التاريخ 26 - 06 - 2009
محمد جمال باروت
باحث في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى(IFPO)/ سوريا
تنتمي الأحزاب القومية واليسارية في علاقتها مع الدولة؛ إلى ما تسميه أدبيات علم السياسة؛ بالأحزاب ذات النشأة الخارجية؛ مقابل الأحزاب ذات النشأة الداخلية. ويتحدد التمييز الأساسي بين هذين النوعين من الأحزاب، فيما يلي:
1- إن الأحزاب ذات النشأة الداخلية؛ قد نشأت بواسطة البرلمان؛ أو أنها تشكلت للوصول إلى البرلمان، وتكوين كتلة مجلسية مؤثرة فيه، وتنتمي إلى هذا النوع؛ حزمة واسعة من الأحزاب التقليدية العربية؛مثل: أحزاب الوفد والأحرار الدستوريين في مصر؛ والحزب الوطني وحزب الشعب في سورية.. إلخ. بينما نشأت الأحزاب ذات النشأة الخارجية تاريخياً خارج البرلمان؛ بهدف تجاوزه كإطار مؤسسي تشريعي ينظم سيادة الأمة ويعبّر عنها، أو استخدامه مرحلياً كساحة من الساحات للانقضاض عليه من داخله؛ وتغييره إلى نسق تمثيلي سياسي جديد؛ وتنتمي إلى هذا النوع حزمة الأحزاب القومية؛ والقومية اليسارية؛ والشيوعية العربية؛ وفي تتبع التطور التاريخي للأحزاب القومية واليسارية والشيوعية؛ فإنه يلاحظ أنها لم تعتبر نفسها قط أحزاباً "تقليدية" من نمط الأحزاب البرلمانية التقليدية، بل كان بعضها ينفر من اسم الحزب نفسه، فيحمل اسم" العصبة" أو" الاتحاد" أو" المنظمة" أو" الحركة"، وغالباً ما يشيع اسم" الحركة". ويعني ذلك أن مفهومها للحزب في الأصل يختلف جوهرياً عن مفهوم الأحزاب ذات النشأة الداخلية للحزب.
2- الأحزاب البرلمانية ذات النشأة الداخلية؛ هي أحزاب تقليدية في مجملها؛ تعبر عن لقاء المصالح بين أعضائها، ويحكم الانضواء في إطار النسق السياسي التمثيلي السائد علاقتها مع الدولة، فيمثل البرلمان لها أداة التغيير الاجتماعي والاقتصادي، بينما تتميز الأحزاب القومية واليسارية والشيوعية ذات النشأة الخارجية؛ في أنها أحزاب" إيديولوجية" أو" عقائدية" على وجه الدقة، يحكم المستوى العقائدي كافة مستوياتها الأخرى، ويحكم علاقتها مع الدولة التطلع أو العمل لتغيير النسق السياسي التمثيلي البرلماني السائد حين يكون هناك برلمانات، واستبداله بنسق سياسي مؤسسي جديد.
وتمثل الثورة بواسطة الحركة الشعبية؛ أو بواسطة الانقلاب العسكري، أو بواسطة الحركة العسكرية- الشعبية منهجها في التغيير، عبر الاستيلاء على سلطة الدولة أو الوصول إليها، واستخدام هذه السلطة أداة للتغيير الاقتصادي- الاجتماعي- السياسي الشامل؛ في ضوء منهاج فكري عقائدي.
ولذلك تتسم الأحزاب ذات النشأة الداخلية عموماً؛ بكونها أحزاباً إصلاحيةً؛ بينما تتسم الأحزاب العقائدية القومية واليسارية وإلى حد كبير الأحزاب الإسلامية؛ بكونها أحزاباً راديكالية.
وكقاعدة؛ تتبنى الأحزاب القومية واليسارية حين تكون خارج السلطة الديموقراطية؛ وتشارك عموماً في الانتخابات البرلمانية متى أمكنها ذلك، غير أنها تستخدم البرلمان أداة للوصول إلى السلطة، ومن ثمّ فرض برنامجها الذي تكون أولى خطواته إلغاء الحياة النيابية؛ أو مسخها بهياكل خاوية من التمثيل الفعلي الحقيقي؛ غير أن نشأتها ؛ وتوسع تأثيرها ودورها ؛ ارتبط بشروط موضوعية تمثلت في هشاشة النسق الليبرالي العربي؛ وفساد النخبه القائدة في مرحلة ما بعد الاستقلال، وتحكم الطبقات القوية بقرارات البرلمان، وعدم قدرة البرلمانات على حل المشكلات الاجتماعية الجوهرية، وهكذا فإن لم يستطع البرلمان أن يحله على مستوى الإصلاح الزراعي حلـّته" الثورات" أو" الانقلابات الثورية".
مثلت الأحزاب القومية والراديكالية الإرادة العامة أكثر مما مثلت جمهور ناخبين. كانت مرحلتها مرحلة كفاح وطني؛ وتدعيم للاستقلال ومحاولة لتحقيق التنمية، والرد على نكبة فلسطين، ومحاولة تحقيق الاتحاد أو الوحدة العربية؛ من هنا ليس مفارقة أن يكون عدد كبير من الذين تلقوا تعليماً فرنسياً؛ قد كانوا في الوقت نفسه من أصلب الراديكاليين في الأحزاب.
وترتبط طبيعة الحياة الداخلية في كل حزب من هذه الأحزاب إلى حد كبير؛ بطبيعة نشأتها الداخلية أو الخارجية، والشروط التي حكمت هذه النشأة:
أ- حكمت العلنية تشكل الأحزاب البرلمانية التقليدية العربية ذات النشأة الداخلية، بينما حكمت " السرية" تشكل الأحزاب القومية واليسارية والشيوعية. وتحدد طبيعة السرية أو العلنية في نشأة هذه الأحزاب طبيعة العلاقات الداخلية في الحياة الحزبية، وأنواع العلاقة مابين الهيئات الحزبية، ففي الأحزاب التقليدية عموماً تحكم العلاقة الشخصية المباشرة بين الشخصيات القيادية؛ أو ما يسمى بـ" أقطاب الحزب" العلاقات الحزبية، فإن العلاقة بين الهيئات بوصفها شخصيات اعتبارية حقوقية حزبية هي التي تحكم العلاقة بين الهيئات الحزبية.
