جـون س. دريـزك، أستاذ بالجامعة الوطنية الأسترالية، كامبيرا.
ترجمة: عـادل زقاغ.
ظل علم السياسة منذ تأسيسه حقلا معرفيا غير مستقر، وشهد حركات تستهدف إعادة صياغة طبيعته "الدولاتية". من خلال هذا المقال تمت مقارنة خمس حركات بارزة عملت على إحداث تغيير جوهري في علم السياسة:
- "النزعة الدولاتية" Statism (التمحور حول الدولة وجعلها مرجعية للتحليل): وهي النزعة التي رافقت مسيرة هذا الحقل خلال بواكير سعيه لاكتساب المهنية.
- "النزعة التعددية" Pluralism: وقد برز هذا التوجه مع نهاية العقد الثاني وبداية العقد الثالث من القرن العشرين.
- "النزعة السلوكية" Bahavioralism (ظهرت منتصف القرن العشرين).
- الاتجاه نحو إرساء "علم سياسة جديد" New Political Science (وذلك خلال نهاية الستينيات وبداية التسعينيات).
- التيار المعروف حديثا بـ "بريسترويكا علم السياسة" (تزامن ظهوره مع بدايات القرن الحادي والعشرين).
من بين هذه الحركات الأربعة التي قامت على منطق "الثورة العلمية" scientific revolution (لدى توماس كوهن) لم تنجح سوى الحركتان الأولى والثالثة، ذلك أن حقل علم السياسة أظهر مقاومة شديدة للتغيير. وما تجدر ملاحظته في هذا الشأن هو أن سر نجاح "الدولاتية" و"السلوكية" يكمن في أن ثورتاهما لم تواجه بأي مقاومة من داخل هذا الحقل المعرفي (على أنها تعرضت لاحقا لانتقادات ومقاومة من قبل تيارات نظرية أخرى، لكن بعد أن كللت ثورتها المعرفية بالنجاح).
حاول الكثيرون تغيير طبيعة علم السياسة في الولايات المتحدة، غير أن قلة منهم كللت جهودهم بالنجاح. لقد حاول هؤلاء الثوريون الذين أتحدث عنهم هنا، من خلال مسعى جماعي، صياغة أجندة جديدة للبحث في هذا الجقل المعرفي على أنقاض المنجزات التي تمت قبلا. وهكذا، شهدا هذا الحقل خمس حركات ثورية معرفية. ويجدر التنبيه هنا إلى الفرق بين "الثورات العلمية" (الكوهنية) و"البرامج البحثية" (اللاكاتوشية) يعتبر معيارا لتحديد عدد الثورات المعرفية، فصياغة برنامج بحثي جديد كالوظيفية البنيوية أو البيوسياسة لا يؤهلها كثورات بمعنى تحول في النموذج الإرشادي المعرفي (الباراديم). وعلى ضوء هذا المعيار فإن خمس اتجاهات فكرية نجحت في إحداث القطيعة.
البداية كانت مع إرساء هذا الحقل المعرفي نهاية تسعينيات القرن التاسع عشر باعتباره علما يتمحور حول الدولة ويسعى لإضفاء المهنية و"الاحترافية" على التحليل السياسي عبر تهميش "الهواة". وتلى ذلك النزعة التعددية pluralist التي ركزت جهودها على انتقاد التحليل المتمركز حول الدولة. الحركة الثورية الثالثة كانت السلوكية behavioralist school والتي طفت إلى السطح منتصف القرن العشرين. وقد دعت السلوكية إلى التحول في دراسة علم السياسة إلى التركيز على السلوك الحالي للنظام السياسي بدل الدولة (لدى "الستاتيين" أو "الدولاتيين") أو الفواعل المختلفين (مثلما هو الأمر لدى رواد النزعة التعددية).
ومع أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات تبلورت حركة ثورية رابعة، وهي "المؤتمر من أجل علم سياسة جديد"، لقد تهجم هذا التوجه الثوري المعرفي الجديد على تشبث السلوكيين بالوضع القائم، وطالبوا بعلم سياسة فاعل مجند لخدمة القضايا الاجتماعية وحل الأزمات القائمة.
وأخيرا ظهرت حركة "بريسترويكا علم السياسة" مع بدايات القرن الحادي والعشرين، واستهدفت هيمنة المقاربات الكمية على علم السياسة، وطالبت بالتعددية المنهجية، وبتركيز مزيد من الجهد على البحوث الكيفية، كما عاودت التأكيد مرة أخرى على ضرورة الاهتمام بالقضايا العامة والانخراط فيها.
في هذا المقال لن يتم الحديث مطولا عن حركة "بريسترويكا علم السياسة" طالما أن نتائجها لم تتبلور بعد، حيث سيتم التركيز بالأساس على خصائص الثورات الأربع التي سبقتها، والتي نجحت منها اثنتان كما سبقت الإشارة إليه حسب معيار قياس النجاح المعتمد في هذا المقال، والمتمثل في قدرة اتجاه فكري ما على إعادة صياغة أجندة البحث في هذا الحقل المعرفي، ومدى إقرار العلماء والباحثين لمزايا اعتماد هذا النمط من التفكير والمقاربة للظاهرة السياسية، حتى وإن لم يتقاسموا معهم المنطلقات ذاتها. وبذلك، فإنه يتوجب على الباحثين تحديد مواقفهم من هذا الفهم العلمي الجديد للسياسة حتى وإن لم يتقاسموا معهم النظرة نفسها.
يبدوا أن قياس نجاح الثورات المعرفية على ضوء مواقف الباحثين منها يعتبر معيارا مناسبا. لكن ومع أنه معيار لا لبس فيه للقياس، إلا أنه لا يغطي ثورة معرفة واحدة على الأقل كما سنرى لاحقا، ومن هنا نتساءل ما الشيء المميز بالنسبة للثورتين الناجحتين (الدولاتية والسلوكية)، إنه غياب خصوم يمتلكون من القدرة ما يمكنهم من محاصرة تنامي المساندة للخطاب النظري الناشئ. حيث أن خصوم هاتين الثورتين المعرفيتين تحركوا بشكل متأخر أي بعد نجاح الثورتين المعرفيتين، وبالتالي فقد أتت محاولاتهم بنتائج عكسية، حيث ساهمت في إعطاء الشرعية لهذا التحول. والدرس الذي نستقيه من ذلك، هو أن إحداث تحول جوهري في الحقل المعرفي لعلم السياسة لا يمكن أن ينجح إلا في حالة خلو الساحة من خصوم جاهزين لمقاومة هذا التحول. ولتوضيح ذلك، نذكر أنه طيلة قرن ونصف من ظهور علم السياسة في الولايات المتحدة لم تكلل أية حركة إصلاحية بالنجاح إذا كانت تنطوي على معارضة الوضع القائم في الحقل، حيث أن ذلك يجعلها عرضة لمقاومة شديدة من طرف الباحثين. إن صعوبة إحداث إصلاحات أو تغييرات في علم السياسة بالولايات المتحدة لا تضاهيها سوى صعوبة إصلاح أو تغيير النظام السياسي الأمريكي. فقد مر على علم السياسة العديد من الإصلاحيين المحبطين من فرانسيس ليبر Francis Lieber إلى تيودور لوي Theodore Lowi.
ولفحص افتراضاتي سأركز على الثورات التي رافقت دراسة النظام السياسي الأمريكي، والتي كانت حتى عهد قريب غير منفصلة عن دراسة النظرية السياسية. غير أن دراسة النظام السياسي الأمريكي أو الحكومة هي ما يكسب علم السياسة الأمريكي هوية وقيما متميزتين.
في البدء كانت الدولة:
هيمن تصور الدولة على الخطاب السياسي الأمريكي مع نهاية القرن التاسع عشر، وساهم في إكساب (الدولة) هذا الوزن وجوه أكاديمية تحولت إلى رموز لعلم السياسة الناشئ. ومع ذلك، فإن الإشارة إلى تصور الدولة وجعله محورا للنقاش ليس بالشيء الجديد كليا، حيث سبق لما اصطلح على تسميته بالنقاشات الدستورية بين الفدراليين أن أولت عناية كبيرة بها. وهكذا تمحور الخطاب العلمي لهذا الحقل المعرفي على الدولة ابتداء من فرانسيس ليبر Francis Lieber، والذي عين كأول أستاذ لعلم السياسة بجامعة كولمبيا الأمريكية عام 1857، وصولا إلى وودرو ويلسن Woodrow Wilson وغيره من الباحثين، وخلال هذه الفترة كانت المهمة الرئيسية لعلم السياسة إرساء دولة قومية موحدة ومواطنة فاضلة. ولم يكن "ويلسن" وحيدا في تصوره لـ: "نظام سياسي تؤطره أحزاب سياسية منضبطة تقترح سياسات عقلانية معدة بعناية، لناخبين لديهم الدراية الكافية، وعلى ضوء نتائج الانتخابات، يقوم الكونغرس بإقرار السياسات التي تمت تزكيتها، لتعكف على تنفيذها بيروقراطية تتمتع بالخبرة وتطبق أفضل ما جاد به علم الإدارة. هذه الدولة الإدارية تتنشق حسب ويلسن هواء أمريكيا نقيا". لقد صاحبت هذه الدعوة للفضيلة دراسات إمبريقية عدة دأبت على تحليل المؤسسات الأمريكية وكشف مختلف مظاهر الشرخ والجهوية المحسوبية والفساد. وقد جسد مُؤلَف "ويلسن" نفسه المعنون: "الحكومة البرلمانية" الصادر في 1885 هذا النوع من الدراسات.
بدا أن مهمة علم السياسة طيلة نصف قرن انحصرت في السعي من أجل إقامة دولة قومية موحدة، تشد دعائمها أمة موحدة تتمتع بالمهارة. وفي هذا الاتجاه أشار فرانك قودناو Frank Goodnow في معرض حديثه أمام "الجمعية الأمريكية لعلم السياسة" APSA (American Political Science Association)، حول دور علم السياسة في تحقيق "إرادة الدولة": "أحيانا تنشأ التحالفات السياسية لهذا الغرض (تحقيق إرادة الدولة)، خاصة الحركة التقدمية، لكن الهدف الذي وجد من أجله هذا المشروع يتمثل بالأساس في مكافحة الفساد، الزبونية، الماكنة الحزبية، المحاباة، والجهوية، وهي المظاهر التي سعت النزعة الدولاتية إلى محاصرتها، تماما مثلما عملت على إصلاح النظام الماديسوني (نسبة إلى توماس ماديسون أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة) والذي أصبح غير ملائم للتحولات الاجتماعية الناجمة عن الثورة الصناعية. ومن جهة أخرى، فقد ركز بعض الباحثين في الاتجاه الدولاتي الذي يقدس الدولة على معارضة الطابع الفدرالي للدولة بدعوى جعل الولايات المتحدة الأمريكية أكثر توحدا.
وبذلك يتضح أن الحقل المعرفي الناشئ باسم علم السياسة لم يكن هدفه تقديم إطار تحليلي لدراسة الظاهرة السياسية، بل تجسيد أجندة سياسية أيضا، وهي الميزة التي اتسمت بها كل الحركات الثورية العلمية، إن "الدولاتية" باعتبارها الاتجاه الفكري الذي أسس علم السياسة لم تعمل على تغيير واقع الحال في هذا الحقل المعرفي بل إلى إرساء دعائمه في المقام الأول، لكن رفضها السماح للمحللين السياسيين الهواة (غير المنضبطين منهجيا والمؤطرين أكاديميا) بمشاركتهم الحقل المعرفي أهلهم ليكونوا حركة ثورية معرفية، وفعلا فقد تجمع الاتجاه الذي يشمل "هواة" التحليل السياسي في إطار "الجمعية الأمريكية للعلوم الاجتماعية" ASSA والتي أسست سنة 1865، لكن هذه الأخيرة "أحيلت على التقاعد" مع تأسيس "الجمعية الأمريكية لعلم السياسة" سنة 1903، و"الجمعية السوسيولوجية الأمريكية"سنة 1905. اتسمت جمعية ASSA في الأساس بنزعتها الإصلاحية المسيحية، وعملها الميداني الهادف في مجمله إلى تحقيق الرفاه العام، ولكنها لم تتوجه نحو دراسة جادة للسياسة الأمريكية عبر طرح تساؤلات عميقة بشأن الواقع السياسي الأمريكي. وبذلك يكون مؤسسي النزعة المهنية الاحترافية في علم السياسة قد ساهموا في إرساء أجندة فكرية جديدة وثورية أهم مظاهرها جعل تصور الدولة تصورا مركزيا في مسعى إكساب الحقل المعرفي لعلم السياسة هوية جديدة. لم يتعرض هذا الاتجاه المعرفي "الدولاتي" للمقاومة من داخل الحقل المعرفي لأن الذين جاء على أنقاضهم ظلوا خارج الحدود التي رسمت لهذا العلم الناشئ.
