أحمد عباس عبد البديع
مؤتمر سياسية مصر الخارجية: في عالم متغير، 1990، 20ص.
على الرغم مما يتردد كثيرا من أننا نعيش في عالم متغير، فإن ذلك لا يعني أن التغير خصيصة ينفرد بها العالم المعاصر أو أنه خصلة يتميز بها هذا الزمان من غيره من الأزمنة، فالحقيقة التي لا مراء فيها أن التغير سمة أساسية من سمات الحياة وأحمد مقوماتها الرئيسية التي لا تتبدل ولا تتحول والتي عبر عنها الفلاسفة قديما بقولهم أن كل شرع متغير إلا التغير.
بيد أن ما نعنيه هو أن التغير الذي طرأ على النظام العالمي المعاصر يتسم بخصائص وصفات غير مسبوقة في تاريخ البشرية وهي سرعة حركته وتصاعد إيقاعاته وعمق تأثيره وإحاطته الشاملة بمختلف جوانب الحياة وشتي مجالاتها فمنذ الحرب العالمية الثانية التي فجرت طاقات التقدم العلمي والتكنولوجي لمواجهة احتياجات التدمير وتحقيق النصر، ما فتئت موجات التحول والتغير تتلاحق حتى الوقت الراهن أثر بعضها بعضا بشرعة فائقة وبصورة لم يقدر للبشرية أن تشهدها في أي مرحلة من مراحل التاريخ[1] إذ أن ما حدث خلال هذه الفترة الوجيزة من التاريخ البشرية يفوق كثيرا ما طرأ على العالم من التغير عبر أجيال طويلة وأحقاب عديدة من السنين.
وإذا كان التغير من الظواهر التي استأثرت باهتمام الباحثين والعلماء في مختلف مجالات العلوم الطبيعية والسلوكية على السواء، فإنه كذلك من الموضوعات التي استرعت انتباه علماء العلاقات الدولية لما له من علاقة وثيقة باستقرار السلام الدولي والمحافظة على توازن النظام العالمي، ولارتباطه بكل ما يقع عبر الحدود القومية من الأحداث التي ترتبط في الوقت الحاصر بأمن الإنسان ورفاهيته وحقوقه الأساسية وما يموج به العالم المعاصر من الأزمات والقضايا ابتداء بمشاكل الطاقة والغذاء ومرورا بأزمة حقوق الإنسان وانتشار ظاهرة الإرهاب الدولي التي تفاقم شقة الخلاف بين الشمال والجنوب وتعثر خطط التنمية وتصاعد موجة التضخم النقدي العالمي وغير ذلك من القضايا التي أفرزتها البيئة الدولية المتغيرة والتي باتت تشكل في الأونة الأخيرة الجزء الأكبر من اهتمامات الجماهير والحكام في كل مكان من العالم.
وتدور دراسة التغير في النظام العالمي حول كثير من المحاور التي تشمل البحث في طبيعته وما إذا كان ظاهرة إرادية وعمدية أم نشاطا تلقائيا ثم تحديد القوى أو العوامل المؤثرة في إحداثه، ومدى فاعليته وتأثيره في صنع السياسة الخارجية وفي السياسة العالمية، والاتجاه الذي يسلكه وما إذا كان يسير
نحو إقامة عالم أفضل ينعم فيه الإنسان بشتي منافع الحضارة وميزاتها أم أنه سوف يؤدي إلى إفراز عالم يعج بالحروب والصراعات الدولية وغير ذلك من الموضوعات والقضايا التي لا يتسع لها نطاق هذه الدراسة والتي نقتصر من بينها على تناول أربع مسائر نستهلها بالإطار النظري للتغير في النظام العالمي ثم أبعاد ومظاهر التغير، فعوامل التغير أو القوى المؤثرة فيه ثم نعرض تأثير التغير على السياسة الخارجية بصفة عامة.
وفي ختام الدراسة نقدم عرضا موجزا لإصداء هذا التغير على السياسة الخارجية المصرية
الإطار النظري لظاهرة التغير في النظام العالمي
تكشف الدراسات التي تناولت التغير الذي يطرأ على النظام العالمي عن وجود اتجاهين رئيسيين يأخذ أحدهما بمفهوم التغير كظاهرة عمدية أو إرادية، في حين يركز الأخرى على التغير كنشاط تلقائي أو عفوي.
وقد أخذ التقليديون من علماء المدرسة الواقعية بفكرة التغير العمدي الذي يتم بفعل جهود واعية أو إرادية من جانب قوة معينة إنطلاقا من أحد الافتراضات الأساسية التي يقوم عليها المذهب الواقعي وهو أن الدولة هي الفاعل الرئيسي والوحيد في النظام الدولي ياعتبارها مركز القوة بجميع مكوناتها العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية ومن ثم فإنها وحدها القادرة على إحداث التغير في النظام الدولي.
وفي هذا الإطار نسب جبلن Robert Ciplin في كتابه"الحرب والتغير السياسي في السياسة العالمية 1981 إلى الدول التحولات الرئيسية في التاريخ الدولي بدافع تعزيز مصالحها سواء كانت هذه المصالح تتصل بالأمن أو الأهداف الأيديولوجية أو المغانم الاقتصادية كما أكد أن العامل الرئيسي لتغيير الأوضاع القائمة وإعادة توزيع القوة في النظام الدولي إنما يرجع إلى اتجاه الدول لتغيير قدراتها بفعل التطورات السياسية والاقتصادية والتكنولوجية مما يجعل الدولة التي تحققت لها قوة متزايدة القدرة على تحديد ظروف الحرب والسلام وتقنين الأوضاع الجديدة التي تنشأ عن تسويات السلام بعد الحرب إلى أن تنمو بعد ذلك قوة أخرى تستطيع تغيير النظام الدولي من جديد بما يحقق أهدافها ومصالحها الذاتية وهكذا على أن قضية التغير عند جبلن لا تعني ارتباط التغير بالحرب فقط ولكنه يؤكد أن الدولة هي الفاعل الرئيسي في ضوء طبيعتها وبوصفها أهم المحددات لخصائص العلاقات الدولية وما يطرأ عليها من التطورات.
وعلى نفس النسق ذهب مولدكسي George Modelski إلى القول بوجود قوة معينة تستطيع فرض سيطرتها على النظام الدولي خلال كل فترة من فترات التاريخ ثم تعقبها في ذلك قوة أخرى وهكذا، تأسيسا على ذلك قسم الفترة من سنة 1500 حتى الوقت الحاضر إلى أربع دورات ظمنية انعقدت السيطرة على النظام الدولي خلال كل منها لإحدى دول العالم وهي البرتغال من سنة 1500 حتى نهاية القرن السادس عشر ثم هولندا طوال القرن السابع عشر فبريطانيا من أوائل القرن الثامن عشر حتى الحروب النابليونية ثم بريطانيا مرة ثانية من سنة 1815 حتى سنة 1945 وأخيرا الولايات المتحدة من سنة 1945 حتى الوقت الحاضر[2].
وبخلاف الاتجاه السابق فإن صورة العلاقات الدولية من وجهة نظر مذهب التعددية Pluralism وهو أحد مناظير عصر ما بعد السلوكية من دراسة العلاقات الدولية تبرز خاصية التلقائية في تغير النظام العالمي استنادا إلى ما يقوم عليه هذا المذهب من الافتراضات التي نشير إلى أهمها فيما يلي:
1 - أن الدولة ليست القوة الوحيدة الفاعلة في النظام العالمي، بل توجد إلى جانبها قوى أخرى تلعب دورا هاما وأساسيا في السياسة العالمية بحيث لا يمكن إنكار تأثيرها الذي يكاد يفوق تأثير الدول ذاتها في بعض الأحايين.
