التخطي إلى المحتوى الرئيسي

تكلفة حرب العراق: رؤية أميركية

د.عبد الوهاب المسيري

الإدارة الأمريكية الحالية التي يهيمن عليها المحافظون الجدد لا تكف عن نشر الأكاذيب عن أسلحة الدمار الشامل التي يمتلكها العراق وعن علاقته بتنظيم القاعدة. وهي تنشر هذه الأكاذيب حتى تُدخِل الرعب في قلب الشعب الأمريكي، فيعطي تأييده للإدارة الأمريكية فتدخل في مغامرات عسكرية لا يربح منها، في الواقع، سوى المؤسسة الصناعية العسكرية. ومن أهم الأكاذيب التي تحاول الترويج لها هي تكاليف حرب العراق. ففي مقال نشر في الواشنطن بوست (18 نوفمبر 2007) تحت عنوان "ما تتكلفه الحرب في العراق؟ أكثر مما تتصور" بقلم تايلر كوين، أستاذ الاقتصاد بجامعة جورج ماسون.

يشير الكاتب إلى أن جورج بوش طرد لورانس ليندسي، المستشار الاقتصادي للبيت الأبيض عام 2002، بعد أن صرّح أن الحرب على العراق تقدر تكلفتها بنحو 200 مليار دولار. في ذلك الحين كان العاملون في البيت الأبيض يسخرون من ليندسي باعتباره يثير المخاوف بغير داع. وكانت بعض التقديرات التي شاع الاستشهاد بها لتكلفة الحرب على العراق -والذي يعتمد على تحليل أصدره في أغسطس مكتب ميزانية الكونجرس غير المتحيز- كان هو واحد تريليون دولار. ونشر أحد الأعضاء الجمهوريين في اللجنة الاقتصادية المشتركة بالكونجرس تقريرا في الأسبوع الماضي يقدر فاتورة تكاليف الحرب في الفترة من 2002 إلى 2008 بنحو 1.3 تريليون دولار.

ولكن كل هذه الأرقام لا تقترب من التكلفة الحقيقية للعراق، كما يقول البروفيسور تايلر كوين. ولندعه يتحدث بنفسه: "لابد أن يوضع السؤال في إطاره الصحيح، إذ يجب حساب ما تخسره الولايات المتحدة بدلا من التركيز على ما دُفع وحسب. ففي مجال حساب تكلفة الحرب يتم التركيز على الدولارات التي تم إنفاقها، إلا أن التكلفة الحقيقية لاختيار ما –وهو ما يطلق عليه الاقتصاديون "تكلفة الفرصة"- تتكون من البدائل الضائعة، أي من الأشياء التي كان يمكنننا فعلها بدلا مما فعلناه. فمثلا، تكلفة مشاهدة فيلم سينمائي ليست هي فقط الدولارات التي تدفعها ثمنا لتذكرة السينما، ولكنها أيضا التكلفة التي يصعب تحديدها على وجه الدقة لخسارة تناول العشاء في المنزل أو حضور حفلة كوكتيل في العمل. على الرغم من أن هذه الفكرة تبدو بسيطة إلا أنها قابلة للتطبيق دائما، وهو ما يتطلب إعادة التفكير وبعده سنعرف تكاليف حرب العراق الحقيقية.

فلندع جانبا مسألة ما كان بإمكاننا تحقيقه على أرض الوطن بالطاقة والموارد التي خصصناها للعراق ولنركز فقط على الأمن القومي. وهنا سنجد أن التكلفة الحقيقية للحرب –قبل أي شيء آخر- هي أن الولايات المتحدة فقدت الكثير من قدرتها على وقف الانتشار النووي. ودعنا الآن ننظر في بعض تكاليف الفرص الضائعة التي تكبدتها الولايات المتحدة إلى الآن.

1. نحن لم نؤمّن بعد موانينا ضد الإرهاب النووي. التريليون دولار التي ربما نكون أنفقناها على الحرب كان يمكن أن تمول الميزانية السنوية لوزارة الأمن القومي أكثر من 28 مرة.

2. الخسائر البشرية للحرب رهيبة: قتل أكثر من 3800 جندي وأصيب أكثر من 28000 بالإضافة إلى أكثر من 1000 مقاول خاص [أي جندي مرتزق] قتلوا وأكثر منهم أصيبوا. ومن الصعب معرفة كم من العراقيين قتلوا، تدعي بعض التقديرات أن الحرب تسببت في موت مليون عراقي أو أكثر. وحتى إذا ما كانت هذه التقديرات مبالغ فيها، فستظل الخسائر البشرية العراقية كبيرة جدا. ولكن ليست أرواح الناس هي فقط التي خسرناها، وإنما خسرنا أيضا ما كان يمكن أن يقدمه هؤلاء الناس من إسهامات لعائلاتهم وللبشرية بوجه عام.