انتفاضة ذوي "النزعة التعددية":
كانت الولايات المتحدة نظاما سياسيا تعدديا بشكل يفوق آمال ذوي النزعة "الدولاتية"، ورغم أن "الدولاتيين" يقرون بالتعدد إلا أنهم يطلقون عليه وصف (التجزئة)، بل ويعتبرونه مشكلة يتعين حلها لا وضعية ينبغي تثمينها، هذه هي الحقيقة التي يشير إليها مؤلَف الأستاذ: آرثر بنتلي Arthur Bently المعنون: The Process of Government والذي يعتبره السلوكيون أحد رواد السلوكية التعددية. وفي كتاب آخر أصدره لاحقا بعنوان: Makers, Users and Masters عبَر "بنتلي" عن إدانته لهيمنة مجموعات المصالح على السياسة الأمريكية. وهو ما يتفق مع أحد أسلاف السلوكية تشارلز ميريام Charles Merriam والذي دعا في مؤلف نشره خلال العشرينيات من القرن العشرين إلى تقوية الديمقراطية وتعزيز التحكم في العملية السياسية والرعاية الاجتماعية. لكن ومع أن نظام الدولة المركزية قد تعرض للنزيف مع فقدانه للتحكم في العديد من الأجهزة، إلا أن تقديس الدولة استمر خلال العشرينيات لأنها كانت تلبي تطلعات معيارية.
غير أن التعددية المعيارية أضحت تحتل حيزا متزايدا مع ظهور مؤلفات "هارولد لاسكي" Harold Laski (1917) و"ماري بيركيت فوليت" Mary Parket Follet (1918). كان كل من "لاسكي" و"فوليت" متأثرين بفلسفة "وليم جيمس" التي شددت على وجود طرق عدة يمكن للفرد من خلالها إدارة شؤونه. ومن هنا يمكن استشفاف حقيقة أن مفهوم التعدد لدى ذوي النزعة التعددية لا يرتكز على تعدد المصالح بل على تعدد الوسائل. أما "فوليت" فقد كانت من دعاة تنظيم المجتمع في جماعات من للقاعدة باتجاه القمة، معارضة بذلك الهندسة الاجتماعية التي كانت تعتمد على الاتجاه العكسي من القمة باتجاه القاعدة. وهي بذلك تختلف عن "الدولاتيين" في تقديسهم لدور الوصاية التي تمارسها الدولة. لقد طرحت "فوليت" سؤالا وجيها: ما الذي يمكن عمله بالتعددية؟ لكنها تلقت ردا مباشرا من الدولاتيين: كل ما يجب فعله بالتعدد هو إزالته أما مبررات "فوليت" فهي غامضة وصعبة التطبيق.
إلا أن "قانيل" Gunnel يرى خلافا لباحثين آخرين أن صعود "النزعة التعددية" في العشرينيات يعتبر الثورة المعرفية الحقيقية الوحيدة التي شهدها علم السياسة في الولايات المتحدة، ولدعم وجهة نظره يستعين "قانيل" بباحث آخر هو "جورج كاتلين" George Catlin بدلا من "لاسكي" و"فوليت"، صحيح أن كاتلين نفسه كان متأثرا بـ: "لاسكي" إلا أنه عارض مرجعيته الأخلاقية الداعية لربط علم السياسة بقضايا المجتمع، ذلك لأن "كاتلين" كان من مناصري "تحييد العلم"، أما بالنسبة للنظرة للتعدد فقد كان لـ "كاتلين" تصور مختلف أيضا، حيث يرى أن التعدد يعود على اختلاف مصالح المجموعات المشكلة للنسيج الوطني، لا على تعدد تجارب هذه المجموعات (ووسائلها)، وقد سار السلوكيون على هذا التقليد، ما جعل "قانيل" يقول أن التيار السلوكي لم يكن ثوريا بل مجرد استمرار لتحول النموذج الإرشادي الذي قاده "كاتلين".
وإذا تمعنا جيدا في أعمال "كاتلين" سنستشف تقاربا كبيرا بينه وبين "الاتجاه الدولاتي" الذي كان بمثابة التقليد البحثي السائد خلال تلك الفترة، خاصة وأن "الدلاوتيين" كانوا يعترفون بوجود التعددية باستثناء أنهم كانوا يرون فيها مشكلة يتعين حلها. وعموما، فإن تعددية "كاتلين" من الناحية الواقعية لا تنطوي على تحول جذري، وحتى رائد "الاتجاه الدولاتي" والمدافع الشرس عنه (حسب "قانيل") "وليم يانديل إليوت" William Yandell Elliott لم يكن ليعارض تعددية "كاتلين" باعتبارها نظرية تفسيرية، ذلك أن ما عارضه "إليوت" هو التعددية المعيارية (أي التسليم بوجود مجموعات مشكلة للنسيج الوطني تحمل قيما مختلفة). ومن هنا يتضح أن الشيء الثوري الوحيد لدى التعدديين هو الشق المعياري لطرحهم. ما يعني أن "لاسكي" و"فوليت" (وليس "كاتلين") هما المؤهلان لتمثيل الثورة التعددية في الحقل المعرفي لعلم السياسة. لكن تطلعاتهم لم تحض بالقبول في علم السياسة إلا في خمسينيات القرن العشرين. وحينها فإن الصيغة المتبناة للتعدد هي تلك التي ترتكز على تعدد المصالح لا على تعدد التجارب المجتمعية التي تفضي إلى منظومات قيمية مختلفة (تعدد القيم).
ما يجعلني أنأى عن تصنيف صعود التعدديين كثورة معرفية هو عدم تبني الباحثين لطروحاتهم لاحقا، كما أنهم لم يستطيعوا إرساء تقليد بحثي يؤطر أعمال وأبحاث باحثي علم السياسة. فهل يعقل أن تحدث الثورات دون أن تلفت انتباه أحد؟ لجأ "قانيل" في مؤلف أصدره عام 2005 إلى اقتباس لـ "توماس كوهن" Thomas Kuhn (1962) يتحدث فيه عن أن الثورات المعرفية تكون غير محسوسة في البداية إلا أن الفهم الجديد الذي تسوقه سرعان ما يهيمن على الحقل المعرفي. لم يكن "قانيل" مصيبا في اقتباسه لأن ما قصده "كوهن" هو اتجاه معتنقي البارادايم (النموذج الإرشادي المعرفي) إلى إعادة كتابة الماضي لإظهار الباحثين الأولين على أنهم الرواد الذين ساهموا في بناء الصرح المعرفي قيد التبلور. وهو ما لم يحدث في الفترة الممتدة بين 1920 و1950، وفضلا عن ذلك، فإن المسؤولين عن إنجاح نموذج إرشادي (باراديام) جديد يفترض أن يتم الإقرار بإنجازاتهم وامتداحها (توماس كوهن). ما قاله "كوهن" لا ينطبق على "كاتلين"، وبذلك فإن الحديث يجب أن يكون حول المحاولة الثورية التي قام بها ذوي "النزعة التعددية المعيارية" (تعددية القيم لا تعددية المصالح)، وهي المحاولة التي باءت بالفشل، لأنها جوبهت بمقاومة عنيفة من التقليد البحثي السائد آنذاك ("الدولاتي": المتحور حول الدولة والذي ينبذ فكرة وجود فاعلين آخرين بخلاف الدولة) لاسيما من رموز "الدولاتية": "تشارلز بيردو" Charles Beardo، "وولتر شيبارد" Walter Shepard، "فرانسيس كوكر" Francis Coker، "وليم يانديل إيليوت" William Yandell Elliott وغيرهم. لقد كان "لاسكي" محسوبا على الاشتراكيين الراديكاليين ، بينما التصق اسم "إليوت" بالفاشية الإيطالية. لكن التقليد البحثي "الدولاتي" ظل قائما رغم تراجع هيمنته على علم السياسة وذلك إلى غاية إعادة بعثه من طرف "تيودور لوي" Theodore Lowi من خلال كتابه: The End of Liberalism)نهاية الليبرالية( مع أن هذا الأخير كان محسوبا على ما اصطلح على تسميته بـ "الخيار الثالث" الذي يشمل التوجه الإصلاحي في علم السياسة، ومذ ذاك فإنه وعقب نصف قرن من هيمنة مصطلح "الدولة"، اختفى هذا المصطلح تقريبا من التداول لولا استخدامه في تخصص العلاقات الدولية.
الاتجاه السلوكي:
يمكن تعريف "السلوكية" باعتبارها:
تركيز البحث على "السلوك السياسي"؛
مرافعة منهجية لصالح "النزعة العلمية"؛
رسالة سياسية فحواها تشجيع "النزعة العلمية"؛
تصور تنظيمي لـ"النظام السياسي".
وبالرغم من أن "السلوكيين" يركزون على الفرد باعتباره وحدة للتحليل إلا أنه لم يكن هناك مشكلة في دراسة "الأفراد العاكفين في إطار المجموعة على تحقيق الأهداف الجماعية"، وقد كان كل من "روبرت داهل" Robert Dahl و"دايفيد ترومان" David Truman علماء السلوكية في بداياتها خلال الخمسينيات حيث ترأس "ترومان" لجنة السلوك السياسي التابعة لـ "مجلس البحث في العلوم الاجتماعية".
تبنى "الاتجاه السلوكي" التعددية في شقها المتعلق بالمصالح لا القيم، أي ذلك التعدد الذي يقبع تحت مظلة التوافق حول المنطلقات الأسس بين المصالح الاقتصادية المتعارضة. ومع وصول الستينيات ظهرت كتابات عديدة تشيد بانتصار السلوكية، وأعطى ذلك انطباعا بأن "السلوكية" ثورة تحصلت على رضا الأكاديميين بفضل نجاحها في إعادة صياغة أجندة البحث، كنتيجة لإسهامات المؤيدين والخصوم على حد سواء. لكن مع ذلك يحق لنا التساؤل: إذا كانت السلوكية ثورة معرفية، فضد من أعلنت هذه الثورة؟ كان خطاب الثوريين يتحدث عن توجيه ثورتهم المعرفية ضد "علم السياسة التقليدي" الذي يتعمد المنهج التاريخي والمغالي في واقعيته (باستعارة وصف "دايفيد إستون" David Easton)؛ لكن من هم الباحثون الذين وسمت أعمالهم بـ"التقليدية"؟ ذلك سؤال لم يجب عنه السلوكيون الذين ظلوا صامتين إزاء هوية خصومهم، أو الأعمال والمؤلفات التي تمثل هذا "الاتجاه التقليدي" في علم السياسة، فكتاب Garceau (1953) الذي يتضمن مراجعة استعراضية يخلوا من أية إشارة سلبية كانت أم إيجابية لهوية الخصوم (خصوم السلوكية). لكن أعنف هجوم علمي ثوري على الوضع القائم في حقل علم السياسة كان قد شنه "دايفيد إيستون" في 1953 من خلال كتابه المعنون: "النظام السياسي"، وهو ما حدا بـ "قانيل" لاعتبار "إيستون" أبرز منظر في الاتجاه السلوكي، ويمكن استشفاف نقمته على الوضع القائم في الفصل الثاني من كتابه، والذي يتحدث فيه عن حالة عدم الرضا بين أخصائيي علم السياسة، وقد أثار محتوى هذا الجزء من الكتاب سجالا فكريا كبيرا، لكن المثير في الأمر هو أن حواشي الفصل التي يبلغ عددها 28 لا تشير إلى أي عالم سياسة أمريكي يمكن إدانته بالمغالاة في الواقعية والإخفاق في التنظير. في حين عدَّدَ "إيستون" بالمقابل عددا من علماء السياسة لكونهم استثناء عن قاعدة التقليديين وهم: Simon، Merriam، Herring، Appleby،Laswwell، Gosnell، Eldersveld. لكن في الفصل الثالث حاول "إيستون" تقديم نموذج عن خصومه فأشار إلى "جيمس برايس" James Bryce رغم أن كتابات هذا الأخير تعود إلى نصف قرن مضى، أما في الفصل العاشر، فقد انتقد "إيستون" لجوء منظري علم السياسة إلى تاريخ الفكر السياسي لكنه لم يجد من يدينه بذلك سوى George Sabine.