2 - أن الدولة لا ينبغي النظر إليها كفاعل موحد unitary أو مجرد إطار خارجي دون النظر إلى ما بداخلها من العناصر المتفاعلة وخصاصا بعد أن برزت في السنوات الأخيرة كثير من الجماعات والهيئات والبيروقراطيات ذات المصالح وغيرها من القوى المتنافسة – الأمر الذي يعني أن القرار السياسي، رغم أنه ينسب إلى الحكومة، يعتبر نتيجة التفاعل هذه القوى المتعددة داخل الدولة بل وداخل مؤسسة السياسة الخارجية.
3 - تأسيسا على ما تقدم أصبح الاهتمام الأساسي للدولة يدور حول القضايا الاقتصادية والاجتماعية التي تثير اهتمام القوى والجماعات المؤثرة في صنع القرار السياسي والتي تطفي على ما عداها في الوقت الراهن من مسائل وقضايا الأمن القومي والاستراتيجيات العسكرية[3].
أبعاد ومظاهر التغير في النظام العالمي
تشير كثير من الدلالات إلى أن التغير الذي طرأ على النظام العالمي والذي بدأ منذ نهاية الحرب العالمية الثانية يتميز من حيث أبعاده بأنه لا يقتصر على جوانب نوعية أو قطاعات جزئية من المجتمع العالمي، ولكنه يتسم بالعمومية والشمول لامتداده إلى مختلف مجالات العلاقات الدولية سواء فيما يتعلق بعدد القوى الفاعلة في النظام الدولي وأنواعها وبنيان العلاقات الدولية والقواعد التي تحكم
هذه العلاقات وأنماط التفاعلات التي تنشأ بين مختلف الفاعلين الدوليين، فضلا عن امتداد كل ما أفرزه هذا التغير من المشاكل والقضايا إلى جميع أنحاء العالم.
وقبل أن نستطرد في تحليل مظاهر هذا التغير، فإننا نشير إلى بعدين هامين من أبعاده وهما يعكسان التأثير أذى أحدثه في العلاقات الدولية كمادة دراسية وذلك من حيث المنهج والمفاهيم الأساسية.
فقد ترتب على تنوع القضايا والمشاكل التي حفلت بها حقبة الستينات وتكاثر عدد وأنواع الفاعلين الدوليين ظهور أنواع مختلفة من النماذج في دراسة العلاقات الدولية الأمر الذي أدى إلى تفتت وحدة هذا العلم وتفككه إلى عدة مناظير متباينة وزوايا مختلفة واهتمامات متعددة بحيث بدا من الصعب تمييز هذه الفترة من تطور دراسة العلاقات الدولية بسمات أو خصائص معينة أو إدراجها تحت اسم معين ومن ثم جاءت تسميتها بعصر ما بعد السلوكية post – behaviorism كنوع من الاستجابة للطبيعة المتنوعة للدراسة من ناحية وللتغيرات والتحولات التي طرأت على البيئة الدولية والقضايا والتفاعلات التي استجدت على الساحة العالمية[4].
كما أن التقارب بين الأفراد والجماعات والهيئات في الدول المختلفة نتيجة لتقدم وسائل اتصال وسبل الانتقال أدى إلى وجود تماثل في كثير من القيم والأهداف والمشاركة في الاهتمام بجميع المشاكل والقضايا العابرة للقوميات Transnational بدلا من مجتمع الدول وإحلال مفهوم السياسة العالمية World Politics محل السياسة الدولية كما شاع في السنوات الأخيرة إصطلاح النظام العالمي للدلالة على أن الدول ليست وحدها الأطراف المتفاعلة في هذا النظام ولكن توجد بالإضافة إليها أنواع أخرى من القوى التي تمارس قدرا كبيرا من النفوذ والتأثير في البيئة العالمية.
وإذا كان التغير الذي طرأ على النظام العالمي ذا أبعاد عامة وشاملة فإن ذلك يستتبع تعدد مظاهره وتنوعها وامتدادها إلى جميع مجالات السياسة العالمية وقطاعاتها المختلفة.
ولعل من أبرز مظاهر هذا التغير أن دور الدول كقوى فاعلة ومؤثرة في السياسة العالمية لم يعد دورا مركزيا كما كان عليه الحال في النماذج التاريخية التي عرفها العالم من قبل، فقد أدت الكثرة العددية الهائلة للدول القضاء على مركزية القرار السياسي كأساس لتوجيه العلاقات الدولية والتي انتشار السلطة السياسة العالمية وتوزيعها بين مراكز متعددة مما يعني أن قدرة أي فاعل من الفاعلين الدوليين على تغيير النظام العالمي أو تحديد مسار العلاقات الدولية
أصبحت قدرة محدودة ومقيدة للغاية حتى ولو كان هذا الفاعل الدولي هو إحدى القوتين العظميين.
كذلك فإن التأثير والنفوذ التي تمارسه الدولة المعاصرة لم يعد يرتكز على حساب أو تقدير ما حوزتها من القوة والإمكانيات العسكرية، إذ أن قراراتها المحددة لدورها في البيئة العالمية لم تعد تتشكل وفقا لأهداف ورغبات السلطة السياسية وحدها بقدر ما هي محصلة لتفاعل القوى والجماعات المختلفة داخل المجتمع القومي، فقد أصبحت القضايا الاجتماعية والاقتصادية التي أفرزتها البيئة الدولية المتغيرة تستأثر باهتمام جميع أفراد المجتمع لارتباطها ارتباطا وثيقا بالرفاهية العامة والوفاء باحتياجات الجماهير من الخدمات وتوفير السلع الأساسية للمواطنين بحيث لم يعد ثمة ما يسوغ الفصل أو الثنائية التي كانت تقيمها المدرسة الواقعية بين السياسة العليا High Politics والسياسة الدنيا Low Politics التي بمقتضاها تنفرد قضايا الأمن القومي والاستراتيجية العسكرية بالأولية على القضايا الاقتصادية والاجتماعية التي تبقى تابعة لها ومقيدة بمتطلباتها.
وقد كان لتعدد المشاكل التي تواجه الدول والتي لا يمكن حلها بواسطة دولة واحدة أثر كبير في تغير بنيان العلاقات الدولية فقد أصبح اعتماد الدولة على القوة العسكرية أقل كثيرا من اعتمادها على الدبلوماسية التي يساندها الاقتصاد القومي والقدرات والإمكانيات الأخرى التي تمثل المصدر الرئيسي للقوة في الوقت الحاضر الذي أصبح فيه البقاء يمثل الهدف الحيوي لكل دولة كما لجأت كثير من الدول إلى نبذ فكرة تحقيق الأمن بواسطة القوة العسكرية وهو ما يتضح من تخلي فرنسا عن إستراتيجية الدفاع من جميع الاتجاهات Tous azimuts التي كان يدعو إليها الرئيس ديجول، كما أن بريطانيا وألمانيا قد اختفى من علاقاتها ذلك العداء التقليدي والشعور بالتهديد المتبادل وحلت محله صلات وثيقة مما يؤكد أن القوة لم تعد وسيلة مناسبة لتحقيق الأهداف الأخرى غير هدف الأمن مثل الرفاهية الاقتصادية ورفاهية البيئة المادية التي أصبحت أكثر أهمية مما كانت عليه منذ أي وقت مضى.
وإذا كانت التفاعلات الدولية يغلب عليها منذ الماضي طابع التسابق والمنافسة والتصادم مما كان يتولد عنه الأزمات ثم المنازعات المسلحة فإن طبيعة المشاكل والقضايا التي تولدت من البيئة العالمية المتغيرة حتمت الحاجة إلى التضاغمن والتعاون والعمل المشترك لمواجهة المشاكل التي استشرت في البيئة العالمية المتغيرة نظرا لأنها لا يمكن بطبيعتها أن تواجه الأعلى المستوى الجماعي سواء كان الأمر يتعلق بالظروف المجتمعية أو الظروف عابرة القوميات.
