________________________________________
مقدمة
تمثل عمليات المقارنة محور جهود علم السياسة بصفة عامة، وحقل السياسة المقارنة بصفة خاصة، لصياغة نظريات تفسيرية عامة حول الظواهر السياسية المختلفة. ضمن هذه التقاليد، واجه حقل السياسة المقارنة أكبر تحدياته عند دراسة عمليات سياسية عديدة ومتشابكة في مجتمعات مختلفة، وعبر فترات تاريخية متباينة، وضمن سياقات متنوعة. كذلك، كان هناك انشغال دائم بضرورة إيجاد توازن بين الوقائع الإمبيريقية والفهم النظري، والربط بين معطيات الواقع والتحليل التفسيري. ويعتبر هذا الترابط الضروري بين الأدلة الإمبيريقية والتفسيرات النظرية أمرا جوهريا لحقل السياسة المقارنة، فبدون أدلة موثوقة لن يتيسر أساس للمقارنة وصياغة واختبار النظريات التفسيرية، وبدون نظريات تفسيرية وأطر تحليلية يصبح البحث عن الأدلة عملا عشوائيا واعتباطيا.
تركز هذه الدراسة على إحدى الظواهر السياسية الرئيسة في زمننا هذا، الديمقراطية والإصلاح السياسي. تهدف هذه الدراسة ، أساسا ، إلى استعراض الأدبيات التي تناولت هذا الموضوع والمداخل النظرية التي وظفتها والتفسيرات التي قدمتها. بحسبان أن أدبيات الديمقراطية والإصلاح السياسي متشبعة ومتنوعة وتغطي مواضيع وقضايا متباينة، وبحسبان أن هذه الدراسة، بطبيعة السياق المقدمة فيه، لا تستطيع أن تتناول كل القضايا وجميع المواضيع التي اهتمت بها هذه الأدبيات ، كان من الضروري التركيز على عدد محدود من هذه القضايا والمواضيع التي يعتقد معد هذه الدراسة أنها الأكثر أهمية للديمقراطية والإصلاح السياسي ، الأمر الذي قد لا يتفق معه الكثير من المتخصصين والباحثين. ولكن هكذا هي طبيعة الاختيار في القضايا الاجتماعية والسياسية التي تستند في جانب كبير منها على معايير وتفضيلات ذاتية لا يمكن التخلص منها ولا يجوز تجاهلها.
مثلت عمليات الدمقرطة أو التحول الديمقراطي الظاهرة العالمية الأهم خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين. قبل ذلك، كان هناك عدد قليل من النظم الديمقراطية في أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا والشرق الأوسط. بدلا من ذلك، كانت الساحة السياسية مليئة بأشكال مختلفة من نظم الحكم غير الديمقراطية التي تشمل نظماً عسكرية ونظم الحزب الواحد ونظم الدكتاتوريات الفردية الشخصية.
في منتصف سبعينيات القرن العشرين شهد العالم ما أصبح يعرف بالموجة الثالثة للديمقراطية التي بدأت في البرتغال وأسبانيا واليونان منذ 1974، ثم انتشرت إلى أمريكا اللاتينية وبعض أجزاء آسيا خلال ثمانينيات القرن العشرين، وامتدت إلى أوربا الشرقية والاتحاد السوفييتي وبعض أجزاء أفريقيا في أوخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن الماضي (Huntington, 1991). الملفت للنظر أن منطقة الشرق الأوسط بصفة عامة، والمنطقة العربية خصوصا، كانت الأقل تأثراً بهذه الموجة.
أثار هذا التباين في عمليات التحول الديمقراطي مجموعة من التساؤلات حول العوامل والأسباب التي تجعل هذه العملية أكثر انتشاراً في بلدان وأقاليم معينة ، وأقل انتشاراً في بلدان وأقاليم أخرى .
للإجابة على هذه التساؤلات تم تطوير مجموعة من المداخل النظرية التي حاولت تقديم تفسيرات لأنماط التحول الديمقراطي ، وعوامل وأسباب التماثل والتباين في عمليات الدمقرطة في مختلف البلدان والأقاليم.
من ناحية أخرى، يبدو من البيانات الإمبيريقية أن الديمقراطية ومؤسساتها قد ترسخت في حوالي ثلث الديمقراطيات الجديدة. فما سبب هذا المعدل المنخفض من تعزيز الديمقراطية؟ هل يرجع السبب إلى أنه لم يمر وقت كافٍ منذ بدء عملية الانتقال الديمقراطي؟ يمكن مقارنة هذه الديمقراطيات الجديدة بديمقراطيات جنوب أوربا الثلاثة - البرتغال، أسبانيا، اليونان- التي استهلت الموجة الثالثة للديمقراطية ، فمن الواضح أن الديمقراطية ومؤسساتها ترسخت في هذه البلدان الثلاثة خلال عقد من انهيار النظم التسلطية بها.
بيد أن هذا المعدل السريع للترسيخ الديمقراطي غير مألوف تاريخياَ ، حتى في ظل ظروف ملائمة. عادة، يتطلب تطوير المؤسسات الديمقراطية وتعزيز الديمقراطية وقتاً وجهداً كبيراً. على سبيل المثال ، ترسخت الديمقراطية في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية تدريجياً عبر فترة زمنية طويلة استمرت لعدة عقود (Haynes, 2001, P.4).
الراهن أنه بينما كانت هناك درجة عالية من الابتهاج والتفاؤل في أواخر ثمانينيات وأوائل تسعينيات القرن العشرين بأن العالم يشهد تحولاً حاسماً تجاه الديمقراطية ، أصبح الباحثون أقل تيقناً وثقة في نهاية القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين.
فبعد عقد من الدمقرطة السريعة ، تباينت آراء الباحثين حول احتمالات وفرص تعزيز الديمقراطية بشكل واسع. رأى البعض أن هناك أدلة على استمرارية التقدم الديمقراطي في جميع أنحاء العالم، وعلى ترسيخ الديمقراطية تدريجياً في العديد من الديمقراطيات الجديدة، مدركين في نفس الوقت بأنها عملية طويلة وشاقة ومحفوفة بالمخاطر والمشاكل (Karatnycky, 1999).
إلا أن البعض الأخر يزعم أن هناك أدلة على حدوث تقهقر واسع للديمقراطية في العديد من البلدان التي مرت في الفترات الأخيرة بعمليات انتقال وتحول ديمقراطي، حيث إن الديمقراطية لم تتجذر إلا في عدد قليل من هذه البلدان. في الواقع، يزعم الباحث السياسي دايموند أن هناك أدلة إمبيريقية قوية ليس عن فشل الترسيخ الديمقراطي فحسب، بل على حدوث أمر أكثر خطورة، بروز "موجة عكسية" بعيداً عن الديمقراطية وعودة إلى التسلطية (Diamond, 1999).
تحقيقاً للأهداف المحددة لهذه الدراسة، سوف يتم تناول القضايا والمواضيع التالية :
1. بعض المداخل النظرية التي حاولت أن تقدم تفسيرات لعمليات الانتقال الديمقراطي.
2. العوامل والتغيرات المؤثرة في عملية الدمقرطة.
3. الأنماط والأشكال المختلفة لعمليات التحول الديمقراطي.
4. العوامل والمتغيرات المؤثرة في عملية ترسيخ الديمقراطية.
وتختتم الدراسة بمجموعة من الملاحظات.
ينبغي، قبل البدء في تناول هذه القضايا، الإشارة إلى بعض الملاحظات:
أولاً : تقتصر هذه الدراسة على مراجعة الأدبيات العامة حول الدمقرطة دون الخوض في الأدبيات التي تناولت عمليات التحول الديمقراطي في المنطقة العربية ، بافتراض أن ذلك تغطية دراسات ومحاور أخرى من هذه الندوة .
ثانياً : تستخدم هذه الدراسة الدمقرطة والتحول الديمقراطي والانتقال الديمقراطي كمصطلحات مترادفة، وتعني عمليات التغير من نظام تسلطي إلى نظام ديمقراطي .
ثالثاً : تستخدم هذه الدراسة ترسيخ الديمقراطية وتعزيز الديمقراطية وتجذير الديمقراطية كمصطلحات مترادفة، وتعني المرحلة التي تصبح فيها المؤسسات والممارسات والقيم الديمقراطية ثابتة ومستقرة في النظام السياسي
أولاً: المداخل النظرية لتفسير الدمقرطة :
________________________________________
تبين مراجعة الأدبيات العامة حول الدمقرطة أن هناك ثلاثة مداخل نظرية رئيسة لتفسير عمليات الدمقرطة وأنماطها والعوامل والمتغيرات المؤثرة فيها.
1. المدخل التحديثي ، الذي يؤكد على عدد من المتطلبات الاجتماعية والاقتصادية لعملية الدمقرطة، ويربط بين الديمقراطية الليبرالية والتنمية الاقتصادية.
2. المدخل الانتقالي ، الذي يركز على العمليات السياسية وعلى مبادرات وخيارات النخبة لتفسير عملية الانتقال من حكم تسلطي إلى حكم ديمقراطي ليبرالي.
3. المدخل البنيوي ، الذي يهتم بأثر تغير بنى القوة والسلطة على عملية التحول الديمقراطي.
1. المدخل التحديثي :
لأول وهلة وظاهريا يبدو أن هناك معقولية ومصداقية للاتجاه الذي يربط بين الديمقراطية والتنمية الاقتصادية نظرا لأن أغني بلدان العالم هي بلدان ديمقراطية. ولقد كان آدم سميث، في كتابه ثروة الأمم أول من عبر عن هذا الاتجاه من خلال دعوته لليبرالية السياسية باعتبارها شرطا ضروريا للأداء الفعال للسوق الذي يعتبره محرك النمو الاقتصادي. بالنسبة لآدم سميث، فإن الحكومة التي تحكم أقل ما يمكن هي أفضل حكومة، فالحد الأدنى من الحكم يفضي إلى الحرية الفردية والمنافسة والكفاءة وإمكانات النمو الاقتصادي (AKE,2000:P.76) .
إلا أن المعالجة العلمية الأكثر دقة وانتظاما فيما يتعلق بالارتباط بين الديمقراطية والتنمية تبرز من خلال افتراضات وأطروحات عالم الاجتماعي السياسي الأمريكي "ليبست .(S.M Lipset) وقدم ليبست أطروحته لأول مرة عام 1959 في مقالته الموسومة "بعض الاشتراطات الاجتماعية للديمقراطية: التنمية الاقتصادية والشرعية السياسية". وفي عام 1960 نشر كتابه "الرجل السياسي،Political Man " الذي يعتبر أشهر وأهم كتاب حول هذه الأطروحة.
وفقا لأطروحة ليبست، ترتبط الديمقراطية بمستوى التنمية الاقتصادية والاجتماعية. لإبراز هذه العلاقة، قام بتصنيف البلدان الأوروبية والبلدان الناطقة بالإنجليزية في أمريكا الشمالية وأستراليا إلى ديمقراطيات مستقرة وديمقراطيات غير مستقرة ودكتاتوريات. وصنف بلدان أمريكا اللاتينية إلى ديمقراطيات ودكتاتوريات غير مستقرة ودكتاتوريات مستقرة. ثم قام بمقارنة هذه البلدان وفقا لثروتها ودرجة التصنيع والحضرية ومستوى التعليم باعتبارها مؤشرات للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. وتبين من المقارنة أن البلدان الأكثر ديمقراطية في كلا المجموعتين كانت تتمتع أيضاً بمستويات تنمية اجتماعية واقتصادية أعلى من البلدان الدكتاتورية . استنادا على ذلك، أفترض ليبست وجود تطابق بين التنمية الاقتصادية وبين النظام الديمقراطي .
كان هذا التطابق نتاجا لعدة متغيرات اجتماعية. عليه فإن التنمية الاقتصادية ترتبط بازدياد التعليم والاتجاه نحو مزيد من المشاركة، كما أنها تخفف من حدة التفاعلات السياسية وتخلق مصالح متقاطعة وانتماءات متعددة تعمل على تسهيل بناء الإجماع الديمقراطي والاستقرار السياسي. أخيرا فإن التنمية الاقتصادية ترتبط بنمو وحيوية الحياة الترابطية والمجتمع المدني (Lipset, 1960, P. 31)
يعتبر كتاب الرجل السياسي عملاً رائداً مهما إلا أنه يعكس في نفس الوقت محدودية درجة تطور الدراسات الكمية ضمن علم الاجتماع السياسي في تلك الفترة. فلا توجد في منهجية الدراسة تحليلات إحصائية متقدمة، ولم تحتو على عمليات الضبط والعزل المناسبة لتحديد الأهمية الدقيقة والمحددة للمتغيرات. وعلى الرغم من عدم وجود إثبات للعلاقات السببية في تلك الدراسة، فإنه يبدو أن ليبست يفترض أن التنمية الاقتصادية هي التي أدت إلى الديمقراطية (Diamons, 1992: P.451).
لقد تعرضت هذه الأطروحة للدراسة والتمحيص من وقت لأخر باستخدام منهجيات أكثر دقة وصرامة وأساليب إحصائية متقدمة ومن أمثلة هذه الدراسات دراسة كولمان (Coleman, 1960) التي أثبتت وجود ارتباط واعتماد متبادل بين الديمقراطية والتنمية إلا أنها لم تثبت وجود علاقات سببية. كذلك فإن كترايت (Cutright, 1963) وجد ارتباطا عاليا بين مؤشر الاستقرار السياسي "وبين مجموعة من أربعة مؤشرات للتنمية وهى" تطور وسائل الاتصال والحضرية والتعليم والتصنيع". وقامت دراسات أخرى بمحاولة التحقق من العلاقات السببية التي افترضتها أطروحة ليبست الأصلية. فلقد توصل بولين وجاكمان ( Bollen and Jakman, 1985) إلى نفس النتيجة وذلك من خلال تحليل إحصائي متقدم لمجموعة من العوامل والمتغيرات التي تعتبر عادة من ضمن محددات الديمقراطية واكتشفا أن التنمية الاقتصادية هي المحدد الأكثر الأهمية من المتغيرات الأخرى مجتمعة. ولقد تم تأكيد ذلك في دراسة لاحقة قام من خلالها كل من ليبست وسيونج وتوريز (Lipset, Seong and Torres) بإعادة تحليل دراسات بولين وجاكمان.
من ناحية أخرى، قامت دراسات أخرى بمحاولة إثبات التأثير الإيجابي للديمقراطية على التنمية الاقتصادية، فلقد أشار جروسمان ونوح (Grossman and Noh 1988) إلى أن وجود نظام ديمقراطي يضمن خضوع الحاكمين للمساءلة أمام المحكومين مما يحفزهم على تخصيص الموارد بكفاءة وفعالية لضمان استمراريتهم في الحكم. وفي إطار مشابه بين روبرت داهل في فترة مبكرة (Dahl.1971.) أن الديمقراطية تضمن قيام الحكام بتوظيف الموارد بالطريقة التي تحقق النمو والإنتاج الأمثل.ويرى اولسون (Olson, 1991) أن النظام الديمقراطي يلزم الحكام بتجنب السعي نحو تحقيق مصالح ذاتية أنانية ويفرض عليهم وضع السياسات العامة التي تحقق وتخدم المصلحة العامة ضمنا لاستمرار التأييد والقبول الشعبي .
قام بهالا (Bhala, 1994) بتقديم مدخل مختلف حول العلاقة بين التنمية الاقتصادية والديمقراطية. فهو يرى أن الديمقراطية شكل من أشكال الحكم يرتبط ارتباطا قويا بمفهوم الحرية، وقام باختبار العلاقة بين التنمية الاقتصادية والحرية بجانبيها (السياسي والاقتصادي) بدلا من اختبار العلاقة بين الديمقراطية والتنمية الاقتصادية. ويرى بهالا أنه نظراً لأن الدراسات السابقة لم تقم بعزل تأثير الحرية الاقتصادية فإنها لم تقم بتقدير العلاقة بين التنمية الاقتصادية والحرية السياسية بصورة مناسبة.
من ناحية أخرى، أشار بهالا إلى احتمالية الارتباط المتزامن بين التنمية الاقتصادية وبين الحرية، فلقد أفترض أن الحرية تفضي إلى تنمية اقتصادية أكبر والتي تؤدي بالتالي إلى المزيد من الحرية، ولقد مثل هذه العلاقة المتزامنة بنماذج رياضية وتوصل إلى أنه بغض النظر عن كيفية قياس الحرية وبغض النظر عن كيفية تعريف النمو، فإن هناك علاقة إيجابية وقوية بين الاثنين (Bhalla, 1994).
2. المدخل الانتقالي :
جاء التحدي المبكر والمهم لأطروحة ليبست، وللمدخل التحديثي بصفة عامة، من الباحث السياسي دانكورت روستو "Dankwart Rustow". ففي مقالته "Transition to Democracy, 1970"، أشار روستو إلى أن الارتباطات بين التنمية الاجتماعية والاقتصادية وبين الديمقراطية التي افترضها ليبست وغيره كانت مدفوعة أساساً باهتمامهم بالعوامل التي تؤدي إلى استمرارية وترسيخ الديمقراطية. بيد أن اهتمام روستو وغيره من الباحثين يتمحور حول تساؤل مختلف هو كيفية تحقيق الديمقراطية في المقام الأول. ( Anderson, 1999, PP. 14- 17).
يزعم روستو أن النوع الأخير من التساؤلات والاهتمامات يتطلب مدخلاً تطورياً تاريخياً يستخدم منظوراً كلياً لدراسة حالات مختلفة بحسبان أن ذلك يوفر أساساً أفضل للتحليل من مجرد البحث عن الشروط والمتطلبات الوظيفية للديمقراطية. حدد روستو، استناداً على تحليل تاريخي مقارن لتركيا والسويد، مساراً عاما تتبعه كل البلدان خلال عملية الدمقرطة، ويتكون هذا المسار من أربعة مراحل أساسية: (Ibid; PP. 26- 33)
أولاً : مرحلة تحقيق الوحدة الوطنية، والتي تشكل خلفية الأوضاع "Background Condition"، ولا يعني روستو بتحقيق الوحدة الوطنية توافر الاجماع والاتفاق العام، بل مجرد بدء تشكل هوية سياسية مشتركة لدى الغالبية العظمى من المواطنين.
ثانياً : يمر المجتمع القومي بمرحلة إعدادية "Preparatory phase" تتميز بصراعات سياسية طويلة وغير حاسمة، على شاكلة الصراع الناجم عن تزايد أهمية نخبة صناعية جديدة خلال عملية التصنيع تطالب بدور وموقع مؤثر في المجتمع السياسي في مواجهة النخب التقليدية المسيطرة التي تحاول المحافظة على الوضع القائم. ورغم اختلاف التفاصيل التاريخية لحالات الصراع من بلد لآخر، فإن هناك دائماً صراعاً رئيساً وحاداً بين جماعات متنازعة. أي أن الديمقراطية تولد من رحم الصراع، بل وحتى العنف، وليست نتاجاً لتطور سلمي. وهذا ما يفسر إمكانية هشاشة الديمقراطية في المراحل الأولى، وعدم استطاعة العديد من البلدان تجاوز المرحلة الإعدادية إلى مرحلة الانتقال والتحول المبدئية. قد يكون الصراع حاداً بالدرجة التي تؤدي إلى تمزيق الوحدة الوطنية، أو أن يؤدي إلى تزايد قوة إحدى الجماعات بالدرجة التي تمكنها من التغلب على قوى المعارضة وإنهاء الصراع السياسي لصالحها وسد الطريق أمام التحول الديمقراطي.
ثالثاً : تبدأ عملية الانتقال والتحول المبدئي في المرحلة الثالثة وهي مرحلة القرار "Decision Phase"، وهي لحظة تاريخية تقرر فيها أطراف الصراع السياسي غير المحسوم التوصل إلى تسويات وتبني قواعد ديمقراطية تمنح الجميع حق المشاركة في المجتمع السياسي.
رابعاً : تأتي عملية الانتقال والتحول الثانية خلال المرحلة الرابعة، مرحلة التعود "Habituation Phase". يرى روستو أن قرار تبني القواعد الديمقراطية خلال "اللحظة التاريخية" قد يكون قراراً ناتجاً عن أحساس أطراف الصراع غير المحسوم بضرورة التوصل إلى تسويات وحلول وسط، وليس ناتجاً عن قناعة ورغبة هذه الأطراف في تبني القواعد الديمقراطية.
بيد أنه ، وبصورة تدريجية ومع مرور الوقت، تتعود الأطراف المختلفة على هذه القواعد وتتكيف معها. قد يقبل الجيل الأول من أطراف الصراع القواعد الديمقراطية عن مضض وبحكم الضرورة، إلا أن الأجيال الجديدة من النخب السياسية تصبح أكثر تعوداً وقناعة وإيماناً بالقواعد الديمقراطية. وفي هذه الحالة يمكن القول إن الديمقراطية قد ترسخت في المجتمع السياسي.
قام العديد من العلماء المهتمين بتفسير عمليات الدمقرطة بتطوير المدخل الانتقالي لروستو. ومن أهم هذه المحاولات دراسة جويلرمو أودونيل (G. O' Donnell) وزملائه (1986) المعنونة: "Transition from Authoritarian Rule"، ودراسة سكوت مينويرنج (Scott Mainwaring) وزملائه (1992) الموسومة: "Issues in Democratic Consolidation "، ودراسة يوسي شين (Yossi Shain) وجوان لينز (Juan Linz) (1995) بعنوان
"Between States: Interim Governments and Democratic Consolidation"
يميز جميع هؤلاء الباحثين بشكل واضح، مثلما فعل روستو، بين مرحلة الانتقال والتحول المبدئي من الحكم التسلطي (أي اللبرنة السياسية) وبين مرحلة ترسيخ الديمقراطية الليبرالية. ويرجع ذلك إلى أن عمليات الانتقال المبدئية قد تنجح أحياناً وتترسخ، ولكنها قد تفشل وتتعثر في أحيان أخرى.