ففي الأحزاب التقليدية تتشخصن العلاقات الداخلية، بينما تسود العلاقات ما فوق الشخصية في الأحزاب القومية واليسارية والشيوعية العربية.
وفي حين تتسم الانشقاقات في الأحزاب التقليدية على الدوام بسمة الانشقاقات التقليدية المؤتلفة حول قطب أو شخصية كبيرة من شخصيات الحزب أو مجموعة من الشخصيات، فإن السمة الأساسية للانشقاقات في الأحزاب القومية واليسارية الرديكالية هي سمة الانشقاقات الفكرية- السياسية بدرجة أساسية.
مما لاريب فيه أن انشقاقات الأحزاب العقائدية تتأثر بعوامل فرعية قد تكون أحيانأ ذات ألوان جهوية أو مذهبية، ولكن هذه الولاءات هي مجرد عامل بين عوامل أخرى في تشكيل الانشقاق؛ وليست عامله المحرّض؛ أو العامل الذي يحكم الانشقاق؛ فطبيعة الحياة السرية، وتقدير الأعضاء العلنيين يلعب دوراً في تعرف الحزب ككل عليهم، وتقويمهم.
ب- لا تحتاج الأحزاب التقليدية البرلمانية إلى البنية السرية في علاقاتها الداخلية؛ بحكم أن منهجها السياسي إصلاحي، ويتم عبر القنوات المؤسسية المشروعة أو القانونية للدولة. بينما تحتاجها الأحزاب القومية واليسارية بحكم أن منهجها تغييري راديكالي شامل؛ ينطوي؛ بل ويقوم على التصادم حسب حالات محددة مع سلطة الدولة وأجهزتها؛ ولذلك تتلاشى الأحزاب التقليدية عموماً ؛ حين يتم حلها لأي سبب؛ بينما تتسم الأحزاب الراديكالية اليسارية والقومية بصلابة الاستمرارية؛ وطول مداها الزمني بالنسبة إلى الأحزاب التقليدية؛ بسبب قيامها على أساس عقائدي يملك آليات ذاتية في تطوره واستمراره؛ وبتعبير آخر؛ فإن دورة حياة الأحزاب الراديكالية القومية واليسارية هي أطول من دورة حياة الأحزاب التقليدية البــــــرلمانية.
ترتفع السرية في الأحزاب القومية واليسارية ، ولكن دوماً حسب الظروف التي تواجهها في علاقتها مع السلطات إلى درجة نمط الحياة في العلاقة داخل الحزب أو بين الحزب وبين الأحزاب الأخرى. فقد كانت هناك عادة رائجة في بعض الفترات لدى بعض هذه الأحزاب، وهي حمل أسماء حركية. فدوماً يكون هناك كادر علني، يتلقى الضربات ويقود الوجه العلني للحزب؛ بينما يتلازم معه دوماً كادر سري، وهكذا حين يتم تفكيك هيئة حزبية معينة؛ يكون هناك بديل احتياطي جاهز للعمل وإعادة البناء، واستمرار العمل.
وتتعقد السرية، وتكتسب أعلى درجاتها تعقيداً؛ حين يكون الحزب القومي واليساري يخوض كفاحاً طبقياً أو وطنياً مسلحاً، أو يمتلك جناحاً عسكرياً، أو يفكر بالانقلاب كوسيلة مختصرة للوصول إلى السلطة وفرض عملية التغيير؛ إذ يترتب على الأجنحة السرية العسكرتارية أو شبه العسكرتارية تشكيل نوع من جهاز أمني داخلي في الحزب؛ يعمل على وجه الضبط كجهاز أمني مثل عمل سائر الأجهزة الأمنية في سلطات الدول التسلطية.
نمّت الأحزاب القومية واليسارية والشيوعية بحكم قوامها الإيديولوجي" الصلب" منهجاً تنظيمياً- سياسياً في الحياة الداخلية؛ هو منهج" تطهير" الحزب، الذي يتم بالقيام بحملات "تطهيرية" ضد الاتجاهات اليمينية أو اليسارية المتطرفة في حالة الأحزاب الشيوعية، أو ضد ما يسمى بالاتجاهات" التحريفية". وتقوم الفلسفة هنا على أن قوة الحزب تتصلب طرداً مع قوة عملية التطهير فيه، فعضو الحزب هو نوع من" نخبة مصطفاة"؛ وأعضاء الحزب الذين يهبون حياتهم لغاية" سامية" تعلو على مصالحهم وترابطاتهم الشخصية هم" نخبة مصطفاة"، أو" طليعة" للطبقة أو الأمة أو الشعب؛ وفي كل حزب راديكالي هناك ترابط بين مفهوم الطليعية وبين مفهوم الرسالة العليا.
ج- تنمي " السرية" بطبيعتها منظومة من العادات والأخلاق التي يمكن وصفها بأخلاق" العمل السري". ويتدرب فيها العضو على الازدواج المتعدد الدرجات، إذ يترتب على" السرية" نتائج سلوكية معقدة في المنظور السلوكي لاتجاهات الشخصية الحزبية في الأحزاب العقائدية القومية واليسارية؛ بينما تغيب " أخلاق" " السرية" عن سلوك الشخصية الحزبية في الأحزاب التقليدية البرلمانية.
د- تفرض " السرية" بطبيعتها أن تكون العلاقات الداخلية الحزبية علاقات بين هيئات أو شخصيات اعتبارية حزبية متراتبة هرمياً، بينما تؤدي" العلنية" إلى بروز دور الأشخاص وتأثيرهم المباشر. فتنعدم على العموم في الأحزاب التقليدية البنية السرية لانتفاء الحاجة إليها، بينما لا تقوم الأحزاب القومية واليسارية والشيوعية أساساً إلا بعامل" السرية". وتفرض السرية بطبيعتها صرامة العلاقة بين الهيئات، بحيث يكون الحزب تفاعلاً بين مؤسساته الداخلية؛ وفق قواعد مضبوطة في النظام الداخلي؛ الذي ينظّم الحياة الداخلية، وإنتاج السلطة داخل الحزب.