فبالنسبة للمشاكل التي ترتبط بالظروف المجتمعية أو الداخلية سواء في ذلك الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية فإنها تتطلب العمل الدولي المتبادل لأنه يؤدي إلى نتائج مرغوبة في مستوى العالم فالأوضاع الخاصة بالمعدلات المرتفعة للأمية وتدهور الخدمات الصحية وانخفاض مستوى المعيشة وكذلك الظروف الاقتصادية مثل ضعف الاستثمار وتزايد معدلات التضخم النقدي واختلال نظام المدفوعات، والظروف السياسية مثل انتهاك حقوق الإنسان تعتبر مسائل ذات أهمية كبرى على مستوى العالم كله ومن ثم فإنها تتطلب التعاون الدولي سواء على المستوى الثنائي أو الجماعي.
وفي الوقت الراهن الذي يشهد فيه العالم الترابط الوثيق بين مختلف أرجائه من خلال الظاهرة عابرة القوميات والتي تتمثل في ذلك التطور الهائل في انتقال الأفراد والجماعات والأفكار ورؤوس الأموال عبر الحدود الدولية تتفجر أنواع جديدة من المشكلات والأزمات التي لا سبيل إلى مواجهتها والسيطرة عليها إلا بتضافر جهود الدول كانتشار الإرهاب الدولي وتلوث البيئة الدولية وترويج المخدرات والسموم البيضاء.
ولابد أن الحاجة إلى التعاون بين الدول وغيرها من الفاعليين الدوليين كالمنظمات الدولية والجماعات الدولية غير الحكومية تزداد مع التغيرات الضخمة التي تحدث في مجال التكنولوجيا والأنشطة التي تؤثر تأثيرا جذريا في البيئة الجغرافية الفيزيقية مثل التجارب والاختبارات الذرية وتأثيرها على التربة والطقس العالمي والغلاف الجوي كما يحتاج العالم إلى التعاون في استغلال الثروات والموارد الطبيعية في سائر أنحاء العالم مما يعتبر من قبيل تراث البشرية كلها مثل الثروات الكامنة تحت قيعان البحر والمحيطات، والمحافظة على المصادر الحية في البحار العالمية واستخدام الطاقة الذرية في المجالات السلعية لمواجهة مشاكل نقص الغذاء وتلوث البيئة ومنع انتشار الأمراض والأوبئة وغير ذلك من أوجه التعاون الذي تشتد إليه حاجة الدول للتخفيف من حدة تفاقم القضايا والأزمات العالمية.
عوامل التغير في النظام العالمي
يمكن التمييز فيما يتعلق بعوامل التغير أو القوى التي أدت إلى تطوير وتحويل النظام العالمي إلى الأوضاع الراهنة بين ثلاثة أنواع نبدأها بالعوامل التكنولوجية ثم العوامل السياسية وأخيرا العوامل الاقتصادية والاجتماعية.
أولا: العوامل التكنولوجية
يدور تأثير القوى أو العوامل التكنولوجية حول محورين يتصل أحدهما بالمنجزات والمستحدثات المتقدمة التي استهدفت خدمة التقدم البشري أما الآخر فيختص بأدوات ووسائل التدمير النووي.
فقد أدى التطور الهائل في مجال النقل والاتصالات إلى تيسير سبل التقارب بين الناس وانتقالهم فرادي وجماعات عبر الحدود الدولية بالملايين كل يوم سعيا وراء العمل أو اللهو أو التسلية أو بحثا عن الاستشفاء أو التعليم أو من أجل العبادة وممارسة الشعائر الدينية أو الانسياق وراء المغامرات والمجازفات المثيرة وقد اكتسبت هذه الحدود خاصية مسامية نظرا لما ينفذ من خلالها بصورة مستمرة من الأفكار والمعتقدات ورؤوس الأموال والأسلحة والسموم والنفايات وغير ذلك مما يتجاوز قدرات أي دولة على وقفها أو الحيلولة دون انتشارها أو منع آثارها على المستوى العالمي.
وقد نشأ من ذلك التدفق المستمر في تبادل الأفكار والقيم والسلع والأفراد والجماعات ظهور نوع من التقارب والتجاوب بين الناس في مختلف الدول في كثير من القيم الأساسية كالميل إلى المشاركة في القيم الديمقراطية والاستمتاع بالانجازات المادية والمعنوية لحضارة الجنس البشري مما أدى إلى مزيد من التطلعات إلى الحريات السياسية في تحقيق العدالة الاجتماعية وتحسين ظورف المعيشة بحيث أصبح من الممكن القول بوجود عالم واحد من العلم والأفكار والتجارة والمصالح التي لم يعد يعترض سبيلها سوى حواجز الجبال والبحار والسهول التي لا تعول عليها أهمية كبيرة في هذا العمر التكنولوجي وفي نفس الوقت أخذ اهتمام الشعوب بكل ما يجري عبر الحدود الدولية من الأنشطة أو الأفعال يزداد بصورة مطردة سواء في ذلك أعمال الإرهاب وترويج المخدرات وتهريب الأسلحة ونفايات المواد الذرية وما إلى ذلك من أفعال المغامرين التي أصبحت في نفس الوقت من أبرز المسائل في دائرة اهتمام الحكومات.
ومن ناحية أخرى فإن التقدم التكنولوجي فرض على الجنس البشري نوعا جديدا من التحديات التي تعرض لها النظام العالمي والتي تشمل الأخطار الناجمة عن تلوث البيئة والتغيرات التي تطرأ على المناخ الجغرافي نتيجة للجحيم النووي المتصاعد من التجارب الذرية وانتشار المفاعلات النووية كمصدر من مصادر الطاقة وغير ذلك مما يعرض العالم لكثير من الأخطار والتي يلخصها الاصطلاح الذي ظهر أخيرا في علم العلاقات الدولية وهو إبادة البيئة Ecocide الذي يدل على القدرات الهائلة التي اكتسبها الجنس البشري على تدمير الطبيعة أو على الأقل على جعلها غير صالحة للحياة الأدمية وفي هذا الإطار ينبه علماء البيئة إلى ما يقوم به الجنس البشري من الاستنزاف السريع للموارد الطبيعية وخاصة الطعام والطاقة وإلى ما هو متوقع خلال القرن الحادي والعشرين من نفاذ الأغذية البحرية والطاقة ومنتجات الغابات والأراضي الصالحة للزراعة وغير ذلك من المشاكل والتحديات التي تتجاوز قدرات وإمكانيات الحكومات وهي تعمل منفصلة عن بعضها بعضا[5].
أما فيما يتعلق بالجانب الآخر من جانبي التقدم التكنولوجي وهو التطور الهائل في وسائل الهلاك والتدمير، فقد ترتب عليه انخفاض ملحوظ في اتجاه الدول
التي تمتلك الترسانات الضخمة من الأسلحة الاستراتيجية في استخدامها لمتابعة أهداف سياستها الخارجية لما قد ينجم عن ذلك من الدمار القومي ذاته بحيث أصبح استخدام لقوة العسكرية لتحقيق الأهداف ضد العدو من العبادة التي أصابها التأكد في السياسة الدولية المعاصرة.