تبدأ عملية اللبرنة السياسة داخل نظام الحكم التسلطي بتخفيف عمليات القمع والسماح ببعض الحريات المدنية. إلا أن هذه التحركات لا تؤدي، بالضرورة، إلى تحقيق الديمقراطية. فقد يتم إجهاض عمليات اللبرنة ويعود الحكم القمعي من جديد. بيد أنه ما أن تكتسب عملية اللبرنة دفعا وزخماً قوياً وجاداً ينخرط العديد من الفاعلين السياسيين في التفاعل التاريخي بين نظام الحكم وقوى المعارضة. بحسبان وجود متطرفين ومعتدلين داخل النظام التسلطي وبين المعارضين، فإن طبيعة التفاعل وشكله يؤثر على مسار ونواتج عملية الانتقال والتحول الديمقراطي. وتبين الأدلة المقارنة من أمريكا اللاتينية أن احتمال نجاح عمليات التحول الديمقراطي يتعزز إذا كانت هذه العمليات تحت سيطرة تحالف من المعتدلين في الجانبين. (Potter et al., 1997. P15).
خلال المرحلة الرابعة (مرحلة التعود)، تتضمن عملية الانتقال الثانية من حكومات مؤقتة ولبرنة سياسية مبدئية إلى ترسيخ الديمقراطية الليبرالية مسارات تاريخية متشابكة وتتسم بدرجة عالية من عدم التيقن. ويلعب الفاعلون السياسيون الملتزمين بالديمقراطية دوراً حاسماً وجوهرياً لنجاحها خلال هذه المرحلة أيضاً. وعلى الرغم من أنهم يشكلون دائماً أقلية، فإن هناك عوامل معينة تتظافر لصالحهم. من أهم هذه العوامل، أن أغلبية المواطنين، حتى وإن لم تكن ملتزمة بالديمقراطية بالضرورة، لا تريد عودة النظام التسلطي الذي كانت ترزح تحته. هذا إلى جانب أن الخطاب السياسي التسلطي أضعف إيديولوجياً من الخطاب الديمقراطي عالمياً. بفضل هذه المزايا، يمكن للنخبة الديمقراطية القليلة العدد أن تقود المجتمع السياسي إلى ترسيخ الديمقراطية إذا استطاعت أن تقوم بتحييد الفاعلين ذوي التوجهات التسلطية المتطرفة، وتشجيع التفضيلات والممارسات المتوافقة مع الأداء الديمقراطي، وزيادة عدد الفاعلين الديمقراطيين، وإعطاء أولوية للإستراتجية التي تضمن عدم تسهيل عودة الحكم التسلطي على أية استراتجيات أخرى (بما في ذلك التنافس فيما بينها).(O'Donnell, 1992, P.22).
الراهن، يزعم أنصار المدخل الانتقالي أن المسار التاريخي للديمقراطية الليبرالية يتحدد، جوهرياً، من خلال مبادرات وأفعال النخب وليس عن طريق بنى القوة المتغيرة. إلا أن مبادرات وخيارات النخبة لا تحدث أبداً في فراغ، حيث إنها تتشكل إلى حد ما بالبنى المجتمعية- مجموعة من القيود الطبيعية والاجتماعية، مجموعة من الفرص المتغيرة، مجموعة من المعايير والقيم التي يمكن أن تؤثر على محتوى واتجاه خيارات النخب.
3. المدخل البنيوي :
تستند تفسيرات المدخل البنيوي على عمليات التغير التاريخي الطويلة المدى. إلا أن هذا المدخل، وبخلاف المدخل الانتقالي، لا يفسر عمليات التحول الديمقراطي من خلال دور وفعل النخب السياسية، بل يفسرها وفقاً لفكرة ومفهوم "بنى القوة والسلطة المتغيرة".
توجد في جميع المجتمعات العديد من بنى السلطة والقوة تعمل على تقييد سلوك الأفراد والنخب في المجتمع وتشكيل تفكيرهم. وتوجد بنى السلطة والقوة بصورة مستقلة عن الفرد، تقيد نشاطاته وتتيح له بعض الفرص في الوقت نفسه. من ناحية أخرى، فإن الفرد جزء من تلك البنى الموروثة من الماضي ويساهم، مع الآخرين، في استمراريتها. ( Giddens, 1993, PP. 720-1).
يستند الافتراض الأساسي للمدخل البنيوي على أن التفاعلات المتغيرة تدريجياً لبنى السلطة والقوة - اقتصادية، اجتماعية، سياسية- تضع قيوداً وتوفر فرصاً تدفع النخب السياسية وغيرهم، في بعض الحالات، في مسار تاريخي يقود إلى الديمقراطية الليبرالية، بينما في بعض الحالات الأخرى، قد تقود علاقات وتفاعلات بنى السلطة والقوة إلى مسارات سياسية أخرى. وبحسبان أن بنى السلطة والقوة تتغير تدريجياً عبر فترات تاريخية طويلة، فإن تفسيرات المدخل البنيوي لعملية التحول الديمقراطي طويلة الأمد.
تتمثل الدراسة الكلاسيكية للمدخل البنيوى في دراسة بارنجتون مور (Barington Moore) الموسومة (Social Origins of Dictatorship and Democracy) (1966) والتي تمحورت حول محاولة تفسير إختلاف المسار السياسي الذي اتخذته انجلترا وفرنسا والولايات المتحدة (مسار الديمقراطية الليبرالية) عن المسار الذي اتبعته اليابان وألمانيا (مسار الفاشية) وعن المسار الذي اتجهت إليه روسيا والصين (مسار الثورة الشيوعية)، خلال عملية التحول التاريخي التدريجي من مجتمعات زراعية إلى مجتمعات صناعية حديثة ما بين القرن السابع عشر ومنتصف القرن العشرين.
استندت مقاربة مور لهذا الموضوع على المقارنة التاريخية لهذه البلدان ، ليس في إطار مبادرات النخب ، بل في إطار العلاقات المتفاعلة لأربع بنى متغيرة للقوة والسلطة ، ثلاث منها كانت طبقات اجتماعية - الفلاحون، طبقة ملاك الأرض الأرستقراطية، والبرجوازية الحضرية- بينما تمثلت البنية الرابعة في الدولة.
تمثلت النتيجة الأولى التي توصل إليها مور إلى أن مسار وشكل الديمقراطية الليبرالية كان، بصفة عامة، نتاجاً لنمط مشترك من العلاقات المتغيرة بين الفلاحين وسادة الأرض والبرجوازية الحضرية والدولة. ووضع مور خمسة اشتراطات عامة للتنمية الديمقراطية (Moore ,1966,PP430-1)
1. تطور حالة توازن للحيلولة دون وجود دولة قوية أكثر من اللازم، ودون نمو طبقة أرستقراطية مالكة للأرض ذات استقلالية أكثر من اللزوم.
2. التحول نحو شكل مناسب من الزراعة التجارية.
3. إضعاف أرستقراطية الأرض.
4. الحيلولة دون بناء تحالف بين البرجوازية والأرستقراطية في مواجهة تحالف العمال والفلاحين.
5. انفكاك فوري عن الماضي بقيادة البرجوازية.
على العكس من ذلك، برزت الفاشية ضمن أوضاع كانت فيها البرجوازية الحضرية ضعيفة نسبياً واعتمدت على الطبقات الاستقراطية المهيمنة على الدولة لتمويل الزراعة التجارية. وحدثت الثورات الشيوعية ضمن أوضاع اتسمت بضعف البرجوازية الحضارية وخضوعها لهيمنة الدولة، وكان الارتباط بين سادة الأرض والفلاحين ضعيفاً، وفشل سادة الأرض في تحويل الزراعة إلى زراعة تجارية، وكان الفلاحون متماسكين وعثروا على حلفاء ذوي مهارات تنظيمية.
بيد أن تحليلات مور أغفلت بدرجة كبيرة دور العلاقات والتفاعلات الدولية وعبر القومية، بما في ذلك الحرب، في تحديد المسار الذي تتخذه البلدان المختلفة، كما أنه لم يعر اهتماماً كبيراً لتأثيرات نمو الطبقة العاملة أو البروليتاريا الصناعية. ولقد قام ديتريك روشماير (Dietrich Rueschemeyer) وزملاؤه (1992) بتلافي هذا النقص، وضمّنوا هذه العوامل في تحليلاتهم وتفسيراتهم البنيوية عبر قيامهم بتحليل تاريخي مقارن للبلدان الرأسمالية المتقدمة وبلدان أمريكا اللاتينية وأمريكا الوسطي وبلدان البحر الكاريبي. على أساس هذا التحليل التاريخي المقارن، يزعم روشماير وزملاؤه بأن تحرك المجتمع تجاه الديمقراطية الليبرالية من عدمه يتشكل، جوهرياً، بتوازن القوة الطبقية، وأن الصراع بين الطبقات المهيمنة والخاضعة حول حقها في الحكم يعمل، أكثر من أي عامل أخر، على وضع الديمقراطية ضمن الأجندة التاريخية ويحدد احتمالاتها.
(Rueschemeyer et al, 1992.P 47).
تاريخيا، عملت الديناميات المتغيرة للقوة الطبقية على مقاومة عملية الدمقرطة أو على الدفع بها إلى الأمام. ولقد ميز روشماير وزملاؤه بين خمس طبقات على أساس مصالحها وتوجهاتها المختلفة تجاه الدمقرطة وهى طبقة كبار ملاك الأراضي وطبقة الفلاحين والطبقة العاملة الحضرية وطبقة البرجوازية التجارية والصناعية والطبقة المتوسطة المهنية. من ناحية أخرى، فإن موقف وتوجه أية طبقة تجاه الدمقرطة لا يمكن تحليله بمعزل عن مواقف وتوجهات الطبقات الأخرى. فقد تعمل التحالفات الطبقية المختلفة في البلدان المختلفة على تدعيم عملية الدمقرطة أو عرقلتها.
كذلك، كانت تغيرات بنية وشكل قوة وسلطة الدولة عاملاً جوهرياً لعملية الدمقرطة، فلقد تعززت فرص نجاح عملية التحول الديمقراطي في الحالات التي لم تكن فيها الدولة قوية جداً أو ضعيفة جداً في مواجهة القوى الطبقية في المجتمع. من جانب أخر، أدت التنمية الرأسمالية، تاريخياً، إلى بروز مجتمع مدني قوي وإلى نمو الأحزاب السياسية كقوة موازنة لقوة الدولة. (Potter et al, 1997, P. 21)
الراهن، تستند تفسيرات المدخل البنيوى على الافتراض بأن المسار التاريخي لأي بلد نحو الديمقراطية الليبرالية أو نحو أي شكل سياسي أخر يتشكل ويتحدد، أساساً وجوهرياً، بالبنى المتغيرة للطبقة والدولة والقوى الدولية وعبر القومية والمتأثرة بنمط التنمية الرأسمالية، وليس عن طريق مبادرات وخيارات النخب. فعلى الرغم أن النخب السياسية تقوم بمبادرات وخيارات معينة، إلا إن هذه المبادرات والخيارات لا يمكن تفسيرها إلا عبر الإشارة إلى القيود والفرص البنيوية المحيطة بها.
ثانياً: العوامل المؤثرة في عملية الدمقرطة :
________________________________________
على الرغم من أن كل مدخل من المداخل الثلاثة يستند على عدد متباين من العوامل المترابطة لتفسير حدوث عملية الدمقرطة في بعض البلدان وعدم حدوثها في بلدان أخرى ، فإن المداخل الثلاثة تتفق في تحديد مجموعة من العوامل التفسيرية المشتركة، ولو بطرق مختلفة: (Potter et al., 1997, PP, 24-31)
1. التنمية الاقتصادية :
تشير مختلف تفسيرات الدمقرطة إلى التنمية الاقتصادية باعتبارها عاملاً تفسيرياً مهماً. بالنسبة لكل من ليبست ودايموند وغيرهما ممن يعملون ضمن إطار المدخل التحديثي، فإن الارتباطات بين التنمية الاقتصادية وعملية التحول الديمقراطي مهمة جداً. ويرى مور وروشماير وغيرهم أن التنمية الاقتصادية، والتي هي تنمية رأسمالية أساساً، تشكل بصورة جوهرية المسار التاريخي الذي تتخذه البلدان المختلفة تجاه الديمقراطية الليبرالية أو تجاه أي شكل سياسي آخر.
أما من وجهة نظر روستو وآدونيل ولينز وغيرهم ممن يفسرون الدمقرطة ضمن إطار العمليات الانتقالية، فإن التنمية الاقتصادية تمثل الدافع لتحركات النخب المتنافسة لصياغة تسويات ديمقراطية. كذلك، فإن المداخل الثلاثة تقر بأن الأزمات الاقتصادية، على شاكلة ما حدث في أوربا في فترة ما بين الحربين العالميتين في القرن العشرين، قد تقوض الديمقراطية الليبرالية ، وأن التخلف الحاد، كما في حالة أفريقيا جنوب الصحراء، لم يشكل سياقاً مشجعاً للديمقراطية.
2. التقسيمات الاجتماعية :
وفقاً للمدخل التحديثي والمدخل البنيوي، تؤدي التنمية الاقتصادية الرأسمالية إلى تغيير التقسيمات الطبقية في المجتمع، الأمر الذي يمثل عاملاً مهماً في تفسير لماذا تتجه بعض البلدان نحو الديمقراطية الليبرالية بينما لا يفعل البعض الآخر ذلك. يقر ليبست بأن التنمية الاجتماعية والاقتصادية تؤدي إلى نمو الطبقة المتوسطة التي يمكن أن تكون قيمها مؤيدة للديمقراطية. ويرى روشماير وزملاؤه أن التنمية الرأسمالية تنتج طبقات اجتماعية قد يطور بعضها (مثل الطبقة العاملة الحضرية) اهتماما بعملية الدمقرطة. كذلك، فإن المدخل الانتقالي يهتم بالصراع السياسي غير المحسوم بين الطبقات والجماعات وتأثيره على المسار الديمقراطي الليبرالي .
بيد أنه لا يمكن لأية طبقة أن يكون لها نفس الاهتمام والمصلحة في الدمقرطة في كل مكان، لذا من المهم إدراك وتقدير أن موقف أية طبقة تجاه الدمقرطة في أي بلد يتأثر بعلاقاتها الخاصة مع الطبقات الأخرى، مما يعني ضرورة تحليل تغيرات البنية الطبقية ككل، وليس التركيز على طبقة معينة.
لا تمثل التقسيمات الطبقية الأشكال الوحيدة لعدم المساواة الاجتماعية ، حيث إن التفسيرات المختلفة للدمقرطة تشير أيضا إلى التقسيمات الإثنية والجندرية والقبلية واللغوية والدينية والثقافية.
وبحسبان أن الأشكال الديمقراطية للعملية السياسية تستند على مبدأ السيادة الشعبية أو القبول الشعبي ، يصبح التساؤل حول ماهية الشعب تساؤلاً مهماً جداً . فعندما تكون الانقسامات الطبقية أو الإثنية أو القبلية أو الدينية أو الثقافية حادة وعميقة وعنيفة ، فلن يكون هناك معنى للهوية السياسية المشتركة ، وبالتالي تصبح عملية الدمقرطة أمراً مستحيلاً . وكما يرى روستو ، فإن الإحساس بحد أدنى من الهوية الوطنية المشتركة يمثل الأوضاع الخلفية التي تتأسس عليها المراحل الأخرى في عمليات التحول الديمقراطي.
3. الدولة والمؤسسات السياسية :
تمثل القوة العامة للدولة في علاقاتها بالتقسيمات الاجتماعية والمجتمع المدني عاملاً تفسيرياً مهماً بالنسبة لجميع المداخل النظرية للديمقراطية . تتميز مسارات الدمقرطة، فيما يزعم بارنجتون مور وروشماير، بحالات من توازن القوة بين الدولة والطبقات المستقلة نسبياً، فالدولة ليست قوية جداً بالدرجة التي تجعلها تسيطر على الطبقات التابعة من جانب، كما أنها ليست ضعيفة جداً بالدرجة التي تجعلها أداة للطبقة الأرستقراطية المالكة للأرض من جانب آخر. كذلك، فإن أنصار المدخل التحديثي يعتبرون أن الهيمنة المطلقة للدولة على المجتمع المدني مؤشر سلبي للدمقرطة ، فلقد أدى هذا النوع من هيمنة الدولة إلى انهيار الديمقراطية في أفريقيا وآسيا وأماكن أخرى.
ويرجع ذلك إلى أنه في البلدان ذات المستويات التنموية المنخفضة تسيطر الدولة المتضخمة على معظم الفرص الاقتصادية المهمة (الوظائف، العقود، الرخص، المنح التعليمية، هبات التنمية) بعكس الدولة في البلدان ذات المستويات التنموية المرتفعة. وتؤدي هذه السيطرة إلى عرقلة النمو الاقتصادي بسبب تقليص منافسة القطاع الخاص، وينتشر العنف والتزوير خلال الانتخابات بسبب الامتيازات الضخمة الناتجة عن الفوز فيها ، ويصبح الفساد السياسي والنشاط الريعي الأدوات الرئيسة للحركية الاجتماعية والاقتصادية، وتتعرض جميع الأنشطة الاقتصادية تقريباً لتدخل الدولة وسيطرتها .
ولقد نتج عن ذلك بروز اقتصاد مسيس حيث يكون الكسب الاقتصادي الفردي نتاجاً للوصول للسلطة والقوة السياسية ، وليس نتيجة لزيادة الإنتاجية والكفاءة ، الأمر الذي يزيد من احتمالات عدم المساواة والتوتر الحاد بين الطبقات والجماعات الإثنية والإقليمية والدينية وغيرها. خلاصة القول، يزعم منظرو المدخل التحديثي بأن عملية الدمقرطة تتضمن تفكيك الدولة المتضخمة المسيطرة لصالح دولة الحد الأدنى والتنمية الرأسمالية النشطة.
من ناحية أخرى، اهتم بعض الباحثين بالمؤسسات السياسية الوسيطة كعوامل تفسيرية، مثل المجالس التشريعية والمؤسسة العسكرية ونظم الانتخابات التنافسية وبنية النظم الحزبية ومنظمات المجتمع المدني، بحسبان أن طبيعة التفاعل بين هذه المؤسسات، وبينها وبين الدولة والبنية الطبقية، تساعد في تفسير كيفية تشكيل المؤسسات للنواتج السياسية الناجمة عن علاقات متشابهة للدولة والبنية الطبقية في بلدان مختلفة. (Held, 1996, ch.6)
4. المجتمع المدني :
يدخل المجتمع المدني كعامل تفسيري لعملية الدمقرطة عبر علاقته بالدولة والبنية الطبقية . بالنسبة لمنظري المدخل التحديثي والمدخل الانتقالي ، يلعب المجتمع المدني التعددي والنشط دوراً مهماً في موازنة قوة الدولة ، كما أنه يمكن أن يكون حائلا أمام عودة التسلطية وعاملاً حيوياً في تعزيز الديمقراطية الليبرالية والمحافظة عليها . ولقد كان انبعاث المجتمع المدني عاملاً حاسماً في تفسير عمليات الانتقال من التسلطية إلى الديمقراطية الليبرالية في جنوب أوربا وأمريكا اللاتينية.
كما أدى نمو وتطور العديد من الجماعات والحركات الاجتماعية المستقلة - الطلاب، النساء، نقابات العمال ، الجماعات الكنسية ، المستهلكون ، أنصار البيئة، الجماعات القبلية ، الفلاحون ، المهنيون- في أوربا الشرقية والاتحاد السوفييتي السابق وبعض أجزاء آسيا وأفريقيا إلى تنامي عمليات الدمقرطة.
وعادة ما يتضمن نمو المجتمع المدني وجود إعلام مستقل يمكن أن يشكل ضغطاً على الدولة التسلطية. وفقاً للمدخل التحديثي ، تساهم التنمية الاجتماعية والاقتصادية في نمو المجتمع المدني في جميع أنحاء العالم بحسبان أنها تؤدي إلى تركز السكان في مناطق حضرية وانخراطهم في شبكات تفاعل أوسع وأكثر تنوعاً ، وإلى انتشار التعليم والمعرفة و الدخل والموارد التنظيمية الأخرى عبر قطاعات واسعة من السكان، مما يؤدي إلى تزايد احتمالات تحدي قطاعات المجتمع المختلفة لنظم الحكم التسلطية. (He, 2002).
يشير روشماير وغيره من منظري المدخل البنيوي أيضاً إلى أهمية نمو المجتمع المدني كقوة موازنة مهمة للدولة. إلا أنهم يهتمون أيضاً بفهم كيف يستطيع المجتمع المدني، بوصفه نتاجاً فرعياً للتنمية الرأسمالية، أن يعزز القدرات التنظيمية للطبقات الدنيا، وبالتالي تغيير توازن القوة في البنية الطبقية، بمعنى أن نمو المجتمع المدني في حد ذاته أقل أهمية من تأثير ذلك النمو على التفاعلات الطبقية، وبالتالي تأثيره على احتمالات عملية الدمقرطة. (Rueschemyer et al., 1992).
5. الثقافة السياسية :
من الجلي أن احتمالات الدمقرطة تزداد في البلدان التي تكون فيها الثقافة السياسية مؤيدة للديمقراطية. مع ذلك، فإن هناك، من الناحية الفعلية، خلافات نظرية حول دور الثقافة السياسية في تفسير عمليات الدمقرطة أكثر من الخلاف حول دور العوامل التفسيرية الأخرى. بالنسبة لمنظري التحديث، تمثل الثقافة السياسية متغيراً تفسيرياً مركزياً، فلقد أجرى العديد من الدراسات الميدانية وأبحاث المسوح التي اكتشفت وجود ارتباطات إحصائية قوية بين مستوى التعليم (أحد نواتج التحديث) وبين الالتزام بقيم الديمقراطية والمشاركة والتسامح والاعتدال.