3. تكلفة أخرى كبيرة خفية: الكثير من المصابين يعانون من إصابات شديدة في المخ أو إصابات أخرى ولن يعودوا أبدا لحياتهم الطبيعية. وعلاوة على ذلك، ستجد واشنطون صعوبة مستقبلا في توظيف جنود عالي الكفاءة وعناصر للحرس الوطني والإبقاء عليهم.

4. لا تنس الإحصائيات الصغيرة التي كثيرا ما تكون هي الأكثر لفتا للأنظار. تبعا لجون بايك، رئيس فريق البحث في GlobalSecurity.org، هناك ما يقدر بنحو 250 ألف رصاصة أطلقت لكل متمرد قتل في العراق. وهذا لا يعد خسارة في الذخيرة فحسب، وإنما يعكس مدى الدمار الذي حل بالعراق و إلى أي مدى كانت بعض المعارك عشوائية. وإليك إشارة صغيرة أخرى: ارتفعت تكلفة الكفن في بغداد إلى 50-70 دولار بعد أن كانت مجرد 5-10 دولار قبل الحرب، وفقا لما نشر في مجلة الأمة (The Nation).

5. وقبل كل شيء فإن حكم العراق كان –إلى الآن- استثمارا غير مجدي. وفقا لإحصائيات عام 2006، وصلت تكاليف الحرب الأمريكية إلى 3.749 مليون دولار لكل عراقي – وهو ما يساوي تقريبا متوسط دخل الفرد السنوي في مصر. وهذا المبلغ المذهل لم يتح لنا قيادة العراق، ولم يقدم نموذجا ديموقراطيا مقنعا لجيرانها العرب.

الحجج المبدئية المؤدية للحرب تقدم أفضل الطرق لفهم لماذا كان الصراع كارثة ألمت بمصالح الولايات المتحدة وبالأمن العالمي. لقد قال الداعون لشن الحرب على العراق أننا –في عالم ما بعد أحداث 11 سبتمبر- في حاجة إلى التخلص من الأنظمة المارقة خشية أن تعطي أسلحة نووية أو بيولوجية للجماعات الإرهابية ذات الصلة بالقاعدة. إلا أنه في كل مرة تحاول الولايات المتحدة أن تفعل هذا وتفشل في إستعادة النظام، فإنا نتكبد تكلفة عالية للفرصة الضائعة –وإن كانت خفية- في المستقبل. وهذا الفشل يجعل من الصعب التخلص من نظام خطر ما في المرة القادمة أو تهديده أو الضغط عليه.

وبطبيعة الحال، فإن الحكومات الأجنبية تتعلم الدرس من فشلنا الذريع، ومن اختيارنا للهدف. فقد قامت الولايات المتحدة بغزو العراق التعس ولم تشن الحرب على كوريا الشمالية المسلحة نوويا. بالنسبة للأنظمة المارقة الحقيقية، كان سقوط بغداد دليلا لكثير من الدول على أنه من المهم الآن الحصول على سلاح نووي أكثر من أي وقت مضى – خاصة بعد أن غرقت القوة العظمى الأخيرة في مستنقع العراق. لقد انسل أعداؤها نحو الحصول على القنبلة، لقد وعت إيران –من بين دول أخرى- هذا الدرس جيدا. المفارقة الساخرة للميراث الذي تركته الحرب التي قامت لإنهاء انتشار الأسلحة النووية هو المزيد من الانتشار لهذه الأسلحة.

والنتيجة الختامية أنه كلما ازداد قلق الإدارة الأمريكية من انتشار أسلحة نهاية العالم بلا ضابط ولا رابط ، كلما ازداد التفكير في المسألة تدعو إلى المزيد من الحرب والمعارك.

ومن المفارقات أن مؤيدي السلام غالبا هم من عليهم تقليل تقديرهم العقلي لتكاليف الحرب التي تستمر لفترة طويلة: فبخوض حرب الإصلاح الفاشلة اليوم، قللت الولايات المتحدة من فرصتها في خوض حرب وقائية أخرى في المستقبل القريب. والرأي العام الأمريكي ليست لديه القابلية لخوض حرب مكلفة عديمة الجدوى كل بضعة سنوات. كما فقد الناخبون الأمريكيون بالفعل صبرهم على وتيرة إعادة إعمار العراق، وخيبة الأمل هذه ستطول. إن الولايات المتحدة احتاجت إلى 15 عاما أو أكثر لـ"تتعافى" من فيتنام. إن رسم صورة القوة والنفوذ الأمريكي في المستقبل يتطلب أن يشعر الشعب الأمريكي الذي نفد صبره بالرضا عن استعراض العضلات الذي تم في الماضي [والذي كلفهم الكثير مادياً ومعنوياً]، وهو أمر صعب تصوره.