على أن ذلك لا يعني عدم احتمال اللجوء إلى القوة العسكرية المحدودة أو التهديد باستخدامها لمتابعة الأهداف السياسية في بعض الأحايين وخاصة في الدول النامية ولكن بين الدولتين العظميين أو غيرهما من القوة شديدة التسلح فإنه من غير المتوقع أن تلجأ إحداهما إلى القوة المسلحة في مواجهة الأخرى لتحقيق هدف من الأهداف القومية وقد أصبح هذا التغير من القواعد الأساسية منذ أزمة الصواريخ الكوبية سنة 1962 التي أثبتت تردد كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي بصورة ملحوظة في استخدام القوة المسلحة في مواجهة إحداهما الأخرى وبدلا من ذلك فضلت كل منهما الاحتفاظ بترسانتها الاستراتيجية للغرض الأساسي وهو ردع العدوان أو توازن الرعب النووي الذي يقوم دليلا على ما يكنه كل منهما للآخر من الشعور المفرط بالخوف من استخدام القوة النووية.
ومع ذلك فإنه لا يمكن القول بأن التهديد باستخدام القوة العسكرية بواسطة القوتين الظميين في مواجهة بعضهما بعضا قد انتهي إلى الأبد الأمر الذي واضحا مما ورد في خطاب للرئيس كارتر 1980 من تحذير للاتحاد السوفيتي خلال قمة أزمتي إيران وأفغانستان بقوله أن أي محاولة من جانب أي قوة عسكرية لاكتساب السيطرة على منطقة الخليج الفارسي سوف يعتبر عدوانا على المصالح الحيوية للولايات المتحدة الأمريكية وأن مثل هذا العدوان سوف يواجه بكافة الوسائل الضرورية بما في ذلك استخدام القوة المسلحة ومع ذلك فإن التطورات المعاصرة تشير إلى تضاؤل حدة التهديد باستخدام القوة المسلحة وذلك منذ الاتفاق الذي تم مؤخرا بين موسكوا وواشنطن في اجتماع القمة الذي عقد في موسكو في 29 مايو إلى 2 يونية سنة 1988 بشأن تدمير الصواريخ متوسطة المدى في ترسانات كل من الطرفين فضلا عن احتمال حدوث اتفاق آخر بينهما فيما يتعلق بخطط وأنظمة الدفاع الاستراتيجي المعروفة بحرب النجوم.
ومن بين التغيرات التي ترتب على التطور التكنولوجي في مجال التسلح تخلص الدول من مبدأ محاولة اكتساب الأراضي بالقوة أو التوسع الإقليمي الذي لم يعد يشكل هدفا في حد ذاته وذلك على الأقل بالنسبة للدول الصناعية التي اختفت من علاقاتها المنازعات الإقليمية تماما وإذا كانت هذه الدول قد أخفقت في الاحتفاظ بمستعمراتها نتيجة لتصاعد حركات التحرير وجهود الأمم المتحدة في تصفية الاستعمار فإن الإمبريالية الجديدة أو التغلغل الاقتصادي والسيطرة على الأسواق الخارجية التي تمارسها هذه الدول ما زالت عنصرا جوهريا من عناصر السياسة العالمية المعاصرة[6].
ومن ناحية أخرى فإن التكنولوجيا العسكرية المتقدمة لا تستطيع أن تؤدي بالضرورة غايتها في المنازعات السياسية وهذه الحقيقة تبدو أكثر وضوحا إذا تأملنا التاريخ القريب للعلاقات بين الدول القوية والدول الصغرى والذي أثبت أن الدول الصغرى غالبا ما تنجح في تحقيق أهدافها ضد الدول الكبرى أو المتفوقة عليها عسكريا فقد كانت فيتنام ضعيفة بالمعنى العسكري التقليدي ومع ذلك فقد حققت النصر ضد فرنسا أولا ثم الولايات المتحدة رغم تفوقهما العسكري الشديد، كما أن الصواريخ النووية ذات القوة التدميرية الهائلة لم تمكن الولايات المتحدة الأمريكية من وقف انتشار الشيوعية في بوبا التي تبعد عن شواطئها بتسعين ميلا فقط كذلك فإن الاتحاد السوفيتي رغم القوة العسكرية الهائلة التي حشدها في الأراضي الأفغانية لم يستطع التأثير على سير الأحداث في هذه البلاد أو القضاء على المقاومة التي كان يشنها المجاهدون بأسلحتهم التقليدية المحدودة.
ثانيا: العوامل السياسية
تشمل العوامل السياسية التي أسهمت في تغيير النظام العالمي أنواعا متعددة ومتباينة ومع ذلك يمكن تصنيفها من حيث نطاقها إلى نوعين أحدهما عوامل ذات نطاق عالمي والآخر عوامل ذات نطاق إقليمي أو محلي.
1 - عوامل ذات نطاق عالمي
يأتي في مقدمة هذه العوامل تكاثر وتنوع الفاعلين الدوليين المؤثرين في السياسة العالمية ابتداء بالدول والمنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية إلى الهيئات متعددة الجنسيات وأخيرا الجماعات القومية أو العرقية.
فمنذ الحرب العالمية الثانية إزداد عدد دول العالم من حوالي خمسين دولة إلى ما يربو على مائة وستين دولة وقد أدت هذه الكثرة العددية إلى حدوث تغييرات جذرية في بنيان العلاقات الدولية وذلك لما ترتب عليها من تقويض المركزية الأوربية التي كانت تسيطر على العلاقات الدولية بين الحربين العالميتين ثم القضاء على القطبية الثنائية التي سيطرت على العلاقات الدولية في أعقاب الحرب العالمية الثانية ثم عملت على توزيع القوة في العالم على عدة مراكز ذات تأثير ونفوذ واضحين في السياسة العالمية، فمنذ حرب أكتوبر 1973 أثبتت الأحداث العالمية قدرة القطاع الفني من العالم الثالث على أحداث تحول جذري في الاقتصاد العالمي عندما قامت دول الأوبيك بفرض سيطرتها كاملة على سوق النفط، كما تصاعد دور بعض التجمعات الدولية الأخرى في تشكيل السياسة العالمية مثل دول عدم الانحياز ومجموعة السبع والسبعين التي استخدمت تفوقها العددي في مناسبات متعددة للتأثير على قرارات وتوصيات الجمعية العامة للأمم المتحدة[7].
وفي نفس الوقت أخذ دور المنظمات الدولية الحكومية البالغ عددها ثلاثمائة وخمس منظمة[8] يتصاعد بدرجة كبيرة في تسوية المنازعات الدولية فضلا عن اتساع مجالات أنشطتها كمراكز للتنسيق والتعاون بين الدون في كثير من المجالات لمواجهة العديد من القضايا والمشكلات العالمية.
كما شهد النظام العالمي نموا هائلا في عدد المنظمات الدولية غير الحكومية التي أصبحت تتمتع بالاعتراف بالميثاق الأمم المتحدة بها والتي قفز عددها من مائة وسبعين منظمة في أعقاب الحرب العالمية الثانية إلى 2574 منظمة في منتصف السبعينات وتمارس هذه المنظمات كثيرا من الأنشطة التي تعمل على توثيق العلاقات والروابط بين الأفراد والجماعات والهيئات في مختلف الدول وخاصة الجماعات التي تتمتع بنفوذ وتأثير خاصين في المجتمع القومي كما تعمل على تقدم وترقية العلوم وجميع مجالات المعرفة لمواجهة مشاكل البيئة العالمية مما يجعل نشاط هذه المنظمات يبلور بصورة واضحة فكرة المجتمع العالمي.
ومن بين القوى التي أسهمت في تغيير النظام العالمي، بصفة خاصة في المجال الاقتصادي الهيئات متعددة الجنسيات التي يجاوز عددها في الوقت الراهن 10400 هيئة ذات قواعد في تسع عشرة دولة وهي إذ تسعى إلى احتكار القوة الاقتصادية في كثير من دول العالم المتقدم والنامي على السواء فإنها تمارس في نفس الوقت قدرا ملحوظا من التأثير السياسي في كثير من دول العالم الثالث[9].