أما منظرو المدخل البنيوي فيتشككون فيما إذا كانت هذه الارتباطات تفسر الدمقرطة على الإطلاق ، ويجادلون أنه من المحتمل أن تكون الثقافة السياسية الديمقراطية نتاجاً لعملية الدمقرطة وليست سبباً لها. من ناحية أخرى ينزع منظرو المدخل الانتقالي إلى تجاهل الثقافة السياسية، فهم يزعمون أن الانتقال إلى الديمقراطية الليبرالية يرجع إلى حسابات النخب السياسية المتصارعة التي تبدأ في إدراك أن هناك مصلحة مشتركة (وليس قيماً مشتركة) في الدمقرطة.
6. التفاعلات الدولية وعبر القومية :
تهتم جميع تفسيرات الدمقرطة بما يجري في النظام الدولي خارج حدود الدولة. ويشمل ذلك التفاعلات الدولية مثل التحالفات العسكرية والحروب والعلاقات الدبلوماسية وأنشطة المؤسسات ما بين الحكومية مثل الأمم المتحدة والمصرف الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية.
من ناحية أخرى ، وبصورة متميزة ، تهتم المداخل التفسيرية للدمقرطة بالتفاعلات عبر القومية ، أي العلاقات بين المجتمعات ضمن أنواع مختلفة من الفضاءات السياسية، منها العمليات الاقتصادية والمالية العالمية والإعلام العالمي وشبكات الاتصال العالمية.
تتضمن هذه التفاعلات أيضاً تحالفات عالمية بين المنظمات غير الحكومية، حيث يوجد عدد كبير من التجمعات العالمية للمنظمات غير الحكومية مثل منظمة السلام الأخضر ومنظمة العفو الدولية والصليب الأحمر والمجلس العالمي للكنائس وغيرها ، ويتعين على أي تفسير لعمليات الدمقرطة أن يأخذ في الاعتبار السلوكيات الدولية وعبر القومية الناتجة عن هذه التفاعلات السياسية العالمية.
لقد أدت العلاقات الاقتصادية الدولية وعبر القومية بين البلدان الصناعية المتقدمة وبلدان أمريكا اللاتينية التابعة إلى تأخير عملية التصنيع في أمريكا اللاتينية وإلى عدم نمو الطبقة العاملة الحضرية، مما أدى إلى إضعاف القوى المؤيدة للديمقراطية. كذلك، قد تؤدي الحرب إلى فرض الديمقراطية على البلدان المهزومة في بعض الحالات، وقد تؤدي، من ناحية أخرى، إلى تعزيز جهاز الدولة في مواجهة القوى الطبقية والاجتماعية مما يهدد عملية الدمقرطة.(Huntington, 1991, P.66).
تمثل الضغوطات الدولية المناصرة للديمقراطية عاملاً تفسيرياً مهماً، فلقد بدأت الأطراف الخارجية القوية مثل الولايات المتحدة الأمريكية والمصرف الدولي في تشجيع الديمقراطية الليبرالية في آسيا في ثمانينيات القرن العشرين (بعكس تجاهلها لذلك الأمر في العقود السابقة لذلك). ولقد أدى ذلك إلى الضغط على نظم الحكم التسلطية المعتمدة على هذه الأطراف الخارجية لتوفير القروض والإعانات والتبادلات التجارية.
ثالثاً: أنماط عمليات التحول الديمقراطي :
________________________________________
تؤثر العمليات والتفاعلات والعوامل والقوى السياسية على ديناميات التحول الديمقراطي ، وعلى أنماط عمليات الدمقرطة ، في مختلف البلدان التسلطية. بحسبان أن عمليات التحول الديمقراطي قد اتخذت مسارات مختلفة بإختلاف النظم التسلطية ، يتعين الاهتمام بكيفية تأثير خصائص النظم التسلطية على عمليات الانتقال إلى الديمقراطية، وتفسير كيفية تأثير إختلاف أشكال هذه النظم على المسارات التي اتخذتها.
تصنف الأدبيات النظم التسلطية إلى نظم الدكتاتورية الفردية أو الشخصية ونظم الحزب الواحد والنظم العسكرية. في النظم العسكرية، يحدد مجموعة من الضباط من يحكم ويمارسون نفوذاً كبيراً على محتوى واتجاه السياسة العامة. أما في نظم الحزب الواحد، فيهيمن حزب واحد على المناصب السياسية ويسيطر على عملية تحديد محتوى واتجاه السياسة العامة. وتختلف النظم التسلطية الفردية (الشخصية) عن هذين النظامين في أن الوصول إلى المناصب السياسية والامتيازات التي تتضمنها يعتمد، إلى حد كبير، على ما يقرره الحاكم الفرد. قد يكون هذا الحاكم ضابطاً عسكرياً أو أن يكون زعيماً لحزب سياسي. إلا أن القوات المسلحة والحزب الواحد لا يملكان سلطة مستقلة لاتخاذ القرار وتحديد مسار السياسة العامة بمعزل عن أهواء الحاكم الفرد.( Geddes, 2003, P.50)
أحد أهم الأسباب التي تجعل من الصعب تفسير عمليات التحول الديمقراطي في النظم التسلطية أن هذه النظم تتفكك بطرق مختلفة. نظراً لأن النظم التسلطية تختلف عن بعضها البعض بنفس درجة إختلافها عن النظم الديمقراطية، فإن هذه الاختلافات تؤدي إلى التأثير على كيفية وسرعة ونمط انهيارها وتحولها. إنها تعتمد على جماعات مختلفة لشغل المناصب السياسية، وتستند على تأييد قطاعات مختلفة من المجتمع، كما أن لها إجراءات مختلفة لاتخاذ القرار، وأشكال متباينة من التنافس والانقسام الداخلي، وطرق مختلفة لاختيار القادة وتحديد كيفية استخلافهم، وأساليب متنوعة للاستجابة للمطالب والمعارضة الشعبية.
الراهن، يتطلب فهم العمليات والتفاعلات السياسية في النظم التسلطية التركيز على الصراعات والعلاقات داخل الجماعات التي يتكون منها النظام التسلطي: ضباط القوات المسلحة، كوادر الحزب الواحد، الزمر المحيطة بالحاكم الفرد، أو أي مزيج من هذه العناصر. في كثير من الأحيان، تتم معظم العمليات والتفاعلات السياسية - أي الصراع على السلطة وتوزيع الغنائم وتحديد محتوى واتجاه السياسة العامة- داخل الجماعات الحاكمة ذاتها. من ناحية أخرى ، يتأثر النظام التسلطي، بصورة حاسمة أحياناً، بالتحديات التي تأتي من خارج التحالف الحاكم ، الداخلية منها والخارجية. (Ibid., PP. 48- 50)
ويميز هنتنجتون (1991) بين أربعة أنماط أو أشكال لعملية التحول الديمقراطي في النظم التسلطية:
1. التحول (Transformation)، عندما تتم عملية الانتقال الديمقراطي أساساً بمبادرات من النظام التسلطي ذاته، وبدون تدخل من جهات أخرى.
2. التحول الإحلالي (Transplacement)، عندما تتم عملية التحول الديمقراطي أساساً عن طريق مبادرات مشتركة بين النخب الحاكمة والنخب المعارضة.
3. الإحلال (Replacement)، عندما تنتج عملية الدمقرطة أساساً عبر الضغوط والمعارضة الشعبية.
4. التدخل الأجنبي (Foreign Intervention)، عندما تحدث عملية الدمقرطة نتيجة لتدخلات وضغوطات أطراف أجنبية.
1. نمط التحول :
عادة ما يكون التحول عملية طويلة نسبياً، وتحدث عندما يقرر نظام الحكم التسلطي، وبدون ضغوطات قوية من قوى المعارضة أو من المجتمع ككل، وبعد جدل داخلي، أن من مصلحته إدخال تغييرات وإصلاحات سياسية. قد يؤدي هذا النمط من عملية الدمقرطة إلى احتفاظ القوات المسلحة بحق الاعتراض (الفيتو) على الترتيبات السياسية المستقبلية وإيقافها. وفي أحسن الأحوال، تتمثل النتيجة الأكثر احتمالاً لهذا الشكل من التحول الديمقراطي في قيام ديمقراطية محدودة تتميز باستمرار الهيمنة السياسية لعدد صغير نسبياً من النخب، وغالباً ما تحتفظ النخب المسيطرة في النظام التسلطي بسيطرتها على السلطة والقوة في الترتيبات الجديدة. ولقد كان ذلك النمط الغالب لعمليات الانتقال الديمقراطي في العديد من بلدان أمريكا اللاتينية وبعض البلدان الآسيوية.
الأمر الجوهري في هذا النمط من عملية الانتقال الديمقراطي أن الحكام التسلطيين لا يتنازلون طوعاً عن السلطة والقوة، كما أنهم غبر مستعدين، بصفة عامة، لتعديل نظام الحكم إذا كان ذلك يهدد سيطرتهم على السلطة. الأهم من ذلك، إن القرارات المتعلقة بتبني المؤسسات الديمقراطية الأساسية يتخذها المسيطرون على السلطة مدفوعين أساساً بمصالحهم الخاصة، الشخصية والجماعية. (Lijphart & Waisman, 1996).
2. نمط التحول الإحلالي :
يستند هذا النمط على الدور الذي تلعبه النخب السياسية داخل النظام التسلطي وخارجه (قوى المعارضة) في عملية التحول الديمقراطي. يرى دايموند أن "الاشتراط المطلق الوحيد للتحول الديمقراطي (إلى جانب الاحتلال الأجنبي والفرض الخارجي) التزام النخبة الإستراتجية بعملية الدمقرطة.." (Diamond, 1993, P.58) أما لينز وستيبان فيؤكدان على الدور المهم للابتكار السياسي والمهارة القيادية للنخب السياسية في عملية الانتقال الديمقراطي. (Linz & Stepan, 1978 ) ويركز المدخل الانتقالي على دور النخبة الإستراتجية عندما تدرك النخبة الحاكمة والنخبة المعارضة أن لها مصلحة مشتركة في التحرك في مسار يؤدي إلى ديمقراطية محدودة ضمن نمط التحول الإحلالي، وعادة ما يكون الهدف من هذا التحرك حل خلافات النخب وتدعيم نفوذها وتوجيه الفعل السياسي بما يلائم مصالحها. (Haynes, 2001, P. 23 )
يتمثل العامل الحاسم لإنجاح عملية التفاوض في تنسيق جهود العناصر الإصلاحية داخل النظام التسلطي والعناصر المعتدلة بين قوى المعارضة وقدرتها على الوصول إلى اتفاق عام حول نتائج محددة. من الضروري في هذا النمط ألا تتعرض مواقع النخب المهيمنة في النظام التسلطي، مثل كبار ضباط القوات المسلحة وكبار ملاك الأراضي، للخطر في النظام الجديد. كذلك من المهم، لضمان الاستقرار السياسي بعد المرحلة الانتقالية، دمج النخب ضمن إطار مستقر من المؤسسات الديمقراطية الفعالة التي لا تهدد مصالح هذه النخب، لأنه إذا لم تشعر النخب بأن النظام الجديد يحمي مصالحها، فإنها لن تقبل شرعيته وسوف تبذل ما في وسعها لتقويضه. (Shin, 1994)
مثلما هو الحال بالنسبة للنمط التحولي، فإن الخيارات التي يقوم بها الفاعلون السياسيون الأساسيون جوهرية ومهمة في نمط التحول الإحلالي، ولنفس الأسباب، أي ضمان أن الترتيبات السياسية الجديدة تعمل لصالح النخب الحالية، داخل النظام وخارجه. من ناحية أخرى، فإن قدرة النظام التسلطي القائم على التحكم في عملية الانتقال في نمط التحول الإحلالي أقل من قدرته في النمط التحولي. وفي الوقت الذي قد تتباين طبيعية الاتفاقات والمواثيق بين النخبة الحاكمة والنخبة المعارضة ، فإنها تعكس دائماً تسويات مستقرة وثابتة نسبياً بين النظام التسلطي والمعارضة.
ويتم التعبير عن هذه التسويات في شكل مؤسسات وترتيبات سياسية تسمح لنخب النظام التسلطي بالاحتفاظ بدرجة كبيرة من القوة والسلطة ضمن إطار الحكم الديمقراطي الجديد . في الواقع، غالباً ما تتعاون النخب في الديمقراطيات الجديدة من أجل ضمان أكبر مصلحة خاصة ممكنة ، مما يعني أنه حتى إذا انتقلت القوة والسلطة إلى مجموعة مختلفة من النخب، فإن بنية القوة والسلطة السابقة تستمر، وبصورة مهمة ، في تشكيل محتوى واتجاه عملية الترسيخ الديمقراطي. (Shin, 1994)
عادة ما يكون الحافز الرئيس لهذا النمط من عملية الانتقال الديمقراطي بروز دلائل على تدهور سلطة النظام التسلطي وتحرك قوى المعارضة لاستغلال هذا التدهور. بحسبان أن النخب المعارضة لا تتمتع بالقوة الكافية التي تمكنها من فرض التغييرات التي ترومها، وبحسبان أن سلطة وقوة النظام التسلطي قد تدهورت بالدرجة التي لا تمكنه من قمع المعارضة بصورة حاسمة ، يدرك المصلحون داخل النظام التسلطي، والمعتدلون بين قوى المعارضة ، أنه لا سبيل للخروج من الأزمة إلا عبر التفاوض والتوصل إلى تسويات وترتيبات تضمن استقرار النظام ، وتضعه على مسار الدمقرطة، وتحمي مصالح هذه النخب في الوقت نفسه. (Przeworski, 1991, P.85)
الراهن، لن يحدث أي تقدم تجاه الترسيخ الديمقراطي، وفقاً لنمط التحول الإحلالي، إلا إذا تضمنت المرحلة الانتقالية مفاوضات واتفاقات بين نخب النظام التسلطي ونخب المعارضة. بيد أن هناك احتمالاً قوياً لأن يؤثر ذلك سلبياً على الديمقراطية. مرد ذلك أن الاستقرار المستقبلي مؤسس على منح ضمانات للنخب الحاكمة القديمة لحماية امتيازاتها ولمنع أية مساءلة عن أية جرائم خلال الحكم التسلطي. بالتالي، فإن الاتفاقات والمواثيق بين النخب الحاكمة والنخب المعارضة قد تقود إلى ديمقراطيات محدودة.
3. نمط الإحلال :
ترجع أسباب وجذور النمط الإحلالي، في الغالب، إلى حدوث أزمة وطنية خطيرة لا يستطيع النظام التسلطي حلها، وتؤدي إلى حدوث تعبئة جماهيرية واسعة النطاق ضد النظام. ويمثل هذا النمط نوعاً من عملية الانتقال والتحول التي لا تهيمن عليها النخب. بدلاً من ذلك، يأتي التغيير أساساً، على الأقل في بداياته، من الضغوطات المنبثقة من القاعدة الشعبية، وتُرغم النخب على الخضوع للإرادة الشعبية. بعبارة أخرى، فإن المطالب الشعبية هي التي تؤسس وتحرك هذا النمط من عملية الانتقال، وليس المواثيق بين النخب. (Linz, 1990, P.152)
من غير المحتمل أن يؤدي هذا النمط من الانتقال - حيث يؤدي الضغط الشعبي إلى إرغام النخب الحاكمة على التخلي عن السلطة- إلى عملية دمقرطة مستقرة. مرد ذلك أن عدم وجود اتفاقات ومواثيق خلال مرحلة الانتقال يمثل عقبة كبيرة أمام بروز أجواء الاعتدال والتصالح الضرورية لعملية ترسيخ الديمقراطية والمميزة لها. (Bratton & van de walle, 1994)
الراهن، إنه من غير المحتمل أن يؤدي تغيير النظم التسلطية عن طريق التعبئة الجماهيرية والضغوط الشعبية إلى قيام نظم ديمقراطية ليبرالية مستقرة. على العكس، فهناك احتمال لأن تنتكس النظم الجديدة وتحل محلها أشكال جديدة من النظم التسلطية. (Huntington, 1991)
4. نمط التدخل الأجنبي :
يحدث هذا النمط من عملية الانتقال نتيجة لتدخل قوى أجنبية. ومن أمثلة هذا النمط التدخل الأمريكي في هايتي وبنما والصومال خلال تسعينيات القرن العشرين وفي العراق حالياً. إضافة إلى التدخل العسكري المباشر، كان نفوذ البلدان والمؤسسات الدولية المانحة للإعانات الاقتصادية قويا ومؤثراً في قرارات التحول الديمقراطي في بعض النظم التسلطية الفقيرة. فخلال ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين تدنت قدرات هذه البلدان الفقيرة على الحفاظ على برامج وسياسات محفزة للتنمية الاقتصادية، وأصبح الكثير منها يعتمد بصورة متزايدة على إعانات وقروض البلدان الغربية والمؤسسات الدولية المانحة التي طالبت البلدان الفقيرة بالشروع في عملية الدمقرطة كجزء من برنامج متكامل للحكم الصالح الرشيد، وربطت استمرارية الإعانات الخارجية بموافقة النظم التسلطية على البدء في عمليات الدمقرطة والإصلاح السياسي. بالإضافة إلى ذلك، وفي مسار موازٍ، شجعت البلدان الغربية والمؤسسات الدولية هذه البلدان على وضع سياسات وبرامج اقتصادية متوافقة مع نظام السوق والليبرالية الاقتصادية. وقع الحال أنه، من خلال ضغوطات البلدان والمؤسسات الدولية المانحة، تم الضغط على النظم التسلطية للتحرك في اتجاه الليبرالية الاقتصادية والسياسية والديمقراطية الليبرالية، فيما أصبح يعرف بالمشروطية الاقتصادية والمشروطية السياسية. (Joseph, 1998, P. 10).
بيد أن الفاعلين الخارجيين، مهما كانت درجة قوتهم الاقتصادية والسياسية والعسكرية، لا يستطيعون فرض خياراتهم السياسية، ولمدة طويلة، على بلدان لا ترغب في ذلك. قد يؤدي التدخل الأجنبي إلى تغيير التوازن لصالح عملية الدمقرطة، غير أن الديمقراطية لن تترسخ وتزدهر إلا عندما تتوفر اشتراطات وعوامل داخلية محددة.
ويمكن التدليل على ذلك من تجربة البرتغال وأسبانيا واليونان التي تحولت إلى نظم ديمقراطية راسخة بصورة سريعة خلال سبعينيات القرن العشرين . ففي الوقت الذي كان الدعم والتشجيع الخارجي، خاصة من الجماعة الأوربية، مهماً ومؤثراً، فإن ترسيخ الديمقراطية اعتمد أساسا على الاتفاق العام والإجماع الداخلي على تفضيل الديمقراطية على أية ترتيبات سياسية أخرى ، وعلى غياب أية انقسامات إثنية أو دينية أو طبقية خطيرة . يوحي عدم توفر هذه الاشتراطات والعوامل في معظم بلدان أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا بأن ترسيخ الديمقراطية سوف يكون أمراً صعباً وشاقاً.
على الرغم من وجود العديد من الأمثلة المعاصرة عن قيام الفاعلين الخارجين بتشجيع وتدعيم التحول الديمقراطي، سواء عن طريق التدخل العسكري المباشر أو عن طريق الإعانات الاقتصادية، فإن هناك أدلة قليلة على أن لهذه المبادرات تأثيراً قوياً على النواتج السياسية النهائية. (Haynes, 2001, P. 27).
تبين الأنماط المختلفة لعمليات التحول الديمقراطي أن المسارات التي اتخذتها المجتمعات المختلفة للوصول إلى الديمقراطية تختلف بشكل كبير. ففي بعض المجتمعات كانت الدمقرطة، في الغالب، نتاجاً لتطورات داخلية، وتقدم المملكة المتحدة النموذج الرئيس لما أطلق عليه "النموذج الخطى" للتطور من الحقوق المدنية إلى الحقوق السياسية ثم الحقوق الاجتماعية، والتطور التدريجي للهيمنة البرلمانية والحكومة الوزارية والتوسع التدريجي لحقوق التصويت والانتخاب عبر قرن من الزمن. (Huntington, 1984, PP.210- 211) وهناك حالات مماثلة أخرى مثل سويسرا وأستراليا ونيوزيلندا.
في أماكن أخرى، كانت العوامل الخارجية مؤثرة، وأحياناً حاسمة، خاصة بعد الهزيمة في حرب. ولقد حدث ذلك في العديد من البلدان الأوربية بعد 1918 وفي اليابان بعد 1945، حيث فرضت الولايات المتحدة الأمريكية المؤسسات والعمليات الديمقراطية الليبرالية. إضافة إلى ذلك، وحتى بدون الهزيمة في حرب، شرعت بعض البلدان الأفريقية في عمليات الدمقرطة نتيجة للضغوط الخارجية، والتي لم يكن من المحتمل، بدونها، أن تحدث عملية التحول الديمقراطي في هذه البلدان وبهذه السرعة.
في مجتمعات أخرى، كانت المفاوضات بين مختلف النخب أكثر تأثيراً من الضغط الخارجي، كما حدث في أمريكا اللاتينية في ثمانينيات القرن العشرين . وتعطي حالة جنوب أفريقيا مثالاً واضحاً عن ذلك، فعلى الرغم من أن المناقشات الجوهرية والعلنية حول البنية الدستورية والسياسية المستقبلية لجنوب أفريقيا لم تبدأ إلا بعد 1990، فإن الوثائق والمعلومات المتوفرة تبرز أهمية المفاوضات السرية بين مانديلا وقيادات المؤتمر الوطني الأفريقي من جانب ومسؤولي ووزراء حكومة جنوب أفريقيا من جانب آخر ما بين 1986 و1990، عندما كان مانديلا ما زال سجيناً.