هـ - تفرض العلنية بطبيعتها مرونةً حزبيةً في الدخول والخروج من الحزب في نوع الأحزاب التقليدية البرلمانية؛ بينما تفرض السرية" صرامةً" في ترشح العضو أو ترشيحه لاكتساب العضوية، ومروره بمراحل اختبار وتجريب تنطوي على تنفيذه لمهام إختبارية محددة. وتكون هناك عادةً مراتب معقدة للعضوية قد تكون على درجتين مثل شكل عضو نصير/ عضو عامل أو مرشح/ عضو، أو أحياناً على أربع درجات. وتفترض العضوية في الأحزاب القومية واليسارية عموماً المرور بالعمل في المنظمات النوعية التي يشكلها الحزب كأدوات جماهيرية تعبوية له، مثل منظمة الشباب أو النساء أو النقابات. وتشتمل على مراقبة سلوك العضو الفردي، وتكييفه مع البنية العقائدية والتنظيمية للحزب، في نوع أقرب ما يكون إلى" الأخويات" العقائدية الحديثة؛ التي تمثل أخويات بديلة من الأخويات الدينية؛ كما يمكن القول بمصطلحات مؤرخي الأديان. وهناك بعض الأحزاب القومية واليسارية شكلت في حد ذاتها" أخويات" تقوم على معايير" طهرانية" صارمة، وكان أبرزها نمط الحزب السوري القومي الاجتماعي؛ ونمط حركة القوميين العرب. إن الانسحاب من عضوية الحزب التقليدي لا يترافق مع إجراءات استثنائية أو" فائقة" تتخذها قيادة الحزب ضد العضو المنسحب أو المفصول، بينما يترتب على عملية انسحاب العضو أو فصله أو طرده من الأحزاب القومية واليسارية سواء أكانت في مرحلة" النضال السلبي" قبل الوصول إلى السلطة أو المشاركة فيها؛ أم في مرحلة" النضال الإيجابي" بعد الوصول إلى السلطة أو المشاركة فيها" التشهير" بـ" العضو" بعد إجراء" محاكمة حزبية" له. ويترتب على عملية" التشهير" نوع من فرض" الحرم" على العضو المطرود، وإعادة ترتيب الهيئات بشكل تضمن أمنها بعد طرده. وهذا الحرم يمتلك بعض سمات "الحرم" الديني البديل. وكان الحزب السوري القومي الاجتماعي؛ وحركة القوميين العرب؛ والأحزاب الشيوعية العربية؛ من أبرز الأحزاب ذات النشأة الخارجية الراديكالية تميزاً بممارسة منهج" الحرم". وحين يكون الحزب في السلطة؛ فإنه حسب طبيعة الحالة قد تنتهي عملية الطرد بإعدام أو اعتقال العضو" المطرود"، إذ طوّرت بعض الأحزاب الراديكالية التي وصلت إلى السلطة ذلك قانونياً فيما يعرف بـ" قانون أمن الحزب". والحقيقة أن الأحزاب القومية واليسارية كافة مارست هذا القانون بغض النظر عن شرعنته بقوة الدولة القانونية حين يكون الحزب في السلطة.
إن الأحزاب القومية واليسارية؛ هي عبارة عن" أجنّة" لدولة قادمة بديلة من الدولة السائدة، وتحالفات سلطتها القائمة السياسية والاقتصادية؛ ففي كل حزب قومي ويساري راديكالي هناك بالضرورة" جنين دولة" يتم توليده بواسطة العمل الراديكالي أو بواسطة الثورة؛ إن الحزب يمثل هنا" هيئة أركان الثورة" يناضل الحزب من أجل انتصارها، ويقدم التضحيات الجسام في سبيل تحقيقها، ويدرب ويربي الأعضاء على تكييف شخصياتهم الفردية مع معايير الشخصية " الطهرانية" التي يسمو الواجب الحزبي لديها فوق أي واجبٍ آخر.
يرتد الأساس المرجعي المنظم للحياة الداخلية للأحزاب القومية واليسارية والشيوعية إلى نظرية" المركزية الديموقراطية" التي تمثل النظرية التنظيمية لتلك الأحزاب.
تنتمي هذه النظرية تاريخياً كما طبقّتها الأحزاب الراديكالية؛ كأساس لتنظيم حياتها الداخلية إلى النظرية اللينينية للتنظيم أو الحزب؛ تتسم هذه النظرية بالعقلانية وتخضع الحزب إلى معايير العقل، إنها بالأحرى تنظم الحياة الحزبية وفق قواعد العقل المبنية، أو بشكل أدق وفق قواعد العقلانية؛ فهي تقوم على التوحيد الذي هو سمة العقل. فتمثل نظرية المركزية الديموقراطية عالم الانضباط مقابل عالم الفلتان، وعالم القنونة مقابل عالم الاعتباط، وعالم التماسك مقابل عالم التشتت، وعالم الصلابة مقابل عالم الهشاشة، والوحدة مقابل الانقسام، كانت هذه النظرية بصفتها تلك نظرية عقلانية صرفة.
تتسق هذه النظرية مع تعريف الحزب كـ" جنين دولة" قادمة؛ وهي تتحول حين يكون الحزب في السلطة؛ إلى نظرية تنظيمية ليس للحزب فحسب؛ بل وللمجتمع بأسره؛ وفي التجربة السوفياتية وتجارب أشباهها في منظومة أوروبا الشرقية السابقة، والعالم الثالث، كانت نظرية المركزية الديموقراطية نظرية اجتماعية- سياسية- اقتصادية شاملة، تمثلت اقتصادياً- اجتماعياً بنمط التخطيط المركزي الشامل؛ كانت هذه النظرية على وجه الضبط نظرية الحزب- الدولة حين يغدو في السلطة، ونظريته في حياته الداخلية الخاصة به حين يكون" جنين دولة" ما قبل الوصول على السلطة. كان أنطون سعادة مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي يصف الحزب بأنه الدولة "المستقلة الحقيقية"، ويصدر قراراته في صيغة مراسيم، وكان مدراء المصالح الحزبية يحملون اسم "عمداء".
تتكثف الوظائف الأساسية لنظرية" المركزية الديموقراطية" في تحقيق التوازن بين المركزية التي تتطلبها طبيعة الحزب الرديكالية التغييرية للمجتمع بأسره وبين الحرية التي تتطلب عضويةً نشطةً ومبادرةً و" خلاقةً" في العمل الجماهيري للحزب، ومهارات في عملية التنظيم والتعبئة والتجنيد والتأثير في الرأي العام؛وتقوم النظرية على ضرورة تحقيق التوازن الدقيق بين المركزية( مركزية القيادة) والديموقراطية( حرية الأعضاء)؛ وحين يختل هذا التوازن تتحول المركزية وفق مفهوم هذه النظرية عن نفسها إلى دكتاتورية وتسلط، بينما تتحول الديموقراطية حين تطغى على المركزية إلى" ثرثرة نظرية" و" ميوعة ليبيرالية" تهدم صلابة الحزب وتماسكه.