بعد ذلك بوقت طويل (1984) أصدر "إيستون" مؤلفا آخر يتحدث فيه عن علم السياسة التقليدي (باعتبار أنه ساد خلال عشرينيات القرن العشرين)، وقال أنه بالغ في الاهتمام بالأحزاب وبمجموعات الضغط على حساب الدولة، وكنموذج للتأكيد على مزاعمه أشار إلى "بنتلي" (1908) و"بندلتون هيرينغ" Pandleton Herring (1929) مغفلا حقيقة أن "بنتلي" اختفى من المشهد الأكاديمي في 1953، وقبل حدوث ذلك فإن "بنتلي" نفسه تحول إلى واحد من المتحمسين للسلوكية. أما "هيرينغ" ورغم أنه عاش حتى فترة صعود الاتجاه السلوكي في الخمسينيات، إلا أنه لم يعارض "السلوكيين" بل ساهم بشكل فاعل عام 1949 في تأسيس "لجنة السلوك السياسي" تحت مظلة "مجلس البحث في العلوم الاجتماعية"، والتي ترأسها هو شخصيا، وقد كانت هذه اللجنة المدخل الذي نفذ من خلاله "السلوكيون" إلى APSA، كما كان لها دور حيوي في تمويل الثورة السلوكية ورعايتها مؤسساتيا. وفي مؤلفه هذا جدد "إيستون" مآخذه على التقليديين مثيرا خلطهم للحقائق والقيم، وإطنابهم في وصف الظواهر السياسية دون تقديم تفسيرات وافية، يضاف لذلك كله إسهامهم بالقليل من النظريات الفضفاضة، وانتهى "إيستون" إلى اعتبار كتاب "القوى المتوازية لـ "ميرل فينسود" Merle Fainsod بمثابة النظرية غير المعلنة لـ "التقليديين". ومعروف أن فينسود في كتابه هذا حاول تفسير عملية صنع السياسة بالقول أنها محصلة تفاعل قوى تدفع في اتجاهات مختلفة. وإذا كان هذا هو جوهر علم السياسة التقليدي في هذه الفترة، فلا يبدو هناك أي مبرر إذن ليدخلوا في سجال مع السلوكيين، وأكثر من ذلك فإن صاحب هذا المؤلف (فينسود) أصبح لاحقا رئيسا لـ APSA في ذروة هيمنة السلوكيين، بل وساهم هو نفسه عام 1968 في الحفاظ على انتصار "البارادايم" السلوكي بصفته رئيسا لـ "الجمعية الأمريكية لعلم السياسة" APSA عبر تضييق الخناق (بطريقة ذكية ودفاعية) على "المؤتمر من أجل علم سياسة جديد" Cucus for a New Political Science من خلال وضع شروط معينة للمشاركة في المؤتمر السنوي لـ APSA تستبعد المنخرطين في مسعى تجديد علم السياسة.
وإذا استبعدنا "علم السياسة التقليدي" الذي يعتمد على "المنهج التاريخي"، لا يمكن إيجاد أي مصدر للخصومة بين "السلوكية" والخصم الآخر المفترض: التحليل المؤسساتي القانوني باعتباره نقيضا آخر لـ "النزعة العلمية" التي يدعي "السلوكيون" الدفاع عنها. لقد سبق لـ "بنتلي" و"ويلسون" من بين باحثين آخرين أن تهجما على المبالغة في السطحية من خلال "التحليل القانوني المؤسساتي"، لكن لم يكن هناك باحث واحد في معسكر "المناوئين للعلمية"، فمعارضة "النزعة العلمية" كانت توجها هامشيا في هذا الحقل المعرفي، وتأكد ذلك أكثر لدى تأسيس APSA عام 1903، حيث أشارت إلى أن أحد أهداف تأسيسها هو: "تشجيع الدراسة العلمية للسياسة".
وطالما أن السلوك، والعلم، والتعددية والنظام هي أهم سمات "السلوكية"، فإنه لا مبرر لاعتراض التقليديين عليها، ذلك أن البحوث التي تناولت السلوك على المستوى الفردي ذاع صيتها خلال الثلاثينيات والأربعينيات، وتزعمها "هيرينغ"، "قوزنيل"، "لازويل" "لازرفلد"، وحتى الباحثين الذين لم يدرسوا "السلوك" لم يبدوا اعتراضا على القيام بذلك. لقد كانت النزعة العلمية قائمة حتى قبل مجيء "السلوكيين"، وكانت فترة "الماكارثية" استثناء، حيث تصاعدت خلالها حدة النقاش بين "ذوي النزعة العلمية" و"المهتمين بالقضايا الاجتماعية"، وبين هذه التجاذبات كانت "التعددية" بمثابة واقع إمبريقي أقرته "النظرية غير المعلنة للتقليديين"، إذن ما الجديد الذي جاءت به السلوكية؟ فحتى تصور النظام السياسي الذي جاء به "إيستن" قدم مصطلحات جديدة (المدخلات، المخرجات، والارتداد الارتجاعي)، ولكنه لم يزودنا بنظرية جديدة شاملة لعلم السياسة.
ما الذي يجعل من السلوكية ثورة إذن؟ الإجابة هي أن "السلوكية" قامت بإحداث تغييرات جذرية في توجهات قائمة سلفا في علم السياسة، هذه المجالات المنتقاة هي السلوك، العلمية، التعددية، الوصف مقابل التفسير في الجوانب النظرية. بدء بالسلوك، حيث اعتمد السلوكيون على الدراسات المسحية التي تستند إلى مجتمع إحصائي أوسع، كما عمد إلى زيادة وتيرة الدراسات الكمية التي تصدرت صفحات الدوريات العلمية الرئيسة في التخصص. لكن ومن جهة أخرى، فإن سيطرة السلوكيون على التخصص ساهم في تراجع الدراسات المخصصة لتحليل السياسة العامة للحكومة.
أما النزعة العلمية الجديدة للسلوكيين فقد ساعدتهم على تحصيل موارد جديدة لتمويل أبحاثهم لاسيما من "الصندوق القومي للعلوم". بخصوص النقطة المتعلقة بالتعددية أي التركيز على عدة فواعل في مسعى التحليل، فقد طغى مجال دراسة السلوك على دراسة المؤسسات، لكن دون أن تسقط المؤسسات من أجندة البحث. وبالتالي، فإن ما تجدر ملاحظته على هذه التحولات التي جاء بها السلوكيون، هو أنها لا تحمل في طياتها تغييرا جذريا بل مجرد تحول في التركيز على جوانب دون أخرى.
وبذلك، فإنه ومن بين النقاط الأربعة السابقة، فإن مجال النظرية، هو المجال الوحيد الذي حمل الجديد وأكسب السلوكية صفة الثورة، وهو ما نجم عنه إرساء النظرية السياسية كتخصص مستقل ومؤطر للبحث في علم السياسة، لقد كان المنظرون قبل الثورة السلوكية (أي خلال هيمنة "الدولاتيين" و"التعدديين") بمثابة المحاورين المحوريين في النقاشات التي دارت حول هوية علم السياسة. لكن مع بداية الخمسينات، فإن المفكرين الذين هاجروا للولايات المتحدة من أمثال "هانا آرندت" Hannah Arendt، "ليو شتراوس" Leo Strauss و"إيريك فوقلين" Eric Voeglin أوجدت طبقة جديدة من المفكرين المناوئين لليبرالية. وقد كان الحل الملائم للجميع هو انفصال النظرية السياسية عن المجالات الأخرى لعلم السياسة، وبذلك سينأى السلوكيون بأنفسهم بعيدا عن أية انتقادات قد تطال الديمقراطية الليبرالية الأمريكية، لقد نجح "السلوكيون" بذلك في استبعاد الآثار السلبية لدخول المناهضين لليبرالية إلى الحقل المعرفي. ومن بين المنظرين الرئيسيين، فإن "روبرت داهل" هو Robert Dahl الوحيد الذي تمكن من الصمود والبقاء تحت مظلة التقليد البحثي المهيمن في علم السياسة، ذلك لأنه ظل وفيا للتقليد الليبرالي الأمريكي.
وبخلاف التحول في مجالات الاهتمام، فإن الجديد الذي حملته السلوكية كثورة تتمثل في إعادة صياغتها لتصور التعددية، من تعددية (المنظومات القيمية) إلى تعددية المصالح، وقد تبنت السلوكية هذا المفهوم للتعددية باعتباره موجها معياريا (أو نظرية معيارية) على الرغم من ادعائها المستمر بالتزام الحياد وعدم التأثر بأية قيم لدى إنجاز بحوثهم العلمية. لقد هيمنت هذه النظرية الجديدة وحلت مكان المعيارية التي سادت لفترة طويلة لدى "الدولاتيين"، وحتى "إيليوت" الذي دافع بقوة عن "الدولاتية"، وشن حملة ضد التعدديين في العشرينيات، إلا أن صوته خفت خلال الخمسينات، رغم حضوره الأكاديمي البارز في علم السياسة. ذلك لأن الحرب العالمية الثانية أماطت اللثام عن الجانب الرهيب للدولة، لاسيما وأن الأمر يتعلق بدولتين يتسم بناءهما بالكمال (ألمانيا النازية، ايطاليا الفاشية) ومع اندلاع الحرب الباردة مع دولة أخرى (دولة الإتحاد السوفييتي التي عمدت إلى التدخل في كل مناحي الحياة)، فإنه كان من الصعب إقناع أي كان بإعادة صياغة السياسة الأمريكية عبر إعطاء دور أكبر للدولة مثلما يدعوا إليه "المنظور الدولاتي".
لا يعني ذلك أن تفوق "السلوكيين" كان من دون عقبات تذكر، فقد أشار "إيستون" في كتاب نشره خلال التسعينيات أنه كان هناك شعور بالإقصاء في أوساط "السلوكيين" إلى غاية نهاية "الخمسينات"، وتجلى ذلك بوضوح في ضآلة فرص النشر في دورية Review وفي المناصب القليلة التي حظي بها "السلوكيون" في APSA، غير أن وجهة نظر "إيستون" لم تكن صحيحة كليا، فهذه لم تكن مظاهر إقصاء متعمد بل مجرد إرهاصات مؤسساتية لمرحلة لم تتبلور بعد في شكلها النهائي. والدليل أن Oliver Garceau نشر "الإعلان السلوكي" عام 1951 في أبرز دورية آنذاك Review، وبوصول عام 1955 كان ثلة من أعلام السلوكية قد تمكنوا من نشر دراساتهم دون صعوبة: "أنقوس كامبيل" Angus Campbell، "جيمس دايفيس" James C. Davies، "صامويل ألدرزفلد" Samuel Eldersfeld، "هاينتز أويلاو" Heintz Eulau، "ف. أ. كي" V. O. Key، "آفيري لايزرسن" Avery Leiserson، "وارن ميلر" Warren Miller، "ويليم ريكر" William Riker، و"هيربرت سيمون" Herbert Simon.
لقد هيمنت "السلوكية" تدريجيا على التخصص، لكن ذلك لم يجعلها بمنأى عن الانتقادات التي تصاعدت حدتها مطلع الستينيات. هذه الانتقادات لم يكن لها من دور سوى تأكيد هيمنة "السلوكيين" ونجاحهم في إعادة صياغة أجندة البحث في علم السياسة، وهو ما أقر به حتى المناوئين لهم والذين كانوا مهمشين في هذا الحقل المعرفي. وحتى "الشتراوسيين" (نسبة إلى "ليو شتراوس") كانوا أشبه بطائفة معزولة في النظرية السياسية، وبخلاف هؤلاء، فقد تنامى النقد الموجه ضد السلوكية من جهات أكاديمية أخرى، لكن هذه المرة فإن مصدر النقد لم يكن من "التقليديين ذوي النزعة التاريخية"، بل من باحثين يطالبون بدور إيجابي لعلم السياسة، من خلال إعطائه لمسة نقدية وتوجيه اهتمامات الباحثين نحو قضايا المجتمع، وذلك بدعوى أن السلوكيين تورطوا من خلال ما أسموه بالحياد القيمي في تعزيز الوضع القائم في السياسة الأمريكية رغم أنه وضع أبعد ما يكون من أن يكون مثاليا.
طلائع الثورة "المؤتمر من أجل علم سياسة جديدة":
أثمرت الانتقادات التي وجهها اليساريون للسلوكية ظهور ما يسمى بـ "المؤتمر من أجل علم سياسة جديد"، والذي حاول تحديد ملامح المرحلة المقبلة في علم السياسة وإعادة توجيهه. تم تنظيم المؤتمر سنة 1967 خلال الاجتماع السنوي لـAPSA، وتزعمه: "بيتر باكراتش" Peter Bachrach، "كريستيان بي" Christian Bay، "تيودور لوي" Theodore Lowi، "مايكل برينت" Michael brent، "آلين وولف" Alan Wolfe، "شيلدون وولين" Sheldon Wolin، كما تضمنت القائمة أيضا وجها بارزا في تخصص العلاقات الدولية: "هانتس مورقينتو" Hans Morgenthau والذي كان من بين المعارضين للحرب في فيتنام، وقد قدم المؤتمر مرشحا لرئاسة APSA.
كان من بين أعضاء المؤتمر عدد من المنظرين السياسيين العازمين على جلب النقاشات والانتقادات حول الديمقراطية الليبرالية الأمريكية إلى قلب النقاشات الأكاديمية بعد أن كانت معزولة في محيط تخصص العلوم السياسية، ولتسويق طرحهم عمد أعضاء هذا "المؤتمر" إلى تغطية ما يرونه جوانب قصور في "الاتجاه السلوكي": حيث توجهوا نحو الاهتمام بالقضايا الاجتماعية والأزمات السياسية لتلك الفترة، كما طالبوا بعلم سياسة يتخذ موقفا جماعيا موحدا من القضايا السياسية المثيرة للجدل مثل: حرب فيتنام، التمييز العنصري، والفقر، إضافة إلى قضايا البيئة والمرأة.