ولكن ينبغي إدراك الدور القوي الذي لعبته المقاومة الداخلية والحرب الخارجية والعزلة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الدولية، والتي جعلت هذه المفاوضات ممكنة ومرغوبة، لأنها أدت بصورة تدريجية وثابتة إلى تقليص منافع وتعظيم تكاليف المحافظة على النظام العنصري غير الديمقراطي للأقلية البيضاء. ( Potter et al., 1997, ch.12) كذلك كانت المفاوضات عاملاً مهماً في أوربا الشرقية، إلا أن بدء عملية الدمقرطة كان متوقفاً على تخلي الاتحاد السوفييتي عن سيطرته على تلك المنطقة.
باختصار ، تبين الأدلة المقارنة أن القوى والأدوات الرئيسة للدمقرطة كانت احياناً داخلية في الأساس ، وفي حالات أخرى كانت أساساً خارجية. وفي الغالب كانت هناك عوامل داخلية وخارجية في تركيبات متنوعة. وفي كل حالة كان هناك مزيج مختلف من العوامل التفسيرية : التنمية الاقتصادية ، التقسيمات الاجتماعية، الدولة والمؤسسات السياسية ، المجتمع المدني ، الثقافة السياسية ، الارتباطات الدولية وعبر القومية . لذا يمكن القول إن أنماط الدمقرطة ، ومختلف أشكال الديمقراطية الناجمة عنها ، كانت دائماً نتاجاً للطرق المعينة لامتزاج وتفاعل هذه العوامل ، وأدى ذلك إلى اختلاف احتمالات وتوقعات ترسيخ الديمقراطية في هذه النظم المختلفة .
رابعاً: العوامل المؤثرة في ترسيخ الديمقراطية :
________________________________________
تميز الأدبيات العامة للدمقرطة بين عمليات التحول الديمقراطي من جانب والترسيخ الديمقراطي من جانب آخر، فحدوث التحول الديمقراطي أمر، واستمرار وتعزيز الديمقراطية أمر آخر تماماً. كان منظرو المدخل الانتقالي، وخاصة الدراسات التي ركزت على أمريكا اللاتينية، الأكثر انشغالاً بقضايا التعزيز الديمقراطي، ومرد ذلك أساساً نشوء وانهيار النظم الديمقراطية في تلك القارة قبل بدء "الموجة الثالثة". بيد أن المداخل الأخرى تقر كذلك بهذا التمييز. يرى أنصار المدخل البنيوي ضرورة التمييز بين اشتراطات إنشاء الديمقراطية واشتراطات المحافظة عليها وترسيخها. (Rueschemeyer et al., 1992. P. 76) من ناحية أخرى، يجادل ليبست بأنه يجب مأسسة وتعزيز وشرعنة الديمقراطيات الجديدة. (Lipset, 1994, P. 7).
يمكن اعتبار أن الديمقراطية قد ترسخت في بلد ما عندما يقبل جميع الفاعلين السياسيين الأساسيين حقيقة أن العمليات الديمقراطية هي التي تحدد وتملى التفاعلات التي تتم في النظام السياسي. أي يمكن القول إن الديمقراطية قد تعززت عندما يسعى الأفراد والجماعات لتحقيق مصالحهم استناداً على قواعد وترتيبات مؤسسية تعطي للأفراد والجماعات إمكانية السيطرة على عملية اتخاذ القرارات ووضع السياسة العامة عبر التنافس الانتخابي. (Held, 1996, ch. 5).
نجحت الديمقراطية الليبرالية في الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة في الاستمرار وتجاوز آثار فترة الثلاثينيات من القرن العشرين، على الرغم مما تعرضت له الترتيبات المؤسسية من ضغوط بسبب الأزمة الاقتصادية والتوترات الاجتماعية والسياسية لتلك الفترة. إلا أن هذا النجاح كان حالة نادرة مقارنة بانهيار النظم الديمقراطية في أمريكا اللاتينية خلال القرن الماضي، والنمط العام لانهيار الديمقراطية بعد 1960 في العديد من المستعمرات السابقة التي نالت استقلالها على أسس ديمقراطية مع بداية "الموجة الثانية" للديمقراطية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. (Huntington, 1991) كذلك حدثت انتكاسات عديدة للموجة الثالثة للديمقراطية، خاصة في أفريقيا جنوب الصحراء.
الراهن، إن تأسيس نظم سياسية ديمقراطية في بعض البلدان لا يعني بالضرورة أن الديمقراطية سوف تتعزز في هذه البلدان. لذلك من المناسب التساؤل عن فرص بقاء الديمقراطيات المتأسسة حديثاً وما هي العوامل المؤثرة في ترسيخ الديمقراطية بها. تبرز أدبيات الدمقرطات خمسة عوامل ذات تأثير قوي علي التعزيز الديمقراطي. ( Leftwich, 1997, PP.524- 531).
1. الشرعية :
الشرعية مفهوم صعب التحديد والقياس، خاصة في المجتمعات التسلطية، ولكن على الرغم من المشاكل المفاهيمية للشرعية، فمن الواضح أنه لا يمكن لأي مجتمع ديمقراطي أن يستمر طويلاً بدونها، بمعنى أنه لا يستطيع تعزيز الديمقراطية ما لم يكن يتمتع بشكل من أشكال الشرعية، سواء كانت في شكل قبول سلبي أو قبول إيجابي. (Held, 1996)
بيد أنه يمكن فهم مفهوم الشرعية بصورة أفضل إذا تمت تجزئته إجرائياً إلى ثلاثة مكونات:
الشرعية الجغرافية : وتعني أن أولئك الذين يعيشون ضمن نطاق الدولة يقبلون حدودها الإقليمية أو لا يعارضونها علي الأقل إلا عبر الوسائل الدستورية. إذا لم يحس الأفراد والجماعات بشرعية الإطار الجغرافي للدولة تتعرض العمليات السياسية الديمقراطية للتهديد، وفي الحالات المتطرفة قد يأخذ التهديد شكل حركات انفصالية تحاول تشكيل دولة منفصلة أو الانضمام لدولة أخرى. عندما لا تتوفر للجماعات وسائل ديمقراطية لتحقيق الانفصال، فمن غير المحتمل أن يلتزموا بالعمليات الديمقراطية، ويصبح العنف أمراً حتمياً تقريباً. بالتالي، يصبح من الصعب أن تتم التفاعلات السياسية ديمقراطياً، على الأقل في الأقاليم محل النزاع. وهناك أمثلة كثيرة على ذلك، إقليم الباسك في شمال أسبانيا، أريتريا عندما كانت جزءاً من أثيوبيا، شمال سرلانكا حيث يحارب التأميل من أجل دولة مستقلة، وفي نضال سكان الشيشان من أجل الانفصال عن روسيا، وغيرها من الحالات.
الشرعية الدستورية : وتشير إلى القبول العام للدستور، أي البنية الرسمية للقواعد التي تحدد تنظيم وتوزيع القوة السياسية والتنافس عليها، مع ضرورة الأخذ في الاعتبار الأنواع المختلفة والممكنة للقبول. ويمثل تأسيس القواعد الدستورية أحد أصعب جوانب عملية الدمقرطة بحسبان أن عملية التحول الديمقراطي تفتح المجال لمدى واسع من المصالح المتنوعة والمتعارضة. بعض المصالح قد تكون قوية وتخشى التغيير، والبعض الأخر قد يكون ضعيفاً ويطالب بالتغيير. قد تكون المصالح مصالح اقتصادية (ملاك الأراضي)، مصالح سياسية أو مؤسسية (الأحزاب السياسية أو المجالس التشريعية)، مصالح وظيفية (الإدارات البيروقراطية أو القوات المسلحة، خاصة في أمريكا اللاتينية)، مصالح طبقية (العمال المنظمون، كما في البرازيل)، مصالح إثنية، مصالح إقليمية، أو مزيج من بعض هذه المصالح. وكل مجموعة تسعى لمعرفة كيفية تأثير الترتيبات الدستورية الجديدة على مصالحها وضمان حماية هذه المصالح. ونظراً لسعي الجماعات المختلفة إلى التأثير على شكل الدستور ومحتوياته، فإن المفاوضات والمساوامات عادة ما تكون صعبة وشاقة. هكذا، فإن ترسيخ الديمقراطية يستلزم القبول بشرعية الدستور إلى جانب قبول شرعية الحدود السياسية للدولة.
الشرعية السياسية : وتشير إلى المدى الذي يعتبر المواطنون أن نظام الحكم القائم له الحق، إجرائياً، في تولي السلطة. أي يمكن القول إن الحكومة تتمتع بشرعية سياسية، عندما تعكس نتائج الانتخابات التنافسية تفضيلات الناخبين وفقاً للقواعد والترتيبات الدستورية والمؤسسية.
2. الاتفاق العام (الإجماع) حول قواعد العملية السياسية :
لكي تضمن النظم الديمقراطية بقاءها واستمراريتها يتعين أن يكون هناك اتفاق عام على قواعد العمليات السياسية والالتزام بها، أي الالتزام بالعملية الديمقراطية ذاتها، خاصة بين النخب السياسية. بحسبان أن التفاعلات السياسية الديمقراطية تتضمن تنافساً مفتوحاً على السلطة، فإن العملية السياسية الديمقراطية تتسم بعدم التيقن. وفي الواقع، فإن التحول من الحكم التسلطي إلى الحكم الديمقراطي يعني على وجه التحديد أن الجماعة التي كانت تسيطر على القوة والسلطة (القوات المسلحة في أمريكا اللاتينية، الحزب الواحد في البلدان الشيوعية، البيض في جنوب أفريقيا) لم تعد قادرة على السيطرة على نتائج العمليات والتفاعلات السياسية، مما يزيد من درجة عدم تيقنها من النواتج النهائية للعملية الديمقراطية. (Przeworski, 1986, P.58) ويعني التعزيز الديمقراطي التزام جميع الأطراف بقواعد العمليات السياسية وما تتضمنه من عدم تيقن، وقبول النتائج الناجمة عن هذه العمليات، أي قبول العملية الديمقراطية ذاتها.
3. القيود على محتوى السياسات العامة الجديدة :
من غير المحتمل أن تقبل أية مجموعة قواعد العملية الانتخابية إذا كانت هزيمتها تضر بمصالحها ضرراً كبيراً. يعني ذلك، أنه إذا كان على الخاسرين القبول بنتائج العملية الانتخابية الديمقراطية، فإنه يتعين على الفائزين أن يقبلوا أن هناك قيوداً مهمة على ما يستطيعون فعله بقوتهم الجديدة.
وفقاً لهذا العامل أو الشرط الثالث، يعتمد ترسيخ الديمقراطية على ممارسة الأطراف الفائزة الاعتدال ومراعاة بعض القيود عند وضع السياسات العامة المختلفة. بعبارة أخرى، تزداد احتمالات ترسخ واستقرار الديمقراطيات الوليدة إذا لم تقم النخب الحاكمة الجديدة بوضع سياسات عامة متطرفة ومثيرة للخلاف، خاصة إذا كانت هذه السياسات تهدد بشكل خطير مصالح رئيسة أخرى.
في واقع الأمر، يتم الاتفاق على القيود المفروضة على تغييرات السياسة العامة قبل اكتمال عملية التحول الديمقراطي، أي أثناء المفوضات والمساوامات، وبالتالي فإنها جزء من العملية ذاتها (Huntington, 1991/ 1992, PP. 609- 615). ويبين هذا أنه إذا كان من المهم التمييز بين مرحلة التحول الديمقراطي ومرحلة ترسيخ الديمقراطية، فإنه من المهم أيضاً إدراك أن هناك تواصلاً واستمرارية بين المرحلتين.
بمعنى أن ما يحدث خلال مرحلة الدمقرطة له مترتبات مهمة على ما يحدث بعدها. وتقدم جنوب أفريقيا مثالاً جيداً عن ذلك، حيث كان المؤتمر الوطني الأفريقي حريصاً جداً منذ 1994 على عدم تهديد المصالح الاقتصادية للأقلية البيضاء ومصالح رأس المال بصفة عامة. (Leftwich, 1997, P.529)
الراهن، تفرض ضرورة ترسيخ الديمقراطية وضمان استمرارية النظام الديمقراطي الجديد على النخب الجديدة الاعتدال عند وضع السياسات العامة المختلفة. ينطبق ذلك بصفة خاصة إذا كان هناك ميثاق بين النخب حول وضع قيود على السياسات العامة الجديدة في النظام الديمقراطي الجديد، والتي قد يتم تضمينها في الدستور الجديد. كذلك، فإن ذلك ينطبق إذا كان النظام الديمقراطي الجديد يسعى للحصول على إعانات واستثمارات من البلدان والمؤسسات والشركات الغربية الرئيسة. فقد لا يتم تقديم هذه الإعانات والاستثمارات إذا اعتبرت هذه الأطراف أن سياسات النظام الجديد متطرفة وتعرقل أداء وعمليات السوق الحرة، مما يعكس الأهمية المستمرة للعوامل الخارجية حتى بعد استكمال عملية الدمقرطة.
من ناحية أخرى، وفي الوقت الذي يبدو أن القيود على السياسات العامة تمثل شرطاً إجرائياً مهماً لترسيخ الديمقراطية، فإنه ليس بالأمر الذي تحبذه كل النظم الديمقراطية الجديدة أو تستطيع ضمانه بسهولة دائماً، وذلك وفقاً لأوضاعها السياسية الداخلية، ووفقاً للضغوطات والاشتراطات والتوقعات الخارجية.
4. أثر الوضع الاقتصادي (الفقر) على ترسيخ الديمقراطية :
كان من النادر، قبل انطلاق الموجة الثالثة للديمقراطية، أن توجد نظم ديمقراطية راسخة في البلدان الفقيرة جداً. على العكس من ذلك، كان هناك ارتباط إيجابي قوي بين مستوى الثروة الاقتصادية وبين الديمقراطية، وتمثل الهند الاستثناء المهم الوحيد بين الديمقراطيات الليبرالية. بيد أن هذا لا يعني أن المجتمعات الأكثر ثراءً قادرة، بصورة آلية، على ترسيخ الديمقراطية (Huntington, 1984, PP. 198- 199; Lipset et al., 1993, P. 156)
تبين الأدلة الإمبيريقية أن معظم المجتمعات النامية التي يقل متوسط دخل مواطنيها عن 600 دولار في السنة لم تنجح في ترسيخ الديمقراطية الليبرالية قبل 1990، باستثناءات قليلة. مقارنة بذلك، فإن البلدان النامية التي تمكنت من ترسيخ الديمقراطية، مثل فنزويلا وكوستاريكا وغيرها، حققت متوسط دخل فردي يتجاوز 600 دولار في السنة. (World Bank, 1995).
من أهم الأسباب التي تجعل الفقر الشديد عاملاً معرقلاً للترسيخ الديمقراطي، أن الصراع على الموارد النادرة والامتيازات الضخمة التي قد تضمنها السيطرة الكاملة على الدولة في البلدان الفقيرة يجعل الديمقراطية أمراً غير محتمل، بحسبان أن القابضين على مقاليد السلطة يترددون في الدخول في تسويات ولا يرغبون في التخلي عن السلطة، وبالتالي قد يقومون بتعليق العمليات والمؤسسات الديمقراطية الوليدة لضمان البقاء في السلطة. كذلك، فإن الفقر يكون مصحوباً عادة بمستويات عالية نسبياً من الأمية، ومستويات منخفضة من التعليم الرسمي وتخلف وسائل الاتصال، وجميعها لم تقترن، تاريخياً، مع الديمقراطيات المستقرة الراسخة.
في الوقت الذي حدث فيه التحول الديمقراطي في عدد كبير من البلدان الفقيرة بعد 1990، مما قد يعني التقليل من أهمية الارتباط الإيجابي بين الثراء والديمقراطية، فإن الأمر لم يحسم بعد، لإنه إذا فشلت هذه البلدان في ترسيخ الديمقراطية في القرن الحادي والعشرين يكتسب افتراض اقتران الديمقراطية بالثراء والتنمية الاقتصادية زخماً واهتماماً جديداً. أما إذا تمكنت البلدان الفقيرة من ترسيخ نظمها الديمقراطية فإن أهمية هذا الاقتران سوف تنحسر بسرعة.
5. أثر الصراعات الإثنية والثقافية والدينية على ترسيخ الديمقراطية :
تبين الأدلة أن الاختلافات الإثنية والثقافية والدينية (خاصة إذا تداخلت مع عدم المساواة الاقتصادية بين الجماعات) تجعل من الصعب الشروع في عملية التحول الديمقراطي وفي ترسيخ الديمقراطية.
بالطبع ليس من المستحيل التغلب على هذه الاختلافات في الديمقراطيات الراسخة، كما هو الحال في سويسرا وكندا وبلجيكا. إلا أن ذلك يتطلب أن يتم تصميم الترتيبات الدستورية بدقة وبحرص والتوصل إلى مواثيق واتفاقات بين النخب السياسية حتى يمكن الحفاظ على استمرارية النظام الديمقراطي وربط مختلف الجماعات بالبنى المؤسسية للديمقراطية. أما في حالة عدم توفر هذه الأوضاع والشروط الموازنة، فإن هذه الانقسامات والاختلافات لا تجعل من السهل الحفاظ على الديمقراطية وترسيخها، فلقد كان من أهم أسباب انهيار الديمقراطية في أوربا في فترة ما بين الحربين العالميتين في القرن العشرين الصراعات القومية والإثنية التي هيمنت على تلك الفترة.
كما أن الصراعات الإثنية والدينية والثقافية والقومية في أفريقا وآسيا ويوغسلافيا السابقة كانت من أهم العوامل المعرقلة للتحول والترسيخ الديمقراطي في البلدان التي اتسمت بحدة وعنف هذه الصراعات.(Leftwich, 1997, P. 531)
الراهن، يمكن أن يؤدي الصراع الإثني أو الديني أو القومي أو الثقافي الحاد إلى تقليص فرص خلق إجماع واتفاق عام حول العمليات والترتيبات السياسية الديمقراطية. في مثل هذه الأوضاع، تمثل هذه الاختلافات الإطار المرجعي للتعبئة السياسية، غالباً بمترتبات مضادة للديمقراطية. وربما أنه لا يمكن ترسيخ العمليات السياسية الديمقراطية إلا إذا اقتصرت أهمية وتأثير الولاءات الإثنية والدينية والثقافية على المجال الخاص، وإذا انتشرت قيم الالتزام بمواطنة عامة ومشتركة.
ملاحظات ختامية :
________________________________________
يسود الاعتقاد في معظم أدبيات الدمقرطة بأن عمليات التحول الديمقراطي الناجحة تحدث عن طريق المواثيق التي تتفق عليها النخب السياسية، خاصة المصلحون في النظام التسلطي والمعتدلون بين قوى المعارضة. تؤكد هذه العملية - المقيدة بالحاجة إلى مقايضات وتسويات وحماية حقوق الملكية ومصالح القوات المسلحة- على الدور الحاسم للنخب والقيادات السياسية في المبادرة بالتحول الديمقراطي. إلا أن نتائج هذه العملية غالباً ما تكون تأسيس ديمقراطية محدودة، إجرائية ومحافظة، بدلاً من أن تعمل على إدخال تحولات جذرية في المجتمع.
إذا أردنا تقييم مدى احتمالية بروز أشكال ديمقراطية مستقرة وراسخة من نمط التعاون بين النخب الحاكمة والمعارضة، وما يتضمنه من مواثيق واتفاق عام واعتدال وتغيير تدريجي، أم من نمط المعارضة والثورة والصراع والتغير السريع، فإنه يمكن استنتاج أن بروز أشكال ديمقراطية مستقرة وراسخة أكثر احتمالاً وتوقعاً في حالة هيمنة النمط الأول من الدمقرطة، لأنه يمنح النخب السياسية فترة زمنية للتعود على الترتيبات السياسية الديمقراطية الجديدة ويعزز احتمالية استمرارها وتجذيرها.
بعبارة أخرى، تتزايد احتمالات التعزيز الديمقراطي عندما توجد ظروف وأوضاع أساسية داعمة - التعاون، الاتفاق العام، التغيير التدريجي المعتدل- وعندما يوجد عدد كافٍ من الفاعلين السياسيين الذين يعطون أولوية عالية للقيم والأهداف والترتييبات الديمقراطية. والذين يملكون المهارات اللازمة لتفعيلها. وفي حالة غياب هذه الأوضاع والظروف تتضاءل احتمالات الترسيخ الديمقراطي. ويبرز ذلك أهمية العلاقة التفاعلية بين البنية والفعل الإنساني، فالنواتج الديمقراطية لا ترتبط بمجموعة من العوامل البنيوية فحسب، بل ترتبط أيضاً بالقرارات التي يتخذها الفاعلون السياسيون. ففي الوقت الذي تؤثر فيه البنى السياسية والاجتماعية على المسارات الديمقراطية، فإن فهم هذا المسارات يتطلب تحليل دور الفاعل الإنساني وتفاعله مع البني السياسية والاجتماعية في سياقات وحالات مختلفة.
