حاوره: حسام تمام 15/01/2006
في هذا الحوار يوضح المفكر الإسلامي عبد الوهاب المسيري أن فصل الدين عن الدولة هو العلمانية الجزئية، أما فصل القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية عن مجمل حياة الإنسان فهو العلمانية الشاملة. وفيما يخص عودة الدين يقول: إنه لم يغب، بل كان موجودا وحاضرا، ولكنه كان كامنا مفترضا، ومن ثم لم يكن بحاجة للتأكيد عليه.
ويرى المسيري أن ما يسمى حالة السيولة في التدين هي في الواقع حالة شمولية الرؤية، وهي إسلامية، فالإسلام ليس دينا ودولة، وإنما دين ودنيا، والرؤية الدينية الحقيقية رؤية شاملة توجه كل مناحي الحياة. فالمسلم يدخل في معترك السياسة ويقوم بالمساومات التي لا تمس بمرجعياته النهائية. ومن هذا القبيل ما قامت به حركة حماس مؤخرا، فالمسلم مدرك لمرجعياته الإسلامية النهائية ومدرك لتركيبة الواقع المادي.
وفيما يخص شعار "الإسلام هو الحل" الذي تتبناه جماعة الإخوان المسلمين، يراه المسيري مجسدا لرؤية بعض المفكرين الذين يقودون تيارا سياسيا مهما يؤمن بأن المرجعية الإسلامية هي المجال أو الطريق الوحيد لحل مشاكل هذا المجتمع، وهو ما يتفق معه المسيري.
وهو يرى أن العلمانية الشاملة وصلت لمنتهاها، إلا أنه يحذر من أن كثيرا من المسلمين تصدوا للاختراق العلماني الأخلاقي السطحي، مثل الدعوة إلى الحجاب والفصل بين الجنسين وعدم الاحتفال بأعياد الميلاد ورأس السنة، لكنهم في الوقت نفسه ربما يكونون غارقين في الاستهلاكية الرأسمالية التي هي في تصوره جوهر العلمانية الشاملة. ومن هنا يرى أنه على قيادة الحركة الإسلامية عبء ثقيل في هذا الاتجاه.
العلمانية الجزئية والشاملة
التدين والتفسير العلماني
مقولة "الإسلام هو الحل"
الدين والأيديولوجيا وعالم الرموز
الاختراق العلماني للدين
التدين بوصفه ظاهرة عالمية
العلمانية الجزئية والشاملة
* تشهد السنوات الأخيرة حضورا كثيفا للدين في الفضاء العام وفي مجال السياسة تحديدا، وهو ما أعاد النظر مجددا في مقولات سيادة العلمانية التي كانت قد شاعت في الأدبيات السياسية والاجتماعية، فهل نحن مقبلون على نهاية العلمانية، أم ستتواصل العلمانية وتستمر كما يذهب البعض ممن يقولون إنها استعادة للدين ولكن على أرضية العلمانية وبمنطقها؟
** عندي مشكلة مع الخطاب التحليلي السائد والذي لا يتضح فيه معنى العلمانية؛ فمصطلح "علماني" هو مصطلح خلافي لأقصى درجة، ودائما أقول: إن هذا المصطلح لا بد أن يفهم في سياقه وتطوره التاريخي. فهو عُرف في القرن التاسع عشر على أنه فصل الدين عن الدولة، وكان ذلك حينما كانت الدولة كيانا صغيرا ترك رقعة الحياة العامة ومنظومة القيم والمرجعية النهائية للأفراد يحددونها حسب رؤيتهم، ولذلك فإن ما تم علمنته في هذا الإطار هو أجزاء معينة من الحياة العامة التي يمكن أن نحصرها في بعض جوانب السياسة والاقتصاد وليس كلها.
ونلاحظ أن هذا التعريف يلزم الصمت بخصوص الأخلاق والحياة الخاصة. ولذلك أميل للقول: إن هذا التعريف يعني فصل القيم الدينية عن بعض الإجراءات السياسية والاقتصادية وليس عن المرجعيات النهائية للمجتمع.