ورغم أن المؤتمرين لم يجمعوا على رفض النزعة العلمية، إلا أنهم رأوا بضرورة إعادة ترتيب الأولويات، لتكون "العلمية" في المرتبة الثانية بعد الالتزام بقضايا المجتمع؛ ومدى صلاحية نتائج الأبحاث لمعالجة هذه القضايا. وبرروا موقفهم هذا بكون مسألة تفسير السلوك السياسي لا تشكل حقيقةً مركز الثقل المعرفي في علم السياسة، وبذلك يبدو واضحا أن "المؤتمر من أجل علم سياسة جديد"، مثله مثل الاتجاهات الثلاثة التي سبقته جمع بين الأهداف الفكرية والأهداف السياسية، ولو أن أهدافه السياسية كانت أوضح مقارنة بـ "السلوكيين".
سخر أعضاء المؤتمر أكثر جهودهم لمسعى إصلاح APSA، وقدموا مرشحين لمنصب الرئيس ولعضوية مجلس الجمعية، لكنهم أخفقوا في الحصول على الرئاسة رغم نجاحهم في الاستحواذ على بعض المقاعد في المجلس. وتجدر الإشارة إلى أن بعض رواد "المؤتمر" من أمثال "تيودور لوي" Theodore Lowi، و"إيرا كاتز نيلسن" Ira katznelson، تمكنوا من الحصول في فترات لاحقة على منصب الرئاسة باعتبارهم مرشحين رسميين.
أخذت المقاومة من جانب "السلوكيين" تشتد لاسيما وسط APSA التي يهيمنون عليها بشكل شبه كلي، ففي 1968 قاموا بتجميد عمل كل لجان العمل التي دعا إلى تشكيلها أعضاء "المؤتمر". لكن "دافيد إيستون" عمل على التخفيف من حدة التوتر بين "السلوكيين" و"المؤتمريين"، فخلال مداخلته له أمامAPSA عام 1969 بصفته رئيسا للجمعية تحدث عن "ثورة جديدة في علم السياسة"، بإمكانها أن تجعل التقنيات التي طورها "السلوكيون" و"نظريته للنظم" على حد سواء في خدمة المشكلات الاجتماعية.
لم ينجح "إيستون" في ردم الهوة بين المعسكرين، إلا أنه نجح في إرساء تخصص ثانوي في علم السياسة وهو السياسات العامة. وهكذا ظل السلوكيون في إطار APSA متشبثين بمقاومتهم للتغيير الذي بشر به "المؤتمر من أجل علم سياسة جديدة"، إلا أن ثقتهم في النفس قد تزعزعت كثيرا، وهم الذين استماتوا في مقاومة تسييس "حقل علم السياسة"، وهي النقطة التي أثارها "أويلاو" Eulau في تقريره كرئيس لـ APSA عام 1972: "إننا لم ننظم أنفسنا في إطار APSA من أجل ممارسة السياسة أو لنشر وجهات نظر سياسة". وفي الاتجاه ذاته، صرح Austin Ranney بخصوص تعيين خليفة له على رأس APSA أن الصورة واضحة جدا في ذهنه، وهي أن يخلفه رئيس لا يمت بصلة إلى "المؤتمريين".
إن المؤتمر، وبدل أن يتوجه نحو تشييد روابط مع التيارات الاجتماعية والسياسية والتي تحمل ثقافة مناوئة له، فقد كرس جهوده على الصعيد المهني، مما دعا "لوي" Lowi إلى تسميته بـ "المؤتمر من أجل جمعية جديدة لعلم السياسة"، ومع إخفاقه في الحصول على رئاسة الجمعية فقد تراجع طموح أعضاء "المؤتمر" وأصبح تنظيمهم مجرد قسم عادي ضمن أقسام APSA يعمل على تمويل لجان عمله بشكل ذاتيا، أما المجلة العلمية التي قام "المؤتمر" برعايتها (علم السياسة الجديد) New Political Science فقد ظل انتشارها محدود، ولم يظهر اسمها ضمن ترتيب أبرز 115 دورية علمية في التخصص. هذه الحقيقة لم يعها أعضاء الحركة الجديدة المسماة: "بريسترويكا علم السياسة"، والتي برزت مع بداية الألفية الجديدة، وذلك عندما وضعوا نصب أعينهم إصلاح الحقل المعرفي لعلم السياسة.
لقد شن المؤتمر من أجل علم سياسة جديدة هجوما كاسحا على "السلوكية" لكنهم جوبهوا بمقاومة شرسة. وإذا رجعنا إلى معيار قياس مدى نجاح "الثورات المعرفية" والذي تحدثت عنه في البداية، فإننا نخلص إلى إخفاق ثورة المؤتمريين من حيث:
أنهم لم يتمكنوا من إعادة صياغة أجندة البحث في علم السياسة؛
أن أجندة البحث التي اقترحوها لم يكن معترفا بها في أوساط الباحثين؛
أن المناهضين لهم لم يكن يتعين عليهم تبني صيغة توفيقية، بل اكتفوا بتجاهل طرح مناصري "المؤتمر" (ما يدل على ضعف طرح جماعة "المؤتمر").
غياب الثورات وانتشار برامج البحث:
شهد علم السياسة تحولات كبيرة في الفترة التي أعقبت الثورة السلوكية. وكان عودة مفهوم "الدولة" إلى تصدر أجندة البحث في الحقل قد أثار انتباه الباحثين إلى أن علم السياسة تحكمه نظام الدورات المعرفية ( فمثلا: مفهوم الدولة كان محور اهتمام الباحثين لفترة طويلة ثم تراجع ليعود إلى الواجهة في مرحلة لاحقة). غير أن الدولة عادت هذه المرة في ثوب جديد، فهي لم تعد قيمة مقدسة كما كانت خلال عصر تأسيس علم السياسة، ذلك أن النزعة التجزيئية المجتمعية للسلوكيين، أثرت في "الدولاتيين الجدد"، فهؤلاء يعتبرون الدولة متغيرا مستقلا، من حيث أن مسؤولي الدولة -من وجهة نظرهم- قد يعملون على تحقيق مصالحهم الشخصية؛ ولا يعكسون بالضرورة القوى الاجتماعية. وهم بذلك لا يحملون أي جديد، بل عاودوا التركيز فقط على فواعل معينين وعلى حوافز معينة للسلوك ( تحقيق المصالح الشخصية)، ويتفقون في ذلك مع السلوكيين من أمثال: "ترومان"Truman، والذي أقر بأن المسؤولين الرسميين يتفاعلون مع فواعل آخرين لتحقيق مصالح تحددها المؤسسات (المجتمعية) التي ينتمون إليها.
ويشير Almond في هذا الصدد إلى أن "النزعة الدولاتية الجديدة" لا تحمل في طياتها أية ثورة، أو تحولا في "البارادايم"، بل مجرد برنامج بحثي جديد يطمح إلى التمييز بين الأنظمة السياسية، من حيث مدى تأثيرها في الطريقة التي يعمل من خلالها الموظفون الحكوميون على صناعة السياسة العامة.
ما يميز برنامج البحث هذا، هو ما يميز برامج البحث بشكل عام، وهو أنه بإمكان الأكاديميين الناشطين في التخصص أن يتجاهلوه في حال لم يودوا الانخراط فيه. وفقا عن ذلك، فإن لغة هذا البرنامج البحثي (الدولاتي) لم تكن مستوعبة في أوساط علماء السياسة في تلك المرحلة. لكن خلال التسعينات، أصبح من الصعب جدا على علماء السياسة الأمريكية أن يتجاهلوا نظرية الخيار العقلاني رغم أن بدايات هذه المقاربة الجديدة (أو البرنامج البحثي الجديد) تعود لخمسينيات القرن الماضي، مع الأعمال التي نشرها: "كينيث أورو" Kenneth Arrow، "دونان بلاك" Dunan Blak، "أنطوني داونز" Anthony Downs، "ويليم يركر" William Riker. لقد كان استحواذهم تدريجيا على فضاء النشر الأكاديمي في علم السياسة يمنحهم مع مرور الوقت صفة البرنامج البحثي الأكثر شعبية في هذا الحقل المعرفي.
لكن نظرية الخيار العقلاني، وبدل أن تحدث ثورة في علم السياسة، فإنها ظلت تتوسع تحت ظلال "السلوكية"، و"الدولاتية الجديدة"، والمقاربتين: "الثقافية" و"المؤسساتية الجديدة"، وغيرها من البرامج البحثية القائمة في علم السياسة، والتي يتزايد عددها باطراد. لقد ادعى بعض رواد "الخيار العقلاني" بأن مقاربتهم تعتبر تطورا جديدا بني على أنقاض "السلوكية" (في شقيها "الديمقراطية الليبرالية" لـ "روبرت داهل" Robert Dahl و"نظرية النظم" لـ "دايفيد إيستون" David Easton)، لكن "السلوكيين" يرفضون هذا الطرح ويجددون إيمانهم بـ "النظرية التفسيرية التراكمية"، بمعنى أن التطورات المعرفية التي جاءت بعد ثورة "السلوكيين"، تساهم في "التراكم المعرفي" الذي وضعوا هم أسسه.
خاتمة:
لقد كان تغيير علم السياسة في الولايات المتحدة لاتجاهه حدثا نادرا، حيث لم يحصل ذلك إلا مرتين طيلة قرن ونصف من تأسيس هذا الحقل المعرفي في أمريكا، والسبب في ذلك لا يتعلق بغياب محاولات في هذا الاتجاه بل يٌعزي إلى استعصاء علم السياسة على مساعي إحداث تحولات عميقة فيه. ويظهر لنا تاريخ حقل علم السياسة إخفاق حركات معرفية جديدة في ذلك، رغم تصميمها على إرساء تقاليد بحثية جديدة ومفهوم خاص بها، وسبب إخفاقها يكمن في المقاومة الشرسة التي لقيتها.
أما صمود "الثورات المعرفية" الناجحة أمام "المناوئين" لها من باحثين في علم السياسة فمرده إلى أن النجاح في حد ذاته يمنحها القدرة على إعادة صياغة أجندة البحث في هذا التخصص (علم السياسة) وأكثر من ذلك، فهي تقوم بتحديد الكيفية التي يعارضها الباحثون الذين لا يتقاسمون معها التصور المعرفي ذاته لعلم السياسة، إضافة إلى أن هذه المعارضة غالبا ما تظهر بعد نجاح الثورة المعرفية، وهذه هي الطريقة التي شكل بها "المؤتمر من أجل علم سياسة جديدة" [الكوكوس] من طرف أبناء الثورة السلوكية.
لكن ذلك لا يعني أن الثورات المعرفية الناجحة تحتفظ بقدرة ثابتة على صياغة أجندة البحث، فهذه القدرة تتضاءل مع الوقت. هذه هي الطريقة التي استقل بها الاتجاه الدولاتي "المعياري" خلال الخمسينيات. لقد ظلت تركة "السلوكيين" (من مناهج وتقنيات ومواضيع بحث) حاضرة في علم السياسة لاسيما في فرع "علم النفس السياسي". ومع ذلك، فإن قدرتهم على صياغة أجندة البحث قد تضاءلت بدء من السبعينات بسبب انتشار برامج البحث، وهو ما يؤكده أعلام "السلوكية" مثل: "أويلاو"، "ألموند"، "إيستون" ويعزونه للنزيف الذي تعرض له هذا الاتجاه، فضلا عن انقسامه على نفسه وافتقاده لهدف واضح للاستمرار. لكن الأمر أكثر تعقيدا من ذلك، فمنذ هذه الفترة أصبح من الصعب الحديث عن "أجندة بحث" في "علم السياسة" ليمكن إعادة صياغتها.
يعتقد بعض الباحثين أن تاريخ الحقل المعرفي لعلم السياسة -من منظور توماس كوهن- هو عبارة عن مجموعة من المراحل التي تحدد معالمها "الثورات المعرفية". لكن هذا الطرح ليس دقيقا كليا، فالكثير من التطورات التي حصلت كان المحرك الرئيسي فيها ليس "الثورات المعرفية" بل "التطور التدريجي"، فتراجع "دور الدولة" ابتداء من بواكير القرن التاسع عشر إلى غاية أربعينيات القرن العشرين ساهم بشكل غير مباشر وغير ملحوظ في "بلورة" المقاربات النظرية التي ميزت "فترة ما بعد السلوكية".
إن نجاح "النزعة الدولاتية الأولى" يعود إلى عزمها على إضفاء المهنية والاحترافية على دراسة علم السياسة، ولا يعود الفضل فيه إلى "التزاماتها المعيارية" [الالتزام بالدعوة للإصلاح والحفاظ على القيم]، فهذه الأخيرة كانت على الدوام جانبا مهملا في النظام السياسي الأمريكي. ولا شك أن نجاح السلوكية في إعادة صياغة أجندة البحث في علم السياسة يعود إلى إقدامها على إحداث تغييرات جذرية تضمنت بالأساس إنهاء الالتزامات [المعيارية]. يبدو جليا أن كلتا الثورتين الناجحتين (الدولاتية والسلوكية) كانتا بمثابة ثورات من دون خصوم، وهو النمط الوحيد من الثورات التي تظفر بميزة إعادة توجيه علم السياسة للاتجاه الذي تراه مناسبا [على صعيد المنهج والموضوع].