تتسم عملية الدمقرطة بوجود جماعات ذات مصالح متباينة وأهداف متعارضة، وبحسبان عدم إمكانية تحقيق هذه الأهداف معاً وفي وقت متزامن، يصبح من الضروري وجود مقايضات وخيارات صعبة. إلا أن القيام بهذه المقايضات والخيارات ضمن سياق عمليات وتفاعلات سياسية ديمقراطية ليس بالأمر الهين على الإطلاق، بيد أنه لم يزعم أحد أن الديمقراطية أمر سهل.
http://www.jadalonline.net/vb/showthread.php?t=101
مقدمة
تمثل عمليات المقارنة محور جهود علم السياسة بصفة عامة، وحقل السياسة المقارنة بصفة خاصة، لصياغة نظريات تفسيرية عامة حول الظواهر السياسية المختلفة. ضمن هذه التقاليد، واجه حقل السياسة المقارنة أكبر تحدياته عند دراسة عمليات سياسية عديدة ومتشابكة في مجتمعات مختلفة، وعبر فترات تاريخية متباينة، وضمن سياقات متنوعة. كذلك، كان هناك انشغال دائم بضرورة إيجاد توازن بين الوقائع الإمبيريقية والفهم النظري، والربط بين معطيات الواقع والتحليل التفسيري. ويعتبر هذا الترابط الضروري بين الأدلة الإمبيريقية والتفسيرات النظرية أمرا جوهريا لحقل السياسة المقارنة، فبدون أدلة موثوقة لن يتيسر أساس للمقارنة وصياغة واختبار النظريات التفسيرية، وبدون نظريات تفسيرية وأطر تحليلية يصبح البحث عن الأدلة عملا عشوائيا واعتباطيا.
تركز هذه الدراسة على إحدى الظواهر السياسية الرئيسة في زمننا هذا، الديمقراطية والإصلاح السياسي. تهدف هذه الدراسة ، أساسا ، إلى استعراض الأدبيات التي تناولت هذا الموضوع والمداخل النظرية التي وظفتها والتفسيرات التي قدمتها. بحسبان أن أدبيات الديمقراطية والإصلاح السياسي متشبعة ومتنوعة وتغطي مواضيع وقضايا متباينة، وبحسبان أن هذه الدراسة، بطبيعة السياق المقدمة فيه، لا تستطيع أن تتناول كل القضايا وجميع المواضيع التي اهتمت بها هذه الأدبيات ، كان من الضروري التركيز على عدد محدود من هذه القضايا والمواضيع التي يعتقد معد هذه الدراسة أنها الأكثر أهمية للديمقراطية والإصلاح السياسي ، الأمر الذي قد لا يتفق معه الكثير من المتخصصين والباحثين. ولكن هكذا هي طبيعة الاختيار في القضايا الاجتماعية والسياسية التي تستند في جانب كبير منها على معايير وتفضيلات ذاتية لا يمكن التخلص منها ولا يجوز تجاهلها.
مثلت عمليات الدمقرطة أو التحول الديمقراطي الظاهرة العالمية الأهم خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين. قبل ذلك، كان هناك عدد قليل من النظم الديمقراطية في أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا والشرق الأوسط. بدلا من ذلك، كانت الساحة السياسية مليئة بأشكال مختلفة من نظم الحكم غير الديمقراطية التي تشمل نظماً عسكرية ونظم الحزب الواحد ونظم الدكتاتوريات الفردية الشخصية.
في منتصف سبعينيات القرن العشرين شهد العالم ما أصبح يعرف بالموجة الثالثة للديمقراطية التي بدأت في البرتغال وأسبانيا واليونان منذ 1974، ثم انتشرت إلى أمريكا اللاتينية وبعض أجزاء آسيا خلال ثمانينيات القرن العشرين، وامتدت إلى أوربا الشرقية والاتحاد السوفييتي وبعض أجزاء أفريقيا في أوخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن الماضي (Huntington, 1991). الملفت للنظر أن منطقة الشرق الأوسط بصفة عامة، والمنطقة العربية خصوصا، كانت الأقل تأثراً بهذه الموجة.
أثار هذا التباين في عمليات التحول الديمقراطي مجموعة من التساؤلات حول العوامل والأسباب التي تجعل هذه العملية أكثر انتشاراً في بلدان وأقاليم معينة ، وأقل انتشاراً في بلدان وأقاليم أخرى .
للإجابة على هذه التساؤلات تم تطوير مجموعة من المداخل النظرية التي حاولت تقديم تفسيرات لأنماط التحول الديمقراطي ، وعوامل وأسباب التماثل والتباين في عمليات الدمقرطة في مختلف البلدان والأقاليم.
من ناحية أخرى، يبدو من البيانات الإمبيريقية أن الديمقراطية ومؤسساتها قد ترسخت في حوالي ثلث الديمقراطيات الجديدة. فما سبب هذا المعدل المنخفض من تعزيز الديمقراطية؟ هل يرجع السبب إلى أنه لم يمر وقت كافٍ منذ بدء عملية الانتقال الديمقراطي؟ يمكن مقارنة هذه الديمقراطيات الجديدة بديمقراطيات جنوب أوربا الثلاثة - البرتغال، أسبانيا، اليونان- التي استهلت الموجة الثالثة للديمقراطية ، فمن الواضح أن الديمقراطية ومؤسساتها ترسخت في هذه البلدان الثلاثة خلال عقد من انهيار النظم التسلطية بها.
بيد أن هذا المعدل السريع للترسيخ الديمقراطي غير مألوف تاريخياَ ، حتى في ظل ظروف ملائمة. عادة، يتطلب تطوير المؤسسات الديمقراطية وتعزيز الديمقراطية وقتاً وجهداً كبيراً. على سبيل المثال ، ترسخت الديمقراطية في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية تدريجياً عبر فترة زمنية طويلة استمرت لعدة عقود (Haynes, 2001, P.4).
الراهن أنه بينما كانت هناك درجة عالية من الابتهاج والتفاؤل في أواخر ثمانينيات وأوائل تسعينيات القرن العشرين بأن العالم يشهد تحولاً حاسماً تجاه الديمقراطية ، أصبح الباحثون أقل تيقناً وثقة في نهاية القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين.
فبعد عقد من الدمقرطة السريعة ، تباينت آراء الباحثين حول احتمالات وفرص تعزيز الديمقراطية بشكل واسع. رأى البعض أن هناك أدلة على استمرارية التقدم الديمقراطي في جميع أنحاء العالم، وعلى ترسيخ الديمقراطية تدريجياً في العديد من الديمقراطيات الجديدة، مدركين في نفس الوقت بأنها عملية طويلة وشاقة ومحفوفة بالمخاطر والمشاكل (Karatnycky, 1999).
إلا أن البعض الأخر يزعم أن هناك أدلة على حدوث تقهقر واسع للديمقراطية في العديد من البلدان التي مرت في الفترات الأخيرة بعمليات انتقال وتحول ديمقراطي، حيث إن الديمقراطية لم تتجذر إلا في عدد قليل من هذه البلدان. في الواقع، يزعم الباحث السياسي دايموند أن هناك أدلة إمبيريقية قوية ليس عن فشل الترسيخ الديمقراطي فحسب، بل على حدوث أمر أكثر خطورة، بروز "موجة عكسية" بعيداً عن الديمقراطية وعودة إلى التسلطية (Diamond, 1999).
تحقيقاً للأهداف المحددة لهذه الدراسة، سوف يتم تناول القضايا والمواضيع التالية :
1. بعض المداخل النظرية التي حاولت أن تقدم تفسيرات لعمليات الانتقال الديمقراطي.
2. العوامل والتغيرات المؤثرة في عملية الدمقرطة.
3. الأنماط والأشكال المختلفة لعمليات التحول الديمقراطي.
4. العوامل والمتغيرات المؤثرة في عملية ترسيخ الديمقراطية.
وتختتم الدراسة بمجموعة من الملاحظات.
ينبغي، قبل البدء في تناول هذه القضايا، الإشارة إلى بعض الملاحظات:
أولاً : تقتصر هذه الدراسة على مراجعة الأدبيات العامة حول الدمقرطة دون الخوض في الأدبيات التي تناولت عمليات التحول الديمقراطي في المنطقة العربية ، بافتراض أن ذلك تغطية دراسات ومحاور أخرى من هذه الندوة .
ثانياً : تستخدم هذه الدراسة الدمقرطة والتحول الديمقراطي والانتقال الديمقراطي كمصطلحات مترادفة، وتعني عمليات التغير من نظام تسلطي إلى نظام ديمقراطي .
ثالثاً : تستخدم هذه الدراسة ترسيخ الديمقراطية وتعزيز الديمقراطية وتجذير الديمقراطية كمصطلحات مترادفة، وتعني المرحلة التي تصبح فيها المؤسسات والممارسات والقيم الديمقراطية ثابتة ومستقرة في النظام السياسي
أولاً: المداخل النظرية لتفسير الدمقرطة :
________________________________________
تبين مراجعة الأدبيات العامة حول الدمقرطة أن هناك ثلاثة مداخل نظرية رئيسة لتفسير عمليات الدمقرطة وأنماطها والعوامل والمتغيرات المؤثرة فيها.
1. المدخل التحديثي ، الذي يؤكد على عدد من المتطلبات الاجتماعية والاقتصادية لعملية الدمقرطة، ويربط بين الديمقراطية الليبرالية والتنمية الاقتصادية.
2. المدخل الانتقالي ، الذي يركز على العمليات السياسية وعلى مبادرات وخيارات النخبة لتفسير عملية الانتقال من حكم تسلطي إلى حكم ديمقراطي ليبرالي.
3. المدخل البنيوي ، الذي يهتم بأثر تغير بنى القوة والسلطة على عملية التحول الديمقراطي.
1. المدخل التحديثي :
لأول وهلة وظاهريا يبدو أن هناك معقولية ومصداقية للاتجاه الذي يربط بين الديمقراطية والتنمية الاقتصادية نظرا لأن أغني بلدان العالم هي بلدان ديمقراطية. ولقد كان آدم سميث، في كتابه ثروة الأمم أول من عبر عن هذا الاتجاه من خلال دعوته لليبرالية السياسية باعتبارها شرطا ضروريا للأداء الفعال للسوق الذي يعتبره محرك النمو الاقتصادي. بالنسبة لآدم سميث، فإن الحكومة التي تحكم أقل ما يمكن هي أفضل حكومة، فالحد الأدنى من الحكم يفضي إلى الحرية الفردية والمنافسة والكفاءة وإمكانات النمو الاقتصادي (AKE,2000:P.76) .
إلا أن المعالجة العلمية الأكثر دقة وانتظاما فيما يتعلق بالارتباط بين الديمقراطية والتنمية تبرز من خلال افتراضات وأطروحات عالم الاجتماعي السياسي الأمريكي "ليبست .(S.M Lipset) وقدم ليبست أطروحته لأول مرة عام 1959 في مقالته الموسومة "بعض الاشتراطات الاجتماعية للديمقراطية: التنمية الاقتصادية والشرعية السياسية". وفي عام 1960 نشر كتابه "الرجل السياسي،Political Man " الذي يعتبر أشهر وأهم كتاب حول هذه الأطروحة.
وفقا لأطروحة ليبست، ترتبط الديمقراطية بمستوى التنمية الاقتصادية والاجتماعية. لإبراز هذه العلاقة، قام بتصنيف البلدان الأوروبية والبلدان الناطقة بالإنجليزية في أمريكا الشمالية وأستراليا إلى ديمقراطيات مستقرة وديمقراطيات غير مستقرة ودكتاتوريات. وصنف بلدان أمريكا اللاتينية إلى ديمقراطيات ودكتاتوريات غير مستقرة ودكتاتوريات مستقرة. ثم قام بمقارنة هذه البلدان وفقا لثروتها ودرجة التصنيع والحضرية ومستوى التعليم باعتبارها مؤشرات للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. وتبين من المقارنة أن البلدان الأكثر ديمقراطية في كلا المجموعتين كانت تتمتع أيضاً بمستويات تنمية اجتماعية واقتصادية أعلى من البلدان الدكتاتورية . استنادا على ذلك، أفترض ليبست وجود تطابق بين التنمية الاقتصادية وبين النظام الديمقراطي .
كان هذا التطابق نتاجا لعدة متغيرات اجتماعية. عليه فإن التنمية الاقتصادية ترتبط بازدياد التعليم والاتجاه نحو مزيد من المشاركة، كما أنها تخفف من حدة التفاعلات السياسية وتخلق مصالح متقاطعة وانتماءات متعددة تعمل على تسهيل بناء الإجماع الديمقراطي والاستقرار السياسي. أخيرا فإن التنمية الاقتصادية ترتبط بنمو وحيوية الحياة الترابطية والمجتمع المدني (Lipset, 1960, P. 31)
يعتبر كتاب الرجل السياسي عملاً رائداً مهما إلا أنه يعكس في نفس الوقت محدودية درجة تطور الدراسات الكمية ضمن علم الاجتماع السياسي في تلك الفترة. فلا توجد في منهجية الدراسة تحليلات إحصائية متقدمة، ولم تحتو على عمليات الضبط والعزل المناسبة لتحديد الأهمية الدقيقة والمحددة للمتغيرات. وعلى الرغم من عدم وجود إثبات للعلاقات السببية في تلك الدراسة، فإنه يبدو أن ليبست يفترض أن التنمية الاقتصادية هي التي أدت إلى الديمقراطية (Diamons, 1992: P.451).
لقد تعرضت هذه الأطروحة للدراسة والتمحيص من وقت لأخر باستخدام منهجيات أكثر دقة وصرامة وأساليب إحصائية متقدمة ومن أمثلة هذه الدراسات دراسة كولمان (Coleman, 1960) التي أثبتت وجود ارتباط واعتماد متبادل بين الديمقراطية والتنمية إلا أنها لم تثبت وجود علاقات سببية. كذلك فإن كترايت (Cutright, 1963) وجد ارتباطا عاليا بين مؤشر الاستقرار السياسي "وبين مجموعة من أربعة مؤشرات للتنمية وهى" تطور وسائل الاتصال والحضرية والتعليم والتصنيع". وقامت دراسات أخرى بمحاولة التحقق من العلاقات السببية التي افترضتها أطروحة ليبست الأصلية. فلقد توصل بولين وجاكمان ( Bollen and Jakman, 1985) إلى نفس النتيجة وذلك من خلال تحليل إحصائي متقدم لمجموعة من العوامل والمتغيرات التي تعتبر عادة من ضمن محددات الديمقراطية واكتشفا أن التنمية الاقتصادية هي المحدد الأكثر الأهمية من المتغيرات الأخرى مجتمعة. ولقد تم تأكيد ذلك في دراسة لاحقة قام من خلالها كل من ليبست وسيونج وتوريز (Lipset, Seong and Torres) بإعادة تحليل دراسات بولين وجاكمان.
من ناحية أخرى، قامت دراسات أخرى بمحاولة إثبات التأثير الإيجابي للديمقراطية على التنمية الاقتصادية، فلقد أشار جروسمان ونوح (Grossman and Noh 1988) إلى أن وجود نظام ديمقراطي يضمن خضوع الحاكمين للمساءلة أمام المحكومين مما يحفزهم على تخصيص الموارد بكفاءة وفعالية لضمان استمراريتهم في الحكم. وفي إطار مشابه بين روبرت داهل في فترة مبكرة (Dahl.1971.) أن الديمقراطية تضمن قيام الحكام بتوظيف الموارد بالطريقة التي تحقق النمو والإنتاج الأمثل.ويرى اولسون (Olson, 1991) أن النظام الديمقراطي يلزم الحكام بتجنب السعي نحو تحقيق مصالح ذاتية أنانية ويفرض عليهم وضع السياسات العامة التي تحقق وتخدم المصلحة العامة ضمنا لاستمرار التأييد والقبول الشعبي .
قام بهالا (Bhala, 1994) بتقديم مدخل مختلف حول العلاقة بين التنمية الاقتصادية والديمقراطية. فهو يرى أن الديمقراطية شكل من أشكال الحكم يرتبط ارتباطا قويا بمفهوم الحرية، وقام باختبار العلاقة بين التنمية الاقتصادية والحرية بجانبيها (السياسي والاقتصادي) بدلا من اختبار العلاقة بين الديمقراطية والتنمية الاقتصادية. ويرى بهالا أنه نظراً لأن الدراسات السابقة لم تقم بعزل تأثير الحرية الاقتصادية فإنها لم تقم بتقدير العلاقة بين التنمية الاقتصادية والحرية السياسية بصورة مناسبة.
من ناحية أخرى، أشار بهالا إلى احتمالية الارتباط المتزامن بين التنمية الاقتصادية وبين الحرية، فلقد أفترض أن الحرية تفضي إلى تنمية اقتصادية أكبر والتي تؤدي بالتالي إلى المزيد من الحرية، ولقد مثل هذه العلاقة المتزامنة بنماذج رياضية وتوصل إلى أنه بغض النظر عن كيفية قياس الحرية وبغض النظر عن كيفية تعريف النمو، فإن هناك علاقة إيجابية وقوية بين الاثنين (Bhalla, 1994).
2. المدخل الانتقالي :
جاء التحدي المبكر والمهم لأطروحة ليبست، وللمدخل التحديثي بصفة عامة، من الباحث السياسي دانكورت روستو "Dankwart Rustow". ففي مقالته "Transition to Democracy, 1970"، أشار روستو إلى أن الارتباطات بين التنمية الاجتماعية والاقتصادية وبين الديمقراطية التي افترضها ليبست وغيره كانت مدفوعة أساساً باهتمامهم بالعوامل التي تؤدي إلى استمرارية وترسيخ الديمقراطية. بيد أن اهتمام روستو وغيره من الباحثين يتمحور حول تساؤل مختلف هو كيفية تحقيق الديمقراطية في المقام الأول. ( Anderson, 1999, PP. 14- 17).
يزعم روستو أن النوع الأخير من التساؤلات والاهتمامات يتطلب مدخلاً تطورياً تاريخياً يستخدم منظوراً كلياً لدراسة حالات مختلفة بحسبان أن ذلك يوفر أساساً أفضل للتحليل من مجرد البحث عن الشروط والمتطلبات الوظيفية للديمقراطية. حدد روستو، استناداً على تحليل تاريخي مقارن لتركيا والسويد، مساراً عاما تتبعه كل البلدان خلال عملية الدمقرطة، ويتكون هذا المسار من أربعة مراحل أساسية: (Ibid; PP. 26- 33)
أولاً : مرحلة تحقيق الوحدة الوطنية، والتي تشكل خلفية الأوضاع "Background Condition"، ولا يعني روستو بتحقيق الوحدة الوطنية توافر الاجماع والاتفاق العام، بل مجرد بدء تشكل هوية سياسية مشتركة لدى الغالبية العظمى من المواطنين.
ثانياً : يمر المجتمع القومي بمرحلة إعدادية "Preparatory phase" تتميز بصراعات سياسية طويلة وغير حاسمة، على شاكلة الصراع الناجم عن تزايد أهمية نخبة صناعية جديدة خلال عملية التصنيع تطالب بدور وموقع مؤثر في المجتمع السياسي في مواجهة النخب التقليدية المسيطرة التي تحاول المحافظة على الوضع القائم. ورغم اختلاف التفاصيل التاريخية لحالات الصراع من بلد لآخر، فإن هناك دائماً صراعاً رئيساً وحاداً بين جماعات متنازعة. أي أن الديمقراطية تولد من رحم الصراع، بل وحتى العنف، وليست نتاجاً لتطور سلمي. وهذا ما يفسر إمكانية هشاشة الديمقراطية في المراحل الأولى، وعدم استطاعة العديد من البلدان تجاوز المرحلة الإعدادية إلى مرحلة الانتقال والتحول المبدئية. قد يكون الصراع حاداً بالدرجة التي تؤدي إلى تمزيق الوحدة الوطنية، أو أن يؤدي إلى تزايد قوة إحدى الجماعات بالدرجة التي تمكنها من التغلب على قوى المعارضة وإنهاء الصراع السياسي لصالحها وسد الطريق أمام التحول الديمقراطي.
ثالثاً : تبدأ عملية الانتقال والتحول المبدئي في المرحلة الثالثة وهي مرحلة القرار "Decision Phase"، وهي لحظة تاريخية تقرر فيها أطراف الصراع السياسي غير المحسوم التوصل إلى تسويات وتبني قواعد ديمقراطية تمنح الجميع حق المشاركة في المجتمع السياسي.
رابعاً : تأتي عملية الانتقال والتحول الثانية خلال المرحلة الرابعة، مرحلة التعود "Habituation Phase". يرى روستو أن قرار تبني القواعد الديمقراطية خلال "اللحظة التاريخية" قد يكون قراراً ناتجاً عن أحساس أطراف الصراع غير المحسوم بضرورة التوصل إلى تسويات وحلول وسط، وليس ناتجاً عن قناعة ورغبة هذه الأطراف في تبني القواعد الديمقراطية.
بيد أنه ، وبصورة تدريجية ومع مرور الوقت، تتعود الأطراف المختلفة على هذه القواعد وتتكيف معها. قد يقبل الجيل الأول من أطراف الصراع القواعد الديمقراطية عن مضض وبحكم الضرورة، إلا أن الأجيال الجديدة من النخب السياسية تصبح أكثر تعوداً وقناعة وإيماناً بالقواعد الديمقراطية. وفي هذه الحالة يمكن القول إن الديمقراطية قد ترسخت في المجتمع السياسي.
قام العديد من العلماء المهتمين بتفسير عمليات الدمقرطة بتطوير المدخل الانتقالي لروستو. ومن أهم هذه المحاولات دراسة جويلرمو أودونيل (G. O' Donnell) وزملائه (1986) المعنونة: "Transition from Authoritarian Rule"، ودراسة سكوت مينويرنج (Scott Mainwaring) وزملائه (1992) الموسومة: "Issues in Democratic Consolidation "، ودراسة يوسي شين (Yossi Shain) وجوان لينز (Juan Linz) (1995) بعنوان
"Between States: Interim Governments and Democratic Consolidation"
يميز جميع هؤلاء الباحثين بشكل واضح، مثلما فعل روستو، بين مرحلة الانتقال والتحول المبدئي من الحكم التسلطي (أي اللبرنة السياسية) وبين مرحلة ترسيخ الديمقراطية الليبرالية. ويرجع ذلك إلى أن عمليات الانتقال المبدئية قد تنجح أحياناً وتترسخ، ولكنها قد تفشل وتتعثر في أحيان أخرى.
