرك نحو الوحدة، وإلى السير في مراحلها المتصاعدة.
الإقليمية الجديدة:
وصلت الدول الرأسمالية إلى مأزق تفرضه طبيعة النظام وتطوراته:
* تراجع معدلات الربحية، والالتجاء إلى التضخم كآلية للكسب الرأسمالي كبديل للربح الإنتاجي.
* الاستماتة في فتح الأسواق الخارجية للتخلص من الركود، ومشاكل موازين المدفوعات.
* خروج رأس المال بحثاً عن فرص باتت عزيزة المنال في الداخل، الأمر الذي قلل من فرص توسع الإنتاج المحلي الموجه للتصدير.
* ارتفاع حركية رأس المال وقصر أجله نتيجة اضطراب النظام النقدي الدولي والتضخم، مما أشاع المضاربات الرأسمالية، بما في ذلك المضاربة على العملات نفسها، على حساب الاستثمار المنتج، وأوجد مجالات أوسع للفساد وغسيل الأموال.
* وتضافرت هذه التطورات الاقتصادية مع التطورات التكنولوجية في تغير طبيعة البطالة وتحولها من عارض مؤقت أو دوري إلى ظاهرة مزمنة بل ومتفاقمة.
* ارتداد الغزو الثقافي الذي أفرزته الثورة التكنولوجية إلى أصحابه كغزو اجتماعي في شكل زيادة ضغوط الهجرة من دول الجنوب، وهو ما أضاف إلى مشكلة البطالة.
* التكاليف الاقتصادية والأعباء الاجتماعية ووقع التباينات السياسية في أوروبا المصاحبة لتوسيع مجال تكاملها، والتي يتوقع تزايدها مع استكمال دول أوروبا الشرقية عملية التحول، على نحو ما تشير إليه التجزئة الألمانية.
* وبالمقابل فإن الضغوط التي واجهتها الدول النامية، والإحباطات التي أصابت مساعيها في التنمية، قطرية كانت أم من خلال تكامل إقليمي، أدت إلى تبنيها استراتيجيات بديلة، تستيجيب إلى التغيرات التي فرضتها أوضاع الدول الرأسمالية المتقدمة، بما في ذلك:
* التسابق حول التصدير للأسواق العالمية، كبديل للتركيز على الأسواق المحلية والإقليمية.
* تحول الدول النامية وتجمعاتها الإقليمية من المواقف المتشددة تجاه رأس المال الأجنبي ومن السعي لاكتساب المعرفة الفنية عن طريق التعلم الذاتي وراء جدران حمائية مرتفعة، إلى تسابق على جذبه بأمل تعويض ضعف المدخرات المحلية، واكتساب قدرة تنافسية من خلال المعرفة التي يجلبها.
* وتصل حدة تنافس دول الإقليم الواحد على رأس المال الأجنبي، إلى حد تفضيل التكامل مع دول متقدمة، لتتمكن من التوسع في التصدير، بما في ذلك التصدير إلى الدول الشركاء في الإقليم.
* تقبل ما يصحب هذا التصدير من تزايد الاعتماد على الاستيراد، وبخاصة للسلع والخدمات المتطورة ومن ثم التحول إلى أسواق لمنتجات الدول الصناعية.
* تمكن عابرات القوميات من نشر أنشطتها في الدول النامية، للاستفادة من اتساع أسواقها الإقليمية ومما يتيحه الاعتماد على استيراد المستلزمات الإنتاجية، السلعية والخدمية، من السماح لها بتوثيق صلاتها بفروعها هي وليس بدول الإقليم الذي تقع فيه.
* ويتطلب ذلك التأكيد على حافز الربح، والدور الفردي لرأس المال على حساب وظيفته الاجتماعية باعتباره اقتطاعاً من استهلاك آني ارتضاه المجتمع بغرض توسع مستقبلي في الإنتاج والاستهلاك.
* وإذا كان هذا يعني تشابها أكبر في الأنظمة الاقتصادية مزيلاً أحد العقبات في سبيل تحقيق التكامل الإقليمي بين الدول النامية، إلا أنه يثير مشاكل اقتصادية واجتماعية، بما في ذلك الركود والبطالة المصاحبين لمرحلة التحول نحو سيادة حرية السوق والقطاع الخاص.
* تعاظم وزن الاعتبارات الدولية في إدارة السياسات الاقتصادية وفقدان السيطرة على للسياسات النقدية، مما يضيق من نطاق الأخذ بأهم أدوات التكامل وهو تنسيق السياسات على المستوى الإقليمي وفق متطلبات التكامل.