في سبيل تحقيق التوازن بين المركزية والديموقراطية طوّرت هذه النظرية منظومة من الآليات المقنونة والمضبوطة بشكل صارم تتمثل أساسياتها في: انتخاب القيادات الحزبية كافة من خلال مؤتمراتها، وخضوع القيادات الدنيا للقيادات العليا، وحق كل عضو في المناقشة والتصويت؛ على أن يلتزم خارج الحزب بقرار الأكثرية؛ حتى وإن كان يتناقض مع الآراء التي طرحها.
وقد انتشر في بعض الفترات جدل كبير بين البعثيين والشيوعيين حول تبني البعثيين هذه النظرية تحت اسم " الديموقراطية المركزية" ؛وتبني الشيوعيين لها تحت اسم" المركزية الديموقراطية"؛ كان هذا الجدل" نظرياً" " عقيماً" وتحكمه آليات تميز البعثيين عن الشيوعيين، ذلك أن المفهوم واحد، ويرتد إلى بنية واحدة؛ لكن البعث اختلف عن الأحزاب الشيوعية واليسارية حتى العام 1080 في سورية، وحتى العام 2003 في العراق، في أن مندوبي المؤتمر العام القطري أو القومي يتم انتخابهم مباشرة وفق نسبة معينة من مؤتمرات الشعب الحزبية؛ وهي تجمع لعدة فرق حزبية إلى المؤتمر بوصفه أعلى سلطة تشريعية حزبية حسب نطاقه القطري أو القومي، أو إتباع صيغة أخرى تقوم على انتخاب مندوبي المؤتمر من خلال مؤتمرات الفروع التي تجمع القيادات المنتخبة بطريقة الاقتراع السري.
وفي سورية باتت القيادة المركزية للحزب منذ العام 1980 هي التي تسمي أعضاء القيادة وتطرحهم على الانتخاب، بينما ظل انتخاب أعضاء القيادة معمولاً به في العراق حتى العام 2003، لكن كان يصحبه توجيه من خلال تقويم أمين السر لبعض الأعضاء، والذي كان يعني تلقائياً إقصاءهم من الترشح؛ أو الحصول على أصوات تؤدي إلى نجاحهم بعضوية القيادة.
بينما قامت آلية هذه النظرية في الأحزاب الشيوعية؛ على أن القيادة الحزبية الأعلى هي التي تقترح على مؤتمر الهيئة الدنيا أسماء المندوبين، مع حق أي عضو نظرياً بالترشح، وهو ما لا يحدث إلا نادراً، وقد يكون مرتبطاً حين يحدث باضطراب داخلي يعيشه الحزب أو حالة انقسام يعاني منها، وبهذه الطريقة تنتج القيادة العليا السلطة في الحزب، فمن ينتج السلطة في الحزب ليس سوى القيادة العليا، التي تقدم المرشحين للمنظمات القاعدية والوسيطة، والتي تصوت تلك المنظمات ضمن قواعد" الانضباط" لها تلقائياً تحت اسم" انتخابات". وبعد البيروسترويكا طورت بعض الأحزاب الشيوعية آلياتها في صيغة ترشيح القيادة لضعف العدد وطرحه على الانتخاب، أو الاستئناس بانتخاب المؤتمر ضعف العدد وتختار القيادة الأكفأ منهم وفقر العدد المحدد لأعضاء الهيئة الحزبية، أو في طرح الانتخاب الكامل لدى بعض الأحزاب.
والحقيقة أن المؤتمرات العامة للحزب في هذا النمط من الأحزاب لم تكن قط منتظمة إلا في فترة متأخرة، وعلى سبيل المثال، فإن المدة التي تفصل بين تأسيس الحزب الشيوعي السوري- اللبناني؛ وبين المؤتمر الثاني للحزب لا تقل عن( 17) سنة، وإن المدة الفاصلة ين انعقاد المؤتمر الثاني للحزب؛ وبين انعقاد المؤتمر الثالث؛ لا تقل عن( 26) سنة، فخلال مدة تقارب أكثر من( 40) عاماً لم يعقد الحزب الشيوعي السوري سوى( 3) مؤتمرات فقط، وغالباً ما يترافق عقد المؤتمر مع بروز حالة انشقاق، نتيجة تجميد الوضع الحزبي الداخلي، واستئثار القيادة بالسلطة، وهذا يقود إلى مقاربة العلاقة بين الديموقراطية والقوة في الحزب.
