التخطي إلى المحتوى الرئيسي

التحول الديموقراطي واستقلالية القضاء


الكاتب : د.ادريس لكريني
التاريخ : 2009-10-20 08:55:42
ترتبط الديمقراطية عادة بتداول السلطة بشكل مشروع وسلمي؛ بما يسمح بإشراك المواطنين في تدبير أمورهم والمساهمة في اتخاذ القرارات التي تهمهم، واحترام حقوق الإنسان مع القدرة على تدبير الاختلاف بشكل بناء.. وهي مسيرة معقدة ومركبة تحتاج إلى مجموعة من العوامل والشروط الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتربوية والقانونية والمؤسساتية..

ومعلوم أن هناك علاقة قوية متبادلة بين الممارسة الديموقراطية واستقلالية القضاء؛ فالديمقراطية تظل بحاجة ماسة إلى قضاء مستقل قادر على مقاربة مختلف القضايا والملفات بنوع من الجرأة والنزاهة والموضوعية؛ بعيدا عن أي تدخل قد تباشره السلطات الأخرى؛ مثلما يظل القضاء من جانبه بحاجة إلى شروط موضوعية وبيئة سليمة مبنية على الممارسة الديمقراطية تعزز من مكانته وتدعمه وتسمح له بتحقيق العدالة المنشودة وترسيخ المساواة أمام القانون؛ بعيدا عن أي استهتار أو انحراف بالقوانين.

إن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي شهدها المغرب فيما مضى؛ لم تكن لتقع بنفس الشكل والوتيرة (اختطافات واعتقالات تعسفية وتعذيب ودفن جماعي وإطلاق النار خلال أحداث اجتماعية شهدتها البلاد..) في وجود قضاء قوي ومستقل.

كما أن الانتخابات التي تفرز نخبا يفترض أن تتولى تدبير الشأن العام والوطني والسهر على قضايا المواطنين الحيوية؛ تتطلب وجود قضاء فعال ومستقل قادر على ضمان نزاهتها ومرورها في جو سليم وبناء؛ من خلال معاقبة المفسدين وتكريس تكافؤ الفرص واحترام إرادة الجماهير.

ولذلك فهناك عدد من الباحثين من يعتقد بأن وجود قضاء مستقل يؤكده ويحميه الدستور هو شرط أساسي للديموقراطية يتجاوز في أهميته إجراء الانتخابات ذاتها..
إن استقلالية القضاء تقتضي عدم وجود أي تأثير مادي أو معنوي أو تدخل مباشر أو غير مباشر وبأية وسيلة في عمل السلطة القضائية؛ بالشكل الذي يمكن أن يؤثر في عملها المرتبط بتحقيق العدالة، كما يعني أيضا رفض القضاة أنفسهم لهذه التأثيرات والحرص على استقلاليتهم ونزاهتهم.

وترسيخ استقلالية القضاء هو مدخل فعال للتغلب على الجريمة في مختلف أبعادها ووسيلة رئيسية لتكريس العدالة وحماية الحريات وضمان احترام حقوق الإنسان؛ وسيادة الثقة في القانون والمؤسسات والتشجيع على الاستثمار؛ كما أن هناك علاقة وطيدة بينه وبين بناء مجتمع ديموقراطي.

ويفترض أن يقوم مبدأ استقلالية القضاء على مجموعة من المرتكزات التي تعززه؛ من قبيل اختيار قضاة من ذوى الكفاءات والقدرات التعليمية والتدريبية المناسبة، ومنحهم سلطة حقيقية تتجاوز الصلاحيات الشكلية؛ وتسمح للقضاء بأن يحظى بنفس القوة المتاحة للسلطتين التشريعية والتنفيذية؛ وتجعله مختصا على مستوى طبيعة الهيئة القضائية والصلاحيات المخولة؛ مع توفير الشروط اللازمة لممارستها في جو من الحياد والمسؤولية، بالإضافة إلى وجود ضمانات خاصة بحماية القضاة من أي تدخل يمكن أن تباشره السلطتين التشريعية والتنفيذية في مواجهة أعمالهم أو ترقيتهم أو عزلهم؛ وإحداث نظام تأديبي خاص بهم، كما يتطلب وجود هيئة مستقلة تسهر على اختيار القضاة وتعيينهم على أساس الكفاءة وتأديبهم.