ويتضح مما تقدم أننا إزاء نوع جديد من التكامل، يقوم على أسس اقتصادية ولكنه يتجاوز بشكل معين، وهو في نفس الوقت لا يسعى إلى ما يرجى من وراء التكامل الإقليمي للدول النامية من التكتل من أجل توثيق العلاقات البيئية التي أضعفتها العلاقات غير السوية الناجمة عن عدم التكافؤ في التعامل الدولي، والوصول بها إلى مرتبة الوحدة. هذا التكامل يتخذ شكل منطقة تجارة حرة بين إقليمين (ربما متجاورين) يتفاوتان بصورة واضحة من حيث مستويات النمو، تربط دولا نامية بدولة أو دول متقدمة لها تجمعها التكاملي الوحدوي الخاص بها من أجل تحقيق مزيد من الاندماج في الاقتصاد العالمي. ونظراً لأن الدول النامية كانت تتمتع سابقاً بمعاملات تفضيلية من جانب الدول الصناعية المتقدمة، فإن ما تضفيه هذه المنطقة هو إزالة التفضيلات بدعوى أن الأساس هو التعامل بالمثل بين شركاء، ومنح الأخيرة امكانية النفاذ إلى إقليم الدول النامية دون عوائق تعترض قيامها بالتصدير السلعي والخدمي، أو الاستثمار وممارسة النشاط في داخلها. والفارق في الانتفاع كبير، إذ أن الدول النامية تفرض عادة رسوماً جمركية أعلى كثيراً مما تفرضه الدول الصناعية، التي تبلغ رسومها 10% في المتوسط، ولكنها تفرض عوائق من خلال المواصفات التي تشترط توفرها في السلع المستوردة، والتي قد تتضمن الإلزام بإتباع أنماط إنتاجية تلائمها أكثر مما تلائم الدول النامية.
ولا ينتظر أن تتحول المنطقة إلى اتحاد جمركي في أجل منظور، نظراً لتفاوت الأسس التي تحدد بها الرسوم في مجموعتي الدول. وبالتالي فلا مجال للتقدم نحو سوق مشتركة، وإن جرى الأخذ منها بحرية انتقال رأس المال، أو نحو اتحاد اقتصادي، لأن هذا يتطلب تجانساً اجتماعياً وتقارباً ثقافياً لا يتحققان في البداية، ولا يوجد ما يشير إلى إمكان تحقيقها مستقبلاً. بل إن أحد الشروط الرئيسية التي تضعها الدول المتقدمة حظر انتقال العمال من الجنوب إليها، خوفاً مما يؤدي إليه من رفع معدلات البطالة المتفاقمة لديها وانخفاض الأجور وتعقد المشاكل الاجتماعية وتهديد التآلف الاجتماعي والاستقرار الاقتصادي. وإذا كانت الدول النامية ترتضي هذه الشروط على أمل أن يؤدي انتقال رأس المال إليها إلى خلق فرص عمل إضافية، إلا أن التكنولوجيات التي يأخذ بها رأس المال المنتقل لا توفر الفرص المطلوبة، أو على الأقل تحتاج إلى فئات مهارة مخالفة لما هو متوفر، خاصة من المتعطلين نتيجة الخصخصة، أو من الملتحقين الجدد بسوق العمل. وتتطرق الشروط أيضاً إلى نواحٍ يقصد بها صبغ الدول النامية بالصبغة الثقافية للدول الصناعية، وإخضاعها لمعايير الأخيرة فيما يتعلق بحقوق الإنسان، وغير ذلك من شروط الإذعان، تأكيداً لخطورة الصيغة الجديدة للاستعمار.
معايير تقييم مناهج الوحدة والتكامل:
تأثر الفكر العربي كما أسلفنا بقضية التناقض بين القطرية والوحدة القومية، بحيث بات يحكم على الصيغ الأخرى للعلاقات الإقليمية من منظور مدى ارتباطها بالقطرية باعتبار أنها تؤدي أساساً إلى تغليب الاندماج في الاقتصاد العالمي كنقيض للاندماج القومي. ويثور السؤال عما إذا كان هذا التوجه يعود إلى المنهج المقترح للوحدة، وما إذا كان من الممكن تحقيق منهج معين لمجموعة من المعايير التي تدفع للأخذ به. بعبارة أخرى، علينا أن نفاضل بين المنهجين الرئيسيين وصيغهما المختلفة، أي منهج الوحدة الفورية فيدرالية كانت أم اندماجية، والمنهج التكاملي أو التدريجي، بدءاً من تكامل اقتصادي يمهد لوحدة اقتصادية ثم سياسية. وتستند المفاضلة إلى عدد من المعايير يمكن أن تصنف تحت ثلاثة عناوين:
* الأهداف التي يرجى تحقيقها من خلال الوحدة.
* المعايير التي تحدد مقومات المنهج الأقدر على تعظيم تحقيق تلك الأهداف.