لكن حدثت تحولات مهمة وجذرية من أهمها ظهور الدولة الحديثة التي طورت أجهزتها الأمنية والإدارية، أي تمددت في كل الفضاء الإنساني العام والخاص. وواكب ذلك ظهور الإعلام الذي يصل إلينا في منازلنا وغرف نومنا ويحدد رؤيتنا لأنفسنا وتطلعاتنا بل يخترق أحلامنا. وهو مؤسسة غير منتخبة وغير مسئولة أمام أحد.
في ظل هذا الإطار فإن ما يتشكل في الواقع ليس فصل الدين عن الدولة، وإنما فصل القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية عن مجمل حياة الإنسان في جانبيها العام والخاص، ونزع القداسة عن الإنسان والطبيعة، بحيث تتساوى كل الأشياء، وتصبح كل الأمور نسبية، بحيث يصبح العالم مادة استعمالية يمكن للقوي أن يوظفها لحسابه، وبالتالي أذهب إلى القول: إن فصل الدين عن الدولة هو العلمانية الجزئية أما فصل القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية عن مجمل حياة الإنسان فهو العلمانية الشاملة.
وحينما يستخدم لفظ "علماني" فهو لا يشير للواقع، وإنما للتعريف الذي تخطاه الواقع. وأنا كمفكر إسلامي لا أرى غضاضة في قبول ما أسميه العلمانية الجزئية إن كان يعني بعض الإجراءات السياسية والاقتصادية ذات الطابع الفني، والتي لا تمس من قريب أو من بعيد المرجعية النهائية، وهو ما أفهمه من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (أبروا أو لا تؤبروا.. أنتم أعلم بأمور دنياكم)، أي أن الفصل هنا بين الدين والدنيا ينصرف إلى تفصيلة مادية محددة (تأبير النخل) ولا يمس المرجعية النهائية الدينية المتجاوزة لسطح المادة.
* لكننا في الأخير كنا بإزاء واقع طالما استقر النظر إليه باعتباره "علمانيا"، فلماذا حضر الدين فجأة؟ كيف يمكن أن نفسر هذا الحضور الطاغي؟
** لأنه لم يغب أبدا.. علم الاجتماع الغربي أدرك مبكرا أن فصل الدين عن السياسة مسألة عبثية، وأن الإنسان لا يمكن تقسيمه لمادي ومعنوي، أو ديني وعلماني، وأن هذه الجوانب متشابكة وممتدة.. ومن هنا محاولة ماكس فيبر وفرنرسومبارت تفسير ظهور الرأسمالية في الغرب من خلال علاقتها بالبروتستانتية أو اليهودية.
وهناك دراسات عن تأثر الماركسية بالمنظومة المسيحية، فماركس قسم مراحل تطور المجتمعات البشرية إلى حقب يمكن فهمها في إطار نمط ديني. فالتاريخ يبدأ بالمرحلة البدائية (الفردوس قبل السقوط) ثم تأتي بعد ذلك المجتمعات المبنية على الاستغلال (الإقطاع ثم الرأسمالية)، ثم تهب الطبقة العاملة وتؤسس المجتمع الاشتراكي (البعث وبداية الخلاص) ثم نصل إلى المجتمع الشيوعي (الفردوس الجديد ونهاية التاريخ).
الدين كان موجودا وحاضرا ولكنه كان كامنا مفترضا، ومن ثم فلم يكن بحاجة للتأكيد عليه.. مثلا الآباء الأوائل للولايات المتحدة وواضعو أسس العلمانية فيها كانوا مؤمنين -وهذا معروف عنهم- بالمسيحية ومنظومتها القيمية.. ويروى أن أحدهم دخل في مبارزة للدفاع عن القيم المسيحية وقتل فيها!.
وفي مصر مثلا كان النحاس باشا زعيم حزب الوفد الليبرالي "العلماني" يعتبر نفسه علمانيا، ولكنه كان يستشهد بالقرآن دائما. وأذكر أنه طالب ذات مرة بمنع أغنية لأنها كانت غير أخلاقية. ونفس الشيء ينطبق على كثير من العلمانيين العرب فهم يتحدثون عن القيم الأخلاقية المطلقة، ومن يتحدث عن مطلقات وثوابت لا يمكن اعتباره علمانيا بالمفهوم الغربي الذي يؤكد أن ما يسود في العالم هو النسبية.. د.فؤاد زكريا المفكر "العلماني" كتب كتيبا صغيرا متهما الولايات المتحدة بأنها مجتمع مادي!