تبدأ عملية اللبرنة السياسة داخل نظام الحكم التسلطي بتخفيف عمليات القمع والسماح ببعض الحريات المدنية. إلا أن هذه التحركات لا تؤدي، بالضرورة، إلى تحقيق الديمقراطية. فقد يتم إجهاض عمليات اللبرنة ويعود الحكم القمعي من جديد. بيد أنه ما أن تكتسب عملية اللبرنة دفعا وزخماً قوياً وجاداً ينخرط العديد من الفاعلين السياسيين في التفاعل التاريخي بين نظام الحكم وقوى المعارضة. بحسبان وجود متطرفين ومعتدلين داخل النظام التسلطي وبين المعارضين، فإن طبيعة التفاعل وشكله يؤثر على مسار ونواتج عملية الانتقال والتحول الديمقراطي. وتبين الأدلة المقارنة من أمريكا اللاتينية أن احتمال نجاح عمليات التحول الديمقراطي يتعزز إذا كانت هذه العمليات تحت سيطرة تحالف من المعتدلين في الجانبين. (Potter et al., 1997. P15).
خلال المرحلة الرابعة (مرحلة التعود)، تتضمن عملية الانتقال الثانية من حكومات مؤقتة ولبرنة سياسية مبدئية إلى ترسيخ الديمقراطية الليبرالية مسارات تاريخية متشابكة وتتسم بدرجة عالية من عدم التيقن. ويلعب الفاعلون السياسيون الملتزمين بالديمقراطية دوراً حاسماً وجوهرياً لنجاحها خلال هذه المرحلة أيضاً. وعلى الرغم من أنهم يشكلون دائماً أقلية، فإن هناك عوامل معينة تتظافر لصالحهم. من أهم هذه العوامل، أن أغلبية المواطنين، حتى وإن لم تكن ملتزمة بالديمقراطية بالضرورة، لا تريد عودة النظام التسلطي الذي كانت ترزح تحته. هذا إلى جانب أن الخطاب السياسي التسلطي أضعف إيديولوجياً من الخطاب الديمقراطي عالمياً. بفضل هذه المزايا، يمكن للنخبة الديمقراطية القليلة العدد أن تقود المجتمع السياسي إلى ترسيخ الديمقراطية إذا استطاعت أن تقوم بتحييد الفاعلين ذوي التوجهات التسلطية المتطرفة، وتشجيع التفضيلات والممارسات المتوافقة مع الأداء الديمقراطي، وزيادة عدد الفاعلين الديمقراطيين، وإعطاء أولوية للإستراتجية التي تضمن عدم تسهيل عودة الحكم التسلطي على أية استراتجيات أخرى (بما في ذلك التنافس فيما بينها).(O'Donnell, 1992, P.22).
الراهن، يزعم أنصار المدخل الانتقالي أن المسار التاريخي للديمقراطية الليبرالية يتحدد، جوهرياً، من خلال مبادرات وأفعال النخب وليس عن طريق بنى القوة المتغيرة. إلا أن مبادرات وخيارات النخبة لا تحدث أبداً في فراغ، حيث إنها تتشكل إلى حد ما بالبنى المجتمعية- مجموعة من القيود الطبيعية والاجتماعية، مجموعة من الفرص المتغيرة، مجموعة من المعايير والقيم التي يمكن أن تؤثر على محتوى واتجاه خيارات النخب.
3. المدخل البنيوي :
تستند تفسيرات المدخل البنيوي على عمليات التغير التاريخي الطويلة المدى. إلا أن هذا المدخل، وبخلاف المدخل الانتقالي، لا يفسر عمليات التحول الديمقراطي من خلال دور وفعل النخب السياسية، بل يفسرها وفقاً لفكرة ومفهوم "بنى القوة والسلطة المتغيرة".
توجد في جميع المجتمعات العديد من بنى السلطة والقوة تعمل على تقييد سلوك الأفراد والنخب في المجتمع وتشكيل تفكيرهم. وتوجد بنى السلطة والقوة بصورة مستقلة عن الفرد، تقيد نشاطاته وتتيح له بعض الفرص في الوقت نفسه. من ناحية أخرى، فإن الفرد جزء من تلك البنى الموروثة من الماضي ويساهم، مع الآخرين، في استمراريتها. ( Giddens, 1993, PP. 720-1).
يستند الافتراض الأساسي للمدخل البنيوي على أن التفاعلات المتغيرة تدريجياً لبنى السلطة والقوة - اقتصادية، اجتماعية، سياسية- تضع قيوداً وتوفر فرصاً تدفع النخب السياسية وغيرهم، في بعض الحالات، في مسار تاريخي يقود إلى الديمقراطية الليبرالية، بينما في بعض الحالات الأخرى، قد تقود علاقات وتفاعلات بنى السلطة والقوة إلى مسارات سياسية أخرى. وبحسبان أن بنى السلطة والقوة تتغير تدريجياً عبر فترات تاريخية طويلة، فإن تفسيرات المدخل البنيوي لعملية التحول الديمقراطي طويلة الأمد.
تتمثل الدراسة الكلاسيكية للمدخل البنيوى في دراسة بارنجتون مور (Barington Moore) الموسومة (Social Origins of Dictatorship and Democracy) (1966) والتي تمحورت حول محاولة تفسير إختلاف المسار السياسي الذي اتخذته انجلترا وفرنسا والولايات المتحدة (مسار الديمقراطية الليبرالية) عن المسار الذي اتبعته اليابان وألمانيا (مسار الفاشية) وعن المسار الذي اتجهت إليه روسيا والصين (مسار الثورة الشيوعية)، خلال عملية التحول التاريخي التدريجي من مجتمعات زراعية إلى مجتمعات صناعية حديثة ما بين القرن السابع عشر ومنتصف القرن العشرين.
استندت مقاربة مور لهذا الموضوع على المقارنة التاريخية لهذه البلدان ، ليس في إطار مبادرات النخب ، بل في إطار العلاقات المتفاعلة لأربع بنى متغيرة للقوة والسلطة ، ثلاث منها كانت طبقات اجتماعية - الفلاحون، طبقة ملاك الأرض الأرستقراطية، والبرجوازية الحضرية- بينما تمثلت البنية الرابعة في الدولة.
تمثلت النتيجة الأولى التي توصل إليها مور إلى أن مسار وشكل الديمقراطية الليبرالية كان، بصفة عامة، نتاجاً لنمط مشترك من العلاقات المتغيرة بين الفلاحين وسادة الأرض والبرجوازية الحضرية والدولة. ووضع مور خمسة اشتراطات عامة للتنمية الديمقراطية (Moore ,1966,PP430-1)
1. تطور حالة توازن للحيلولة دون وجود دولة قوية أكثر من اللازم، ودون نمو طبقة أرستقراطية مالكة للأرض ذات استقلالية أكثر من اللزوم.
2. التحول نحو شكل مناسب من الزراعة التجارية.
3. إضعاف أرستقراطية الأرض.
4. الحيلولة دون بناء تحالف بين البرجوازية والأرستقراطية في مواجهة تحالف العمال والفلاحين.
5. انفكاك فوري عن الماضي بقيادة البرجوازية.
على العكس من ذلك، برزت الفاشية ضمن أوضاع كانت فيها البرجوازية الحضرية ضعيفة نسبياً واعتمدت على الطبقات الاستقراطية المهيمنة على الدولة لتمويل الزراعة التجارية. وحدثت الثورات الشيوعية ضمن أوضاع اتسمت بضعف البرجوازية الحضارية وخضوعها لهيمنة الدولة، وكان الارتباط بين سادة الأرض والفلاحين ضعيفاً، وفشل سادة الأرض في تحويل الزراعة إلى زراعة تجارية، وكان الفلاحون متماسكين وعثروا على حلفاء ذوي مهارات تنظيمية.
بيد أن تحليلات مور أغفلت بدرجة كبيرة دور العلاقات والتفاعلات الدولية وعبر القومية، بما في ذلك الحرب، في تحديد المسار الذي تتخذه البلدان المختلفة، كما أنه لم يعر اهتماماً كبيراً لتأثيرات نمو الطبقة العاملة أو البروليتاريا الصناعية. ولقد قام ديتريك روشماير (Dietrich Rueschemeyer) وزملاؤه (1992) بتلافي هذا النقص، وضمّنوا هذه العوامل في تحليلاتهم وتفسيراتهم البنيوية عبر قيامهم بتحليل تاريخي مقارن للبلدان الرأسمالية المتقدمة وبلدان أمريكا اللاتينية وأمريكا الوسطي وبلدان البحر الكاريبي. على أساس هذا التحليل التاريخي المقارن، يزعم روشماير وزملاؤه بأن تحرك المجتمع تجاه الديمقراطية الليبرالية من عدمه يتشكل، جوهرياً، بتوازن القوة الطبقية، وأن الصراع بين الطبقات المهيمنة والخاضعة حول حقها في الحكم يعمل، أكثر من أي عامل أخر، على وضع الديمقراطية ضمن الأجندة التاريخية ويحدد احتمالاتها.
(Rueschemeyer et al, 1992.P 47).
تاريخيا، عملت الديناميات المتغيرة للقوة الطبقية على مقاومة عملية الدمقرطة أو على الدفع بها إلى الأمام. ولقد ميز روشماير وزملاؤه بين خمس طبقات على أساس مصالحها وتوجهاتها المختلفة تجاه الدمقرطة وهى طبقة كبار ملاك الأراضي وطبقة الفلاحين والطبقة العاملة الحضرية وطبقة البرجوازية التجارية والصناعية والطبقة المتوسطة المهنية. من ناحية أخرى، فإن موقف وتوجه أية طبقة تجاه الدمقرطة لا يمكن تحليله بمعزل عن مواقف وتوجهات الطبقات الأخرى. فقد تعمل التحالفات الطبقية المختلفة في البلدان المختلفة على تدعيم عملية الدمقرطة أو عرقلتها.
كذلك، كانت تغيرات بنية وشكل قوة وسلطة الدولة عاملاً جوهرياً لعملية الدمقرطة، فلقد تعززت فرص نجاح عملية التحول الديمقراطي في الحالات التي لم تكن فيها الدولة قوية جداً أو ضعيفة جداً في مواجهة القوى الطبقية في المجتمع. من جانب أخر، أدت التنمية الرأسمالية، تاريخياً، إلى بروز مجتمع مدني قوي وإلى نمو الأحزاب السياسية كقوة موازنة لقوة الدولة. (Potter et al, 1997, P. 21)
الراهن، تستند تفسيرات المدخل البنيوى على الافتراض بأن المسار التاريخي لأي بلد نحو الديمقراطية الليبرالية أو نحو أي شكل سياسي أخر يتشكل ويتحدد، أساساً وجوهرياً، بالبنى المتغيرة للطبقة والدولة والقوى الدولية وعبر القومية والمتأثرة بنمط التنمية الرأسمالية، وليس عن طريق مبادرات وخيارات النخب. فعلى الرغم أن النخب السياسية تقوم بمبادرات وخيارات معينة، إلا إن هذه المبادرات والخيارات لا يمكن تفسيرها إلا عبر الإشارة إلى القيود والفرص البنيوية المحيطة بها.
ثانياً: العوامل المؤثرة في عملية الدمقرطة :
________________________________________
على الرغم من أن كل مدخل من المداخل الثلاثة يستند على عدد متباين من العوامل المترابطة لتفسير حدوث عملية الدمقرطة في بعض البلدان وعدم حدوثها في بلدان أخرى ، فإن المداخل الثلاثة تتفق في تحديد مجموعة من العوامل التفسيرية المشتركة، ولو بطرق مختلفة: (Potter et al., 1997, PP, 24-31)
1. التنمية الاقتصادية :
تشير مختلف تفسيرات الدمقرطة إلى التنمية الاقتصادية باعتبارها عاملاً تفسيرياً مهماً. بالنسبة لكل من ليبست ودايموند وغيرهما ممن يعملون ضمن إطار المدخل التحديثي، فإن الارتباطات بين التنمية الاقتصادية وعملية التحول الديمقراطي مهمة جداً. ويرى مور وروشماير وغيرهم أن التنمية الاقتصادية، والتي هي تنمية رأسمالية أساساً، تشكل بصورة جوهرية المسار التاريخي الذي تتخذه البلدان المختلفة تجاه الديمقراطية الليبرالية أو تجاه أي شكل سياسي آخر.
أما من وجهة نظر روستو وآدونيل ولينز وغيرهم ممن يفسرون الدمقرطة ضمن إطار العمليات الانتقالية، فإن التنمية الاقتصادية تمثل الدافع لتحركات النخب المتنافسة لصياغة تسويات ديمقراطية. كذلك، فإن المداخل الثلاثة تقر بأن الأزمات الاقتصادية، على شاكلة ما حدث في أوربا في فترة ما بين الحربين العالميتين في القرن العشرين، قد تقوض الديمقراطية الليبرالية ، وأن التخلف الحاد، كما في حالة أفريقيا جنوب الصحراء، لم يشكل سياقاً مشجعاً للديمقراطية.
2. التقسيمات الاجتماعية :
وفقاً للمدخل التحديثي والمدخل البنيوي، تؤدي التنمية الاقتصادية الرأسمالية إلى تغيير التقسيمات الطبقية في المجتمع، الأمر الذي يمثل عاملاً مهماً في تفسير لماذا تتجه بعض البلدان نحو الديمقراطية الليبرالية بينما لا يفعل البعض الآخر ذلك. يقر ليبست بأن التنمية الاجتماعية والاقتصادية تؤدي إلى نمو الطبقة المتوسطة التي يمكن أن تكون قيمها مؤيدة للديمقراطية. ويرى روشماير وزملاؤه أن التنمية الرأسمالية تنتج طبقات اجتماعية قد يطور بعضها (مثل الطبقة العاملة الحضرية) اهتماما بعملية الدمقرطة. كذلك، فإن المدخل الانتقالي يهتم بالصراع السياسي غير المحسوم بين الطبقات والجماعات وتأثيره على المسار الديمقراطي الليبرالي .
بيد أنه لا يمكن لأية طبقة أن يكون لها نفس الاهتمام والمصلحة في الدمقرطة في كل مكان، لذا من المهم إدراك وتقدير أن موقف أية طبقة تجاه الدمقرطة في أي بلد يتأثر بعلاقاتها الخاصة مع الطبقات الأخرى، مما يعني ضرورة تحليل تغيرات البنية الطبقية ككل، وليس التركيز على طبقة معينة.
لا تمثل التقسيمات الطبقية الأشكال الوحيدة لعدم المساواة الاجتماعية ، حيث إن التفسيرات المختلفة للدمقرطة تشير أيضا إلى التقسيمات الإثنية والجندرية والقبلية واللغوية والدينية والثقافية.
وبحسبان أن الأشكال الديمقراطية للعملية السياسية تستند على مبدأ السيادة الشعبية أو القبول الشعبي ، يصبح التساؤل حول ماهية الشعب تساؤلاً مهماً جداً . فعندما تكون الانقسامات الطبقية أو الإثنية أو القبلية أو الدينية أو الثقافية حادة وعميقة وعنيفة ، فلن يكون هناك معنى للهوية السياسية المشتركة ، وبالتالي تصبح عملية الدمقرطة أمراً مستحيلاً . وكما يرى روستو ، فإن الإحساس بحد أدنى من الهوية الوطنية المشتركة يمثل الأوضاع الخلفية التي تتأسس عليها المراحل الأخرى في عمليات التحول الديمقراطي.
3. الدولة والمؤسسات السياسية :
تمثل القوة العامة للدولة في علاقاتها بالتقسيمات الاجتماعية والمجتمع المدني عاملاً تفسيرياً مهماً بالنسبة لجميع المداخل النظرية للديمقراطية . تتميز مسارات الدمقرطة، فيما يزعم بارنجتون مور وروشماير، بحالات من توازن القوة بين الدولة والطبقات المستقلة نسبياً، فالدولة ليست قوية جداً بالدرجة التي تجعلها تسيطر على الطبقات التابعة من جانب، كما أنها ليست ضعيفة جداً بالدرجة التي تجعلها أداة للطبقة الأرستقراطية المالكة للأرض من جانب آخر. كذلك، فإن أنصار المدخل التحديثي يعتبرون أن الهيمنة المطلقة للدولة على المجتمع المدني مؤشر سلبي للدمقرطة ، فلقد أدى هذا النوع من هيمنة الدولة إلى انهيار الديمقراطية في أفريقيا وآسيا وأماكن أخرى.
ويرجع ذلك إلى أنه في البلدان ذات المستويات التنموية المنخفضة تسيطر الدولة المتضخمة على معظم الفرص الاقتصادية المهمة (الوظائف، العقود، الرخص، المنح التعليمية، هبات التنمية) بعكس الدولة في البلدان ذات المستويات التنموية المرتفعة. وتؤدي هذه السيطرة إلى عرقلة النمو الاقتصادي بسبب تقليص منافسة القطاع الخاص، وينتشر العنف والتزوير خلال الانتخابات بسبب الامتيازات الضخمة الناتجة عن الفوز فيها ، ويصبح الفساد السياسي والنشاط الريعي الأدوات الرئيسة للحركية الاجتماعية والاقتصادية، وتتعرض جميع الأنشطة الاقتصادية تقريباً لتدخل الدولة وسيطرتها .
ولقد نتج عن ذلك بروز اقتصاد مسيس حيث يكون الكسب الاقتصادي الفردي نتاجاً للوصول للسلطة والقوة السياسية ، وليس نتيجة لزيادة الإنتاجية والكفاءة ، الأمر الذي يزيد من احتمالات عدم المساواة والتوتر الحاد بين الطبقات والجماعات الإثنية والإقليمية والدينية وغيرها. خلاصة القول، يزعم منظرو المدخل التحديثي بأن عملية الدمقرطة تتضمن تفكيك الدولة المتضخمة المسيطرة لصالح دولة الحد الأدنى والتنمية الرأسمالية النشطة.
من ناحية أخرى، اهتم بعض الباحثين بالمؤسسات السياسية الوسيطة كعوامل تفسيرية، مثل المجالس التشريعية والمؤسسة العسكرية ونظم الانتخابات التنافسية وبنية النظم الحزبية ومنظمات المجتمع المدني، بحسبان أن طبيعة التفاعل بين هذه المؤسسات، وبينها وبين الدولة والبنية الطبقية، تساعد في تفسير كيفية تشكيل المؤسسات للنواتج السياسية الناجمة عن علاقات متشابهة للدولة والبنية الطبقية في بلدان مختلفة. (Held, 1996, ch.6)
4. المجتمع المدني :
يدخل المجتمع المدني كعامل تفسيري لعملية الدمقرطة عبر علاقته بالدولة والبنية الطبقية . بالنسبة لمنظري المدخل التحديثي والمدخل الانتقالي ، يلعب المجتمع المدني التعددي والنشط دوراً مهماً في موازنة قوة الدولة ، كما أنه يمكن أن يكون حائلا أمام عودة التسلطية وعاملاً حيوياً في تعزيز الديمقراطية الليبرالية والمحافظة عليها . ولقد كان انبعاث المجتمع المدني عاملاً حاسماً في تفسير عمليات الانتقال من التسلطية إلى الديمقراطية الليبرالية في جنوب أوربا وأمريكا اللاتينية.
كما أدى نمو وتطور العديد من الجماعات والحركات الاجتماعية المستقلة - الطلاب، النساء، نقابات العمال ، الجماعات الكنسية ، المستهلكون ، أنصار البيئة، الجماعات القبلية ، الفلاحون ، المهنيون- في أوربا الشرقية والاتحاد السوفييتي السابق وبعض أجزاء آسيا وأفريقيا إلى تنامي عمليات الدمقرطة.
وعادة ما يتضمن نمو المجتمع المدني وجود إعلام مستقل يمكن أن يشكل ضغطاً على الدولة التسلطية. وفقاً للمدخل التحديثي ، تساهم التنمية الاجتماعية والاقتصادية في نمو المجتمع المدني في جميع أنحاء العالم بحسبان أنها تؤدي إلى تركز السكان في مناطق حضرية وانخراطهم في شبكات تفاعل أوسع وأكثر تنوعاً ، وإلى انتشار التعليم والمعرفة و الدخل والموارد التنظيمية الأخرى عبر قطاعات واسعة من السكان، مما يؤدي إلى تزايد احتمالات تحدي قطاعات المجتمع المختلفة لنظم الحكم التسلطية. (He, 2002).
يشير روشماير وغيره من منظري المدخل البنيوي أيضاً إلى أهمية نمو المجتمع المدني كقوة موازنة مهمة للدولة. إلا أنهم يهتمون أيضاً بفهم كيف يستطيع المجتمع المدني، بوصفه نتاجاً فرعياً للتنمية الرأسمالية، أن يعزز القدرات التنظيمية للطبقات الدنيا، وبالتالي تغيير توازن القوة في البنية الطبقية، بمعنى أن نمو المجتمع المدني في حد ذاته أقل أهمية من تأثير ذلك النمو على التفاعلات الطبقية، وبالتالي تأثيره على احتمالات عملية الدمقرطة. (Rueschemyer et al., 1992).
5. الثقافة السياسية :
من الجلي أن احتمالات الدمقرطة تزداد في البلدان التي تكون فيها الثقافة السياسية مؤيدة للديمقراطية. مع ذلك، فإن هناك، من الناحية الفعلية، خلافات نظرية حول دور الثقافة السياسية في تفسير عمليات الدمقرطة أكثر من الخلاف حول دور العوامل التفسيرية الأخرى. بالنسبة لمنظري التحديث، تمثل الثقافة السياسية متغيراً تفسيرياً مركزياً، فلقد أجرى العديد من الدراسات الميدانية وأبحاث المسوح التي اكتشفت وجود ارتباطات إحصائية قوية بين مستوى التعليم (أحد نواتج التحديث) وبين الالتزام بقيم الديمقراطية والمشاركة والتسامح والاعتدال.