إن نظرية المركزية الديموقراطية ليست في حقيقتها الإجرائية المطبّقة؛ أو التي طبّقت؛ إلا نظرية لضمان سلطة النخبة العليا في الحزب على الحزب بأسره، التي تحتكر إنتاج السلطة في الحزب فعلياً في شكل إنتاجها من الأعلى تحت اسم إنتاجها من الأدنى، فالديموقراطية فيها ليست إلا ديموقراطية مقلوبة لاتحمل من الديموقراطية سوى الاسم، من الناحية النظرية تقوم الأحزاب القومية واليسارية على القيادة الجماعية، لكن القيادة الجماعية ليست سوى " فخم" لتراتبية القوة والسلطة معاً في الحزب،ويقصد بالقوة هنا دلالة مفهوم Pouvoir, وبالسلطة دلالة مفهوم Autorite. وتنطوي القوة بطبيعتها على نظام الثواب والعقاب، وهو نظام أوامري بطبيعته، فحيث تغيب القدرة على الثواب والعقاب تغيب القوة. ومن يحكم إنتاج السلطة والقيادات في الحزب هو القوة، وسيطرتها على نظام العقاب والثواب، وبتعبير آخر؛ فإن السلطات في الحزب محكومة بالقوة؛ ويتسم احتكار القوة في الحزب بدوره بتراتبية تخضع للبنية التراتبية الهرمية الحزبية، فالقوة موزعة على تراتبيات الحزب، لكن منطق�
مركز القدس للدراسات السياسية
محمد جمال باروت
باحث في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى(IFPO)/ سوريا
تنتمي الأحزاب القومية واليسارية في علاقتها مع الدولة؛ إلى ما تسميه أدبيات علم السياسة؛ بالأحزاب ذات النشأة الخارجية؛ مقابل الأحزاب ذات النشأة الداخلية. ويتحدد التمييز الأساسي بين هذين النوعين من الأحزاب، فيما يلي:
1- إن الأحزاب ذات النشأة الداخلية؛ قد نشأت بواسطة البرلمان؛ أو أنها تشكلت للوصول إلى البرلمان، وتكوين كتلة مجلسية مؤثرة فيه، وتنتمي إلى هذا النوع؛ حزمة واسعة من الأحزاب التقليدية العربية؛مثل: أحزاب الوفد والأحرار الدستوريين في مصر؛ والحزب الوطني وحزب الشعب في سورية.. إلخ. بينما نشأت الأحزاب ذات النشأة الخارجية تاريخياً خارج البرلمان؛ بهدف تجاوزه كإطار مؤسسي تشريعي ينظم سيادة الأمة ويعبّر عنها، أو استخدامه مرحلياً كساحة من الساحات للانقضاض عليه من داخله؛ وتغييره إلى نسق تمثيلي سياسي جديد؛ وتنتمي إلى هذا النوع حزمة الأحزاب القومية؛ والقومية اليسارية؛ والشيوعية العربية؛ وفي تتبع التطور التاريخي للأحزاب القومية واليسارية والشيوعية؛ فإنه يلاحظ أنها لم تعتبر نفسها قط أحزاباً "تقليدية" من نمط الأحزاب البرلمانية التقليدية، بل كان بعضها ينفر من اسم الحزب نفسه، فيحمل اسم" العصبة" أو" الاتحاد" أو" المنظمة" أو" الحركة"، وغالباً ما يشيع اسم" الحركة". ويعني ذلك أن مفهومها للحزب في الأصل يختلف جوهرياً عن مفهوم الأحزاب ذات النشأة الداخلية للحزب.
2- الأحزاب البرلمانية ذات النشأة الداخلية؛ هي أحزاب تقليدية في مجملها؛ تعبر عن لقاء المصالح بين أعضائها، ويحكم الانضواء في إطار النسق السياسي التمثيلي السائد علاقتها مع الدولة، فيمثل البرلمان لها أداة التغيير الاجتماعي والاقتصادي، بينما تتميز الأحزاب القومية واليسارية والشيوعية ذات النشأة الخارجية؛ في أنها أحزاب" إيديولوجية" أو" عقائدية" على وجه الدقة، يحكم المستوى العقائدي كافة مستوياتها الأخرى، ويحكم علاقتها مع الدولة التطلع أو العمل لتغيير النسق السياسي التمثيلي البرلماني السائد حين يكون هناك برلمانات، واستبداله بنسق سياسي مؤسسي جديد.
وتمثل الثورة بواسطة الحركة الشعبية؛ أو بواسطة الانقلاب العسكري، أو بواسطة الحركة العسكرية- الشعبية منهجها في التغيير، عبر الاستيلاء على سلطة الدولة أو الوصول إليها، واستخدام هذه السلطة أداة للتغيير الاقتصادي- الاجتماعي- السياسي الشامل؛ في ضوء منهاج فكري عقائدي.
ولذلك تتسم الأحزاب ذات النشأة الداخلية عموماً؛ بكونها أحزاباً إصلاحيةً؛ بينما تتسم الأحزاب العقائدية القومية واليسارية وإلى حد كبير الأحزاب الإسلامية؛ بكونها أحزاباً راديكالية.
وكقاعدة؛ تتبنى الأحزاب القومية واليسارية حين تكون خارج السلطة الديموقراطية؛ وتشارك عموماً في الانتخابات البرلمانية متى أمكنها ذلك، غير أنها تستخدم البرلمان أداة للوصول إلى السلطة، ومن ثمّ فرض برنامجها الذي تكون أولى خطواته إلغاء الحياة النيابية؛ أو مسخها بهياكل خاوية من التمثيل الفعلي الحقيقي؛ غير أن نشأتها ؛ وتوسع تأثيرها ودورها ؛ ارتبط بشروط موضوعية تمثلت في هشاشة النسق الليبرالي العربي؛ وفساد النخبه القائدة في مرحلة ما بعد الاستقلال، وتحكم الطبقات القوية بقرارات البرلمان، وعدم قدرة البرلمانات على حل المشكلات الاجتماعية الجوهرية، وهكذا فإن لم يستطع البرلمان أن يحله على مستوى الإصلاح الزراعي حلـّته" الثورات" أو" الانقلابات الثورية".
مثلت الأحزاب القومية والراديكالية الإرادة العامة أكثر مما مثلت جمهور ناخبين. كانت مرحلتها مرحلة كفاح وطني؛ وتدعيم للاستقلال ومحاولة لتحقيق التنمية، والرد على نكبة فلسطين، ومحاولة تحقيق الاتحاد أو الوحدة العربية؛ من هنا ليس مفارقة أن يكون عدد كبير من الذين تلقوا تعليماً فرنسياً؛ قد كانوا في الوقت نفسه من أصلب الراديكاليين في الأحزاب.
وترتبط طبيعة الحياة الداخلية في كل حزب من هذه الأحزاب إلى حد كبير؛ بطبيعة نشأتها الداخلية أو الخارجية، والشروط التي حكمت هذه النشأة:
أ- حكمت العلنية تشكل الأحزاب البرلمانية التقليدية العربية ذات النشأة الداخلية، بينما حكمت " السرية" تشكل الأحزاب القومية واليسارية والشيوعية. وتحدد طبيعة السرية أو العلنية في نشأة هذه الأحزاب طبيعة العلاقات الداخلية في الحياة الحزبية، وأنواع العلاقة مابين الهيئات الحزبية، ففي الأحزاب التقليدية عموماً تحكم العلاقة الشخصية المباشرة بين الشخصيات القيادية؛ أو ما يسمى بـ" أقطاب الحزب" العلاقات الحزبية، فإن العلاقة بين الهيئات بوصفها شخصيات اعتبارية حقوقية حزبية هي التي تحكم العلاقة بين الهيئات الحزبية.