* القدرة على التعامل مع الصيغ الأخرى لتنظيم العلاقات بين هذه الأطراف، والأسلوب الأفضل الذي يكفل تحقيق الوحدة بأقل تكلفة ممكنة، ويحافظ على قدرتها على التميز في تحقيق الأهداف.
ونتناول فيما يلي هذه المعايير على التوالي، تاركين أمر تطبيقها إلى ما بعد.
أولاً- الأهداف:
يمكن التمييز بين مدخلين للأهداف حسب موقع الوحدة من منظومة الغايات الأساسية للمجتمع:
1-اعتبار الوحدة بذاتها هدفاً أولياً، وهو ما ذهب إليه الفكر القومي العربي التقليدي، وهو ما يجعلها مطلباً مستمراً، ويدفع إلى مناهضة كل ما يعترضها سواء كان هو القطرية، أو المشاريع الإقليمية المختلفة، أو القوى العالمية، بغض النظر عن التغيرات التي أصابتها.
2-اعتبار الوحدة هدفاً مشتقاً، يُستمد من ضرورته لتحقيق أهداف يوليها المجتمع أولوية متقدمة، مع إثبات محددات هذه الضرورة من منظور جميع الأقطار. ويتعين بلورة هذه الأهداف وبيان ما لها من وزن وأهمية لدى كل منها، ومدى اعتبارها الوحدة أفضل السبل لتحقيقها.
ويعتبر هدف التنمية من أهم الدوافع التي تتطلع إليها الدول المختلفة. ولكن هذا بحد ذاته لا يحتم انتهاج الوحدة كسبيل إليه، خاصة مع ضعف التشابكات البينية بالقياس إلى عوامل الاندماج العالمي، وتعرّض الدول العربية لمخاطر دولية متعددة، على رأسها تحالف الصهيونية مع الاستعمار. ولذا فإن اعتبار الأمن احتل موقعاً متقدماً في الأولويات العربية، وهو أمن تعظم فيه القواسم المشتركة، مما يجعله أمناً قومياً. كما أن هدف الاستقلال تحول من نضال امتد عبر الربع الثالث من القرن العشرين، إلى جهود تستهدف التخلص من التبعية وتحقيق الاستقلال الاقتصادي، وهو ما جعل غالبية المتهمين بشؤون التنمية في الوطن العربي يدعون إلى تبني منهج التنمية المستقلة بالاعتماد الجماعي على النفس، باعتبار أنه يلخص مجمل الأهداف السابقة: التنمية والأمن والاستقلال.
ثانياً- المقومات:
يتناول الجانب الثاني تلك المعايير التي يمكن الاحتكام إليها في تقييم المقومات التي يرجى توفرها في الوحدة حتى تحقق الأهداف سالفة الذكر على خير وجه. وتشمل هذه المعايير ما يلي:
أ-معيار النطاق الأمثل:
أي حدود العضوية في دولة الوحدة، سواء في بداياتها أو في صورتها النهائية. والمقصود بصفة "الأمثل" أن يكون الحجم محققاً لأمرين. الأول أنه قادر على وضع الوحدة على الطريق الصحيح الذي يكفل لها الفاعلية والاستمرار، والثاني أنه إذا قضت ظروف معينة بالإقتصار في البداية على عدد محدود من الدول، بما ينشئ تجمعاً جزئياً، فإنه يكون في مقدور هذا التجمع أو التجمعات أن تتسع فيما بعد لتشمل جميع الدول المشكلة للحجم الأمثل النهائي. ويناقش هنا مغزى هذا المعيار بالنسبة إلى كل من المنهجين الرئيسيين للوحدة، الاتحادي والتكاملي، وبالنسبة إلى أساليب تطبيق كل منهما.
ب-معيار الاستدامة وإمكانية الاستمرار والاستكمال:
ويعتمد هذا البعد على مبدأ تكافؤ المنافع والأعباء، خاصة في البداية حيث تكون الذاكرة الفطرية قوية، على الأقل لدى بعض فئات المصالح. كما يعتمد على سرعة اتضاح منافع التكامل، لأن ضعفها، ولو أنه قد لا يفضي إلى نزاعات كما حدث في بعض تجارب للعالم الثالث، إلا أنه يؤدي إلى عدم الاكتراث باستكمال الوحدة كما حدث في تجارب أخرى، منها العربية. ويتطلب هذا نجاح المراحل الأولى في اثبات قدرتها على تحقيق الأهداف من الوحدة، كما أنه يتعزز بقيام الأجهزة المسؤولة عن مسارها بتحقيق بعض الأهداف الجانبية التي تزيد من تمسك الأطراف المعنية، ويتعلق هذا بوجه خاص بما يجري وضعه من برامج لفائدة المجتمعات الأقل نمواً، وتلك التي تتعرض إلى صعوبات، تساعدها على تصحيح أوضاعها، دون تحميل باقي المجتمعات أعباء ثقيلة.