أما منظرو المدخل البنيوي فيتشككون فيما إذا كانت هذه الارتباطات تفسر الدمقرطة على الإطلاق ، ويجادلون أنه من المحتمل أن تكون الثقافة السياسية الديمقراطية نتاجاً لعملية الدمقرطة وليست سبباً لها. من ناحية أخرى ينزع منظرو المدخل الانتقالي إلى تجاهل الثقافة السياسية، فهم يزعمون أن الانتقال إلى الديمقراطية الليبرالية يرجع إلى حسابات النخب السياسية المتصارعة التي تبدأ في إدراك أن هناك مصلحة مشتركة (وليس قيماً مشتركة) في الدمقرطة.
6. التفاعلات الدولية وعبر القومية :
تهتم جميع تفسيرات الدمقرطة بما يجري في النظام الدولي خارج حدود الدولة. ويشمل ذلك التفاعلات الدولية مثل التحالفات العسكرية والحروب والعلاقات الدبلوماسية وأنشطة المؤسسات ما بين الحكومية مثل الأمم المتحدة والمصرف الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية.
من ناحية أخرى ، وبصورة متميزة ، تهتم المداخل التفسيرية للدمقرطة بالتفاعلات عبر القومية ، أي العلاقات بين المجتمعات ضمن أنواع مختلفة من الفضاءات السياسية، منها العمليات الاقتصادية والمالية العالمية والإعلام العالمي وشبكات الاتصال العالمية.
تتضمن هذه التفاعلات أيضاً تحالفات عالمية بين المنظمات غير الحكومية، حيث يوجد عدد كبير من التجمعات العالمية للمنظمات غير الحكومية مثل منظمة السلام الأخضر ومنظمة العفو الدولية والصليب الأحمر والمجلس العالمي للكنائس وغيرها ، ويتعين على أي تفسير لعمليات الدمقرطة أن يأخذ في الاعتبار السلوكيات الدولية وعبر القومية الناتجة عن هذه التفاعلات السياسية العالمية.
لقد أدت العلاقات الاقتصادية الدولية وعبر القومية بين البلدان الصناعية المتقدمة وبلدان أمريكا اللاتينية التابعة إلى تأخير عملية التصنيع في أمريكا اللاتينية وإلى عدم نمو الطبقة العاملة الحضرية، مما أدى إلى إضعاف القوى المؤيدة للديمقراطية. كذلك، قد تؤدي الحرب إلى فرض الديمقراطية على البلدان المهزومة في بعض الحالات، وقد تؤدي، من ناحية أخرى، إلى تعزيز جهاز الدولة في مواجهة القوى الطبقية والاجتماعية مما يهدد عملية الدمقرطة.(Huntington, 1991, P.66).
تمثل الضغوطات الدولية المناصرة للديمقراطية عاملاً تفسيرياً مهماً، فلقد بدأت الأطراف الخارجية القوية مثل الولايات المتحدة الأمريكية والمصرف الدولي في تشجيع الديمقراطية الليبرالية في آسيا في ثمانينيات القرن العشرين (بعكس تجاهلها لذلك الأمر في العقود السابقة لذلك). ولقد أدى ذلك إلى الضغط على نظم الحكم التسلطية المعتمدة على هذه الأطراف الخارجية لتوفير القروض والإعانات والتبادلات التجارية.
ثالثاً: أنماط عمليات التحول الديمقراطي :
________________________________________
تؤثر العمليات والتفاعلات والعوامل والقوى السياسية على ديناميات التحول الديمقراطي ، وعلى أنماط عمليات الدمقرطة ، في مختلف البلدان التسلطية. بحسبان أن عمليات التحول الديمقراطي قد اتخذت مسارات مختلفة بإختلاف النظم التسلطية ، يتعين الاهتمام بكيفية تأثير خصائص النظم التسلطية على عمليات الانتقال إلى الديمقراطية، وتفسير كيفية تأثير إختلاف أشكال هذه النظم على المسارات التي اتخذتها.
تصنف الأدبيات النظم التسلطية إلى نظم الدكتاتورية الفردية أو الشخصية ونظم الحزب الواحد والنظم العسكرية. في النظم العسكرية، يحدد مجموعة من الضباط من يحكم ويمارسون نفوذاً كبيراً على محتوى واتجاه السياسة العامة. أما في نظم الحزب الواحد، فيهيمن حزب واحد على المناصب السياسية ويسيطر على عملية تحديد محتوى واتجاه السياسة العامة. وتختلف النظم التسلطية الفردية (الشخصية) عن هذين النظامين في أن الوصول إلى المناصب السياسية والامتيازات التي تتضمنها يعتمد، إلى حد كبير، على ما يقرره الحاكم الفرد. قد يكون هذا الحاكم ضابطاً عسكرياً أو أن يكون زعيماً لحزب سياسي. إلا أن القوات المسلحة والحزب الواحد لا يملكان سلطة مستقلة لاتخاذ القرار وتحديد مسار السياسة العامة بمعزل عن أهواء الحاكم الفرد.( Geddes, 2003, P.50)
أحد أهم الأسباب التي تجعل من الصعب تفسير عمليات التحول الديمقراطي في النظم التسلطية أن هذه النظم تتفكك بطرق مختلفة. نظراً لأن النظم التسلطية تختلف عن بعضها البعض بنفس درجة إختلافها عن النظم الديمقراطية، فإن هذه الاختلافات تؤدي إلى التأثير على كيفية وسرعة ونمط انهيارها وتحولها. إنها تعتمد على جماعات مختلفة لشغل المناصب السياسية، وتستند على تأييد قطاعات مختلفة من المجتمع، كما أن لها إجراءات مختلفة لاتخاذ القرار، وأشكال متباينة من التنافس والانقسام الداخلي، وطرق مختلفة لاختيار القادة وتحديد كيفية استخلافهم، وأساليب متنوعة للاستجابة للمطالب والمعارضة الشعبية.
الراهن، يتطلب فهم العمليات والتفاعلات السياسية في النظم التسلطية التركيز على الصراعات والعلاقات داخل الجماعات التي يتكون منها النظام التسلطي: ضباط القوات المسلحة، كوادر الحزب الواحد، الزمر المحيطة بالحاكم الفرد، أو أي مزيج من هذه العناصر. في كثير من الأحيان، تتم معظم العمليات والتفاعلات السياسية - أي الصراع على السلطة وتوزيع الغنائم وتحديد محتوى واتجاه السياسة العامة- داخل الجماعات الحاكمة ذاتها. من ناحية أخرى ، يتأثر النظام التسلطي، بصورة حاسمة أحياناً، بالتحديات التي تأتي من خارج التحالف الحاكم ، الداخلية منها والخارجية. (Ibid., PP. 48- 50)
ويميز هنتنجتون (1991) بين أربعة أنماط أو أشكال لعملية التحول الديمقراطي في النظم التسلطية:
1. التحول (Transformation)، عندما تتم عملية الانتقال الديمقراطي أساساً بمبادرات من النظام التسلطي ذاته، وبدون تدخل من جهات أخرى.
2. التحول الإحلالي (Transplacement)، عندما تتم عملية التحول الديمقراطي أساساً عن طريق مبادرات مشتركة بين النخب الحاكمة والنخب المعارضة.
3. الإحلال (Replacement)، عندما تنتج عملية الدمقرطة أساساً عبر الضغوط والمعارضة الشعبية.
4. التدخل الأجنبي (Foreign Intervention)، عندما تحدث عملية الدمقرطة نتيجة لتدخلات وضغوطات أطراف أجنبية.
1. نمط التحول :
عادة ما يكون التحول عملية طويلة نسبياً، وتحدث عندما يقرر نظام الحكم التسلطي، وبدون ضغوطات قوية من قوى المعارضة أو من المجتمع ككل، وبعد جدل داخلي، أن من مصلحته إدخال تغييرات وإصلاحات سياسية. قد يؤدي هذا النمط من عملية الدمقرطة إلى احتفاظ القوات المسلحة بحق الاعتراض (الفيتو) على الترتيبات السياسية المستقبلية وإيقافها. وفي أحسن الأحوال، تتمثل النتيجة الأكثر احتمالاً لهذا الشكل من التحول الديمقراطي في قيام ديمقراطية محدودة تتميز باستمرار الهيمنة السياسية لعدد صغير نسبياً من النخب، وغالباً ما تحتفظ النخب المسيطرة في النظام التسلطي بسيطرتها على السلطة والقوة في الترتيبات الجديدة. ولقد كان ذلك النمط الغالب لعمليات الانتقال الديمقراطي في العديد من بلدان أمريكا اللاتينية وبعض البلدان الآسيوية.
الأمر الجوهري في هذا النمط من عملية الانتقال الديمقراطي أن الحكام التسلطيين لا يتنازلون طوعاً عن السلطة والقوة، كما أنهم غبر مستعدين، بصفة عامة، لتعديل نظام الحكم إذا كان ذلك يهدد سيطرتهم على السلطة. الأهم من ذلك، إن القرارات المتعلقة بتبني المؤسسات الديمقراطية الأساسية يتخذها المسيطرون على السلطة مدفوعين أساساً بمصالحهم الخاصة، الشخصية والجماعية. (Lijphart & Waisman, 1996).
2. نمط التحول الإحلالي :
يستند هذا النمط على الدور الذي تلعبه النخب السياسية داخل النظام التسلطي وخارجه (قوى المعارضة) في عملية التحول الديمقراطي. يرى دايموند أن "الاشتراط المطلق الوحيد للتحول الديمقراطي (إلى جانب الاحتلال الأجنبي والفرض الخارجي) التزام النخبة الإستراتجية بعملية الدمقرطة.." (Diamond, 1993, P.58) أما لينز وستيبان فيؤكدان على الدور المهم للابتكار السياسي والمهارة القيادية للنخب السياسية في عملية الانتقال الديمقراطي. (Linz & Stepan, 1978 ) ويركز المدخل الانتقالي على دور النخبة الإستراتجية عندما تدرك النخبة الحاكمة والنخبة المعارضة أن لها مصلحة مشتركة في التحرك في مسار يؤدي إلى ديمقراطية محدودة ضمن نمط التحول الإحلالي، وعادة ما يكون الهدف من هذا التحرك حل خلافات النخب وتدعيم نفوذها وتوجيه الفعل السياسي بما يلائم مصالحها. (Haynes, 2001, P. 23 )
يتمثل العامل الحاسم لإنجاح عملية التفاوض في تنسيق جهود العناصر الإصلاحية داخل النظام التسلطي والعناصر المعتدلة بين قوى المعارضة وقدرتها على الوصول إلى اتفاق عام حول نتائج محددة. من الضروري في هذا النمط ألا تتعرض مواقع النخب المهيمنة في النظام التسلطي، مثل كبار ضباط القوات المسلحة وكبار ملاك الأراضي، للخطر في النظام الجديد. كذلك من المهم، لضمان الاستقرار السياسي بعد المرحلة الانتقالية، دمج النخب ضمن إطار مستقر من المؤسسات الديمقراطية الفعالة التي لا تهدد مصالح هذه النخب، لأنه إذا لم تشعر النخب بأن النظام الجديد يحمي مصالحها، فإنها لن تقبل شرعيته وسوف تبذل ما في وسعها لتقويضه. (Shin, 1994)
مثلما هو الحال بالنسبة للنمط التحولي، فإن الخيارات التي يقوم بها الفاعلون السياسيون الأساسيون جوهرية ومهمة في نمط التحول الإحلالي، ولنفس الأسباب، أي ضمان أن الترتيبات السياسية الجديدة تعمل لصالح النخب الحالية، داخل النظام وخارجه. من ناحية أخرى، فإن قدرة النظام التسلطي القائم على التحكم في عملية الانتقال في نمط التحول الإحلالي أقل من قدرته في النمط التحولي. وفي الوقت الذي قد تتباين طبيعية الاتفاقات والمواثيق بين النخبة الحاكمة والنخبة المعارضة ، فإنها تعكس دائماً تسويات مستقرة وثابتة نسبياً بين النظام التسلطي والمعارضة.
ويتم التعبير عن هذه التسويات في شكل مؤسسات وترتيبات سياسية تسمح لنخب النظام التسلطي بالاحتفاظ بدرجة كبيرة من القوة والسلطة ضمن إطار الحكم الديمقراطي الجديد . في الواقع، غالباً ما تتعاون النخب في الديمقراطيات الجديدة من أجل ضمان أكبر مصلحة خاصة ممكنة ، مما يعني أنه حتى إذا انتقلت القوة والسلطة إلى مجموعة مختلفة من النخب، فإن بنية القوة والسلطة السابقة تستمر، وبصورة مهمة ، في تشكيل محتوى واتجاه عملية الترسيخ الديمقراطي. (Shin, 1994)
عادة ما يكون الحافز الرئيس لهذا النمط من عملية الانتقال الديمقراطي بروز دلائل على تدهور سلطة النظام التسلطي وتحرك قوى المعارضة لاستغلال هذا التدهور. بحسبان أن النخب المعارضة لا تتمتع بالقوة الكافية التي تمكنها من فرض التغييرات التي ترومها، وبحسبان أن سلطة وقوة النظام التسلطي قد تدهورت بالدرجة التي لا تمكنه من قمع المعارضة بصورة حاسمة ، يدرك المصلحون داخل النظام التسلطي، والمعتدلون بين قوى المعارضة ، أنه لا سبيل للخروج من الأزمة إلا عبر التفاوض والتوصل إلى تسويات وترتيبات تضمن استقرار النظام ، وتضعه على مسار الدمقرطة، وتحمي مصالح هذه النخب في الوقت نفسه. (Przeworski, 1991, P.85)
الراهن، لن يحدث أي تقدم تجاه الترسيخ الديمقراطي، وفقاً لنمط التحول الإحلالي، إلا إذا تضمنت المرحلة الانتقالية مفاوضات واتفاقات بين نخب النظام التسلطي ونخب المعارضة. بيد أن هناك احتمالاً قوياً لأن يؤثر ذلك سلبياً على الديمقراطية. مرد ذلك أن الاستقرار المستقبلي مؤسس على منح ضمانات للنخب الحاكمة القديمة لحماية امتيازاتها ولمنع أية مساءلة عن أية جرائم خلال الحكم التسلطي. بالتالي، فإن الاتفاقات والمواثيق بين النخب الحاكمة والنخب المعارضة قد تقود إلى ديمقراطيات محدودة.
3. نمط الإحلال :
ترجع أسباب وجذور النمط الإحلالي، في الغالب، إلى حدوث أزمة وطنية خطيرة لا يستطيع النظام التسلطي حلها، وتؤدي إلى حدوث تعبئة جماهيرية واسعة النطاق ضد النظام. ويمثل هذا النمط نوعاً من عملية الانتقال والتحول التي لا تهيمن عليها النخب. بدلاً من ذلك، يأتي التغيير أساساً، على الأقل في بداياته، من الضغوطات المنبثقة من القاعدة الشعبية، وتُرغم النخب على الخضوع للإرادة الشعبية. بعبارة أخرى، فإن المطالب الشعبية هي التي تؤسس وتحرك هذا النمط من عملية الانتقال، وليس المواثيق بين النخب. (Linz, 1990, P.152)
من غير المحتمل أن يؤدي هذا النمط من الانتقال - حيث يؤدي الضغط الشعبي إلى إرغام النخب الحاكمة على التخلي عن السلطة- إلى عملية دمقرطة مستقرة. مرد ذلك أن عدم وجود اتفاقات ومواثيق خلال مرحلة الانتقال يمثل عقبة كبيرة أمام بروز أجواء الاعتدال والتصالح الضرورية لعملية ترسيخ الديمقراطية والمميزة لها. (Bratton & van de walle, 1994)
الراهن، إنه من غير المحتمل أن يؤدي تغيير النظم التسلطية عن طريق التعبئة الجماهيرية والضغوط الشعبية إلى قيام نظم ديمقراطية ليبرالية مستقرة. على العكس، فهناك احتمال لأن تنتكس النظم الجديدة وتحل محلها أشكال جديدة من النظم التسلطية. (Huntington, 1991)
4. نمط التدخل الأجنبي :
يحدث هذا النمط من عملية الانتقال نتيجة لتدخل قوى أجنبية. ومن أمثلة هذا النمط التدخل الأمريكي في هايتي وبنما والصومال خلال تسعينيات القرن العشرين وفي العراق حالياً. إضافة إلى التدخل العسكري المباشر، كان نفوذ البلدان والمؤسسات الدولية المانحة للإعانات الاقتصادية قويا ومؤثراً في قرارات التحول الديمقراطي في بعض النظم التسلطية الفقيرة. فخلال ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين تدنت قدرات هذه البلدان الفقيرة على الحفاظ على برامج وسياسات محفزة للتنمية الاقتصادية، وأصبح الكثير منها يعتمد بصورة متزايدة على إعانات وقروض البلدان الغربية والمؤسسات الدولية المانحة التي طالبت البلدان الفقيرة بالشروع في عملية الدمقرطة كجزء من برنامج متكامل للحكم الصالح الرشيد، وربطت استمرارية الإعانات الخارجية بموافقة النظم التسلطية على البدء في عمليات الدمقرطة والإصلاح السياسي. بالإضافة إلى ذلك، وفي مسار موازٍ، شجعت البلدان الغربية والمؤسسات الدولية هذه البلدان على وضع سياسات وبرامج اقتصادية متوافقة مع نظام السوق والليبرالية الاقتصادية. وقع الحال أنه، من خلال ضغوطات البلدان والمؤسسات الدولية المانحة، تم الضغط على النظم التسلطية للتحرك في اتجاه الليبرالية الاقتصادية والسياسية والديمقراطية الليبرالية، فيما أصبح يعرف بالمشروطية الاقتصادية والمشروطية السياسية. (Joseph, 1998, P. 10).
بيد أن الفاعلين الخارجيين، مهما كانت درجة قوتهم الاقتصادية والسياسية والعسكرية، لا يستطيعون فرض خياراتهم السياسية، ولمدة طويلة، على بلدان لا ترغب في ذلك. قد يؤدي التدخل الأجنبي إلى تغيير التوازن لصالح عملية الدمقرطة، غير أن الديمقراطية لن تترسخ وتزدهر إلا عندما تتوفر اشتراطات وعوامل داخلية محددة.
ويمكن التدليل على ذلك من تجربة البرتغال وأسبانيا واليونان التي تحولت إلى نظم ديمقراطية راسخة بصورة سريعة خلال سبعينيات القرن العشرين . ففي الوقت الذي كان الدعم والتشجيع الخارجي، خاصة من الجماعة الأوربية، مهماً ومؤثراً، فإن ترسيخ الديمقراطية اعتمد أساسا على الاتفاق العام والإجماع الداخلي على تفضيل الديمقراطية على أية ترتيبات سياسية أخرى ، وعلى غياب أية انقسامات إثنية أو دينية أو طبقية خطيرة . يوحي عدم توفر هذه الاشتراطات والعوامل في معظم بلدان أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا بأن ترسيخ الديمقراطية سوف يكون أمراً صعباً وشاقاً.
على الرغم من وجود العديد من الأمثلة المعاصرة عن قيام الفاعلين الخارجين بتشجيع وتدعيم التحول الديمقراطي، سواء عن طريق التدخل العسكري المباشر أو عن طريق الإعانات الاقتصادية، فإن هناك أدلة قليلة على أن لهذه المبادرات تأثيراً قوياً على النواتج السياسية النهائية. (Haynes, 2001, P. 27).
تبين الأنماط المختلفة لعمليات التحول الديمقراطي أن المسارات التي اتخذتها المجتمعات المختلفة للوصول إلى الديمقراطية تختلف بشكل كبير. ففي بعض المجتمعات كانت الدمقرطة، في الغالب، نتاجاً لتطورات داخلية، وتقدم المملكة المتحدة النموذج الرئيس لما أطلق عليه "النموذج الخطى" للتطور من الحقوق المدنية إلى الحقوق السياسية ثم الحقوق الاجتماعية، والتطور التدريجي للهيمنة البرلمانية والحكومة الوزارية والتوسع التدريجي لحقوق التصويت والانتخاب عبر قرن من الزمن. (Huntington, 1984, PP.210- 211) وهناك حالات مماثلة أخرى مثل سويسرا وأستراليا ونيوزيلندا.
في أماكن أخرى، كانت العوامل الخارجية مؤثرة، وأحياناً حاسمة، خاصة بعد الهزيمة في حرب. ولقد حدث ذلك في العديد من البلدان الأوربية بعد 1918 وفي اليابان بعد 1945، حيث فرضت الولايات المتحدة الأمريكية المؤسسات والعمليات الديمقراطية الليبرالية. إضافة إلى ذلك، وحتى بدون الهزيمة في حرب، شرعت بعض البلدان الأفريقية في عمليات الدمقرطة نتيجة للضغوط الخارجية، والتي لم يكن من المحتمل، بدونها، أن تحدث عملية التحول الديمقراطي في هذه البلدان وبهذه السرعة.
في مجتمعات أخرى، كانت المفاوضات بين مختلف النخب أكثر تأثيراً من الضغط الخارجي، كما حدث في أمريكا اللاتينية في ثمانينيات القرن العشرين . وتعطي حالة جنوب أفريقيا مثالاً واضحاً عن ذلك، فعلى الرغم من أن المناقشات الجوهرية والعلنية حول البنية الدستورية والسياسية المستقبلية لجنوب أفريقيا لم تبدأ إلا بعد 1990، فإن الوثائق والمعلومات المتوفرة تبرز أهمية المفاوضات السرية بين مانديلا وقيادات المؤتمر الوطني الأفريقي من جانب ومسؤولي ووزراء حكومة جنوب أفريقيا من جانب آخر ما بين 1986 و1990، عندما كان مانديلا ما زال سجيناً.