ففي الأحزاب التقليدية تتشخصن العلاقات الداخلية، بينما تسود العلاقات ما فوق الشخصية في الأحزاب القومية واليسارية والشيوعية العربية.
وفي حين تتسم الانشقاقات في الأحزاب التقليدية على الدوام بسمة الانشقاقات التقليدية المؤتلفة حول قطب أو شخصية كبيرة من شخصيات الحزب أو مجموعة من الشخصيات، فإن السمة الأساسية للانشقاقات في الأحزاب القومية واليسارية الرديكالية هي سمة الانشقاقات الفكرية- السياسية بدرجة أساسية.
مما لاريب فيه أن انشقاقات الأحزاب العقائدية تتأثر بعوامل فرعية قد تكون أحيانأ ذات ألوان جهوية أو مذهبية، ولكن هذه الولاءات هي مجرد عامل بين عوامل أخرى في تشكيل الانشقاق؛ وليست عامله المحرّض؛ أو العامل الذي يحكم الانشقاق؛ فطبيعة الحياة السرية، وتقدير الأعضاء العلنيين يلعب دوراً في تعرف الحزب ككل عليهم، وتقويمهم.
ب- لا تحتاج الأحزاب التقليدية البرلمانية إلى البنية السرية في علاقاتها الداخلية؛ بحكم أن منهجها السياسي إصلاحي، ويتم عبر القنوات المؤسسية المشروعة أو القانونية للدولة. بينما تحتاجها الأحزاب القومية واليسارية بحكم أن منهجها تغييري راديكالي شامل؛ ينطوي؛ بل ويقوم على التصادم حسب حالات محددة مع سلطة الدولة وأجهزتها؛ ولذلك تتلاشى الأحزاب التقليدية عموماً ؛ حين يتم حلها لأي سبب؛ بينما تتسم الأحزاب الراديكالية اليسارية والقومية بصلابة الاستمرارية؛ وطول مداها الزمني بالنسبة إلى الأحزاب التقليدية؛ بسبب قيامها على أساس عقائدي يملك آليات ذاتية في تطوره واستمراره؛ وبتعبير آخر؛ فإن دورة حياة الأحزاب الراديكالية القومية واليسارية هي أطول من دورة حياة الأحزاب التقليدية البــــــرلمانية.
ترتفع السرية في الأحزاب القومية واليسارية ، ولكن دوماً حسب الظروف التي تواجهها في علاقتها مع السلطات إلى درجة نمط الحياة في العلاقة داخل الحزب أو بين الحزب وبين الأحزاب الأخرى. فقد كانت هناك عادة رائجة في بعض الفترات لدى بعض هذه الأحزاب، وهي حمل أسماء حركية. فدوماً يكون هناك كادر علني، يتلقى الضربات ويقود الوجه العلني للحزب؛ بينما يتلازم معه دوماً كادر سري، وهكذا حين يتم تفكيك هيئة حزبية معينة؛ يكون هناك بديل احتياطي جاهز للعمل وإعادة البناء، واستمرار العمل.
وتتعقد السرية، وتكتسب أعلى درجاتها تعقيداً؛ حين يكون الحزب القومي واليساري يخوض كفاحاً طبقياً أو وطنياً مسلحاً، أو يمتلك جناحاً عسكرياً، أو يفكر بالانقلاب كوسيلة مختصرة للوصول إلى السلطة وفرض عملية التغيير؛ إذ يترتب على الأجنحة السرية العسكرتارية أو شبه العسكرتارية تشكيل نوع من جهاز أمني داخلي في الحزب؛ يعمل على وجه الضبط كجهاز أمني مثل عمل سائر الأجهزة الأمنية في سلطات الدول التسلطية.
نمّت الأحزاب القومية واليسارية والشيوعية بحكم قوامها الإيديولوجي" الصلب" منهجاً تنظيمياً- سياسياً في الحياة الداخلية؛ هو منهج" تطهير" الحزب، الذي يتم بالقيام بحملات "تطهيرية" ضد الاتجاهات اليمينية أو اليسارية المتطرفة في حالة الأحزاب الشيوعية، أو ضد ما يسمى بالاتجاهات" التحريفية". وتقوم الفلسفة هنا على أن قوة الحزب تتصلب طرداً مع قوة عملية التطهير فيه، فعضو الحزب هو نوع من" نخبة مصطفاة"؛ وأعضاء الحزب الذين يهبون حياتهم لغاية" سامية" تعلو على مصالحهم وترابطاتهم الشخصية هم" نخبة مصطفاة"، أو" طليعة" للطبقة أو الأمة أو الشعب؛ وفي كل حزب راديكالي هناك ترابط بين مفهوم الطليعية وبين مفهوم الرسالة العليا.
ج- تنمي " السرية" بطبيعتها منظومة من العادات والأخلاق التي يمكن وصفها بأخلاق" العمل السري". ويتدرب فيها العضو على الازدواج المتعدد الدرجات، إذ يترتب على" السرية" نتائج سلوكية معقدة في المنظور السلوكي لاتجاهات الشخصية الحزبية في الأحزاب العقائدية القومية واليسارية؛ بينما تغيب " أخلاق" " السرية" عن سلوك الشخصية الحزبية في الأحزاب التقليدية البرلمانية.
د- تفرض " السرية" بطبيعتها أن تكون العلاقات الداخلية الحزبية علاقات بين هيئات أو شخصيات اعتبارية حزبية متراتبة هرمياً، بينما تؤدي" العلنية" إلى بروز دور الأشخاص وتأثيرهم المباشر. فتنعدم على العموم في الأحزاب التقليدية البنية السرية لانتفاء الحاجة إليها، بينما لا تقوم الأحزاب القومية واليسارية والشيوعية أساساً إلا بعامل" السرية". وتفرض السرية بطبيعتها صرامة العلاقة بين الهيئات، بحيث يكون الحزب تفاعلاً بين مؤسساته الداخلية؛ وفق قواعد مضبوطة في النظام الداخلي؛ الذي ينظّم الحياة الداخلية، وإنتاج السلطة داخل الحزب.