وتلعب الجماعات القومية أو العرقية دورا مؤثرا في السياسة الدولية مما يجعلها آداة بارزة من أدوات تغير النظام العالمي وذلك نتيجة لتصاعد نشاطها واستحداثها كثيرا من الوسائل شديدة الإثارة لجذب الاهتمام لأهدافها سواء كان ذلك من أجل الانفصال عن الوحدات السياسية القائمة لتصبح وحدات مستقلة ذات سيادة أو بالانضمام إلى دولة من الدول التي تشعر بأنها أقرب إليها من الناحية العرقية، وكثيرا ما تلجأ هذه الجماعات إلى استخدام العنف ووسائل التدمير والتخريب التي غالبا ما تمتد خارج حدود الدول المعنية لتكون مصدرا من مصادر التوتر والصراعات بين الدول وقد أًبحت هذه الظاهرة من أبرز ظواهر العالم المعاصر حيث تتصاعد في كثير من مناطق المعمورة ابتداء بالمواجهة بين الكاثوليك والبروتستانت في أيرلندا وإحداث الاضطرابات التي تثيرها جماعة الباسك ومقاطعات كتالونيا والأندلس في أسبانيا وأعمال العنف والاغتيالات التي تفشت في ايطاليا وألمانيا الغربية والنمسا إلى قضايا القومية الإقليمية في جورجيا وارمانيا واوكرانيا في الاتحاد السوفيتي وتفجر الروح القومية في الجمهوريات اليوغسلافية والمواجهة بين الإقلية الناطقة بالفرنسية والأغلبية الناطقة بالإنجليزية في كندا والاضطرابات الأخرى التي تعج بها مناطق العالم المختلف وخصوصا في الدول النامية مما يهدد بتفكك الدول أو على الأقل بضعف
السلطة السياسية وانصياعها لمطالب هذه الجماعات وخاصة أن استخدام القسوة العسكرية بصورة فعالة أصبح محدودا للغاية في الوقت الحاضر.
ومن العوامل السياسية التي أسهمت اسهاما كبيرا في تغيير النظام العالمي ذلك التحول الذي طرأ على نظام الدولة كفاعل موحد في إطار العلاقات الدولية التقليدية والذي كان ينظر إلى الدول من خلال نموذج كرات البلياردو فيتعامل مع كل دولة كوحدة متميزة أو كيان أحادي دون الاعتداد بما يوجد داخل حدودها من الجماعات والهيئات والأحزاب والمصالح المختلفة التي تقوم بدور هام في تحديد إطار السياسة العامة أو على الأقل التأثير في هذه السياسة التي لابد أن يخضع أي قرار بشأنها لمزيج أو على الأقل التأثير في هذه السياسة التي لابد أن يخضع أي قرار بشأنها لمزيج من العمليات التي تشمل التنافس والتصادم والتحالف والتوفيق الأمر الذي يعني أنه لم يعد من الممكن في الوقت الراهن تحليل الظواهر العالمية تحليلا مكتملا إذا ما تجاهلنا هذه التفاعلات التي تحدد طبيعة ونوع قرارات السياسة بما في ذلك السياسة الخارجية وخاصة بالنسبة للقضايا والمشاكل التي ترتبط بالأزمات الاقتصادية وغير ذلك من المشاكل التي تتوقف مواجهتها على التعاون والعمل المشترك بين مختلف دول النظام العالمي[10].
2 - عوامل ذات نطاق إقليمي
من أهم العوامل السياسية ذات النطاق المحلي أو الإقليمي التي تؤثر على النظام العالمي ما يطرأ على السلطة السياسية داخل إحدى الدول من تغير نتيجة لضعفها أو سواء تنظيمها أو انهيار قدرتها على فرض النظام والاستقرار على نحو يؤدي إلى تفكك الوحدة القومية ونشر الفوضى والاضطراب داخل المجتمع الذي يتحول نتيجة لذلك إلى ساحة للصراعات بين دول المنطقة الإقليمية وخاصة إذا كانت علاقات هذه الدول تسيطر عليها عوامل الشقاق وأسباب التصدع والتوتر كما يحدث دائما بين الدول المتجاورة أو المتلاصقة جغرافيا.
ويدخل في هذا الإطار ما ترتب على ضعف السلطة العامة في لبنان وانحسار نفوذها وسلطاتها من تحول إقليمها إلى حلبة للصراعات بين القوى الداخلية التي أفرزت المليشيات المسلحة والتنظيمات العسكرية والجماعات ذات الميول والاتجاهات الأيديولوجية المتنافسة معا شجع القوى الخارجية على الاستفادة من هذه الصراعات الداخلية وتسخيرها لخدمة مصالحها وتحقيق أهداف سياستها الخارجية وخاصة فيما يتعلق بالحصول على الأسلحة أو تحسين علاقاتها مع الدول الأخرى وكانت هذه القوى الخارجية سياستها الخارجية وقد اشتملت هذه الممارسات كذلك على قيام الحكومات بإجراء مفاوضات مع زعماء وقيادات هذه المنظمات التي لا تتمتع بأي صفة رسمية أو قانونية مما يعد من الأعمال أو التصرفات غير المسبوقة في
التاريخ الدبلوماسي وعلى الرغم من النطاق المحدود لهذه الظاهرة إذ أنها لم تتجاوز نطاق منطقة القرن الأوسط فإن هناك احتمالات تكررها في المستقبل بحيث تصبح ظاهرة عالمية لا تمارسها الدول المتجاورة فحسب في علاقاتها مع بعضها بعضا بل تلجأ إليها مختلف الدول كلما تعرضت علاقاتها للأزمات أو التوتر.
ثالثا العوامل الاجتماعية والاقتصادية
وقد تميزت حقبة السبعينات بظهور مجموعة من القضايا والمشاكل ذات الطابع الاجتماعي والاقتصادي التي أدت إلى تغيرات عميقة في النظام الدولي تتمثل بصفة خاصة في انخفاض مستويات المعيشة في كثير من الدول نتيجة لتفجر أزمة الغذاء والطاقة وتزايد اتساع الفجوة بين الدول الغنية في الشمال والدول الفقيرة في الجدنوب وما نجم عن ذك من تعثر جهود التنمية في الجنوب وتعرض الدول الصناعية لمخاطر الركود الاقتصادي.
فقد أدت موجات الجفاف التي اجتاحت كلا من الاتحاد السوفيتي والصين واستراليا وجنوب شرق آسيا وأفريقيا الصحراوية سنة 1972 إلى هبوط حاد في إنتاج القمح والحبوب الأخرى في هذه المناطق من العالم بما مقداره ثلاثة وثلاثين مليون طن في القوت الذي كان العالم يحتاج فيه إلى زيادة من هذه الموارد مقدارها خمسة وعشرين مليون طن.
وحتى عهد قريب لم تكن هناك مشكلة بالنسبة لقدرة الجنس البشري في الحصول على الغذاء إذ أن موارد الغذاء أخذت تزداد بعد الحرب العالمية الثانية بإطراد وبمعدل 2.5% سنويا الأمر الذي يعني أن عام 1972 شهد أول تدهور في إنتاج الغذاء خلال مدة تزيد عن عشرين سنة.
ولا يمكن القول بأن هذا النقص في موارد الغذاء هو العامل الوحيد في أزمة الغذاء العالمي بل أن الشق الآخير لهذه الأزمة يشكل خطورة أكثر حدة وهو مشكلة الانفجار السكاني التي تستأثر في الوقت الراهن باهتمام شديد في جميع أنحاء العالم ففي خلال المائة سنة من 1830 – 1930 بلغ عدد سكان العالم بليونين ثم ازداد بليونا خلال ثلاثين عاما من 1930 – 1960 فأصبح ثلاثة بلايين ثم ازداد بليونا آخر خلال خمس عشر سنة من 1960 – 1975 ليصير أربعة بلايين ومن المتوقع أن يزداد هذا العدد بليونين آخرين في عام 1995 ليصبح ستة بلايين[11].