ولكن ينبغي إدراك الدور القوي الذي لعبته المقاومة الداخلية والحرب الخارجية والعزلة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الدولية، والتي جعلت هذه المفاوضات ممكنة ومرغوبة، لأنها أدت بصورة تدريجية وثابتة إلى تقليص منافع وتعظيم تكاليف المحافظة على النظام العنصري غير الديمقراطي للأقلية البيضاء. ( Potter et al., 1997, ch.12) كذلك كانت المفاوضات عاملاً مهماً في أوربا الشرقية، إلا أن بدء عملية الدمقرطة كان متوقفاً على تخلي الاتحاد السوفييتي عن سيطرته على تلك المنطقة.
باختصار ، تبين الأدلة المقارنة أن القوى والأدوات الرئيسة للدمقرطة كانت احياناً داخلية في الأساس ، وفي حالات أخرى كانت أساساً خارجية. وفي الغالب كانت هناك عوامل داخلية وخارجية في تركيبات متنوعة. وفي كل حالة كان هناك مزيج مختلف من العوامل التفسيرية : التنمية الاقتصادية ، التقسيمات الاجتماعية، الدولة والمؤسسات السياسية ، المجتمع المدني ، الثقافة السياسية ، الارتباطات الدولية وعبر القومية . لذا يمكن القول إن أنماط الدمقرطة ، ومختلف أشكال الديمقراطية الناجمة عنها ، كانت دائماً نتاجاً للطرق المعينة لامتزاج وتفاعل هذه العوامل ، وأدى ذلك إلى اختلاف احتمالات وتوقعات ترسيخ الديمقراطية في هذه النظم المختلفة .
رابعاً: العوامل المؤثرة في ترسيخ الديمقراطية :
________________________________________
تميز الأدبيات العامة للدمقرطة بين عمليات التحول الديمقراطي من جانب والترسيخ الديمقراطي من جانب آخر، فحدوث التحول الديمقراطي أمر، واستمرار وتعزيز الديمقراطية أمر آخر تماماً. كان منظرو المدخل الانتقالي، وخاصة الدراسات التي ركزت على أمريكا اللاتينية، الأكثر انشغالاً بقضايا التعزيز الديمقراطي، ومرد ذلك أساساً نشوء وانهيار النظم الديمقراطية في تلك القارة قبل بدء "الموجة الثالثة". بيد أن المداخل الأخرى تقر كذلك بهذا التمييز. يرى أنصار المدخل البنيوي ضرورة التمييز بين اشتراطات إنشاء الديمقراطية واشتراطات المحافظة عليها وترسيخها. (Rueschemeyer et al., 1992. P. 76) من ناحية أخرى، يجادل ليبست بأنه يجب مأسسة وتعزيز وشرعنة الديمقراطيات الجديدة. (Lipset, 1994, P. 7).
يمكن اعتبار أن الديمقراطية قد ترسخت في بلد ما عندما يقبل جميع الفاعلين السياسيين الأساسيين حقيقة أن العمليات الديمقراطية هي التي تحدد وتملى التفاعلات التي تتم في النظام السياسي. أي يمكن القول إن الديمقراطية قد تعززت عندما يسعى الأفراد والجماعات لتحقيق مصالحهم استناداً على قواعد وترتيبات مؤسسية تعطي للأفراد والجماعات إمكانية السيطرة على عملية اتخاذ القرارات ووضع السياسة العامة عبر التنافس الانتخابي. (Held, 1996, ch. 5).
نجحت الديمقراطية الليبرالية في الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة في الاستمرار وتجاوز آثار فترة الثلاثينيات من القرن العشرين، على الرغم مما تعرضت له الترتيبات المؤسسية من ضغوط بسبب الأزمة الاقتصادية والتوترات الاجتماعية والسياسية لتلك الفترة. إلا أن هذا النجاح كان حالة نادرة مقارنة بانهيار النظم الديمقراطية في أمريكا اللاتينية خلال القرن الماضي، والنمط العام لانهيار الديمقراطية بعد 1960 في العديد من المستعمرات السابقة التي نالت استقلالها على أسس ديمقراطية مع بداية "الموجة الثانية" للديمقراطية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. (Huntington, 1991) كذلك حدثت انتكاسات عديدة للموجة الثالثة للديمقراطية، خاصة في أفريقيا جنوب الصحراء.
الراهن، إن تأسيس نظم سياسية ديمقراطية في بعض البلدان لا يعني بالضرورة أن الديمقراطية سوف تتعزز في هذه البلدان. لذلك من المناسب التساؤل عن فرص بقاء الديمقراطيات المتأسسة حديثاً وما هي العوامل المؤثرة في ترسيخ الديمقراطية بها. تبرز أدبيات الدمقرطات خمسة عوامل ذات تأثير قوي علي التعزيز الديمقراطي. ( Leftwich, 1997, PP.524- 531).
1. الشرعية :
الشرعية مفهوم صعب التحديد والقياس، خاصة في المجتمعات التسلطية، ولكن على الرغم من المشاكل المفاهيمية للشرعية، فمن الواضح أنه لا يمكن لأي مجتمع ديمقراطي أن يستمر طويلاً بدونها، بمعنى أنه لا يستطيع تعزيز الديمقراطية ما لم يكن يتمتع بشكل من أشكال الشرعية، سواء كانت في شكل قبول سلبي أو قبول إيجابي. (Held, 1996)
بيد أنه يمكن فهم مفهوم الشرعية بصورة أفضل إذا تمت تجزئته إجرائياً إلى ثلاثة مكونات:
الشرعية الجغرافية : وتعني أن أولئك الذين يعيشون ضمن نطاق الدولة يقبلون حدودها الإقليمية أو لا يعارضونها علي الأقل إلا عبر الوسائل الدستورية. إذا لم يحس الأفراد والجماعات بشرعية الإطار الجغرافي للدولة تتعرض العمليات السياسية الديمقراطية للتهديد، وفي الحالات المتطرفة قد يأخذ التهديد شكل حركات انفصالية تحاول تشكيل دولة منفصلة أو الانضمام لدولة أخرى. عندما لا تتوفر للجماعات وسائل ديمقراطية لتحقيق الانفصال، فمن غير المحتمل أن يلتزموا بالعمليات الديمقراطية، ويصبح العنف أمراً حتمياً تقريباً. بالتالي، يصبح من الصعب أن تتم التفاعلات السياسية ديمقراطياً، على الأقل في الأقاليم محل النزاع. وهناك أمثلة كثيرة على ذلك، إقليم الباسك في شمال أسبانيا، أريتريا عندما كانت جزءاً من أثيوبيا، شمال سرلانكا حيث يحارب التأميل من أجل دولة مستقلة، وفي نضال سكان الشيشان من أجل الانفصال عن روسيا، وغيرها من الحالات.
الشرعية الدستورية : وتشير إلى القبول العام للدستور، أي البنية الرسمية للقواعد التي تحدد تنظيم وتوزيع القوة السياسية والتنافس عليها، مع ضرورة الأخذ في الاعتبار الأنواع المختلفة والممكنة للقبول. ويمثل تأسيس القواعد الدستورية أحد أصعب جوانب عملية الدمقرطة بحسبان أن عملية التحول الديمقراطي تفتح المجال لمدى واسع من المصالح المتنوعة والمتعارضة. بعض المصالح قد تكون قوية وتخشى التغيير، والبعض الأخر قد يكون ضعيفاً ويطالب بالتغيير. قد تكون المصالح مصالح اقتصادية (ملاك الأراضي)، مصالح سياسية أو مؤسسية (الأحزاب السياسية أو المجالس التشريعية)، مصالح وظيفية (الإدارات البيروقراطية أو القوات المسلحة، خاصة في أمريكا اللاتينية)، مصالح طبقية (العمال المنظمون، كما في البرازيل)، مصالح إثنية، مصالح إقليمية، أو مزيج من بعض هذه المصالح. وكل مجموعة تسعى لمعرفة كيفية تأثير الترتيبات الدستورية الجديدة على مصالحها وضمان حماية هذه المصالح. ونظراً لسعي الجماعات المختلفة إلى التأثير على شكل الدستور ومحتوياته، فإن المفاوضات والمساوامات عادة ما تكون صعبة وشاقة. هكذا، فإن ترسيخ الديمقراطية يستلزم القبول بشرعية الدستور إلى جانب قبول شرعية الحدود السياسية للدولة.
الشرعية السياسية : وتشير إلى المدى الذي يعتبر المواطنون أن نظام الحكم القائم له الحق، إجرائياً، في تولي السلطة. أي يمكن القول إن الحكومة تتمتع بشرعية سياسية، عندما تعكس نتائج الانتخابات التنافسية تفضيلات الناخبين وفقاً للقواعد والترتيبات الدستورية والمؤسسية.
2. الاتفاق العام (الإجماع) حول قواعد العملية السياسية :
لكي تضمن النظم الديمقراطية بقاءها واستمراريتها يتعين أن يكون هناك اتفاق عام على قواعد العمليات السياسية والالتزام بها، أي الالتزام بالعملية الديمقراطية ذاتها، خاصة بين النخب السياسية. بحسبان أن التفاعلات السياسية الديمقراطية تتضمن تنافساً مفتوحاً على السلطة، فإن العملية السياسية الديمقراطية تتسم بعدم التيقن. وفي الواقع، فإن التحول من الحكم التسلطي إلى الحكم الديمقراطي يعني على وجه التحديد أن الجماعة التي كانت تسيطر على القوة والسلطة (القوات المسلحة في أمريكا اللاتينية، الحزب الواحد في البلدان الشيوعية، البيض في جنوب أفريقيا) لم تعد قادرة على السيطرة على نتائج العمليات والتفاعلات السياسية، مما يزيد من درجة عدم تيقنها من النواتج النهائية للعملية الديمقراطية. (Przeworski, 1986, P.58) ويعني التعزيز الديمقراطي التزام جميع الأطراف بقواعد العمليات السياسية وما تتضمنه من عدم تيقن، وقبول النتائج الناجمة عن هذه العمليات، أي قبول العملية الديمقراطية ذاتها.
3. القيود على محتوى السياسات العامة الجديدة :
من غير المحتمل أن تقبل أية مجموعة قواعد العملية الانتخابية إذا كانت هزيمتها تضر بمصالحها ضرراً كبيراً. يعني ذلك، أنه إذا كان على الخاسرين القبول بنتائج العملية الانتخابية الديمقراطية، فإنه يتعين على الفائزين أن يقبلوا أن هناك قيوداً مهمة على ما يستطيعون فعله بقوتهم الجديدة.
وفقاً لهذا العامل أو الشرط الثالث، يعتمد ترسيخ الديمقراطية على ممارسة الأطراف الفائزة الاعتدال ومراعاة بعض القيود عند وضع السياسات العامة المختلفة. بعبارة أخرى، تزداد احتمالات ترسخ واستقرار الديمقراطيات الوليدة إذا لم تقم النخب الحاكمة الجديدة بوضع سياسات عامة متطرفة ومثيرة للخلاف، خاصة إذا كانت هذه السياسات تهدد بشكل خطير مصالح رئيسة أخرى.
في واقع الأمر، يتم الاتفاق على القيود المفروضة على تغييرات السياسة العامة قبل اكتمال عملية التحول الديمقراطي، أي أثناء المفوضات والمساوامات، وبالتالي فإنها جزء من العملية ذاتها (Huntington, 1991/ 1992, PP. 609- 615). ويبين هذا أنه إذا كان من المهم التمييز بين مرحلة التحول الديمقراطي ومرحلة ترسيخ الديمقراطية، فإنه من المهم أيضاً إدراك أن هناك تواصلاً واستمرارية بين المرحلتين.
بمعنى أن ما يحدث خلال مرحلة الدمقرطة له مترتبات مهمة على ما يحدث بعدها. وتقدم جنوب أفريقيا مثالاً جيداً عن ذلك، حيث كان المؤتمر الوطني الأفريقي حريصاً جداً منذ 1994 على عدم تهديد المصالح الاقتصادية للأقلية البيضاء ومصالح رأس المال بصفة عامة. (Leftwich, 1997, P.529)
الراهن، تفرض ضرورة ترسيخ الديمقراطية وضمان استمرارية النظام الديمقراطي الجديد على النخب الجديدة الاعتدال عند وضع السياسات العامة المختلفة. ينطبق ذلك بصفة خاصة إذا كان هناك ميثاق بين النخب حول وضع قيود على السياسات العامة الجديدة في النظام الديمقراطي الجديد، والتي قد يتم تضمينها في الدستور الجديد. كذلك، فإن ذلك ينطبق إذا كان النظام الديمقراطي الجديد يسعى للحصول على إعانات واستثمارات من البلدان والمؤسسات والشركات الغربية الرئيسة. فقد لا يتم تقديم هذه الإعانات والاستثمارات إذا اعتبرت هذه الأطراف أن سياسات النظام الجديد متطرفة وتعرقل أداء وعمليات السوق الحرة، مما يعكس الأهمية المستمرة للعوامل الخارجية حتى بعد استكمال عملية الدمقرطة.
من ناحية أخرى، وفي الوقت الذي يبدو أن القيود على السياسات العامة تمثل شرطاً إجرائياً مهماً لترسيخ الديمقراطية، فإنه ليس بالأمر الذي تحبذه كل النظم الديمقراطية الجديدة أو تستطيع ضمانه بسهولة دائماً، وذلك وفقاً لأوضاعها السياسية الداخلية، ووفقاً للضغوطات والاشتراطات والتوقعات الخارجية.
4. أثر الوضع الاقتصادي (الفقر) على ترسيخ الديمقراطية :
كان من النادر، قبل انطلاق الموجة الثالثة للديمقراطية، أن توجد نظم ديمقراطية راسخة في البلدان الفقيرة جداً. على العكس من ذلك، كان هناك ارتباط إيجابي قوي بين مستوى الثروة الاقتصادية وبين الديمقراطية، وتمثل الهند الاستثناء المهم الوحيد بين الديمقراطيات الليبرالية. بيد أن هذا لا يعني أن المجتمعات الأكثر ثراءً قادرة، بصورة آلية، على ترسيخ الديمقراطية (Huntington, 1984, PP. 198- 199; Lipset et al., 1993, P. 156)
تبين الأدلة الإمبيريقية أن معظم المجتمعات النامية التي يقل متوسط دخل مواطنيها عن 600 دولار في السنة لم تنجح في ترسيخ الديمقراطية الليبرالية قبل 1990، باستثناءات قليلة. مقارنة بذلك، فإن البلدان النامية التي تمكنت من ترسيخ الديمقراطية، مثل فنزويلا وكوستاريكا وغيرها، حققت متوسط دخل فردي يتجاوز 600 دولار في السنة. (World Bank, 1995).
من أهم الأسباب التي تجعل الفقر الشديد عاملاً معرقلاً للترسيخ الديمقراطي، أن الصراع على الموارد النادرة والامتيازات الضخمة التي قد تضمنها السيطرة الكاملة على الدولة في البلدان الفقيرة يجعل الديمقراطية أمراً غير محتمل، بحسبان أن القابضين على مقاليد السلطة يترددون في الدخول في تسويات ولا يرغبون في التخلي عن السلطة، وبالتالي قد يقومون بتعليق العمليات والمؤسسات الديمقراطية الوليدة لضمان البقاء في السلطة. كذلك، فإن الفقر يكون مصحوباً عادة بمستويات عالية نسبياً من الأمية، ومستويات منخفضة من التعليم الرسمي وتخلف وسائل الاتصال، وجميعها لم تقترن، تاريخياً، مع الديمقراطيات المستقرة الراسخة.
في الوقت الذي حدث فيه التحول الديمقراطي في عدد كبير من البلدان الفقيرة بعد 1990، مما قد يعني التقليل من أهمية الارتباط الإيجابي بين الثراء والديمقراطية، فإن الأمر لم يحسم بعد، لإنه إذا فشلت هذه البلدان في ترسيخ الديمقراطية في القرن الحادي والعشرين يكتسب افتراض اقتران الديمقراطية بالثراء والتنمية الاقتصادية زخماً واهتماماً جديداً. أما إذا تمكنت البلدان الفقيرة من ترسيخ نظمها الديمقراطية فإن أهمية هذا الاقتران سوف تنحسر بسرعة.
5. أثر الصراعات الإثنية والثقافية والدينية على ترسيخ الديمقراطية :
تبين الأدلة أن الاختلافات الإثنية والثقافية والدينية (خاصة إذا تداخلت مع عدم المساواة الاقتصادية بين الجماعات) تجعل من الصعب الشروع في عملية التحول الديمقراطي وفي ترسيخ الديمقراطية.
بالطبع ليس من المستحيل التغلب على هذه الاختلافات في الديمقراطيات الراسخة، كما هو الحال في سويسرا وكندا وبلجيكا. إلا أن ذلك يتطلب أن يتم تصميم الترتيبات الدستورية بدقة وبحرص والتوصل إلى مواثيق واتفاقات بين النخب السياسية حتى يمكن الحفاظ على استمرارية النظام الديمقراطي وربط مختلف الجماعات بالبنى المؤسسية للديمقراطية. أما في حالة عدم توفر هذه الأوضاع والشروط الموازنة، فإن هذه الانقسامات والاختلافات لا تجعل من السهل الحفاظ على الديمقراطية وترسيخها، فلقد كان من أهم أسباب انهيار الديمقراطية في أوربا في فترة ما بين الحربين العالميتين في القرن العشرين الصراعات القومية والإثنية التي هيمنت على تلك الفترة.
كما أن الصراعات الإثنية والدينية والثقافية والقومية في أفريقا وآسيا ويوغسلافيا السابقة كانت من أهم العوامل المعرقلة للتحول والترسيخ الديمقراطي في البلدان التي اتسمت بحدة وعنف هذه الصراعات.(Leftwich, 1997, P. 531)
الراهن، يمكن أن يؤدي الصراع الإثني أو الديني أو القومي أو الثقافي الحاد إلى تقليص فرص خلق إجماع واتفاق عام حول العمليات والترتيبات السياسية الديمقراطية. في مثل هذه الأوضاع، تمثل هذه الاختلافات الإطار المرجعي للتعبئة السياسية، غالباً بمترتبات مضادة للديمقراطية. وربما أنه لا يمكن ترسيخ العمليات السياسية الديمقراطية إلا إذا اقتصرت أهمية وتأثير الولاءات الإثنية والدينية والثقافية على المجال الخاص، وإذا انتشرت قيم الالتزام بمواطنة عامة ومشتركة.
ملاحظات ختامية :
________________________________________
يسود الاعتقاد في معظم أدبيات الدمقرطة بأن عمليات التحول الديمقراطي الناجحة تحدث عن طريق المواثيق التي تتفق عليها النخب السياسية، خاصة المصلحون في النظام التسلطي والمعتدلون بين قوى المعارضة. تؤكد هذه العملية - المقيدة بالحاجة إلى مقايضات وتسويات وحماية حقوق الملكية ومصالح القوات المسلحة- على الدور الحاسم للنخب والقيادات السياسية في المبادرة بالتحول الديمقراطي. إلا أن نتائج هذه العملية غالباً ما تكون تأسيس ديمقراطية محدودة، إجرائية ومحافظة، بدلاً من أن تعمل على إدخال تحولات جذرية في المجتمع.
إذا أردنا تقييم مدى احتمالية بروز أشكال ديمقراطية مستقرة وراسخة من نمط التعاون بين النخب الحاكمة والمعارضة، وما يتضمنه من مواثيق واتفاق عام واعتدال وتغيير تدريجي، أم من نمط المعارضة والثورة والصراع والتغير السريع، فإنه يمكن استنتاج أن بروز أشكال ديمقراطية مستقرة وراسخة أكثر احتمالاً وتوقعاً في حالة هيمنة النمط الأول من الدمقرطة، لأنه يمنح النخب السياسية فترة زمنية للتعود على الترتيبات السياسية الديمقراطية الجديدة ويعزز احتمالية استمرارها وتجذيرها.
بعبارة أخرى، تتزايد احتمالات التعزيز الديمقراطي عندما توجد ظروف وأوضاع أساسية داعمة - التعاون، الاتفاق العام، التغيير التدريجي المعتدل- وعندما يوجد عدد كافٍ من الفاعلين السياسيين الذين يعطون أولوية عالية للقيم والأهداف والترتييبات الديمقراطية. والذين يملكون المهارات اللازمة لتفعيلها. وفي حالة غياب هذه الأوضاع والظروف تتضاءل احتمالات الترسيخ الديمقراطي. ويبرز ذلك أهمية العلاقة التفاعلية بين البنية والفعل الإنساني، فالنواتج الديمقراطية لا ترتبط بمجموعة من العوامل البنيوية فحسب، بل ترتبط أيضاً بالقرارات التي يتخذها الفاعلون السياسيون. ففي الوقت الذي تؤثر فيه البنى السياسية والاجتماعية على المسارات الديمقراطية، فإن فهم هذا المسارات يتطلب تحليل دور الفاعل الإنساني وتفاعله مع البني السياسية والاجتماعية في سياقات وحالات مختلفة.
تتسم عملية الدمقرطة بوجود جماعات ذات مصالح متباينة وأهداف متعارضة، وبحسبان عدم إمكانية تحقيق هذه الأهداف معاً وفي وقت متزامن، يصبح من الضروري وجود مقايضات وخيارات صعبة. إلا أن القيام بهذه المقايضات والخيارات ضمن سياق عمليات وتفاعلات سياسية ديمقراطية ليس بالأمر الهين على الإطلاق، بيد أنه لم يزعم أحد أن الديمقراطية أمر سهل.
http://www.jadalonline.net/vb/showthread.php?t=101
تعليقات
إرسال تعليق