ترجمة: عـادل زقاغ.
ظل علم السياسة منذ تأسيسه حقلا معرفيا غير مستقر، وشهد حركات تستهدف إعادة صياغة طبيعته "الدولاتية". من خلال هذا المقال تمت مقارنة خمس حركات بارزة عملت على إحداث تغيير جوهري في علم السياسة:
- "النزعة الدولاتية" Statism (التمحور حول الدولة وجعلها مرجعية للتحليل): وهي النزعة التي رافقت مسيرة هذا الحقل خلال بواكير سعيه لاكتساب المهنية.
- "النزعة التعددية" Pluralism: وقد برز هذا التوجه مع نهاية العقد الثاني وبداية العقد الثالث من القرن العشرين.
- "النزعة السلوكية" Bahavioralism (ظهرت منتصف القرن العشرين).
- الاتجاه نحو إرساء "علم سياسة جديد" New Political Science (وذلك خلال نهاية الستينيات وبداية التسعينيات).
- التيار المعروف حديثا بـ "بريسترويكا علم السياسة" (تزامن ظهوره مع بدايات القرن الحادي والعشرين).
من بين هذه الحركات الأربعة التي قامت على منطق "الثورة العلمية" scientific revolution (لدى توماس كوهن) لم تنجح سوى الحركتان الأولى والثالثة، ذلك أن حقل علم السياسة أظهر مقاومة شديدة للتغيير. وما تجدر ملاحظته في هذا الشأن هو أن سر نجاح "الدولاتية" و"السلوكية" يكمن في أن ثورتاهما لم تواجه بأي مقاومة من داخل هذا الحقل المعرفي (على أنها تعرضت لاحقا لانتقادات ومقاومة من قبل تيارات نظرية أخرى، لكن بعد أن كللت ثورتها المعرفية بالنجاح).
حاول الكثيرون تغيير طبيعة علم السياسة في الولايات المتحدة، غير أن قلة منهم كللت جهودهم بالنجاح. لقد حاول هؤلاء الثوريون الذين أتحدث عنهم هنا، من خلال مسعى جماعي، صياغة أجندة جديدة للبحث في هذا الجقل المعرفي على أنقاض المنجزات التي تمت قبلا. وهكذا، شهدا هذا الحقل خمس حركات ثورية معرفية. ويجدر التنبيه هنا إلى الفرق بين "الثورات العلمية" (الكوهنية) و"البرامج البحثية" (اللاكاتوشية) يعتبر معيارا لتحديد عدد الثورات المعرفية، فصياغة برنامج بحثي جديد كالوظيفية البنيوية أو البيوسياسة لا يؤهلها كثورات بمعنى تحول في النموذج الإرشادي المعرفي (الباراديم). وعلى ضوء هذا المعيار فإن خمس اتجاهات فكرية نجحت في إحداث القطيعة.
البداية كانت مع إرساء هذا الحقل المعرفي نهاية تسعينيات القرن التاسع عشر باعتباره علما يتمحور حول الدولة ويسعى لإضفاء المهنية و"الاحترافية" على التحليل السياسي عبر تهميش "الهواة". وتلى ذلك النزعة التعددية pluralist التي ركزت جهودها على انتقاد التحليل المتمركز حول الدولة. الحركة الثورية الثالثة كانت السلوكية behavioralist school والتي طفت إلى السطح منتصف القرن العشرين. وقد دعت السلوكية إلى التحول في دراسة علم السياسة إلى التركيز على السلوك الحالي للنظام السياسي بدل الدولة (لدى "الستاتيين" أو "الدولاتيين") أو الفواعل المختلفين (مثلما هو الأمر لدى رواد النزعة التعددية).
ومع أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات تبلورت حركة ثورية رابعة، وهي "المؤتمر من أجل علم سياسة جديد"، لقد تهجم هذا التوجه الثوري المعرفي الجديد على تشبث السلوكيين بالوضع القائم، وطالبوا بعلم سياسة فاعل مجند لخدمة القضايا الاجتماعية وحل الأزمات القائمة.
وأخيرا ظهرت حركة "بريسترويكا علم السياسة" مع بدايات القرن الحادي والعشرين، واستهدفت هيمنة المقاربات الكمية على علم السياسة، وطالبت بالتعددية المنهجية، وبتركيز مزيد من الجهد على البحوث الكيفية، كما عاودت التأكيد مرة أخرى على ضرورة الاهتمام بالقضايا العامة والانخراط فيها.
في هذا المقال لن يتم الحديث مطولا عن حركة "بريسترويكا علم السياسة" طالما أن نتائجها لم تتبلور بعد، حيث سيتم التركيز بالأساس على خصائص الثورات الأربع التي سبقتها، والتي نجحت منها اثنتان كما سبقت الإشارة إليه حسب معيار قياس النجاح المعتمد في هذا المقال، والمتمثل في قدرة اتجاه فكري ما على إعادة صياغة أجندة البحث في هذا الحقل المعرفي، ومدى إقرار العلماء والباحثين لمزايا اعتماد هذا النمط من التفكير والمقاربة للظاهرة السياسية، حتى وإن لم يتقاسموا معهم المنطلقات ذاتها. وبذلك، فإنه يتوجب على الباحثين تحديد مواقفهم من هذا الفهم العلمي الجديد للسياسة حتى وإن لم يتقاسموا معهم النظرة نفسها.
يبدوا أن قياس نجاح الثورات المعرفية على ضوء مواقف الباحثين منها يعتبر معيارا مناسبا. لكن ومع أنه معيار لا لبس فيه للقياس، إلا أنه لا يغطي ثورة معرفة واحدة على الأقل كما سنرى لاحقا، ومن هنا نتساءل ما الشيء المميز بالنسبة للثورتين الناجحتين (الدولاتية والسلوكية)، إنه غياب خصوم يمتلكون من القدرة ما يمكنهم من محاصرة تنامي المساندة للخطاب النظري الناشئ. حيث أن خصوم هاتين الثورتين المعرفيتين تحركوا بشكل متأخر أي بعد نجاح الثورتين المعرفيتين، وبالتالي فقد أتت محاولاتهم بنتائج عكسية، حيث ساهمت في إعطاء الشرعية لهذا التحول. والدرس الذي نستقيه من ذلك، هو أن إحداث تحول جوهري في الحقل المعرفي لعلم السياسة لا يمكن أن ينجح إلا في حالة خلو الساحة من خصوم جاهزين لمقاومة هذا التحول. ولتوضيح ذلك، نذكر أنه طيلة قرن ونصف من ظهور علم السياسة في الولايات المتحدة لم تكلل أية حركة إصلاحية بالنجاح إذا كانت تنطوي على معارضة الوضع القائم في الحقل، حيث أن ذلك يجعلها عرضة لمقاومة شديدة من طرف الباحثين. إن صعوبة إحداث إصلاحات أو تغييرات في علم السياسة بالولايات المتحدة لا تضاهيها سوى صعوبة إصلاح أو تغيير النظام السياسي الأمريكي. فقد مر على علم السياسة العديد من الإصلاحيين المحبطين من فرانسيس ليبر Francis Lieber إلى تيودور لوي Theodore Lowi.
ولفحص افتراضاتي سأركز على الثورات التي رافقت دراسة النظام السياسي الأمريكي، والتي كانت حتى عهد قريب غير منفصلة عن دراسة النظرية السياسية. غير أن دراسة النظام السياسي الأمريكي أو الحكومة هي ما يكسب علم السياسة الأمريكي هوية وقيما متميزتين.
في البدء كانت الدولة:
هيمن تصور الدولة على الخطاب السياسي الأمريكي مع نهاية القرن التاسع عشر، وساهم في إكساب (الدولة) هذا الوزن وجوه أكاديمية تحولت إلى رموز لعلم السياسة الناشئ. ومع ذلك، فإن الإشارة إلى تصور الدولة وجعله محورا للنقاش ليس بالشيء الجديد كليا، حيث سبق لما اصطلح على تسميته بالنقاشات الدستورية بين الفدراليين أن أولت عناية كبيرة بها. وهكذا تمحور الخطاب العلمي لهذا الحقل المعرفي على الدولة ابتداء من فرانسيس ليبر Francis Lieber، والذي عين كأول أستاذ لعلم السياسة بجامعة كولمبيا الأمريكية عام 1857، وصولا إلى وودرو ويلسن Woodrow Wilson وغيره من الباحثين، وخلال هذه الفترة كانت المهمة الرئيسية لعلم السياسة إرساء دولة قومية موحدة ومواطنة فاضلة. ولم يكن "ويلسن" وحيدا في تصوره لـ: "نظام سياسي تؤطره أحزاب سياسية منضبطة تقترح سياسات عقلانية معدة بعناية، لناخبين لديهم الدراية الكافية، وعلى ضوء نتائج الانتخابات، يقوم الكونغرس بإقرار السياسات التي تمت تزكيتها، لتعكف على تنفيذها بيروقراطية تتمتع بالخبرة وتطبق أفضل ما جاد به علم الإدارة. هذه الدولة الإدارية تتنشق حسب ويلسن هواء أمريكيا نقيا". لقد صاحبت هذه الدعوة للفضيلة دراسات إمبريقية عدة دأبت على تحليل المؤسسات الأمريكية وكشف مختلف مظاهر الشرخ والجهوية المحسوبية والفساد. وقد جسد مُؤلَف "ويلسن" نفسه المعنون: "الحكومة البرلمانية" الصادر في 1885 هذا النوع من الدراسات.
بدا أن مهمة علم السياسة طيلة نصف قرن انحصرت في السعي من أجل إقامة دولة قومية موحدة، تشد دعائمها أمة موحدة تتمتع بالمهارة. وفي هذا الاتجاه أشار فرانك قودناو Frank Goodnow في معرض حديثه أمام "الجمعية الأمريكية لعلم السياسة" APSA (American Political Science Association)، حول دور علم السياسة في تحقيق "إرادة الدولة": "أحيانا تنشأ التحالفات السياسية لهذا الغرض (تحقيق إرادة الدولة)، خاصة الحركة التقدمية، لكن الهدف الذي وجد من أجله هذا المشروع يتمثل بالأساس في مكافحة الفساد، الزبونية، الماكنة الحزبية، المحاباة، والجهوية، وهي المظاهر التي سعت النزعة الدولاتية إلى محاصرتها، تماما مثلما عملت على إصلاح النظام الماديسوني (نسبة إلى توماس ماديسون أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة) والذي أصبح غير ملائم للتحولات الاجتماعية الناجمة عن الثورة الصناعية. ومن جهة أخرى، فقد ركز بعض الباحثين في الاتجاه الدولاتي الذي يقدس الدولة على معارضة الطابع الفدرالي للدولة بدعوى جعل الولايات المتحدة الأمريكية أكثر توحدا.
وبذلك يتضح أن الحقل المعرفي الناشئ باسم علم السياسة لم يكن هدفه تقديم إطار تحليلي لدراسة الظاهرة السياسية، بل تجسيد أجندة سياسية أيضا، وهي الميزة التي اتسمت بها كل الحركات الثورية العلمية، إن "الدولاتية" باعتبارها الاتجاه الفكري الذي أسس علم السياسة لم تعمل على تغيير واقع الحال في هذا الحقل المعرفي بل إلى إرساء دعائمه في المقام الأول، لكن رفضها السماح للمحللين السياسيين الهواة (غير المنضبطين منهجيا والمؤطرين أكاديميا) بمشاركتهم الحقل المعرفي أهلهم ليكونوا حركة ثورية معرفية، وفعلا فقد تجمع الاتجاه الذي يشمل "هواة" التحليل السياسي في إطار "الجمعية الأمريكية للعلوم الاجتماعية" ASSA والتي أسست سنة 1865، لكن هذه الأخيرة "أحيلت على التقاعد" مع تأسيس "الجمعية الأمريكية لعلم السياسة" سنة 1903، و"الجمعية السوسيولوجية الأمريكية"سنة 1905. اتسمت جمعية ASSA في الأساس بنزعتها الإصلاحية المسيحية، وعملها الميداني الهادف في مجمله إلى تحقيق الرفاه العام، ولكنها لم تتوجه نحو دراسة جادة للسياسة الأمريكية عبر طرح تساؤلات عميقة بشأن الواقع السياسي الأمريكي. وبذلك يكون مؤسسي النزعة المهنية الاحترافية في علم السياسة قد ساهموا في إرساء أجندة فكرية جديدة وثورية أهم مظاهرها جعل تصور الدولة تصورا مركزيا في مسعى إكساب الحقل المعرفي لعلم السياسة هوية جديدة. لم يتعرض هذا الاتجاه المعرفي "الدولاتي" للمقاومة من داخل الحقل المعرفي لأن الذين جاء على أنقاضهم ظلوا خارج الحدود التي رسمت لهذا العلم الناشئ.