جـ- معيار الكفاءة فيما يوكل لأجهزتها من أعمال:
ويتوقف هذا المعيار على النجاح في بناء الإطار المؤسسي بأذرعه المختلفة، السياسية والقضائية والتشريعية والبيروقراطية، وإمكان نقل الوظائف إليها من الأجهزة القطرية بأقل قدر من المقاومة، إلى جانب حسن القيام بمهام إضافية تمليها عملية التكامل. ويعزز هذا بناء الأجهزة والمنظمات غير الحكومية، وبخاصة الاتحادات الفئوية، واستيعابها مفهوم الوحدة ومتطلباتها. ولهذا الأمر أهميته في المنهج التدريجي، إذ يتوقف على ما يتم إنجازه في المرحلة الأولى احتمالات وسرعة استكمال الهياكل المؤسسية لدولة الوحدة.
د- معيار الفاعلية فيما يعقد عليها من آمال:
والمقصود هنا هو ترجمة الأهداف المنشودة من الوحدة إلى واقع عملي، وقدرة دولة الوحدة على إثبات قدرتها على التصدي إلى التغيرات في البيئة الدولية بنفس المستوى من الفاعلية، وإلى التعامل مع التطورات المحلية، سياسية كان أم اجتماعية أم اقتصادية بما يؤكد للأطراف المعنية أنها توفر لهم قدرات لا توفرها أساليب بديلة، سواء كانت الانحصار في قطرية متزمتة، أو إيجاد قنوات تعاون مع أطراف أخرى إقليمية أو عالمية. ولهذا المعيار أهميته في المرحلة الحالية التي تُحدث فيها موجات الكوكبة وإفرازاتها المختلفة بلبلة في مفاهيم "الدولة" و"الاستقلال".
هـ- معيار الملاءمة والتمشي مع مقتضيات الحال:
ويغلب في هذا المعيار انتقاء أدوات الحركة التي تتلاءم مع ظروف الأطراف الضالعة في الوحدة وانتهاج الاستراتيجيات والسياسات القادرة على تحقيق المعايير السابقة على أفضل وجه، والمؤدية إلى تضييق الفوارق بين أعضاء التكامل، وتطوير النظم السائدة بما يكفل تعظيم القدرة على تحقيق الأهداف في وجه التغيرات المستمرة في البيئة العالمية. ويلعب البعد الخاص بتضييق الفوارق التي قد تكون كبيرة في البداية دوراً محورياً في تعزيز التوجه التكاملي. الأمر الذي يتعين مراعاته هو ألا يتحول التجمع التكاملي أو دولة الوحدة إلى أداة لفرض اندماج عالمي غير متكافئ.
و-معيار تقييم النتائج وتصويب المسار:
ولهذا المعيار أدواته المتعلقة بجانبي البناء التكاملي، الداخلي والخارجي. وحتى وقت قريب كان المعيار الأساسي، وخاصة بالنسبة للتكامل الإقليمي، هو مدى تطور العلاقات البينية، وبخاصة نسب التجارة البينية. وازداد الاهتمام مؤخراً ببناء نماذج تقيس مقدار المكاسب التي تعود على الأطراف المختلفة، خاصة بالنسبة لمستويات الدخل ومعدلات التوظيف. ويلزم إجراء تقدير مسبق لما يمكن أن تخلفه خطوات بناء الوحدة من "آثار" انحسارية Backwash effects، تؤثر سلباً على كيانات أقامت أوضاعها على أساس الحماية القطرية، واتخاذ ما يواجهها من إجراءات وسياسات، بما في ذلك بناء تنظيمات وتخصيص موارد تسهل انتقال عناصر الإنتاج من المناطق والتخصصات المتضررة إلى أخرى متطورة. وتشير التجربة الأوروبية إلى أن أهمية هذا البعد لم تنقص مع الزمن، بل اكتسبت أهمية أكبر عندما تقدمت مسيرة الوحدة.
ثالثاً- التعامل مع الصيغ الأخرى للعلاقات الدولية:
تظهر عملية الوحدة كمنهج يتنافس، على نحو أو آخر، مع المناهج المطروحة على المستويات الثلاثة، القطري والإقليمي والعالمي. من جهة أخرى فإنه خلال عملية بناء الوحدة، وبعدها، يظل الكيان الإقليمي بحاجة إلى تحديد علاقاته مع ما يحيط به من هذه المستويات.