إذن الدين كان كامنا ومفترضا (أي موجودا)، لكن مع تصاعد معدلات العلمنة الشاملة بدأ يحدث تنبه لخطورة هذه المنظومة العلمانية الشاملة، فبدأ ما كان كامنا يسعى لأن يعبر عن نفسه ويستدعي ظهوره.
والمسيحية الصهيونية -رغم خلافي معها بالطبع- هي بشكل ما تعبير عن البرجوازية الصغيرة التي قامت ردا على اتجاه منظومة الإعلام الأمريكية؛ لأنها تعبر عن منظومة علمانية شاملة عدمية وعن مجموعة من القيم الإباحية التي تهدم الإنسان والأسرة.
التدين والتفسير العلماني
* وعلى أي أرضية يكون المد الديني.. هل يكون على أرضية ومنطق الدين نفسه فيضع حدا فاصلا للعلمانية الشاملة أم تفرض هي منطقها وتجبر هذا المد على أن يتم على أرضيتها، وهو ما يذهب إليه بعض الفلاسفة من أن العلمانية الشاملة أقرب للصيرورة الاجتماعية وأنها مرحلة لا بد أن تدخلها الإنسانية؟
** الحديث عن العلمانية الشاملة باعتباره صيرورة اجتماعية فيه نوع من الحتمية التي أرفضها.. فلا يمكن لأي منطق إنساني أو ديني أن يتفق مع العلمانية الشاملة لأنها ترى أن الإنسان شيء.
إن العلمانية الشاملة كما أسلفت ليست فصلا للدين عن الدولة بل فصل لكل القيم عن مجمل حياة الإنسان ونزع للقداسة عنه بحيث يتحول العالم إلى مادة استعمالية يوظفها القوي لحسابه، وهو ما يؤدي إلى الحداثة الداروينية وتحويل العالم إلى حلبة صراع، فهي علمانية تنكر إنسانية الإنسان فيتمرد عليها كل من يهتم بمصير الإنسان في هذه الأرض.. اليسار الإنساني وأحزاب الخضر والجماعات الدينية المهتمة بإقامة العدل في الأرض، وكل من يرى خطورة الاستهلاكية العالمية التي خربت الأرض ودمرت الإنسان.. كل هؤلاء جزء من هذه الحركة العالمية لمواجهة العلمانية الشاملة.
* هناك من يرى أنه بالرغم من أن هناك مدا دينيا فإنه يتم على أرضية العلمانية الشاملة.. فالدولة الحديثة هي علمانية بالضرورة، والتدين الجديد هو تدين "فرداني" وموجة التدين الحالية تغلب عليها السيولة وتغيب فيها الحدود وتزيد فيها النسبية فيما تقل الدوجمائية وتتراجع مساحة الثبوت، وهذا كله هو من آثار العلمانية الشاملة.
** أتصور أن هذه الرؤية متأثرة بالموقف المسيحي من الصحوة الإسلامية.. ما يسمى حالة السيولة هي في الواقع حالة شمولية الرؤية وهي إسلامية، فالإسلام ليس دينا ودولة، وإنما دين ودنيا، والرؤية الدينية الحقيقية رؤية شاملة توجه كل مناحي الحياة.
