Submitted by Editor on Sun, 04/26/2009 - 18:14
هشام القروي
يوجد في السياسة الخارجية الأمريكية مذهب يسمى "المدرسة الواقعية" – ريال بوليتيك- ومن بين ممثليه هنري كيسنجر ، ويرجعه المؤرخون الى جورج كينان بالخصوص ونظريته في الحرب الباردة.
كما نعلم فإن "سياسة الاحتواء" هي مفهوم من مفاهيم الحرب الباردة، كان قد صاغه وبلوره، المؤرخ والدبلوماسي "جورج كينان"، في أواخر عقد الأربعينيات، في مقال شهير له نشر بمجلة "الشؤون الدولية" تحت عنوان "مصادر السلوك السوفييتي"، تحت اسم مستعار هو "اكس" ، بحكم حساسية منصبه كسفير للولايات المتحدة في موسكو حينئذ. ويمكن تلخيص فحوى ما دعا إليه "كينان"، في أنه وطالما لم يبادر الاتحاد السوفييتي بمهاجمة الولايات المتحدة ، فإن عليها ألا تهاجمه، وأن تعتمد بدلاً من ذلك، على "العصا والجزرة الاقتصادية"، وكذلك على الدبلوماسية والعمل الاستخباراتي، فضلاً عن الترويج لصحة وحيوية الرأسماليات الديمقراطية، بغية الفوز بالحرب الباردة. وكتب "كينان" في هذا المنحى قائلاً:"صحيح أن الروس يتطلعون إلى توسيع نفوذهم الإقليمي والدولي، لكن ومع ذلك، فإن على الولايات المتحدة الأميركية، أن تبنى سياساتها على أساس بعيد المدى، وأن تلتزم الصبر والحزم معاً، مع توخي اليقظة التامة في احتوائها للنزعات التوسعية الروسية". وكان في اعتقاده "أنه وبمرور الوقت، فإن الاتحاد السوفييتي آيل للانهيار من تلقاء نفسه، بسبب ضعفه وانعدام تماسكه الداخلي، وبسبب تمدده بعيداً وعلى نحو منهك واستنزافي، خارج حدوده السياسية والجغرافية". وقد أثبت التاريخ صحة ما ذهب إليه "كينان".
غير أن ذلك كان في الماضي، ويتساءل العديد من المراقبين والمفكرين الأمريكيين اليوم : ماذا عسانا أن نفعل ، مع مخاطر ما بعد الحرب الباردة؟ ويذهب البعض، كإيان شابيرو ، أستاذ العلوم السياسية بجامعة ييل، الى أن "سياسات الاحتواء التي انتهجناها إزاء نظام صدام حسين، قد أخفقت في معرض أفضليات وخيارات المواجهة، أثناء الإعداد السابق للغزو، عندما وصفت إدارة بوش تلك السياسة بأنها لم تعد ملائمة للتصدي لجملة التحديات والمخاطر التي يواجهها عالم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر". و يضيف شابيرو : "إذا ما واصل تنظيم "القاعدة" شن هجماته وعملياته الإرهابية، و ظل الإرهابيون طلقاء يجوبون العالم كيفما شاؤوا، واستمرت حكومات "الدول المارقة"في مدهم بالسلاح وتوفير الملاذات الآمنة لهم– والحديث لا يزال للإدارة- فإنه ليس من وسيلة أخرى تحمي به أميركا وحليفاتها الديمقراطيات نفسها، سوى اللجوء إلى الإجراءات الراديكالية، سواء كانت حرباً احترازية استباقية، أم تغييراً قسرياً للأنظمة المارقة».
وقد كان هذا الاعتقاد، بمثابة عودة إلى سياسة "الدحرجة إلى الوراء"- أي تلك السياسة الرامية إلى طرد السوفييت وإخراجهم من دول أوروبا الشرقية- التي كان قد اقترحها كل من المرشحين جون فوستر دالاس، ودويت إيزنهاور، أثناء حملتهما الانتخابية لعام 1952، غير أنهما سرعان ما استبعداها، ما أن وصلا إلى قمة مواقع السلطة واتخاذ القرار في العام التالي، بدعوى لا عمليتها وعدم جدواها.
وشابيرو من المعجبين بكينان وسياسته الواقعية، لذلك فهو يذكر بأن هذا الأخير أدرك " منذ عقد الأربعينيات، أنه من الأفضل لو أن عملنا جميعاً من أجل عالم لا يسوده أحد». وبسبب تلك القناعة، فقد رحب كينان كثيراً بمناهضة الرئيس اليوغسلافي الأسبق، "جوزيف تيتو"، للهيمنة السوفييتية، تأسيساً على قاعدة أن انشقاق المعسكر الاشتراكي على نفسه، فيه مصلحة لمعسكر الرأسمالية الليبرالية. وهذا هو الدرس الذي غاب عن عين إدارة بوش الحالية. وقد لاحظ شابيرو أيضا أنه قد توفرت لهذه الإدارة، ميزانية مالية هائلة، لم تتوخ الحيطة والحذر، في تبديدها في حروبها ومغامراتها العسكرية الأخيرة، طوال السنوات الماضية. غير أنها باتت اليوم مواجهة بدين حربي مالي في العراق، فاق حد التريليون دولار، مصحوباً بعجز عام في الميزانية الحكومية، لا يخفى عن عين أحد من المراقبين.
ويقول شابيرو : "بدلاً من أن تنحو الإدارة منحى "كينان"، القائل بتشجيع إثارة الشقاق والخلافات في صفوف أعدائنا، هاهي توفر لهم فرصاً مجانية ثمينة لتوحيد ورص صفوفهم ضدنا، في كل مرحلة من مراحل حربها عليهم. وليس أدل على ذلك من تشخيص بوش لما وصفه بـ"محور الشر" في خطابه عن "حالة الاتحاد" لعام 2002. وليس أقله كذلك، إقصاؤها لإيران في ظل رئاسة محمد خاتمي، ورجوح كفة الإصلاحيين في السياسات الإيرانية وقتئذ!"
ولا شك أن اختيار كينان منذ عقد الأربعينيات "اللعبة السياسية" و"المنافسة الايديولوجية" له مبرراته. فهو قد اعتقد أن السبيل الأفضل لكسب العقول والقلوب، هو البرهنة على تفوق الرأسمالية الليبرالية، وتقديمها مثالاً مجسداً للأعداء والأصدقاء على الأرض. ولكن ، هل يمثل "تجديد هذه الرؤية"، كما يدعو الى ذلك شابيرو وغيره من المثقفين الأمريكيين من الاتجاه "الواقعي" حلا لأزمة السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط؟ بالنسبة لشابيرو وعدد من الكتاب الآخرين فإن الأصولية الإسلامية تتقاسم مع "الخطر السوفياتي " السابق أرضية واحدة مشتركة، هي عجزهما عن تقديم نموذج اقتصادي سياسي قابل للعيش والبقاء. وأمامنا ما حدث للاقتصادين الإيراني والأفغاني، إثر وصول الأصوليين الإسلاميين إلى السلطة، في كلا البلدين. وهو يأسف لأن"كينان" قد رحل عن دنيانا قبل عامين، "إلا أن نهج الاحتواء الذي خطه، يجب ألا يقبر معه».. وهو رأي يدعو الى نقاش ليس هذا مجاله.
العرب 11 ابريل/ نيسان 2007
تعليقات
إرسال تعليق