أ-التعامل مع القطرية:
الأصل هو القطرية التي يعتبر دعاة الوحدة العربية القضاء عليها موازٍ لعملية بناء الوحدة ذاتها. وما لم يحدث اتفاق بين جميع الأطراف على هذا الرأي، فإن القطرية تتصلب في مواقفها، وتعتبر الوحدة فرضاً من أطراف خارجية يهدد وجودها، ويدفعها بالتالي للاستنجاد بتوثيق العلاقات بأطراف خارج إقليم الوحدة لتأمين بقائها. ويشار إلى هذا الأمر على أنه يعني غياب الإرادة السياسية. ومن ثم فإن نجاح المسعى التكاملي يتوقف على النجاح في تشكيل هذه الإرادة، وهو في الواقع المنطق الذي تقوم عليه المناهج التكاملية التدريجية. فإذا كانت نتائج محاولات تطبيق هذه المناهج قد ظلت مخيبة للآمال على مدى أربعة عقود، فإن هذا يدل على عدم توفر الكثافة الكافية في العلاقات البينية المبدئية. ولذلك قد يكون من المناسب أن تبدأ عملية التدرج نحو الوحدة بالعمل بصورة مشتركة على تعديل الهياكل الاقتصادية القطرية، وإنشاء قدر أعلى من التشابك داخل كل منها، ومن الترابط فيما بينها، وهو ما يمكن أن نطلق عليه "إنماء تكاملي"، أي تنمية مشتركة توفر قاعدة أكثر صلابة تمكن من متابعة السير في خطوات التكامل والوحدة.
ب - العمل الإقليمي المشترك:
العمل المشترك هو تعبير محايد لما يقوم بين مجموعة من الدول من تعامل، سواء كانت هذه الدول مرشحة لتكامل يفضي إلى وحدة، أو دول جوار واقعة في نفس الإقليم الجغرافي، أو دولاً منتمية إلى تجمع اقتصادي أو سياسي. ويتخذ هذا التعامل أحد الأشكال التالية:
(1) التعاون الإقليمي: الذي لا يهدف إلى تحقيق الوحدة كهدف قريب أو بعيد، ولكنه قد يتخذ صفة بها قدر من الالتزام الذي تتفق الأطرف المعنية على احترامه. وتبرز أهمية مثل هذا الأسلوب في تنظيم مواقف الدول المعنية من قضايا ذات طبيعة دولية، بما في ذلك المواقف داخل المنظمات الدولية، أو التفاوض أو الحوار المشترك مع أطراف أخرى، أو تنظيم أساليب التصرف في أسواق معينة، كالإتفاق على عمليات الشراء أو البيع في الأسواق العالمية. ويستخدم تعبير "إقليمي" بصورة مجازية، إذ أن التعاون قد يشمل دولاً متقاربة في صفات مميزة مما يجعلها أقرب إلى ما تتصف به دول الإقليم الواحدة (كدول عدم الإنحياز أو أعضاء الأوبك، أو الدول المتشاركة في مصادر طبيعية كأحواض الأنهار...) وسواء بقيت الأقطار منفصلة، أو تكاملت معاً في تجمع إقليمي أو في وحدة، فإن هذا النوع من التعاون بينها، جميعها أو بعضها، وبين أطراف أخرى يمكن أن يستمر، بشرط ألا يتعارض صراحة أو ضمناً مع مساعي الأقطار المعنية (العربية) إلى التكتل أو الوحدة. ويتعين على دولة الوحدة أن تستخدم هذا النوع من العمل المشترك لتعزيز وجودها وزيادة قدرتها على تحقيق أهدافها، خاصة إذا كان التعاون يتم مع أطراف من العالم الثالث تتفق معها في التوجهات، وتسعى مثلها إلى اتخاذ مواقف مؤثرة في المحافل الدولية.
(2)التكامل الإقليمي: وبجانب التكامل الموجه إلى بناء وحدة، يمكن التمييز بين نوعين:
* تكامل اقتصادي ويسعى إلى تعزيز التجارة البينية انطلاقاً من أن التحرير الشامل للتجارة يعرض الاقتصاد إلى منافسة من أطراف عدة في مختلف المجالات تحد من قدرته على النمو. وهو يتوقف عند إقامة اتحاد جمركي. ومن الممكن أن تلجأ دولة الوحدة إلى إقامة منطقة حرة أو اتحاد جمركي مع دولة أو تجمع تكاملي آخر. كما أنه من الممكن خلال مراحل بنائها عن طريق تكامل إقليمي أن تدخل بعض الدول الأعضاء أو التجمع بمجمله في اتفاق منطقة تجارة حرة مع أطراف أخرى.