الرئيس البوسني الراحل علي عزت بيجوفيتش في كتابه (الإسلام بين الشرق والغرب) قال: إن رؤية المسيحيين للرسول وللإسلام رؤية تتسم بالاستقطاب والتأرجح بين قطبين. فبعضهم يرى أن الرسول كان إنسانا عاديا "يأكل الطعام ويمشي في الأسواق"، وأن الإسلام دين غارق في المادية. والبعض الآخر، على العكس من ذلك، يذهب إلى أن الإسلام دين روحي مغرق في الروحانية ومن ثم فهو يعيق التحديث، والإسلام في واقع الأمر لا هذا ولا ذاك.. وفشلهم في إدراك طبيعة الإسلام سببه نقطة البدء المسيحية: فصل الدين عن الدنيا، وهو ما نفهمه من مقولة نيتشه (إن آخر مسيحي هو من صلب على الصليب!) بمعنى أن المسيح -عليه السلام- قدم رؤية روحية سامية لدرجة أنه لا يمكن تحقيقها في الواقع.
الإسلام غير هذا.. وبالتالي هو يقف على أرضيتين: مادة وروح، ويدخل في معترك السياسة ويقوم بالمساومات التي لا تمس بمرجعياته النهائية، وأحب الإشارة في هذا الصدد إلى ما قامت به حركة حماس مؤخرا بقبول التهدئة، فهو يعني أن الخطاب الإسلامي أصبح مركبا يقبل بالاستشهاد في سبيل قضية إقامة العدل في الأرض، لكنه في ذات الوقت مدرك للعلاقات السياسية وموازين القوى الدولية، فهو ليس روحانيا خالصا ولا ماديا خالصا، وإنما هو مدرك لمرجعياته الإسلامية النهائية ومدرك لتركيبة الواقع المادي.
أكثر من هذا -وقد يعترض البعض على هذه الأمثلة- حين تبحث الفتاة المحجبة عن الجمال والذوق في حجابها، هذا يعني أن هناك إيمانا بالمرجعية النهائية وسعيا للالتزام بها مع التمتع بالحياة الدنيا. وهذا مختلف تمام الاختلاف عن الفكرة المسيحية الخاصة بالخطيئة الأولى، وأن هذا العالم مليء بالشرور ولا بد من الانصراف عنه والزهد فيه، لأن العالم وادي الدموع.
مقولة "الإسلام هو الحل"
* لو اقتربنا أكثر من الواقع، كيف ترى ما حدث من حضور ديني كثيف في الانتخابات الرئاسية ثم البرلمانية في مصر مؤخرا، وكيف ترى -مثلا- رفع تيار سياسي مثل الإخوان المسلمين شعار (الإسلام هو الحل) في دولة يتنازعها اتجاهان: إسلامي وعلماني جزئي؟
** أولا أنا ضد ما أثير من أن هذا الشعار اختزال للإسلام؛ فاستخدام هذا الشعار لا يختلف عن شعار "يا عمال العالم اتحدوا"، فلم يقل أحد باختزال الماركسية بثرائها وتنوعاتها في هذا الشعار.. فمثلما يلخص شعار "يا عمال العالم.." شيئا أساسيا يتعلق بتصور الماركسية أن الطبقة العاملة هي التي ستقود التغيير في العالم فإن شعار "الإسلام هو الحل" يجسد رؤية بعض المفكرين الذين يقودون تيارا سياسيا مهما يؤمن بأن المرجعية الإسلامية هي المجال أو الطريق الوحيد لحل مشاكل هذا المجتمع، وهو ما أتفق معه؛ لأن أي مجتمع لا بد أن يكون له مرجعية نهائية واحدة، ومن لم يكن عنده مرجعية نابعة من تراثه فسيستوردها من الآخر.
وفي هذا الإطار تصبح القضية ليست فصل الدين عن الدولة، وإنما كيف نجعل المنظومة الدينية قادرة على التعامل مع إشكاليات المجتمع الحديث ومع التنوع الديني والإثني في المجتمع.. بمعنى أن المطلوب هو توليد منظومة إسلامية ذات طابع إنساني تتعامل مع كل المعطيات والمشاكل التي أشرنا إليها، وأن شعار فصل الدين عن الدولة يتجاهل البعد الإنساني والروحي في الإنسان وهو بعد إن لم يعبر عن نفسه من خلال قنوات شرعية فسيأخذ أشكالا متطرفة غير عقلانية كما حدث في الصهيونية المسيحية وبعض الجماعات المتطرفة الإسلامية.