انتفاضة ذوي "النزعة التعددية":
كانت الولايات المتحدة نظاما سياسيا تعدديا بشكل يفوق آمال ذوي النزعة "الدولاتية"، ورغم أن "الدولاتيين" يقرون بالتعدد إلا أنهم يطلقون عليه وصف (التجزئة)، بل ويعتبرونه مشكلة يتعين حلها لا وضعية ينبغي تثمينها، هذه هي الحقيقة التي يشير إليها مؤلَف الأستاذ: آرثر بنتلي Arthur Bently المعنون: The Process of Government والذي يعتبره السلوكيون أحد رواد السلوكية التعددية. وفي كتاب آخر أصدره لاحقا بعنوان: Makers, Users and Masters عبَر "بنتلي" عن إدانته لهيمنة مجموعات المصالح على السياسة الأمريكية. وهو ما يتفق مع أحد أسلاف السلوكية تشارلز ميريام Charles Merriam والذي دعا في مؤلف نشره خلال العشرينيات من القرن العشرين إلى تقوية الديمقراطية وتعزيز التحكم في العملية السياسية والرعاية الاجتماعية. لكن ومع أن نظام الدولة المركزية قد تعرض للنزيف مع فقدانه للتحكم في العديد من الأجهزة، إلا أن تقديس الدولة استمر خلال العشرينيات لأنها كانت تلبي تطلعات معيارية.
غير أن التعددية المعيارية أضحت تحتل حيزا متزايدا مع ظهور مؤلفات "هارولد لاسكي" Harold Laski (1917) و"ماري بيركيت فوليت" Mary Parket Follet (1918). كان كل من "لاسكي" و"فوليت" متأثرين بفلسفة "وليم جيمس" التي شددت على وجود طرق عدة يمكن للفرد من خلالها إدارة شؤونه. ومن هنا يمكن استشفاف حقيقة أن مفهوم التعدد لدى ذوي النزعة التعددية لا يرتكز على تعدد المصالح بل على تعدد الوسائل. أما "فوليت" فقد كانت من دعاة تنظيم المجتمع في جماعات من للقاعدة باتجاه القمة، معارضة بذلك الهندسة الاجتماعية التي كانت تعتمد على الاتجاه العكسي من القمة باتجاه القاعدة. وهي بذلك تختلف عن "الدولاتيين" في تقديسهم لدور الوصاية التي تمارسها الدولة. لقد طرحت "فوليت" سؤالا وجيها: ما الذي يمكن عمله بالتعددية؟ لكنها تلقت ردا مباشرا من الدولاتيين: كل ما يجب فعله بالتعدد هو إزالته أما مبررات "فوليت" فهي غامضة وصعبة التطبيق.
إلا أن "قانيل" Gunnel يرى خلافا لباحثين آخرين أن صعود "النزعة التعددية" في العشرينيات يعتبر الثورة المعرفية الحقيقية الوحيدة التي شهدها علم السياسة في الولايات المتحدة، ولدعم وجهة نظره يستعين "قانيل" بباحث آخر هو "جورج كاتلين" George Catlin بدلا من "لاسكي" و"فوليت"، صحيح أن كاتلين نفسه كان متأثرا بـ: "لاسكي" إلا أنه عارض مرجعيته الأخلاقية الداعية لربط علم السياسة بقضايا المجتمع، ذلك لأن "كاتلين" كان من مناصري "تحييد العلم"، أما بالنسبة للنظرة للتعدد فقد كان لـ "كاتلين" تصور مختلف أيضا، حيث يرى أن التعدد يعود على اختلاف مصالح المجموعات المشكلة للنسيج الوطني، لا على تعدد تجارب هذه المجموعات (ووسائلها)، وقد سار السلوكيون على هذا التقليد، ما جعل "قانيل" يقول أن التيار السلوكي لم يكن ثوريا بل مجرد استمرار لتحول النموذج الإرشادي الذي قاده "كاتلين".
وإذا تمعنا جيدا في أعمال "كاتلين" سنستشف تقاربا كبيرا بينه وبين "الاتجاه الدولاتي" الذي كان بمثابة التقليد البحثي السائد خلال تلك الفترة، خاصة وأن "الدلاوتيين" كانوا يعترفون بوجود التعددية باستثناء أنهم كانوا يرون فيها مشكلة يتعين حلها. وعموما، فإن تعددية "كاتلين" من الناحية الواقعية لا تنطوي على تحول جذري، وحتى رائد "الاتجاه الدولاتي" والمدافع الشرس عنه (حسب "قانيل") "وليم يانديل إليوت" William Yandell Elliott لم يكن ليعارض تعددية "كاتلين" باعتبارها نظرية تفسيرية، ذلك أن ما عارضه "إليوت" هو التعددية المعيارية (أي التسليم بوجود مجموعات مشكلة للنسيج الوطني تحمل قيما مختلفة). ومن هنا يتضح أن الشيء الثوري الوحيد لدى التعدديين هو الشق المعياري لطرحهم. ما يعني أن "لاسكي" و"فوليت" (وليس "كاتلين") هما المؤهلان لتمثيل الثورة التعددية في الحقل المعرفي لعلم السياسة. لكن تطلعاتهم لم تحض بالقبول في علم السياسة إلا في خمسينيات القرن العشرين. وحينها فإن الصيغة المتبناة للتعدد هي تلك التي ترتكز على تعدد المصالح لا على تعدد التجارب المجتمعية التي تفضي إلى منظومات قيمية مختلفة (تعدد القيم).
ما يجعلني أنأى عن تصنيف صعود التعدديين كثورة معرفية هو عدم تبني الباحثين لطروحاتهم لاحقا، كما أنهم لم يستطيعوا إرساء تقليد بحثي يؤطر أعمال وأبحاث باحثي علم السياسة. فهل يعقل أن تحدث الثورات دون أن تلفت انتباه أحد؟ لجأ "قانيل" في مؤلف أصدره عام 2005 إلى اقتباس لـ "توماس كوهن" Thomas Kuhn (1962) يتحدث فيه عن أن الثورات المعرفية تكون غير محسوسة في البداية إلا أن الفهم الجديد الذي تسوقه سرعان ما يهيمن على الحقل المعرفي. لم يكن "قانيل" مصيبا في اقتباسه لأن ما قصده "كوهن" هو اتجاه معتنقي البارادايم (النموذج الإرشادي المعرفي) إلى إعادة كتابة الماضي لإظهار الباحثين الأولين على أنهم الرواد الذين ساهموا في بناء الصرح المعرفي قيد التبلور. وهو ما لم يحدث في الفترة الممتدة بين 1920 و1950، وفضلا عن ذلك، فإن المسؤولين عن إنجاح نموذج إرشادي (باراديام) جديد يفترض أن يتم الإقرار بإنجازاتهم وامتداحها (توماس كوهن). ما قاله "كوهن" لا ينطبق على "كاتلين"، وبذلك فإن الحديث يجب أن يكون حول المحاولة الثورية التي قام بها ذوي "النزعة التعددية المعيارية" (تعددية القيم لا تعددية المصالح)، وهي المحاولة التي باءت بالفشل، لأنها جوبهت بمقاومة عنيفة من التقليد البحثي السائد آنذاك ("الدولاتي": المتحور حول الدولة والذي ينبذ فكرة وجود فاعلين آخرين بخلاف الدولة) لاسيما من رموز "الدولاتية": "تشارلز بيردو" Charles Beardo، "وولتر شيبارد" Walter Shepard، "فرانسيس كوكر" Francis Coker، "وليم يانديل إيليوت" William Yandell Elliott وغيرهم. لقد كان "لاسكي" محسوبا على الاشتراكيين الراديكاليين ، بينما التصق اسم "إليوت" بالفاشية الإيطالية. لكن التقليد البحثي "الدولاتي" ظل قائما رغم تراجع هيمنته على علم السياسة وذلك إلى غاية إعادة بعثه من طرف "تيودور لوي" Theodore Lowi من خلال كتابه: The End of Liberalism)نهاية الليبرالية( مع أن هذا الأخير كان محسوبا على ما اصطلح على تسميته بـ "الخيار الثالث" الذي يشمل التوجه الإصلاحي في علم السياسة، ومذ ذاك فإنه وعقب نصف قرن من هيمنة مصطلح "الدولة"، اختفى هذا المصطلح تقريبا من التداول لولا استخدامه في تخصص العلاقات الدولية.
الاتجاه السلوكي:
يمكن تعريف "السلوكية" باعتبارها:
تركيز البحث على "السلوك السياسي"؛
مرافعة منهجية لصالح "النزعة العلمية"؛
رسالة سياسية فحواها تشجيع "النزعة العلمية"؛
تصور تنظيمي لـ"النظام السياسي".
وبالرغم من أن "السلوكيين" يركزون على الفرد باعتباره وحدة للتحليل إلا أنه لم يكن هناك مشكلة في دراسة "الأفراد العاكفين في إطار المجموعة على تحقيق الأهداف الجماعية"، وقد كان كل من "روبرت داهل" Robert Dahl و"دايفيد ترومان" David Truman علماء السلوكية في بداياتها خلال الخمسينيات حيث ترأس "ترومان" لجنة السلوك السياسي التابعة لـ "مجلس البحث في العلوم الاجتماعية".
تبنى "الاتجاه السلوكي" التعددية في شقها المتعلق بالمصالح لا القيم، أي ذلك التعدد الذي يقبع تحت مظلة التوافق حول المنطلقات الأسس بين المصالح الاقتصادية المتعارضة. ومع وصول الستينيات ظهرت كتابات عديدة تشيد بانتصار السلوكية، وأعطى ذلك انطباعا بأن "السلوكية" ثورة تحصلت على رضا الأكاديميين بفضل نجاحها في إعادة صياغة أجندة البحث، كنتيجة لإسهامات المؤيدين والخصوم على حد سواء. لكن مع ذلك يحق لنا التساؤل: إذا كانت السلوكية ثورة معرفية، فضد من أعلنت هذه الثورة؟ كان خطاب الثوريين يتحدث عن توجيه ثورتهم المعرفية ضد "علم السياسة التقليدي" الذي يتعمد المنهج التاريخي والمغالي في واقعيته (باستعارة وصف "دايفيد إستون" David Easton)؛ لكن من هم الباحثون الذين وسمت أعمالهم بـ"التقليدية"؟ ذلك سؤال لم يجب عنه السلوكيون الذين ظلوا صامتين إزاء هوية خصومهم، أو الأعمال والمؤلفات التي تمثل هذا "الاتجاه التقليدي" في علم السياسة، فكتاب Garceau (1953) الذي يتضمن مراجعة استعراضية يخلوا من أية إشارة سلبية كانت أم إيجابية لهوية الخصوم (خصوم السلوكية). لكن أعنف هجوم علمي ثوري على الوضع القائم في حقل علم السياسة كان قد شنه "دايفيد إيستون" في 1953 من خلال كتابه المعنون: "النظام السياسي"، وهو ما حدا بـ "قانيل" لاعتبار "إيستون" أبرز منظر في الاتجاه السلوكي، ويمكن استشفاف نقمته على الوضع القائم في الفصل الثاني من كتابه، والذي يتحدث فيه عن حالة عدم الرضا بين أخصائيي علم السياسة، وقد أثار محتوى هذا الجزء من الكتاب سجالا فكريا كبيرا، لكن المثير في الأمر هو أن حواشي الفصل التي يبلغ عددها 28 لا تشير إلى أي عالم سياسة أمريكي يمكن إدانته بالمغالاة في الواقعية والإخفاق في التنظير. في حين عدَّدَ "إيستون" بالمقابل عددا من علماء السياسة لكونهم استثناء عن قاعدة التقليديين وهم: Simon، Merriam، Herring، Appleby،Laswwell، Gosnell، Eldersveld. لكن في الفصل الثالث حاول "إيستون" تقديم نموذج عن خصومه فأشار إلى "جيمس برايس" James Bryce رغم أن كتابات هذا الأخير تعود إلى نصف قرن مضى، أما في الفصل العاشر، فقد انتقد "إيستون" لجوء منظري علم السياسة إلى تاريخ الفكر السياسي لكنه لم يجد من يدينه بذلك سوى George Sabine.