* تكامل وفق الإقليمية الجديدة، ويتعارض مع التجمع الإقليمي الساعي إلى الوحدة، نظراً لأنه يعيد صياغة العلاقات الدولية غير المتكافئة بصورة جزئية. وهو عادة ينطوي على إقامة منطقة تجارة حرة مع أطراف من خارج الإقليم، ولذلك اعتبرناه تكاملاً بين الأقاليم. ولكنه ينطوي على جوانب أخرى تضع قيوداً على التحرك نحو بناء دولة الوحدة، خاصة بالأسلوب التدريجي. وهو قيود تنجم عن كون هذا النوع يكون الدافع إلى قبوله عادة كثافة العلاقات مع الأطراف الأكثر تقدماً، ويتضمن تحزيراً لحركة رأس المال، وتخضع شهادة المنشأ فيه إلى مواصفات الطرف الأكثر تقدماً، بما له من صلات وثيقة بعابرات القوميات، التي تسعى إلى توطيد العلاقات التشابكية مع فروعها، مما يعرقل عمليات الإنماء التكاملي بين الدول الأعضاء، بتحويله إلى تكامل إنتاجي مع الخارج.
جـ- التعامل مع الإطار العالمي:
في جميع الأحوال يكون هناك ضرورة لتحديد الموقف من الاندماج في الاقتصاد العالمي، الذي كان من أهم الدوافع إلى التكامل الإقليمي، بما في ذلك توجيه هذا التكامل نحو الوحدة. ففي ظل النزعة القطرية، جرى اتباع استراتيجيات دفاعية تهدف لرفع الاكتفاء الذاتي من خلال الإحلال محل الواردات في ظل حماية تجاه العالم، وقد عجزت عن تحقيق ما كان متوقعاً منها. وحالياً يتزايد ضغط الرأسمالية العالمية والمؤسسات الدولية لفرض اتباع استراتيجية اقتحامية بالتوجه إلى التصدير، ومن ثم إلى مزيد من الاندماج العالمي تحت إشراف منظمة التجارة العالمية، كما سبق إيضاحه. ويصحب ذلك دعوة لتراجع دور الدولة في إدارة شؤون المجتمع وفي التنمية، ومعها إدارة العلاقات الدولية بما في ذلك مساعي التكامل الإقليمي، مع التأكيد على دور القطاع الخاص، بل وإعطائه دوراً أكبر في النواحي السياسية والاجتماعية، ومشاركة أساسية في القرارات المتعلقة بعمليات التكامل والوحدة، في وقت تؤدي فيه إعادته لحساباته في ضوء التغير في العلاقات الدولية إلى إضعاف أولوية التكامل الإقليمي أو الوحدة بالنسبة له. وهكذا تكتمل حلقات الصيغة الاستعمارية الجديدة بنشأة قوى ضغط داخلية تتوافق مع أطماع القوى الاستعمارية. بل إن هذه القوى تبدأ في المناداة بالدخول إلى تنظيمات تنتمي إلى الإقليمية الجديدة، على نحو مطالبة رجال الأعمال المصريين بتحويل الشراكة المصرية الأمريكية إلى منطقة حرة بين الدولتين. وفي سبيل الترويج للاندماج في الاقتصاد العالمي أحيطت تجارب النمور الآسيوية بهالة ضخمة، رغم أن واقع هذه التجارب يشير إلى الدور الحيوي للدولة، وإلى الثمن الاجتماعي الباهظ الذي دفعت ثمنه القوى العاملة. وتأتي الأحداث الأخيرة في أسواق المال في هذه الدول جميعاً لتتهاوى الصروح التي اعتمدت على رأس المال الأجنبي، فإذا به ينسحب بين يوم وليلة لتتوالى عمليات الإفلاس وتتفاقم البطالة، وتتبدد نسبة كبيرة من الدخل.
مغزى التجمعات الإقليمية بالنسبة لقضية الوحدة العربية:
يتقاطع عدد من التجمعات الإقليمية مع التجمع الإقليمي العربي، بعضها يمكن تصنيفه ضمن ما يسعى إلى تحقيق تعاون إقليمي بين دول متقاربة في مستويات النمو وإن تباينت من حيث المقومات الأخرى الثقافية والاجتماعية، والبعض الآخر يندرج تحت عنوان الإقليمية الجديدة التي تسعى إلى شد عدد من الدول العربية إلى كيانات ذات صلة وثيقة بالقوى المسيطرة على النظام الاقتصادي الدولي، وبخاصة الولايات المتحدة وأوروبا، وبالتالي يختلف انعكاسها على عملية الوحدة.
أولاً- تجمعات التعاون الإقليمي:
يندرج ضمن هذه الفئة عدد من التجمعات التي تنتمي إلى العالم الثالث، إثنان منهما تغطيان مجالين لهما علاقات خاصة بالوطن العربي هما منظمة المؤتمر الإسلامي ومنظمة الوحدة الإفريقية وما ينبثق عنهما من تنظيمات ومؤسسات؛ وإثنان لهما صفة الجوار القريب من الوطن العربي، هما مجموعة الخمس عشرة، ومجموعة الثمانية.