وإذا كانت بعض البلاد وخاصة بعض دول العالم الثالث تعد مسئولة بصفة أساسية عن هذه الزيادة الهائلة في عدد سكان العالم، فإن كثيرا من الدول الصناعية قد بلغت أقصى مستوى لها في عدد السكان ومن ثم يتعين عليها أن تتوقف عن الزيادة على هذا المستوى وبذلك فإن مشكلة زيادة السكان تعتبر في جوهرها من التحديات الأساسية التي واجهها الجنس البشري مما يتطلب تنسيق الجهود
بين جميع دول العالم وخاصة المؤسسات السكانية في هذه الدول سواء على المستوى العالمي أو الإقليمي.
وقد أدت الزيادة الهائلة في عدد السكان والتدهور غير المتوقع في إنتاج الحبوب وفي إنتاج الغذاء بصفة عامة إلى تفاقم أزمة الطعام وتعرض حوالي 400 مليون نسمة في الدول النامية إلى المجاعة إلى سواء التغذية وفي نفس الوقت أدت الزيادات المتتابعة التي طرأت على أسعار النفط خلال السبعينات إلى ارتفاع أسعار الغذاء مما أدى إلى تعرض الدول الفقيرة والدول التي تعتمد على استيراد الطعام لأزمة حادة وفي نفس الوقت ما زالت خطط التنمية في الدول الفقيرة وتتقدم ببطء شديد بسبب تراكم الديون العالمية التي بدأت بارتفاع أسعار البترول والتزايد المستمر في أسعار الواردات وارتفاع معدلات الفائدة وما تبع ذلك من اتساع الفجوة بين الشمال والجنوب وظهور أوضاع تهدد باضطراب الاستقرار الاقتصادي العالمي الذي لابد أن يعتمد في مواجهته على التعاون والمشاركة بين الدول الغنية والدول الفقيرة بحيث أن أي محول من جانب أحد الطرفين في الانفراد بحل مشاكله سوف تكون على حساب مصلحة الطرفين معا.
وبصفة عامة فإن ظاهرة التواقف أو الاعتماد المتبادل بين الدول التي تعتبر من أهم النتائج التي أسفر عنها تغير النظام العالمي تشير إلى أنه لا يمكن لأي دولة الإدعاء بالقدرة على إدارة اقتصادها بكفاءة ونجاح كاملين في هذا العالم الذي لا تستطيع فيه الحدود القومية عزل ما يوجد داخل الدولة من الظروف الاقتصادية عما يحدث من التطورات والتحولات في البيئة العالمية.
تأثير تغير النظام العالمي على السياسة الخارجية
يمكن القول بأذى ذي بدء بأن السياسة الخارجية قد طرأت عليها تحولات جذرية نتيجة للتغيرات التي حدثت في النظام العالمي والتي أصبحت من أهم المحددات الرئيسية للسياسة الخارجية في مختلف النظم السياسية بصرف النظر عما يوجد بينها من اختلاف وتفاوت من حيث الأيديولوجية أو مقدار ما في حوزتها من القدرات أو مدى ما بلغته من درجات التقدم الأمر الذي يعني أن السياسة الخارجية تكاد تكون متماثلة في أغلب الدول بعد أن أصبحت مجتمعاتها كما تبين لنا فيما تقدم ترتبط في قرية كونية أو عالم واحد تتجانس فيه القيم والثقافات إلى حد كبير تحت تأثير ثورة الاتصالات وسبل الانتقال كما تتماثل فيه المشاكل والقضايا باعتبار أنها جميعا نشأت نتيجة لعمليات التغير والتحديث التي امتدت إلى جميع أرجاء العالم.
والسياسة الخارجية يمكن تحليلها كما هو الشأن في تحليل أي نوع من أنواع السياسات من حيث مادتها أو مضمونها ومن حيث عملية صنعها أو
تشكيلها وأخيرا من حيث نتائجها وسوف نتبين عند تناولنا كلا من هذه الأبعاد الثلاثة أنه قد تغير نتيجة للتغيرات التي طرأت على النظام العالمي.
أولا تغير مضمون السياسة الخارجية
تعتمد السياسة الخارجية من حيث مادتها أو مضمونها على مجموعة من الأهداف التي تعبر أساسا عن المصالح القومية التي تشمل في مدلولها التقليدي هدف المحافظة على البقاء وحماية مصالح المجتمع وقيمه الأساسية وتحقيق الأمن القومي وغير ذلك مما يطلق عليه السياسة العليا غير أن التطورات المعاصرة فرضت التزام الحكومات بالوفاء بمطالب واحتياجات تحسين المستوى الاقتصادي لشعوبها ومن ثم فقد أصبحت الرفاهية الاجتماعية والتنمية الاقتصادية ورفع مستوى المعيشة في عمرنا الحاضر تمثل هدفا أوليا لسائر الحكومات وهو هدف لا يمكن تحقيقه بالاعتماد على الذات نظرا لأن معظم الدول لا تملك سوى موارد ومهارات تكنولوجية محدودة مما يبرز أهمية الاعتماد المتبادل أو التواقف الذي يعني أنه للوفاء بالحاجيات وإشباع الرغبات فإن الدول يتعين عليها أن تأخذ في الاعتبار أن التهديدات أو التحديات التي يمكن أن تتعرض لها الرفاهية العامة في أي دولة من الدول أو في عدد منها قد تمتد آثارها إلى كثير من الدول الأخرى.
وقد ازدادت الحاجة إلى مواجهة المطالب الأخذة في التزايد نتيجة لثورة الاتصالات والتحول إلى مفهوم المجتمع العالمي الذي تحلى فيه القضايا والمشكلات الاقتصادية بالمكانة الأولى من اهتمامات الشعوب مما يعني اكتساب المشاكل الخاصة بالعلاقات الدولية والسياسية الخارجية صفة شعبية ودخولها في دائرة اهتمام الأفراد والجماعات بعد أن كانت من اختصاصات الحكومات والملوك والقادة العسكريين وحدهم ومن ثم أصبح من المتعين على الحكومات استحداث السياسات الخارجية الكفيلة بإشباع جميع المطالب والتطلعات وإلا فإنها سوف تتعرض لمواجهة الهزيمة السياسية.
وهكذا فإن النمط المألوف للسياسة الخارجية الذي كان يركز على السياسة العليا التي تختص بشئون الأمن والدفاع وأحيانا التوسيع واكتساب الأراضي حل محله نمط جديد يتمثل في توفير الحاجات الجماهيرية وإشباع مطالب المواطنين ولم يعد ثمة ما يبرر الفصل أو التمييز في هذا العصر من الناحية الواقعية بين ما يمكن أن يكون سياسيا بصورة مطلقة واقتصاديا بشكل قطعي.
وتأسيسا على ما تقدم فقد أصبحت جد أول أعمال السياسة الخارجية أي مجموع القضايا التي تتعلق بالسياسة الخارجية تشتمل على كثير من المسائل التي يصعب تنظيمها بصورة تدريجية على شكل أولويات ثابتة ومستقرة إذ أن مشاكل الأمن القومي والاستراتيجيات العسكرية لم تعد القضايا الأساسية التي تسيطر على
جداول الأعمال بعد أن برزت أهمية القضايا التي كانت تعتبر فيما سبق ووقفا للنظريات والمفاهيم التقليدية تابعة لقضايا السياسة العليا وخاضعة لمقتضياتها والتي تفجرت تحت تأثير التغيرات والتحولات في النظام العالمي مثل أزمة الطاقة سواء كانت أزمة ندرة أم أزمة تخمة والغذاء والانفجار السكاني واستخدامات القضاء والبحار وغير ذلك من المسائل التي أصبحت تحتل مكانة أهم من مكانة الأمن العسكري والتنافس الأيديولوجي وسباق التسلح والصراعات الإقليمية وخاصة إذا علمنا أنه في عصر الهلاك الشديد والدمار الشامل بفعل القوى النووية لم تعد الدول تتابع أهدافا عدوانية[12].