بعد ذلك بوقت طويل (1984) أصدر "إيستون" مؤلفا آخر يتحدث فيه عن علم السياسة التقليدي (باعتبار أنه ساد خلال عشرينيات القرن العشرين)، وقال أنه بالغ في الاهتمام بالأحزاب وبمجموعات الضغط على حساب الدولة، وكنموذج للتأكيد على مزاعمه أشار إلى "بنتلي" (1908) و"بندلتون هيرينغ" Pandleton Herring (1929) مغفلا حقيقة أن "بنتلي" اختفى من المشهد الأكاديمي في 1953، وقبل حدوث ذلك فإن "بنتلي" نفسه تحول إلى واحد من المتحمسين للسلوكية. أما "هيرينغ" ورغم أنه عاش حتى فترة صعود الاتجاه السلوكي في الخمسينيات، إلا أنه لم يعارض "السلوكيين" بل ساهم بشكل فاعل عام 1949 في تأسيس "لجنة السلوك السياسي" تحت مظلة "مجلس البحث في العلوم الاجتماعية"، والتي ترأسها هو شخصيا، وقد كانت هذه اللجنة المدخل الذي نفذ من خلاله "السلوكيون" إلى APSA، كما كان لها دور حيوي في تمويل الثورة السلوكية ورعايتها مؤسساتيا. وفي مؤلفه هذا جدد "إيستون" مآخذه على التقليديين مثيرا خلطهم للحقائق والقيم، وإطنابهم في وصف الظواهر السياسية دون تقديم تفسيرات وافية، يضاف لذلك كله إسهامهم بالقليل من النظريات الفضفاضة، وانتهى "إيستون" إلى اعتبار كتاب "القوى المتوازية لـ "ميرل فينسود" Merle Fainsod بمثابة النظرية غير المعلنة لـ "التقليديين". ومعروف أن فينسود في كتابه هذا حاول تفسير عملية صنع السياسة بالقول أنها محصلة تفاعل قوى تدفع في اتجاهات مختلفة. وإذا كان هذا هو جوهر علم السياسة التقليدي في هذه الفترة، فلا يبدو هناك أي مبرر إذن ليدخلوا في سجال مع السلوكيين، وأكثر من ذلك فإن صاحب هذا المؤلف (فينسود) أصبح لاحقا رئيسا لـ APSA في ذروة هيمنة السلوكيين، بل وساهم هو نفسه عام 1968 في الحفاظ على انتصار "البارادايم" السلوكي بصفته رئيسا لـ "الجمعية الأمريكية لعلم السياسة" APSA عبر تضييق الخناق (بطريقة ذكية ودفاعية) على "المؤتمر من أجل علم سياسة جديد" Cucus for a New Political Science من خلال وضع شروط معينة للمشاركة في المؤتمر السنوي لـ APSA تستبعد المنخرطين في مسعى تجديد علم السياسة.
وإذا استبعدنا "علم السياسة التقليدي" الذي يعتمد على "المنهج التاريخي"، لا يمكن إيجاد أي مصدر للخصومة بين "السلوكية" والخصم الآخر المفترض: التحليل المؤسساتي القانوني باعتباره نقيضا آخر لـ "النزعة العلمية" التي يدعي "السلوكيون" الدفاع عنها. لقد سبق لـ "بنتلي" و"ويلسون" من بين باحثين آخرين أن تهجما على المبالغة في السطحية من خلال "التحليل القانوني المؤسساتي"، لكن لم يكن هناك باحث واحد في معسكر "المناوئين للعلمية"، فمعارضة "النزعة العلمية" كانت توجها هامشيا في هذا الحقل المعرفي، وتأكد ذلك أكثر لدى تأسيس APSA عام 1903، حيث أشارت إلى أن أحد أهداف تأسيسها هو: "تشجيع الدراسة العلمية للسياسة".
وطالما أن السلوك، والعلم، والتعددية والنظام هي أهم سمات "السلوكية"، فإنه لا مبرر لاعتراض التقليديين عليها، ذلك أن البحوث التي تناولت السلوك على المستوى الفردي ذاع صيتها خلال الثلاثينيات والأربعينيات، وتزعمها "هيرينغ"، "قوزنيل"، "لازويل" "لازرفلد"، وحتى الباحثين الذين لم يدرسوا "السلوك" لم يبدوا اعتراضا على القيام بذلك. لقد كانت النزعة العلمية قائمة حتى قبل مجيء "السلوكيين"، وكانت فترة "الماكارثية" استثناء، حيث تصاعدت خلالها حدة النقاش بين "ذوي النزعة العلمية" و"المهتمين بالقضايا الاجتماعية"، وبين هذه التجاذبات كانت "التعددية" بمثابة واقع إمبريقي أقرته "النظرية غير المعلنة للتقليديين"، إذن ما الجديد الذي جاءت به السلوكية؟ فحتى تصور النظام السياسي الذي جاء به "إيستن" قدم مصطلحات جديدة (المدخلات، المخرجات، والارتداد الارتجاعي)، ولكنه لم يزودنا بنظرية جديدة شاملة لعلم السياسة.
ما الذي يجعل من السلوكية ثورة إذن؟ الإجابة هي أن "السلوكية" قامت بإحداث تغييرات جذرية في توجهات قائمة سلفا في علم السياسة، هذه المجالات المنتقاة هي السلوك، العلمية، التعددية، الوصف مقابل التفسير في الجوانب النظرية. بدء بالسلوك، حيث اعتمد السلوكيون على الدراسات المسحية التي تستند إلى مجتمع إحصائي أوسع، كما عمد إلى زيادة وتيرة الدراسات الكمية التي تصدرت صفحات الدوريات العلمية الرئيسة في التخصص. لكن ومن جهة أخرى، فإن سيطرة السلوكيون على التخصص ساهم في تراجع الدراسات المخصصة لتحليل السياسة العامة للحكومة.
أما النزعة العلمية الجديدة للسلوكيين فقد ساعدتهم على تحصيل موارد جديدة لتمويل أبحاثهم لاسيما من "الصندوق القومي للعلوم". بخصوص النقطة المتعلقة بالتعددية أي التركيز على عدة فواعل في مسعى التحليل، فقد طغى مجال دراسة السلوك على دراسة المؤسسات، لكن دون أن تسقط المؤسسات من أجندة البحث. وبالتالي، فإن ما تجدر ملاحظته على هذه التحولات التي جاء بها السلوكيون، هو أنها لا تحمل في طياتها تغييرا جذريا بل مجرد تحول في التركيز على جوانب دون أخرى.
وبذلك، فإنه ومن بين النقاط الأربعة السابقة، فإن مجال النظرية، هو المجال الوحيد الذي حمل الجديد وأكسب السلوكية صفة الثورة، وهو ما نجم عنه إرساء النظرية السياسية كتخصص مستقل ومؤطر للبحث في علم السياسة، لقد كان المنظرون قبل الثورة السلوكية (أي خلال هيمنة "الدولاتيين" و"التعدديين") بمثابة المحاورين المحوريين في النقاشات التي دارت حول هوية علم السياسة. لكن مع بداية الخمسينات، فإن المفكرين الذين هاجروا للولايات المتحدة من أمثال "هانا آرندت" Hannah Arendt، "ليو شتراوس" Leo Strauss و"إيريك فوقلين" Eric Voeglin أوجدت طبقة جديدة من المفكرين المناوئين لليبرالية. وقد كان الحل الملائم للجميع هو انفصال النظرية السياسية عن المجالات الأخرى لعلم السياسة، وبذلك سينأى السلوكيون بأنفسهم بعيدا عن أية انتقادات قد تطال الديمقراطية الليبرالية الأمريكية، لقد نجح "السلوكيون" بذلك في استبعاد الآثار السلبية لدخول المناهضين لليبرالية إلى الحقل المعرفي. ومن بين المنظرين الرئيسيين، فإن "روبرت داهل" هو Robert Dahl الوحيد الذي تمكن من الصمود والبقاء تحت مظلة التقليد البحثي المهيمن في علم السياسة، ذلك لأنه ظل وفيا للتقليد الليبرالي الأمريكي.
وبخلاف التحول في مجالات الاهتمام، فإن الجديد الذي حملته السلوكية كثورة تتمثل في إعادة صياغتها لتصور التعددية، من تعددية (المنظومات القيمية) إلى تعددية المصالح، وقد تبنت السلوكية هذا المفهوم للتعددية باعتباره موجها معياريا (أو نظرية معيارية) على الرغم من ادعائها المستمر بالتزام الحياد وعدم التأثر بأية قيم لدى إنجاز بحوثهم العلمية. لقد هيمنت هذه النظرية الجديدة وحلت مكان المعيارية التي سادت لفترة طويلة لدى "الدولاتيين"، وحتى "إيليوت" الذي دافع بقوة عن "الدولاتية"، وشن حملة ضد التعدديين في العشرينيات، إلا أن صوته خفت خلال الخمسينات، رغم حضوره الأكاديمي البارز في علم السياسة. ذلك لأن الحرب العالمية الثانية أماطت اللثام عن الجانب الرهيب للدولة، لاسيما وأن الأمر يتعلق بدولتين يتسم بناءهما بالكمال (ألمانيا النازية، ايطاليا الفاشية) ومع اندلاع الحرب الباردة مع دولة أخرى (دولة الإتحاد السوفييتي التي عمدت إلى التدخل في كل مناحي الحياة)، فإنه كان من الصعب إقناع أي كان بإعادة صياغة السياسة الأمريكية عبر إعطاء دور أكبر للدولة مثلما يدعوا إليه "المنظور الدولاتي".
لا يعني ذلك أن تفوق "السلوكيين" كان من دون عقبات تذكر، فقد أشار "إيستون" في كتاب نشره خلال التسعينيات أنه كان هناك شعور بالإقصاء في أوساط "السلوكيين" إلى غاية نهاية "الخمسينات"، وتجلى ذلك بوضوح في ضآلة فرص النشر في دورية Review وفي المناصب القليلة التي حظي بها "السلوكيون" في APSA، غير أن وجهة نظر "إيستون" لم تكن صحيحة كليا، فهذه لم تكن مظاهر إقصاء متعمد بل مجرد إرهاصات مؤسساتية لمرحلة لم تتبلور بعد في شكلها النهائي. والدليل أن Oliver Garceau نشر "الإعلان السلوكي" عام 1951 في أبرز دورية آنذاك Review، وبوصول عام 1955 كان ثلة من أعلام السلوكية قد تمكنوا من نشر دراساتهم دون صعوبة: "أنقوس كامبيل" Angus Campbell، "جيمس دايفيس" James C. Davies، "صامويل ألدرزفلد" Samuel Eldersfeld، "هاينتز أويلاو" Heintz Eulau، "ف. أ. كي" V. O. Key، "آفيري لايزرسن" Avery Leiserson، "وارن ميلر" Warren Miller، "ويليم ريكر" William Riker، و"هيربرت سيمون" Herbert Simon.
لقد هيمنت "السلوكية" تدريجيا على التخصص، لكن ذلك لم يجعلها بمنأى عن الانتقادات التي تصاعدت حدتها مطلع الستينيات. هذه الانتقادات لم يكن لها من دور سوى تأكيد هيمنة "السلوكيين" ونجاحهم في إعادة صياغة أجندة البحث في علم السياسة، وهو ما أقر به حتى المناوئين لهم والذين كانوا مهمشين في هذا الحقل المعرفي. وحتى "الشتراوسيين" (نسبة إلى "ليو شتراوس") كانوا أشبه بطائفة معزولة في النظرية السياسية، وبخلاف هؤلاء، فقد تنامى النقد الموجه ضد السلوكية من جهات أكاديمية أخرى، لكن هذه المرة فإن مصدر النقد لم يكن من "التقليديين ذوي النزعة التاريخية"، بل من باحثين يطالبون بدور إيجابي لعلم السياسة، من خلال إعطائه لمسة نقدية وتوجيه اهتمامات الباحثين نحو قضايا المجتمع، وذلك بدعوى أن السلوكيين تورطوا من خلال ما أسموه بالحياد القيمي في تعزيز الوضع القائم في السياسة الأمريكية رغم أنه وضع أبعد ما يكون من أن يكون مثاليا.
طلائع الثورة "المؤتمر من أجل علم سياسة جديدة":
أثمرت الانتقادات التي وجهها اليساريون للسلوكية ظهور ما يسمى بـ "المؤتمر من أجل علم سياسة جديد"، والذي حاول تحديد ملامح المرحلة المقبلة في علم السياسة وإعادة توجيهه. تم تنظيم المؤتمر سنة 1967 خلال الاجتماع السنوي لـAPSA، وتزعمه: "بيتر باكراتش" Peter Bachrach، "كريستيان بي" Christian Bay، "تيودور لوي" Theodore Lowi، "مايكل برينت" Michael brent، "آلين وولف" Alan Wolfe، "شيلدون وولين" Sheldon Wolin، كما تضمنت القائمة أيضا وجها بارزا في تخصص العلاقات الدولية: "هانتس مورقينتو" Hans Morgenthau والذي كان من بين المعارضين للحرب في فيتنام، وقد قدم المؤتمر مرشحا لرئاسة APSA.
كان من بين أعضاء المؤتمر عدد من المنظرين السياسيين العازمين على جلب النقاشات والانتقادات حول الديمقراطية الليبرالية الأمريكية إلى قلب النقاشات الأكاديمية بعد أن كانت معزولة في محيط تخصص العلوم السياسية، ولتسويق طرحهم عمد أعضاء هذا "المؤتمر" إلى تغطية ما يرونه جوانب قصور في "الاتجاه السلوكي": حيث توجهوا نحو الاهتمام بالقضايا الاجتماعية والأزمات السياسية لتلك الفترة، كما طالبوا بعلم سياسة يتخذ موقفا جماعيا موحدا من القضايا السياسية المثيرة للجدل مثل: حرب فيتنام، التمييز العنصري، والفقر، إضافة إلى قضايا البيئة والمرأة.