هـ - تفرض العلنية بطبيعتها مرونةً حزبيةً في الدخول والخروج من الحزب في نوع الأحزاب التقليدية البرلمانية؛ بينما تفرض السرية" صرامةً" في ترشح العضو أو ترشيحه لاكتساب العضوية، ومروره بمراحل اختبار وتجريب تنطوي على تنفيذه لمهام إختبارية محددة. وتكون هناك عادةً مراتب معقدة للعضوية قد تكون على درجتين مثل شكل عضو نصير/ عضو عامل أو مرشح/ عضو، أو أحياناً على أربع درجات. وتفترض العضوية في الأحزاب القومية واليسارية عموماً المرور بالعمل في المنظمات النوعية التي يشكلها الحزب كأدوات جماهيرية تعبوية له، مثل منظمة الشباب أو النساء أو النقابات. وتشتمل على مراقبة سلوك العضو الفردي، وتكييفه مع البنية العقائدية والتنظيمية للحزب، في نوع أقرب ما يكون إلى" الأخويات" العقائدية الحديثة؛ التي تمثل أخويات بديلة من الأخويات الدينية؛ كما يمكن القول بمصطلحات مؤرخي الأديان. وهناك بعض الأحزاب القومية واليسارية شكلت في حد ذاتها" أخويات" تقوم على معايير" طهرانية" صارمة، وكان أبرزها نمط الحزب السوري القومي الاجتماعي؛ ونمط حركة القوميين العرب. إن الانسحاب من عضوية الحزب التقليدي لا يترافق مع إجراءات استثنائية أو" فائقة" تتخذها قيادة الحزب ضد العضو المنسحب أو المفصول، بينما يترتب على عملية انسحاب العضو أو فصله أو طرده من الأحزاب القومية واليسارية سواء أكانت في مرحلة" النضال السلبي" قبل الوصول إلى السلطة أو المشاركة فيها؛ أم في مرحلة" النضال الإيجابي" بعد الوصول إلى السلطة أو المشاركة فيها" التشهير" بـ" العضو" بعد إجراء" محاكمة حزبية" له. ويترتب على عملية" التشهير" نوع من فرض" الحرم" على العضو المطرود، وإعادة ترتيب الهيئات بشكل تضمن أمنها بعد طرده. وهذا الحرم يمتلك بعض سمات "الحرم" الديني البديل. وكان الحزب السوري القومي الاجتماعي؛ وحركة القوميين العرب؛ والأحزاب الشيوعية العربية؛ من أبرز الأحزاب ذات النشأة الخارجية الراديكالية تميزاً بممارسة منهج" الحرم". وحين يكون الحزب في السلطة؛ فإنه حسب طبيعة الحالة قد تنتهي عملية الطرد بإعدام أو اعتقال العضو" المطرود"، إذ طوّرت بعض الأحزاب الراديكالية التي وصلت إلى السلطة ذلك قانونياً فيما يعرف بـ" قانون أمن الحزب". والحقيقة أن الأحزاب القومية واليسارية كافة مارست هذا القانون بغض النظر عن شرعنته بقوة الدولة القانونية حين يكون الحزب في السلطة.
إن الأحزاب القومية واليسارية؛ هي عبارة عن" أجنّة" لدولة قادمة بديلة من الدولة السائدة، وتحالفات سلطتها القائمة السياسية والاقتصادية؛ ففي كل حزب قومي ويساري راديكالي هناك بالضرورة" جنين دولة" يتم توليده بواسطة العمل الراديكالي أو بواسطة الثورة؛ إن الحزب يمثل هنا" هيئة أركان الثورة" يناضل الحزب من أجل انتصارها، ويقدم التضحيات الجسام في سبيل تحقيقها، ويدرب ويربي الأعضاء على تكييف شخصياتهم الفردية مع معايير الشخصية " الطهرانية" التي يسمو الواجب الحزبي لديها فوق أي واجبٍ آخر.
يرتد الأساس المرجعي المنظم للحياة الداخلية للأحزاب القومية واليسارية والشيوعية إلى نظرية" المركزية الديموقراطية" التي تمثل النظرية التنظيمية لتلك الأحزاب.
تنتمي هذه النظرية تاريخياً كما طبقّتها الأحزاب الراديكالية؛ كأساس لتنظيم حياتها الداخلية إلى النظرية اللينينية للتنظيم أو الحزب؛ تتسم هذه النظرية بالعقلانية وتخضع الحزب إلى معايير العقل، إنها بالأحرى تنظم الحياة الحزبية وفق قواعد العقل المبنية، أو بشكل أدق وفق قواعد العقلانية؛ فهي تقوم على التوحيد الذي هو سمة العقل. فتمثل نظرية المركزية الديموقراطية عالم الانضباط مقابل عالم الفلتان، وعالم القنونة مقابل عالم الاعتباط، وعالم التماسك مقابل عالم التشتت، وعالم الصلابة مقابل عالم الهشاشة، والوحدة مقابل الانقسام، كانت هذه النظرية بصفتها تلك نظرية عقلانية صرفة.
تتسق هذه النظرية مع تعريف الحزب كـ" جنين دولة" قادمة؛ وهي تتحول حين يكون الحزب في السلطة؛ إلى نظرية تنظيمية ليس للحزب فحسب؛ بل وللمجتمع بأسره؛ وفي التجربة السوفياتية وتجارب أشباهها في منظومة أوروبا الشرقية السابقة، والعالم الثالث، كانت نظرية المركزية الديموقراطية نظرية اجتماعية- سياسية- اقتصادية شاملة، تمثلت اقتصادياً- اجتماعياً بنمط التخطيط المركزي الشامل؛ كانت هذه النظرية على وجه الضبط نظرية الحزب- الدولة حين يغدو في السلطة، ونظريته في حياته الداخلية الخاصة به حين يكون" جنين دولة" ما قبل الوصول على السلطة. كان أنطون سعادة مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي يصف الحزب بأنه الدولة "المستقلة الحقيقية"، ويصدر قراراته في صيغة مراسيم، وكان مدراء المصالح الحزبية يحملون اسم "عمداء".
تتكثف الوظائف الأساسية لنظرية" المركزية الديموقراطية" في تحقيق التوازن بين المركزية التي تتطلبها طبيعة الحزب الرديكالية التغييرية للمجتمع بأسره وبين الحرية التي تتطلب عضويةً نشطةً ومبادرةً و" خلاقةً" في العمل الجماهيري للحزب، ومهارات في عملية التنظيم والتعبئة والتجنيد والتأثير في الرأي العام؛وتقوم النظرية على ضرورة تحقيق التوازن الدقيق بين المركزية( مركزية القيادة) والديموقراطية( حرية الأعضاء)؛ وحين يختل هذا التوازن تتحول المركزية وفق مفهوم هذه النظرية عن نفسها إلى دكتاتورية وتسلط، بينما تتحول الديموقراطية حين تطغى على المركزية إلى" ثرثرة نظرية" و" ميوعة ليبيرالية" تهدم صلابة الحزب وتماسكه.