ثانيا: التغيرات التي طرأت على عملية صنع السياسة الخارجية
وتشمل هذه التغيرات بعدين رئيسيين إحداهما يتناول المؤسسات المشتركة في صنع السياسة أو المؤثرة فيها والآخر يتصل بالخطوات أو المراحل التي تتضمنها صنع هذه السياسة.
ففي إطار مؤسسات صنع السياسة الخارجية يبرئ التمييز بين المؤسسات الرسمية أو الحكومية والقوى الداخلي المؤثرة في هذه السياسة.
وقد نشأ عن تعدد القضايا الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية التي تشتمل عليها جداول أعمال السياسة الخارجية ابتداء بمشاكل التجارة الخارجية وشئون النقد والاستثمار إلى قضايا تلوث البيئة وتوفير الغذاء والطاقة اشتراك عدد كبير من الوزارات وغيرها من الأجهزة التنفيذية واللجان المشتركة في صنع السياسة الخارجية مثل وزارات التجارة والصناعة والزراعة والاقتصاد ذلك بالإضافة إلى وزارات الخارجية والدفاع والمالية ويشكل الموظفون الذين يتولون جمع وتحليل المعلومات والبيانات اللازمة لإعداد السياسة الخارجية التي تتولى إقرارها الأجهزة الدستورية المعنية مجموعة بيراقراطية السياسة الخارجية التي كثيرا ما يسود بينها الصراعات والتنافس وتصادم المصالح مما ينعكس على قرارات الزعماء السياسيين[13].
أما القوى الداخلية المؤثرة في صنع السياسة الخارجية فهي تشمل الرأي العام والأحزاب السياسية وجماعات المصالح والقوى الشعبية المختلفة فقد أصبح الزعماء السياسيون يعتمدون في صنع وتنفيذ السياسة الخارجية على إرادة الجماهير ومؤازرتهم سواء في النظم الديمقراطية أو الشمولية تحت تأثير تزايد الوعي السياسي وانتشاره على نطاق واسع.
ولا شك أن ارتباط صنع السياسة الخارجية بكثير من الأجهزة الحكومية والقوى الداخلية والعوامل والبواعث الشخصية لصانعي القرار وقدرات النظام السياسي فضلا
من تداخلها مع كثير من المتغيرات الدولية أدى إلى تعقيد عملية صنع هذه السياسة ووجود كثير من العقبات والصعوبات التي تواجه صانعي القرارات مما يقطع بأن الدولة ليست فاعلا رشيدا Rational وأنها لا تسترشد في صنع القرار السياسي بخطوات محسوبة حسابا دقيقا[14] وهبو ما عزاه كثير من الكتاب بصفة خاصة إلى خضوع السياسة الخارجية في تشكيلها لتفاعل القوى المتنافسة داخل الدولة من ناحية وداخل مؤسسة السياسة الخارجية من ناحية أخرى[15].
ثالثا: تغير نتائج السياسة الخارجية
لم يعد من المتصور في العالم المعاصر القول بوجود دولة أو قوة عظمى تستطيع تنفيذ مخرجات أو نتائج سياستها الخارجية باستخدام القوة بالمعنى التقاليدي وهو ما يرجع كما أسلفنا إلى الانخفاض الملحوظ في ميل القوى شديدة التسلح إلى استخدام القوة العسكرية لمتابعة أهداف سياستها الخارجية فضلا عن صعوبة بلوغ هدف السيطرة في عالم يقوم على التواقف الذي يقضي بطبيعته على أي محاولة من جانب أي دولة على فرض سيطرتها على الدول الأخرى لما يعنيه من الاعتماد المتبادل بين الدول في تحقيق أهدافها كما أنه مع نمو المستويات العليا من التواقف فإن جميع أنواع المشاكل والكوارث ابتداء بالتضخم أو الكساد إلى الجحيم النووي يمكن أن تؤدي إلى عواقب وخيمة ونتائج سيئة بالنسبة لجميع دول العالم.
وفي إطار ما قدمنا في التغيرات التي طرأت على النظام العالمي رغم ما أفرزته من المشاكل الحادة وما فجرته من الأزمات المختلفة فإنها في نفس الوقت تعمل على تشكيل سياسة خارجية تدعم قيم التعاون الدولي والسلام العالمي.
إصداء التغير في السياسة الخارجية المصرية
وفي هذه البيئة العالمية التي تموج بالتغيرات السريعة والمتلاحقة كان من الطبيعي للسياسة الخارجية التي تنتهجها الدبلوماسية المصرية أن تكون متوافقة مع مقتضيات هذه التغيرات ومتوائمة مع متطلباته سواء من حيث مضمونها أو طريقة وأسلوب تشكيلها أو نتائجها حتى تستطيع بلوغ أهدافها ومراميها المنشودة.
فبالنسبة لمضمون هذه السياسة يمكن رصد الحقائق الآتية
أولا: أخذت الدبلوماسية المصرية تتعامل مع متطلبات التنمية الاقتصادية والعمل على تحقيق العدالة الاجتماعية وإشباع الحاجات الجماهيرية بنفس الأهمية التي توليها قضايا ومشاكل الأمن القومي وذلك في إطار متوازن لا يقيم أفضلية أو يؤسس أسبقية للسياسة العليا على حساب السياسة الدنيا ودون تغليب إحداهما
على الأخرى وقد أضحى هذا التوازن يمثل أحد الثوابت الأساسية في توجيه السياسة الخارجية المصرية منذ أن تبنت البلاد مبادئ عدم الانحياز وما تقضي به من تعزيز التعاون بين دول العالم الثالث لتحقيق أمنها القومي في عمار الصراع الذي كان محتمدما بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي من ناحية ووجوب العمل الجماعي المشترك بين هذه الدول لمواجهة مشاكل التنمية من أجل النهوض الاقتصادي من ناحية أخرى.
ثانيا: أن المساعي المتواصلة التي خاضتها الدبلوماسية المصرية لحل الصراع العربي الإسرائيلي ابتداء بمعاهدة السلام المصرية – الاسرائيلية ومرورا بالجهود المكثفة التي تبدلها لدعم الكفاح الفلسطيني إلى المحاولات الراهنة لتجميع القوى العربية والعالمية حول فكرة المؤتمر الدولي كأساس مناسب لحل القضية الفلسطينية تقع جميعها في إطار الاهتمام بتعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة العربية حتى تتجه الجهود نحو تحقيق الرفاهية الاجتماعية وبلوغ أهداف التنمية الاقتصادية ورفع مستوى المعيشة لسائر شعوبها.
ثالثا: وقد كانت تنقية الأجواء العربية يشوبها من عوامل وأسباب التفكك والانهيار أحد الأهداف الأساسية للسياسة الخارجية المصرية خلال فترة تجميد العلاقات الدبلوماسية مع الدول العربية علما أثر إبرام معاهدة السلام المصرية الاسرائيلية فقد ظلت جسور التقارب ممتدة وقنوات الاتصال قائمة ومستمرة بين مصر ومختلف دول العالم العربي باستثناء دول الرفض وكان استمرار هذا التقارب والترابط ينطلق مع إيمان الدبلوماسية المصرية بمدى وعمق التأثير الناجم عن ظاهرة التوافق الدولي وتداعياته في تشكيل المصير المشترك للأمة العربية ومن ثم فإنه ما أن أبدت الدول العربية رغبتها في إعادة العلاقات الرسمية مع مصر حتى لقيت ترحيبا حكوميا وشعبيا منقطع النظير مما ينبئ بالانطلاق في المستقبل نحو آفاق رحبة من التعاون العربي في جميع المجالات.