ورغم أن المؤتمرين لم يجمعوا على رفض النزعة العلمية، إلا أنهم رأوا بضرورة إعادة ترتيب الأولويات، لتكون "العلمية" في المرتبة الثانية بعد الالتزام بقضايا المجتمع؛ ومدى صلاحية نتائج الأبحاث لمعالجة هذه القضايا. وبرروا موقفهم هذا بكون مسألة تفسير السلوك السياسي لا تشكل حقيقةً مركز الثقل المعرفي في علم السياسة، وبذلك يبدو واضحا أن "المؤتمر من أجل علم سياسة جديد"، مثله مثل الاتجاهات الثلاثة التي سبقته جمع بين الأهداف الفكرية والأهداف السياسية، ولو أن أهدافه السياسية كانت أوضح مقارنة بـ "السلوكيين".
سخر أعضاء المؤتمر أكثر جهودهم لمسعى إصلاح APSA، وقدموا مرشحين لمنصب الرئيس ولعضوية مجلس الجمعية، لكنهم أخفقوا في الحصول على الرئاسة رغم نجاحهم في الاستحواذ على بعض المقاعد في المجلس. وتجدر الإشارة إلى أن بعض رواد "المؤتمر" من أمثال "تيودور لوي" Theodore Lowi، و"إيرا كاتز نيلسن" Ira katznelson، تمكنوا من الحصول في فترات لاحقة على منصب الرئاسة باعتبارهم مرشحين رسميين.
أخذت المقاومة من جانب "السلوكيين" تشتد لاسيما وسط APSA التي يهيمنون عليها بشكل شبه كلي، ففي 1968 قاموا بتجميد عمل كل لجان العمل التي دعا إلى تشكيلها أعضاء "المؤتمر". لكن "دافيد إيستون" عمل على التخفيف من حدة التوتر بين "السلوكيين" و"المؤتمريين"، فخلال مداخلته له أمامAPSA عام 1969 بصفته رئيسا للجمعية تحدث عن "ثورة جديدة في علم السياسة"، بإمكانها أن تجعل التقنيات التي طورها "السلوكيون" و"نظريته للنظم" على حد سواء في خدمة المشكلات الاجتماعية.
لم ينجح "إيستون" في ردم الهوة بين المعسكرين، إلا أنه نجح في إرساء تخصص ثانوي في علم السياسة وهو السياسات العامة. وهكذا ظل السلوكيون في إطار APSA متشبثين بمقاومتهم للتغيير الذي بشر به "المؤتمر من أجل علم سياسة جديدة"، إلا أن ثقتهم في النفس قد تزعزعت كثيرا، وهم الذين استماتوا في مقاومة تسييس "حقل علم السياسة"، وهي النقطة التي أثارها "أويلاو" Eulau في تقريره كرئيس لـ APSA عام 1972: "إننا لم ننظم أنفسنا في إطار APSA من أجل ممارسة السياسة أو لنشر وجهات نظر سياسة". وفي الاتجاه ذاته، صرح Austin Ranney بخصوص تعيين خليفة له على رأس APSA أن الصورة واضحة جدا في ذهنه، وهي أن يخلفه رئيس لا يمت بصلة إلى "المؤتمريين".
إن المؤتمر، وبدل أن يتوجه نحو تشييد روابط مع التيارات الاجتماعية والسياسية والتي تحمل ثقافة مناوئة له، فقد كرس جهوده على الصعيد المهني، مما دعا "لوي" Lowi إلى تسميته بـ "المؤتمر من أجل جمعية جديدة لعلم السياسة"، ومع إخفاقه في الحصول على رئاسة الجمعية فقد تراجع طموح أعضاء "المؤتمر" وأصبح تنظيمهم مجرد قسم عادي ضمن أقسام APSA يعمل على تمويل لجان عمله بشكل ذاتيا، أما المجلة العلمية التي قام "المؤتمر" برعايتها (علم السياسة الجديد) New Political Science فقد ظل انتشارها محدود، ولم يظهر اسمها ضمن ترتيب أبرز 115 دورية علمية في التخصص. هذه الحقيقة لم يعها أعضاء الحركة الجديدة المسماة: "بريسترويكا علم السياسة"، والتي برزت مع بداية الألفية الجديدة، وذلك عندما وضعوا نصب أعينهم إصلاح الحقل المعرفي لعلم السياسة.
لقد شن المؤتمر من أجل علم سياسة جديدة هجوما كاسحا على "السلوكية" لكنهم جوبهوا بمقاومة شرسة. وإذا رجعنا إلى معيار قياس مدى نجاح "الثورات المعرفية" والذي تحدثت عنه في البداية، فإننا نخلص إلى إخفاق ثورة المؤتمريين من حيث:
أنهم لم يتمكنوا من إعادة صياغة أجندة البحث في علم السياسة؛
أن أجندة البحث التي اقترحوها لم يكن معترفا بها في أوساط الباحثين؛
أن المناهضين لهم لم يكن يتعين عليهم تبني صيغة توفيقية، بل اكتفوا بتجاهل طرح مناصري "المؤتمر" (ما يدل على ضعف طرح جماعة "المؤتمر").
غياب الثورات وانتشار برامج البحث:
شهد علم السياسة تحولات كبيرة في الفترة التي أعقبت الثورة السلوكية. وكان عودة مفهوم "الدولة" إلى تصدر أجندة البحث في الحقل قد أثار انتباه الباحثين إلى أن علم السياسة تحكمه نظام الدورات المعرفية ( فمثلا: مفهوم الدولة كان محور اهتمام الباحثين لفترة طويلة ثم تراجع ليعود إلى الواجهة في مرحلة لاحقة). غير أن الدولة عادت هذه المرة في ثوب جديد، فهي لم تعد قيمة مقدسة كما كانت خلال عصر تأسيس علم السياسة، ذلك أن النزعة التجزيئية المجتمعية للسلوكيين، أثرت في "الدولاتيين الجدد"، فهؤلاء يعتبرون الدولة متغيرا مستقلا، من حيث أن مسؤولي الدولة -من وجهة نظرهم- قد يعملون على تحقيق مصالحهم الشخصية؛ ولا يعكسون بالضرورة القوى الاجتماعية. وهم بذلك لا يحملون أي جديد، بل عاودوا التركيز فقط على فواعل معينين وعلى حوافز معينة للسلوك ( تحقيق المصالح الشخصية)، ويتفقون في ذلك مع السلوكيين من أمثال: "ترومان"Truman، والذي أقر بأن المسؤولين الرسميين يتفاعلون مع فواعل آخرين لتحقيق مصالح تحددها المؤسسات (المجتمعية) التي ينتمون إليها.
ويشير Almond في هذا الصدد إلى أن "النزعة الدولاتية الجديدة" لا تحمل في طياتها أية ثورة، أو تحولا في "البارادايم"، بل مجرد برنامج بحثي جديد يطمح إلى التمييز بين الأنظمة السياسية، من حيث مدى تأثيرها في الطريقة التي يعمل من خلالها الموظفون الحكوميون على صناعة السياسة العامة.
ما يميز برنامج البحث هذا، هو ما يميز برامج البحث بشكل عام، وهو أنه بإمكان الأكاديميين الناشطين في التخصص أن يتجاهلوه في حال لم يودوا الانخراط فيه. وفقا عن ذلك، فإن لغة هذا البرنامج البحثي (الدولاتي) لم تكن مستوعبة في أوساط علماء السياسة في تلك المرحلة. لكن خلال التسعينات، أصبح من الصعب جدا على علماء السياسة الأمريكية أن يتجاهلوا نظرية الخيار العقلاني رغم أن بدايات هذه المقاربة الجديدة (أو البرنامج البحثي الجديد) تعود لخمسينيات القرن الماضي، مع الأعمال التي نشرها: "كينيث أورو" Kenneth Arrow، "دونان بلاك" Dunan Blak، "أنطوني داونز" Anthony Downs، "ويليم يركر" William Riker. لقد كان استحواذهم تدريجيا على فضاء النشر الأكاديمي في علم السياسة يمنحهم مع مرور الوقت صفة البرنامج البحثي الأكثر شعبية في هذا الحقل المعرفي.
لكن نظرية الخيار العقلاني، وبدل أن تحدث ثورة في علم السياسة، فإنها ظلت تتوسع تحت ظلال "السلوكية"، و"الدولاتية الجديدة"، والمقاربتين: "الثقافية" و"المؤسساتية الجديدة"، وغيرها من البرامج البحثية القائمة في علم السياسة، والتي يتزايد عددها باطراد. لقد ادعى بعض رواد "الخيار العقلاني" بأن مقاربتهم تعتبر تطورا جديدا بني على أنقاض "السلوكية" (في شقيها "الديمقراطية الليبرالية" لـ "روبرت داهل" Robert Dahl و"نظرية النظم" لـ "دايفيد إيستون" David Easton)، لكن "السلوكيين" يرفضون هذا الطرح ويجددون إيمانهم بـ "النظرية التفسيرية التراكمية"، بمعنى أن التطورات المعرفية التي جاءت بعد ثورة "السلوكيين"، تساهم في "التراكم المعرفي" الذي وضعوا هم أسسه.
خاتمة:
لقد كان تغيير علم السياسة في الولايات المتحدة لاتجاهه حدثا نادرا، حيث لم يحصل ذلك إلا مرتين طيلة قرن ونصف من تأسيس هذا الحقل المعرفي في أمريكا، والسبب في ذلك لا يتعلق بغياب محاولات في هذا الاتجاه بل يٌعزي إلى استعصاء علم السياسة على مساعي إحداث تحولات عميقة فيه. ويظهر لنا تاريخ حقل علم السياسة إخفاق حركات معرفية جديدة في ذلك، رغم تصميمها على إرساء تقاليد بحثية جديدة ومفهوم خاص بها، وسبب إخفاقها يكمن في المقاومة الشرسة التي لقيتها.
أما صمود "الثورات المعرفية" الناجحة أمام "المناوئين" لها من باحثين في علم السياسة فمرده إلى أن النجاح في حد ذاته يمنحها القدرة على إعادة صياغة أجندة البحث في هذا التخصص (علم السياسة) وأكثر من ذلك، فهي تقوم بتحديد الكيفية التي يعارضها الباحثون الذين لا يتقاسمون معها التصور المعرفي ذاته لعلم السياسة، إضافة إلى أن هذه المعارضة غالبا ما تظهر بعد نجاح الثورة المعرفية، وهذه هي الطريقة التي شكل بها "المؤتمر من أجل علم سياسة جديدة" [الكوكوس] من طرف أبناء الثورة السلوكية.
لكن ذلك لا يعني أن الثورات المعرفية الناجحة تحتفظ بقدرة ثابتة على صياغة أجندة البحث، فهذه القدرة تتضاءل مع الوقت. هذه هي الطريقة التي استقل بها الاتجاه الدولاتي "المعياري" خلال الخمسينيات. لقد ظلت تركة "السلوكيين" (من مناهج وتقنيات ومواضيع بحث) حاضرة في علم السياسة لاسيما في فرع "علم النفس السياسي". ومع ذلك، فإن قدرتهم على صياغة أجندة البحث قد تضاءلت بدء من السبعينات بسبب انتشار برامج البحث، وهو ما يؤكده أعلام "السلوكية" مثل: "أويلاو"، "ألموند"، "إيستون" ويعزونه للنزيف الذي تعرض له هذا الاتجاه، فضلا عن انقسامه على نفسه وافتقاده لهدف واضح للاستمرار. لكن الأمر أكثر تعقيدا من ذلك، فمنذ هذه الفترة أصبح من الصعب الحديث عن "أجندة بحث" في "علم السياسة" ليمكن إعادة صياغتها.
يعتقد بعض الباحثين أن تاريخ الحقل المعرفي لعلم السياسة -من منظور توماس كوهن- هو عبارة عن مجموعة من المراحل التي تحدد معالمها "الثورات المعرفية". لكن هذا الطرح ليس دقيقا كليا، فالكثير من التطورات التي حصلت كان المحرك الرئيسي فيها ليس "الثورات المعرفية" بل "التطور التدريجي"، فتراجع "دور الدولة" ابتداء من بواكير القرن التاسع عشر إلى غاية أربعينيات القرن العشرين ساهم بشكل غير مباشر وغير ملحوظ في "بلورة" المقاربات النظرية التي ميزت "فترة ما بعد السلوكية".
إن نجاح "النزعة الدولاتية الأولى" يعود إلى عزمها على إضفاء المهنية والاحترافية على دراسة علم السياسة، ولا يعود الفضل فيه إلى "التزاماتها المعيارية" [الالتزام بالدعوة للإصلاح والحفاظ على القيم]، فهذه الأخيرة كانت على الدوام جانبا مهملا في النظام السياسي الأمريكي. ولا شك أن نجاح السلوكية في إعادة صياغة أجندة البحث في علم السياسة يعود إلى إقدامها على إحداث تغييرات جذرية تضمنت بالأساس إنهاء الالتزامات [المعيارية]. يبدو جليا أن كلتا الثورتين الناجحتين (الدولاتية والسلوكية) كانتا بمثابة ثورات من دون خصوم، وهو النمط الوحيد من الثورات التي تظفر بميزة إعادة توجيه علم السياسة للاتجاه الذي تراه مناسبا [على صعيد المنهج والموضوع].
تعليقات
إرسال تعليق