في سبيل تحقيق التوازن بين المركزية والديموقراطية طوّرت هذه النظرية منظومة من الآليات المقنونة والمضبوطة بشكل صارم تتمثل أساسياتها في: انتخاب القيادات الحزبية كافة من خلال مؤتمراتها، وخضوع القيادات الدنيا للقيادات العليا، وحق كل عضو في المناقشة والتصويت؛ على أن يلتزم خارج الحزب بقرار الأكثرية؛ حتى وإن كان يتناقض مع الآراء التي طرحها.
وقد انتشر في بعض الفترات جدل كبير بين البعثيين والشيوعيين حول تبني البعثيين هذه النظرية تحت اسم " الديموقراطية المركزية" ؛وتبني الشيوعيين لها تحت اسم" المركزية الديموقراطية"؛ كان هذا الجدل" نظرياً" " عقيماً" وتحكمه آليات تميز البعثيين عن الشيوعيين، ذلك أن المفهوم واحد، ويرتد إلى بنية واحدة؛ لكن البعث اختلف عن الأحزاب الشيوعية واليسارية حتى العام 1080 في سورية، وحتى العام 2003 في العراق، في أن مندوبي المؤتمر العام القطري أو القومي يتم انتخابهم مباشرة وفق نسبة معينة من مؤتمرات الشعب الحزبية؛ وهي تجمع لعدة فرق حزبية إلى المؤتمر بوصفه أعلى سلطة تشريعية حزبية حسب نطاقه القطري أو القومي، أو إتباع صيغة أخرى تقوم على انتخاب مندوبي المؤتمر من خلال مؤتمرات الفروع التي تجمع القيادات المنتخبة بطريقة الاقتراع السري.
وفي سورية باتت القيادة المركزية للحزب منذ العام 1980 هي التي تسمي أعضاء القيادة وتطرحهم على الانتخاب، بينما ظل انتخاب أعضاء القيادة معمولاً به في العراق حتى العام 2003، لكن كان يصحبه توجيه من خلال تقويم أمين السر لبعض الأعضاء، والذي كان يعني تلقائياً إقصاءهم من الترشح؛ أو الحصول على أصوات تؤدي إلى نجاحهم بعضوية القيادة.
بينما قامت آلية هذه النظرية في الأحزاب الشيوعية؛ على أن القيادة الحزبية الأعلى هي التي تقترح على مؤتمر الهيئة الدنيا أسماء المندوبين، مع حق أي عضو نظرياً بالترشح، وهو ما لا يحدث إلا نادراً، وقد يكون مرتبطاً حين يحدث باضطراب داخلي يعيشه الحزب أو حالة انقسام يعاني منها، وبهذه الطريقة تنتج القيادة العليا السلطة في الحزب، فمن ينتج السلطة في الحزب ليس سوى القيادة العليا، التي تقدم المرشحين للمنظمات القاعدية والوسيطة، والتي تصوت تلك المنظمات ضمن قواعد" الانضباط" لها تلقائياً تحت اسم" انتخابات". وبعد البيروسترويكا طورت بعض الأحزاب الشيوعية آلياتها في صيغة ترشيح القيادة لضعف العدد وطرحه على الانتخاب، أو الاستئناس بانتخاب المؤتمر ضعف العدد وتختار القيادة الأكفأ منهم وفقر العدد المحدد لأعضاء الهيئة الحزبية، أو في طرح الانتخاب الكامل لدى بعض الأحزاب.
والحقيقة أن المؤتمرات العامة للحزب في هذا النمط من الأحزاب لم تكن قط منتظمة إلا في فترة متأخرة، وعلى سبيل المثال، فإن المدة التي تفصل بين تأسيس الحزب الشيوعي السوري- اللبناني؛ وبين المؤتمر الثاني للحزب لا تقل عن( 17) سنة، وإن المدة الفاصلة ين انعقاد المؤتمر الثاني للحزب؛ وبين انعقاد المؤتمر الثالث؛ لا تقل عن( 26) سنة، فخلال مدة تقارب أكثر من( 40) عاماً لم يعقد الحزب الشيوعي السوري سوى( 3) مؤتمرات فقط، وغالباً ما يترافق عقد المؤتمر مع بروز حالة انشقاق، نتيجة تجميد الوضع الحزبي الداخلي، واستئثار القيادة بالسلطة، وهذا يقود إلى مقاربة العلاقة بين الديموقراطية والقوة في الحزب.
إن نظرية المركزية الديموقراطية ليست في حقيقتها الإجرائية المطبّقة؛ أو التي طبّقت؛ إلا نظرية لضمان سلطة النخبة العليا في الحزب على الحزب بأسره، التي تحتكر إنتاج السلطة في الحزب فعلياً في شكل إنتاجها من الأعلى تحت اسم إنتاجها من الأدنى، فالديموقراطية فيها ليست إلا ديموقراطية مقلوبة لاتحمل من الديموقراطية سوى الاسم، من الناحية النظرية تقوم الأحزاب القومية واليسارية على القيادة الجماعية، لكن القيادة الجماعية ليست سوى " فخم" لتراتبية القوة والسلطة معاً في الحزب،ويقصد بالقوة هنا دلالة مفهوم Pouvoir, وبالسلطة دلالة مفهوم Autorite. وتنطوي القوة بطبيعتها على نظام الثواب والعقاب، وهو نظام أوامري بطبيعته، فحيث تغيب القدرة على الثواب والعقاب تغيب القوة. ومن يحكم إنتاج السلطة والقيادات في الحزب هو القوة، وسيطرتها على نظام العقاب والثواب، وبتعبير آخر؛ فإن السلطات في الحزب محكومة بالقوة؛ ويتسم احتكار القوة في الحزب بدوره بتراتبية تخضع للبنية التراتبية الهرمية الحزبية، فالقوة موزعة على تراتبيات الحزب، لكن منطق�
مركز القدس للدراسات السياسية
تعليقات
إرسال تعليق