والقضية في النهاية ليست فصل الدين عن الدولة، وإنما كيف نؤنسن الخطاب الديني وحملته، وقد أخطأ العلمانيون حين فكروا بإمكانية فصل الدين عن حياة الإنسان.
* لكن ألا يعيد ذلك أسئلة البداهة في دولة مثل مصر ينص دستورها على الإسلام وأولوية الشريعة، كما يصادر المرجعيات الكبرى لمصلحة فصيل سياسي في صراع سياسي؟
** التسليم بالمرجعية العليا لم يعد مستقرا كما قد يتصور البعض؛ فهناك الآن من يتحدث عن الإبداع من دون أي مرجعية كما لو كان هو المطلق؛ انظر ما يحدث مع اللغة العربية التي تآكلت في الإعلام وفي شتى مناحي الحياة رغم أنها بنص الدستور لغة الدولة.. في سيتي ستارز (أشهر محلات التسوق في مصر) معظم اللافتات بالإنجليزية؛ حتى الحكومة تصدر إعلاناتها أحيانا بالإنجليزية! المرجعيات النهائية تم تحديها.
أما القلق من المصادرة فهذا ينطبق على كل الأيدلوجيات، بما فيها الأيدلوجيات العلمانية. روبسبير خطيب الثورة الفرنسية كان يعدم أصدقاءه باسم العقل، وستالين باسم الطبقة العاملة.. جورج بوش في حربه ضد الإرهاب يستدعي كل المطلقات بدءا من الأمن القوي الأمريكي وانتهاء بتفويض من الله عز وجل!.. هذا ما أسمية خطر التجسد الموجود في كل الأيديولوجيات بحيث تتجسد الكلمة (اللوجوس) أو الأيديولوجيا في الإنسان فيصبح مرجعية ذاته.
هذا الخطر في واقع الأمر يتهدد الأيديولوجيات العلمانية أكثر من الأيديولوجيات الإيمانية لأن الأيديولوجيات الإيمانية الحقيقية تؤمن بأن هناك منظومات قيمية خارج الإنسان يمكن الإهابة بها واستئناف الأحكام، بعكس العلمانية التي ترى أن الإنسان مرجعية ذاته.
الدين والأيديولوجيا وعالم الرموز
* هل يمكن أن يكون الحضور الديني في مجال السياسة مرده سقوط وغياب الأيديولوجيات الكبرى التي كانت تغذي الفضاء العام بالرموز والمعاني السياسية؟
** المنظومة المادية الكامنة وراء هذه الأيديولوجيات الكبرى أو المهيمنة (الرأسمالية والاشتراكية..) جعلت الخلاص من خلال السلعة (زيادة الإنتاج/ السلعة/ المنفعة/ اللذة..) دون أن تجيب على الإشكاليات الكونية مثل الميلاد والموت والسعادة والتوازن والهدف من الوجود.. الأيديولوجيات المادية لم تجب على هذا كله، ولم تمكن الإنسان من مواجهتها فكان لا بد من الدين كأيديولوجيا بديلة.
* لكن أليس من الخطر تحول الدين إلى أيديولوجيا مغلقة؟
** إذا كنت تعني أن الأيديولوجيات رؤية للكون فالدين أيديولوجيا، وإذا كانت تحيزا لمجموعة قيم ضد أخرى فالدين أيديولوجيا.. لا أعرف لماذا اكتسبت الأيديولوجيا هذا المعنى السلبي.. الدين أيديولوجيا بمعنى أنه مرجعية نهائية يحدد المرء من خلالها أولوياته، والأيديولوجية لا ضرورة لأن تكون مغلقة، ويمكن أن نقول إن الدين أيديولوجيا ولكنها غير مغلقة.
*هل نفهم من ذلك أنك تذهب إلى القول بأن استعادة الدين وحضوره في المجال العام سيؤدي إلى نهاية العلمانية الشاملة؟
** من الواضح أن العلمانية الشاملة وصلت لمنتهاها. وحركات المقاومة تتزايد (مثلما في فلسطين والعراق وأفغانستان..) وهناك مقاومة متصاعدة للرأسمالية المتوحشة والإمبريالية التي تسخر الإنسان وتجعله مستهلكا فحسب، هناك مقاومة لكل النظم التي تجهض إمكانيات الإنسان.. نحن على مشارف نهاية الحداثة المنفصلة عن القيمة، أي الحداثة الداروينية.