1-منظمة المؤتمر الإسلامي:
انبثقت هذه المنظمة عن مؤتمر الدول الإسلامية في الرباط عام 1969 استجابة لنداء تحرير القدس، وتضم حالياً 57 دولة وتجمع إسلامي، تشمل جميع الدول العربية. وتهدف المنظمة إلى تعزيز التضامن بين الدول الإسلامية والتعاون في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية وغيرها، وخلق بيئة أفضل للتعاون مع الدول الأخرى. وشهد مؤتمر قمة جدة عام 1981 تأطيراً للتعاون، حيث عقدت اتفاقية عامة للتعاون الاقتصادي والتكنولوجي والتجاري، تستهدف إنشاء مشاريع استثمارية مشتركة وتنسيق التجارة، تبعتها اتفاقية لتشجيع وحماية وضمان الاستثمار بين الدول الأعضاء. ووضعت خطة عمل لتعزيز التعاون الاقتصادي بغرض بناء الاعتماد الجماعي على النفس، وإقامة مشروعات مشتركة في مختلف القطاعات. واعتمد اجتماع لوزراء الصناعة في فبراير 1982 خطوات لتعزيز التعاون الصناعي، بما في ذلك إنشاء مشروعات مشتركة للآلات الزراعية وفي الصناعات الهندسية والأساسية الأخرى. وتتولى لجنة دائمة للتعاون الاقتصادي والتجاري (الكومسيك)، تنفيذ ومتابعة برامج التعاون الاقتصادي بين الدول الأعضاء، وتحقيق تنسيق فعال بين النشاطات الاقتصادية، والنهوض بالمشروعات المشتركة. كما أنشئ في 1983 مركز إسلامي لتنمية التجارة، لتوفير المعلومات التجارية وتنسيق السياسات التجارية وتشجيع الاستثمار بين الأعضاء. ولعل أهم المؤسسات المنشأة البنك الإسلامي للتنمية الذي تبلغ عضويته حالياً 52 دولة. وقد أنشئ في 1973، بغرض دعم التنمية الاقتصادية والتقدم الاجتماعي للدول الأعضاء والمجتمعات الإسلامية بما يتفق والشريعة الإسلامية. وتشير مناقشات مجلس محافظي البنك خلال اجتماعه السنوي الثاني والعشرين، ديسمبر 1997، إلى الحاجة لتعزيز جهوده في تمويل للمشروعات التي تعزز التعاون الإقليمي والتكامل الاقتصادي بين الدول الإسلامية في مواجهة اشتداد المنافسة الدولية وتحديات الكوكبة والتكتلات الدولية والتحديات التي تفرضها اتفاقيات الجات، وإلى مضاعفة دوره في تمويل التجارة البينية، من أجل حل مشكلة نقص التمويل اللازم للعمليات الإنتاجية في الصناعات التصديرية، ودعم صادرات الدول الأعضاء عموماً وزيادة الصادرات البينية فيما بينها بوجه خاص.
ومع ذلك لم يتجاوز حجم التجارة البينية 10% على المستوى العام أو للمجموعات الإقليمية. ويغلب على الصادرات طابع الإنتاج الأولي، وعلى الواردات طابع الإنتاج الصناعي، مما يشير للتبعية الاقتصادية والتكنولوجية. وتظل قدرة الدول الأعضاء على جذب الاستثمارات الأجنبية محدودة بإستثناء إندونيسيا وماليزيا، وهما من النمور، ولو أنهما راحتا ضحيتين لها مؤخراً.