حتى لو كانت أعقل الطرق أمامنا هي الالتزام بأسلحتنا ألا أن ضغوط السياسة والرأي العام تعني أنه لا يمكننا دائما أن نقدم الدعم دائما لالتزامات الجيش الأمريكي. ولأن الهرب يلحق أذى شديد بمصداقيتنا ويخلف فوضى كبيرة وراءنا، لذا يجب علينا أن نكون شديدي الحذر فيما يتعلق بالتدخل العسكري في المقام الأول. الدعوة للسلوك المؤيد للحرب غالبا ما تفترض أن الشعب لديه إرادة سياسية أكثر مما لديه بالفعل، ومن ثم فإننا نحتاج إلى ادخار هذا الإصرار للقضايا التي تكون مهمة بحق.

لقد ذهب لورانس ليندسي، ولكن سينتهي به الأمر مطرودا؟

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بحث عن التنمية المستدامة ( البحث منقول)

مقدمة الفصل: لقد أستحوذ موضوع التنمية المستدامة اهتمام العالم خلال 15 سنة المنصرمة وهذا على صعيد الساحة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية العالمية ،حيث أصبحت الاستدامة التنموية مدرسة فكرية عالمية تنتشر في معظم دول العالمي النامي والصناعي على حد سواء تتبناها هيئات شعبية ورسمية وتطالب بتطبيقها فعقدت من أجلها القمم والمؤتمرات والندوات.ورغم الانتشار السريع لمفهوم التنمية المستدامة منذ بداية ظهورها إلا أن هذا المفهوم مازال غامضا بوصفه مفهوما وفلسفة وعملية ،ومازال هذا المفهوم يفسر بطرق مختلفة من قبل الكثيرين ولذلك فقد تم التطرق في هذا الفصل إلى مبحثين رئيسيين:المبحث الأول: ماهية التنمية المستدامة;المبحث الثاني: محاور أساسية في التنمية المستدامة;المبحث الأول: ماهية التنمية المستدامةبدأ استخدام مصطلح التنمية المستدامة كثيرا في الأدب التنموي المعاصر وتعتبر الاستدامة نمط تنموي يمتاز بالعقلانية والرشد، وتتعامل مع النشاطات الاقتصادية التي ترمي للنمو من جهة ومع إجراءات المحافظة على البيئة والموارد الطبيعية من جهة أخرى، وقد أصبح العالم اليوم على قناعة بأن التنمية المستدامة التي تقضي على قضايا التخ

عوامل قوة الدولة

ان لعوامل القوة المتاحة للدولة دور كبير في تحديد مكانتها على الساحة الدولية لكن قبل التعرض لهذه العوامل يجب علينا ان نعرج على بعض المفاهيم إن القوة ـ كما أوضحت تعريفاتها ـ ليست التأثير ، وإنما القدرة على التأثير . وتستند هذه القدرة على امتلاك الدولة إمكانيات (خصائص ، موارد ، قدرات ، مؤسسات) معينة تشكل مقومات القوة القومية Elements of National Power التى تمكنها من التأثير على سلوكيات الدول الأخرى فى الاتجاهات التى تحقق مصالحها، كالمساحة الجغرافية ، وعدد السكان ، والموارد الطبيعية ، والقدرات الإقتصادية ، والقوة العسكرية ، والبنية التكنولوجية ، والفعاليات الثقافية، والمؤسسات السياسية ، والحالة المعنوية للشعب ، وغيرها . لكن ، على الرغم من أن هذه الإمكانيات المتداخلة تشكل فى مجموعها عوامل القوة الشاملة لأى دولة ، فإن هناك اختلافات أساسية فيما بينها ، ترتبط باعتبارات عملية ، تتصل بالقدرة على استخدامها فى عملية التأثير ، خاصة خلال المواقف التى يتعرض في

المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية

المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية "تمثل مدرسة الواقعية السياسية التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية ردة فعل أساسية على تيار المثالية. وهدفت الواقعية إلى دراسة وفهم سلوكيات الدول والعوامل المؤثرة في علاقاتها بعضها مع بعض. . . [لقد] جاءت الواقعية لتدرس وتحلل ما هو قائم في العلاقات الدولية, وتحديداً, سياسة القوة والحرب والنزاعات, ولم تهدف كما فعلت المثالية إلى تقديم . . . [مقترحات] وأفكار حول ما يجب أن تكون عليه العلاقات الدولية". "وقد حاول الواقعيون الحصول على أجوبة لأسئلة مازال يطرحها الأكاديميون والمهتمون بالشؤون الدولية منذ الستينات وحتى يومنا هذا. إذن هدفت الواقعية إلى تقديم نظرية سياسية لتحليل وفهم واستيعاب الظواهر الدولية". يرى مورغنثاو (وهوا من ابرز منظري الواقعية) بان السياسة الدولية تتميز (وتنفرد) "كفرع أكاديمي عن دراسة التاريخ والقانون الدولي والأحداث الجارية والإصلاح السياسي". أهم المسلمات الأساسية في الفكر الواقعي 1. "أن السياسة لا يمكن أن تحددها الأخلاق كما يقول المثاليون بل العكس هو الصحيح. وبالتالي فالمبادىء الأخلاقية لا يمكن تط