يجب أن ندرك أنه في عالم الصيرورة المادية لا توجد قيم وكل شيء خاضع للقانون المادي، وما يظهر في إطار المادة من قيم لا علاقة له بالقيم، مثل قيم حب البقاء والتكيف والتفاوض وقبول الواقع والبقاء للأصلح والأقوى وموازين القوى، وكل ما لا علاقة له بالقيم المتجاوزة لسطح المادة.
وأكرر دائما أن القيمة الأخلاقية وقضايا مثل المعنى، لا وجود لها في عالم المادة، فهي مرتبطة تمام الارتباط بالظاهرة الإنسانية، وغيابها وتعويضها عبارة عن نفي للإنسان وتقويض وإنهاء لظاهرة الإنسان.. وهذا ما عبر عنه نيتشه حينما نادى بموت الله.. فهو يعني موت الكليات وما وراء المادة، وبالتالي يعني موت الإنسان.. وقد حذر نيتشه من أنه في هذا الإطار ستكون العدمية زائرا دائما بيننا. التصدي للعلمانية الشاملة والحداثة المنفصلة عن القيمة هو تصد للأيديولوجيات المعادية للإنسان.
الاختراق العلماني للدين
* يبدو الحديث عن المد الديني كما لو كان نقيا عصيا على الاختراق العلماني، ألا ترى أن هناك اختراقا علمانيا للمد الديني الحالي حتى في روحه ومنطقه الداخلي؟ وهل يكفي رفع اللافتة الدينية لنتحدث عن استعادة للدين في الفضاء العام؟
** أتفق معك.. أنا دائما أميز بين الاختراق الأخلاقي السطحي والاختراق المعرفي العميق، فكثير من المسلمين تصدوا للاختراق الأخلاقي السطحي، وهذا ما نراه في الدعوة إلى الحجاب وللفصل بين الجنسين وعدم الاحتفال بأعياد الميلاد ورأس السنة، لكنهم في الوقت نفسه ربما يكونون غارقين في الاستهلاكية الرأسمالية التي هي في تصوري جوهر العلمانية الشاملة. فهم قد يحرصون على الالتزام الأخلاقي السطحي حين يقيمون عرسا، وبالرغم من ذلك فإن ما يستهلكونه بين طعام وزخارف يفوق الوصف، ويحضرني أن زوجتي سألت فتاة محجبة عن مواصفات الرجل التي تريده فأوجزتها في قولها: أن يكون عنده (سيارة) BMW!
كنت مرة أجلس أمام التليفزيون مع بعض الإخوة الإسلاميين الذين أقاموا في الغرب ما يزيد عن عشرين عاما، وبدأ برنامج المصارعة الحرة وسألتهم سؤالا افتراضيا عما إذا رأى الرسول صلي الله عليه وسلم مثل هذه المصارعة فكيف سيكون موقفه؟ فإذا بهم يقولون إنه كان بالتأكيد لن يوافق عليها. وحينما طلبت منهم تفسيرا، قالوا لأن المصارعين لا يرتدون لباسا شرعيا!.. إنهم لم يدركوا المشكلة الكبرى، لقد أدركوا الاختراق الأخلاقي السطحي فقط، أما الاختراق العميق المتعلق بفلسفة هذه المصارعة غير الإنسانية فلم يدركوه.
هناك أيضا شهر رمضان الذي من المفترض أنه شهر التعبد والتعفف وتذكر المساكين، ولكن الذي يحدث -كما تقول الإحصائيات- أن كمية الطعام الذي نستهلكه تزيد مرة ونصف في شهر رمضان عن الشهور العادية، لقد ضاع معنى الصيام ونسينا الزهد ونسينا معه الفقراء، وإن كان لا بد من أن نشير إلى ظاهرة موائد الرحمن وهذا تعبير إيجابي عن الصحوة الدينية.