وينطوي مبدأ فصل السلطات على أهمية كبرى على اعتبار أنه يحدد مجال تدخل كل سلطة على حدة ويمنع تجاوزها؛ فالسلطة التنفيذية لا يجوز أن تتطاول على المهام القضائية بالضغط أو التأثير؛ أو الامتناع عن تنفيذ الأحكام والقرارات الصادرة في حقها من قبل مختلف المحاكم؛ أو تعطيل تنفيذها أو توجيه النقد إليها؛ مع الحرص على توفير الشروط التقنية والمادية الكفيلة بضمان حسن سير العدالة.

وعلى السلطة التشريعية أيضا؛ ألا تتدخل في أي منازعة تندرج ضمن الاختصاص المخول للقضاء؛ أو منح جزء من صلاحياته إلى جهات أخرى.

غير أن هذا المبدأ لا يعني الفصل الصارم والمطلق بين السلطات الثلاث (السلطة التشريعية؛ السلطة التنفيذية؛ السلطة القضائية) ذلك أن القاضي يظل بحاجة إلى سلطة تنفيذية تسمح بتنفيذ الأحكام والقرارات، وإلى قوانين ملائمة تصدرها السلطة التشريعية؛ كما أن المشرع بدوره يظل بحاجة إلى السلطة التنفيذية والقضائية؛ والسلطة التشريعية بحاجة إلى السلطتين القضائية والتنفيذية، فالقضاء الدستوري (المجلس الدستوري) هو الذي يبت في مدى دستورية القوانين؛ فيما يختص القضاء الإداري(المحاكم الإدارية) بالنظر في مدى شرعية أعمال الإدارة وإمكانية إلغاء قراراتها في حالة وجود تعسف في استعمال السلطة.

حقق المغرب خلال العقدين الأخيرين بعض المكتسبات على طريق إصلاح القضاء؛ حيث أحدثت المحاكم الإدارية؛ التي تختص بالنظر في طلبات إلغاء قرارات السلطات الإدارية بسبب تجاوز السلطة وغيرها من القضايا الأخرى.. وتم استبدال الغرفة الدستورية في المجلس الأعلى؛ بالمجلس الدستوري الذي يسهر على مراقبة دستورية القوانين؛ كما تم إلغاء محكمة العدل الخاصة؛ وإصدار العديد من النصوص والتشريعات القانونية كمدونة الأسرة ومدونة الشغل.. ومراجعة قوانين أخرى.. غير أن مجمل هذه الإصلاحات؛ لم تكن بالنجاعة والفعالية التي تضمن استقلالية القضاء؛ على الرغم من كثرة الانتقادات الموجهة له؛ الأمر الذي يمثل تشويشا على مختلف الإنجازات السياسية والاجتماعية التي حققها المغرب في السنوات الأخيرة.

وعلى مستوى الممارسة الميدانية؛ تنامت الانتقادات الموجهة إلى القضاء المغربي في السنوات الأخيرة؛ نتيجة لبعض الممارسات التي تسيء لاستقلاليته ونزاهته؛ من قبيل عدم اعتماد الصرامة في تنفيذ الأحكام القضائية التي تصدر باسم الملك؛ بما يجعل عددا كبيرا منها حبرا على ورق.

ناهيك عن بعض التأثيرات التي تباشرها السلطة التنفيذية على مسار القضاء وبخاصة فيما يتعلق ببعض القضايا ذات الصبغة السياسية أو المرتبطة بحرية الرأي والصحافة.

بالإضافة إلى انتشار المحسوبية والرشوة..؛ وعدم متابعة بعض الأشخاص ذوي النفوذ السياسي والاقتصادي رغم اقترافهم لجرائم ومخالفات قانونية؛ وعدم فتح عدد من الملفات المرتبطة بالفساد الإداري ونهب المال العام.. وهذه كلها عوامل تحول دون ترسيخ سيادة القانون وتكرس الاستهتار بالقوانين والإفلات من العقاب.

إن التأكيد على فصل السلط واستقلالية القضاء في الدستور؛ يظل غير كاف ما لم يعزز ذلك بإجراءات وتدابير ميدانية تترجمه على أرض الواقع. ذلك أن إصلاح القضاء وضمان استقلاليته؛ يتطلب تعزيز الضمانات الدستورية في هذا الشأن؛ وتطوير وتحديث المحاكم؛ وإعادة النظر في تشكيلة المجلس الأعلى للقضاء بالصورة التي تعزز استقلاليته عن السلطة التنفيذية المجسدة في وزير العدل؛ بالإضافة إلى تأهيل وتطوير العنصر البشري في وزارة العدل؛ واعتماد الصرامة في مواجهة كل ما من شأنه التأثير في هذه استقلالية.. وهذا كله لن يتأتى إلا بفتح نقاش واسع وبناء تشارك فيه مختلف الفعاليات إلى جانب الدولة.
موقع شبكة الاصلاح والتغيير في الوطن العربي