2-منظمة الوحدة الإفريقية:
أما التجمع الآخر وهو التجمع الإفريقي، فإنه يحمل من الوحدة إسمها، حيث نشأ في 1963 في أوج مرحلة التحرر في وقت كان الزعماء الإفريقيون يرددون دعاوى مماثلة لدعوة الوحدة العربية، لإقامة وحدة تقضي على التجزئة التي فرضها الاستعمار، رغم غلبة القبلية وعدم اكتمال مقومات بناء الدولة القطرية المستقلة. وتضمنت الأهداف التي استقر عليها الرأي وحدة الدول الإفريقية وتضامنها وتنسيق جهودها من أجل رفع مستويات المعيشة للشعوب الإفريقية واستئصال الاستعمار من إفريقيا وحماية استقلال ووحدة أراضي الدول الإفريقية. وانضمت الدول العربية الإفريقية العشر إلى المنظمة، إلا أن المغرب انسحب في 1985بسبب قبول عضوية إقليم الصحراء. ووضعت أمانة المنظمة بالإشتراك مع اللجنة الاقتصادية لإفريقيا "خطة عمل لاجوس" وبموجبها أقرت القمة الاقتصادية التي عقدتها المنظمة في مايو 1980 اتخاذ خطوات من أجل إقامة سوق إفريقية مشتركة بحلول عام 2000، وقد اتجهت المنظمة مؤخراً بموجب اتفاقية أبوجا التي وقعت عليها 9 دول عربية مع 42 دولة إفريقية أخرى في 1993، إلى إقامة ما يسمى "الجماعة الإفريقية" على مراحل، بدءاً باستكمال المجموعات الاقتصادية الإقليمية وتعزيز القائم منها، وصولاً إلى اندماج الكامل بينها. وتسعى الاتفاقية إلى إلغاء الحواجز بين الدول الأعضاء، ووضع سياسة تجارية موحدة تجاه الغير، وإنشاء منطقة جمركية، وتحرير انتقال الأشخاص والسلع والخدمات ورؤوس الأموال فيما بين الدول الأعضاء وكفالة حق الإقامة، مع مراعاة أوضاع الدول الأقل نمواً. ونظراً لأن جماعة شرق إفريقيا كانت قد تعرضت للتوقف، فقد أنشئ عوضاً عنها "السوق المشتركة لدول شرق وجنوب إفريقيا" Comesa، من 23دولة منها 3 دول عربية في شرق إفريقيا وهي جيبوتي والسودان والصومال وانضمت إليها مصر مؤخراً. وتسعى إلى تطوير التجارة البينية وإزالة كافة العوائق أمامها بحلول عام 2000، ووضع نظام لتسوية المدفوعات، وتعزيز التعاون في كافة المجالات الاقتصادية. وقطعت المجموعة شوطاً كبيراً في تحرير التجارة، وإنشاء مراكز لتطوير ونقل التكنولوجيا، وجرت دراسات لمشروعات صناعات في قطاعات مختلفة لتطوير شبكات النقل البرية بين الدول الأعضاء. ورغم أن هذه الجماعة فاقت في نشاطها التجمعات الأخرى، مثل المجموعة الاقتصادية لدول غرب افريقيا Ecowas، فإن نسبة التجارة البينية فيها لا تتجاوز 7% وواضح أن حدود الأقاليم تلائم التقارب الجغرافي أكثر مما تحقق شروطاً موضوعية للتكامل. ومن غير المتوقع أن يكون لهذه التجمعات وزن مهم بالنسبة للتكامل العربي في الأجل المنظور.
3-مجموعة الخمس عشرة:
تأسست مجموعة الدول الـ 15 في سبتمبر عام 1989 خلال اجتماعات القمة التاسعة لحركة عدم الانحياز في بلجراد، كمجموعة منبثقة عن حركة عدم الانحياز ومجموعة الـ 77، تستطيع أن تتمتع بقدر من المرونة والديناميكية، بما في ذلك الانعقاد على مستوى القمة، وهو ما لم تستطع مجموعة الـ77 تحقيقه. وهي كالأخيرة تضم أعضاء من القارات الثلاثة، إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، من بينها دولتان عربيتان هما الجزائر ومصر. وتحتفظ المجموعة باسمها رغم ضم كينيا مؤخراً لعضويتها.
وتحددت مهامها الرئيسية في تحقيق الاعتماد الجماعي على النفس لدول العالم الثالث، وتعزيز التعاون بين دول الجنوب، وقيادة الحوار مع دول الشمال. فهي تتولى التنسيق بين أعضائها في المجال الاقتصادي والمالي والتعاون في مجال البيئة ومقاومة الفقر والتصحر والمجاعات والكوارث الطبيعية في الدول الفقيرة. كما أنها سعت إلى المساهمة في حل مشكلة الديون في العالم الثالث، وبحث موقف دول العالم الثالث من مفاوضات أوروجواي 1986 للجات، والعمل على إلغاء الحماية الجمركية التي تفرضها الدول الرأسمالية والغنية على صادراتها إليها. وتزايدت مسئوليتها بعد انحسار دور الأنكتاد عقب إنشاء منظمة التجارة العالمية، وتعرض مجموعة الـ 77 إلى الضعف، خاصة بعد التقسيم إلى مجموعات قارية داخل الأنكتاد، وتصنيف أعضائها وفق معايير تسعى إلى إبراز التفاوت فيما بينها، مثل مستوى الدخل ومعدلات النمو أو التصدير أو المديونية، فضلاً عن التقسيمات الإقليمية التي تنشغل بقضايا التعاون الإقليمي على حساب التعاون العام بين دول الجنوب الذي حقق لها جميعاً مكاسب، لا سيما في الستينات.
وتنعقد المجموعة على مستوى القمة في اجتماعات سنوية، وإن تصاعدت آراء في القمة العربية
تعليقات
إرسال تعليق