* إذن يحدث فعلا أن يحضر الدين ظاهريا ولكن على أرضية علمانية وبمنطق علماني؟
** العلمنة ظاهرة سوسيولوجية علينا أن نفهمها وندرك تضميناتها ونتصدى لها، وقد ننجح وقد نفشل. وأرى أن الصحوة الإسلامية إن أرادت أن تسير في الاتجاه الصحيح فعليها أن تنتبه إلى أبعاد الاختراق المعرفي العميق وأن توعي جماهيرها بذلك، لأن الذي يحدث في مجتمعاتنا الحديثة أن الأثرياء يتمتعون بالثروة والاستهلاك، والفقراء يحلمون بها، فالاختراق يحدث للجميع وعلينا إدراك التضمينات الاجتماعية والفكرية لهذا الاختراق.
وأعتقد أن قيادة الحركة الإسلامية عليها عبء ثقيل في هذا الاتجاه. ومؤخرا لاحظت أن إدراكهم زاد، واتسع نطاق خطابهم السياسي، ولكن لا أعتقد أن الوضع نفسه ينطبق على جماهيرها، لذا فأمام القيادة عبء كبير لتخلص جماهيرها من الرؤية الضيقة ومن التعصب الديني ومن التطلع للاستهلاك، أي من الاختراق العلماني المعرفي العميق.
فأنا أرى أن التعصب الديني هو في جوهره ظاهرة علمانية، فالمسلم الذي يتعصب ضد المسيحيين لا يلتزم بتعاليم دينه، كما أنه يرى أنه باعتباره مُسلما فمهمته ليس إقامة العدل في الأرض وإنما التمتع بامتيازات خاصة، وهو في نهاية الأمر يصبح مرجعية ذاته. والتعريف العلماني للآخر يتم من خلال صفات مادية وبيولوجية كامنة فيه (انتماؤه الطبقي- لون جلده- حجم جمجمته... إلخ) أما التعريف الديني فهو مختلف تمام الاختلاف.
والمتعصبون عادة ما يعرفون الآخر حسب صفات كامنة فيه ورثها عن أبيه وأجداده وبني جلدته.. هذا التفسير العرقي تفسير مادي، لا علاقة له بأي دين.
التدين بوصفه ظاهرة عالمية
* البعض يرى أن حضور الدين ظاهرة عالمية وأن الموجة الجديدة للتدين هي موجة عالمية تفارق المستقر والسائد عن فكرة الدين. فهل يمكن أن يسري على التدين الإسلامي ما يسري على التدين في العالم من أشكال وموجات؟
** بشكل عام يمكننا القول بأنه وارد أن يسري على التدين عندنا ما يسري على التدين في العالم. وفيما يخص الموجة الجديدة من التدين التي تجتاح العالم فإن الدفعة الأساسية لدى الجميع هي الرغبة في تجاوز السطح المادي حتى يمكن الإجابة على التساؤلات الأساسية التي أشرنا لها (البحث عن معنى الحياة- الميلاد- الموت- السعادة- التوازن...) وهو ما لا يمكن الإجابة عليه داخل الإطار المادي.
لكن بعد هذا تبدأ الاختلافات؛ فأعتقد أن كثيرا من العبادات الجديدة تحاول التجاوز (تجاوز المادة) داخل الإطار المادي وهذا مستحيل، أي أنهم يحاولون الوصول إلى ما وراء المادة عبر المادة نفسها، وهو ما سماه أحد مؤرخي تاريخ الأفكار في الغرب بالاتجاه الطبيعي (المادي) المتجاوز للطبيعة (supernatural naturalism).
ويتبدى هذا الاتجاه في الاهتمام بالتنجيم والأطباق الطائرة واليوجا، وغير ذلك من اهتمامات شبه دينية.. إنه نوع من الميتافيزيقيا بدون أعباء أخلاقية، فمن يؤمن بالأطباق الطائرة ليس مطلوبا منه شيء. فأصل الإيمان بالله يعني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بينما هذه العبادات الجديدة هي مجرد بحث عن الراحة النفسية والتوازن الروحي دون أي التزامات أخلاقية.
تعليقات
إرسال تعليق