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بحث عن التنمية المستدامة ( البحث منقول)

مقدمة الفصل: لقد أستحوذ موضوع التنمية المستدامة اهتمام العالم خلال 15 سنة المنصرمة وهذا على صعيد الساحة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية العالمية ،حيث أصبحت الاستدامة التنموية مدرسة فكرية عالمية تنتشر في معظم دول العالمي النامي والصناعي على حد سواء تتبناها هيئات شعبية ورسمية وتطالب بتطبيقها فعقدت من أجلها القمم والمؤتمرات والندوات.ورغم الانتشار السريع لمفهوم التنمية المستدامة منذ بداية ظهورها إلا أن هذا المفهوم مازال غامضا بوصفه مفهوما وفلسفة وعملية ،ومازال هذا المفهوم يفسر بطرق مختلفة من قبل الكثيرين ولذلك فقد تم التطرق في هذا الفصل إلى مبحثين رئيسيين:المبحث الأول: ماهية التنمية المستدامة;المبحث الثاني: محاور أساسية في التنمية المستدامة;المبحث الأول: ماهية التنمية المستدامةبدأ استخدام مصطلح التنمية المستدامة كثيرا في الأدب التنموي المعاصر وتعتبر الاستدامة نمط تنموي يمتاز بالعقلانية والرشد، وتتعامل مع النشاطات الاقتصادية التي ترمي للنمو من جهة ومع إجراءات المحافظة على البيئة والموارد الطبيعية من جهة أخرى، وقد أصبح العالم اليوم على قناعة بأن التنمية المستدامة التي تقضي على قضايا التخ

عوامل قوة الدولة

ان لعوامل القوة المتاحة للدولة دور كبير في تحديد مكانتها على الساحة الدولية لكن قبل التعرض لهذه العوامل يجب علينا ان نعرج على بعض المفاهيم إن القوة ـ كما أوضحت تعريفاتها ـ ليست التأثير ، وإنما القدرة على التأثير . وتستند هذه القدرة على امتلاك الدولة إمكانيات (خصائص ، موارد ، قدرات ، مؤسسات) معينة تشكل مقومات القوة القومية Elements of National Power التى تمكنها من التأثير على سلوكيات الدول الأخرى فى الاتجاهات التى تحقق مصالحها، كالمساحة الجغرافية ، وعدد السكان ، والموارد الطبيعية ، والقدرات الإقتصادية ، والقوة العسكرية ، والبنية التكنولوجية ، والفعاليات الثقافية، والمؤسسات السياسية ، والحالة المعنوية للشعب ، وغيرها . لكن ، على الرغم من أن هذه الإمكانيات المتداخلة تشكل فى مجموعها عوامل القوة الشاملة لأى دولة ، فإن هناك اختلافات أساسية فيما بينها ، ترتبط باعتبارات عملية ، تتصل بالقدرة على استخدامها فى عملية التأثير ، خاصة خلال المواقف التى يتعرض في

المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية

المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية "تمثل مدرسة الواقعية السياسية التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية ردة فعل أساسية على تيار المثالية. وهدفت الواقعية إلى دراسة وفهم سلوكيات الدول والعوامل المؤثرة في علاقاتها بعضها مع بعض. . . [لقد] جاءت الواقعية لتدرس وتحلل ما هو قائم في العلاقات الدولية, وتحديداً, سياسة القوة والحرب والنزاعات, ولم تهدف كما فعلت المثالية إلى تقديم . . . [مقترحات] وأفكار حول ما يجب أن تكون عليه العلاقات الدولية". "وقد حاول الواقعيون الحصول على أجوبة لأسئلة مازال يطرحها الأكاديميون والمهتمون بالشؤون الدولية منذ الستينات وحتى يومنا هذا. إذن هدفت الواقعية إلى تقديم نظرية سياسية لتحليل وفهم واستيعاب الظواهر الدولية". يرى مورغنثاو (وهوا من ابرز منظري الواقعية) بان السياسة الدولية تتميز (وتنفرد) "كفرع أكاديمي عن دراسة التاريخ والقانون الدولي والأحداث الجارية والإصلاح السياسي". أهم المسلمات الأساسية في الفكر الواقعي 1. "أن السياسة لا يمكن أن تحددها الأخلاق كما يقول المثاليون بل العكس هو الصحيح. وبالتالي فالمبادىء الأخلاقية لا يمكن تط