رابعا: وبصفة عامة فإن العنصر الغالب فيما يتعلق بمضمون السياسة الخارجية التي تنتهجها مصر هو التعاون مع مختلف دول العالم إيمانا منها بأهمية ما يسود النظام العالمي في الوقت الراهن من الميل إلى العمل المشترك بين جميع دول العالم وتعزيز الجهود الجماعية لمواجهة القضايا والمشاكل التي فجرتها قوى التغير والتي ترتبط ارتباطا وثيقا برفاهية الشعوب وأمنها الاقتصادي والاجتماعي ابتداء بمشاكل نقص الغذاء والانفجار السكاني وتلوث البيئة الدولية واختلال توازن الغلاف الجوي إلى أزمة المديونية وتفشي الأمراض وترويج المخدرات وغير ذلك من القضايا التي تتطلب الترابط والتضامن بين الدول للقضاء عليها أو الحد من تفاقمها والتخفيف من آثارها وفي إطار هذا التوجه نحو التعاون كذلك تبذل الدبلوماسية المصرية جهودا متواصلة لتعزيز علاقاتها بالدول الإفريقية ودول السوق الأوربية والاتحاد السوفيتي ودول أوربا الشرقية لتدعيم التبادل التجاري
مع هذه الدول وتعزيز قدرات البلاد في تحقين التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
وإذا ما انتقلنا إلى تأثير التغير في النظام العالمي على طريقة أو أسلوب تشكيل السياسة الخارجية المصرية فإننا نلاحظ أن تشكيل أو تخطيط هذه السياسة لم يعد احتكار كما كان من قبل للقادة السياسيين والعسكريين وحدهم منذ أن أصبحت الشئون الخارجية تدخل في اهتمامات مختلف طبقات المجتمع وفئاته لارتباطها الوثيق برفاهية الجماهير وإشباع الحاجات الفردية والجماعية وبات من الواضح أنها تتطلب في تشكيلها تعاون نخبة كبيرة من الخبراء والمختصصين في مختلف الشئون الدولية والعالمية وعلى الأخذ كل ما يتعلق بالقضايا الاقتصادية كمشاكل التجارة الخارجية وشئون النقد والاستثمار وتحديد أسعار المنتجات الصناعية والزراعية في السوق العالمي وفي هذا الإطار أخذ دور بيراقراطية. السياسة الخارجية[16] يتصاعد بدرجة كبيرة بما يواكب موجات التغير الراهنة ويمضي بمتطلبات واحتياجات الجماهير وفي نفس الوقت عمدت القيادة السياسية إلى فتح الباب على مصراعيه أمام جماعات المصالح من أصحاب الأعمال والغرف التجارية للتعبير عن مطالبها والاستماع إلى وجهات نظرها فيما يتعلق بسياسات الاستثمار الأجنبي والتصدير والاستيراد.
أما من حيث نتائج أو مخرجات السياسة الخارجية فالملاحظ أن القيادة المصرية لا تحبذ فكرة الالتجاء إلى القوة وتنبذ التهديد باستخدامها كآداة لتنفيذ السياسة الخارجية الأمر الذي ينبدي من طابع التسامح والتذرع بالصبر في مواجهة الحملات الإعلامية التي تثيرها بعض اللحكومات ضد مصر حكومة وشعبا كذلك فإن الموقف المصري تجاه الأزمة اللبنانية يتسم بالتعقل والاتزان فبالرغم معا قد تقضي إليه الأوضاع المتردية في لبنان والمواجهات الساخنة بين مختلف الأطراف المتصارعة من الآثار السلبية على الأمن القومي المصري فإن القيادة السياسية المصرية لم تلجأ إلى أي وسيلة من وسائل القوة سواء بصورة علنية أو مستترة رغم ما يتاح لها من فرص لذلك في غمار الفوضى السياسية والعسكرية المتفشية في هذه البلاد واقتصرت سياسة مصر على التأكيد المستمر في مختلف المناسبات على ضرورة احترام سيادة لبنان وتكامل ترابه الوطني وسلامة أراضيه وانسحاب القوى الدخيلة من كافة أرجاء البلاد، كذلك فإنه في مواجهة الحرب العراقية الإيرانية لم يتجاوز السلوك المصري حدود تقديم المعونات العسكرية للعراق وفاء لالتزام مصر بدعم وموازرة الدول العربية الشقيقة دون الخوض في غمار المعركة أو حتى إعلان الحرب على إيران رغم ما كان يشكله استمرار هذه الحرب وطول أمدها من خطورة على الأمن القومي المصري وعلى سلامة واستقرار المنطقة العربية.
الهوامش
1- انظر في هذا المعنى:KEgley & Wittkcpf World Politics Irendnu and Transformation Martin's Press U. S. A 1981
2- انظر في هذه النظريات بالتفصيل:Paul R Viotti & Mark V. Kauppi International Relations Theories Macmillan Publishing Co U. S. A 1987 OO 58 - 65
3-
4- انظر بالتفصيل:Doherty & Pfaltzgraff Contendung Theories of International Relations J. B Lippincott company U. S. A 1971 PP 385 – 390.
وراجع بالتفصيل تطور دراسة العلاقات الدولية ابتداء بالمدرسة المثالية فالواقعية ثم السلوكية وما بعد السلوكية دكتور أحمد عباس عبد البديع العلاقات الدولية أصولها وقضاياها المعاصرة مكتبة عين شمس القاهرة 1988 ص 79 وما بعدها.
5- Treodore A Couloumbis & James H. Wolfe Introduction To International Relations Prentice Hall Of India New Delhi 1981 PP 263 365.
6- Kegley & Wittkopf Op Cit P 345
7- Ibid PP 345 – 346.
8- انظر بالنسبة للتأثير مجموعة السبع والسبعين على سبيل المثال:
Mariam Camps & Catherine Cwin: Collective Management Mc Craw Hill Book Company U. S. A 1981 PP 10 11.
مؤتمر سياسية مصر الخارجية: في عالم متغير، 1990، 20ص.
على الرغم مما يتردد كثيرا من أننا نعيش في عالم متغير، فإن ذلك لا يعني أن التغير خصيصة ينفرد بها العالم المعاصر أو أنه خصلة يتميز بها هذا الزمان من غيره من الأزمنة، فالحقيقة التي لا مراء فيها أن التغير سمة أساسية من سمات الحياة وأحمد مقوماتها الرئيسية التي لا تتبدل ولا تتحول والتي عبر عنها الفلاسفة قديما بقولهم أن كل شرع متغير إلا التغير.
بيد أن ما نعنيه هو أن التغير الذي طرأ على النظام العالمي المعاصر يتسم بخصائص وصفات غير مسبوقة في تاريخ البشرية وهي سرعة حركته وتصاعد إيقاعاته وعمق تأثيره وإحاطته الشاملة بمختلف جوانب الحياة وشتي مجالاتها فمنذ الحرب العالمية الثانية التي فجرت طاقات التقدم العلمي والتكنولوجي لمواجهة احتياجات التدمير وتحقيق النصر، ما فتئت موجات التحول والتغير تتلاحق حتى الوقت الراهن أثر بعضها بعضا بشرعة فائقة وبصورة لم يقدر للبشرية أن تشهدها في أي مرحلة من مراحل التاريخ[1] إذ أن ما حدث خلال هذه الفترة الوجيزة من التاريخ البشرية يفوق كثيرا ما طرأ على العالم من التغير عبر أجيال طويلة وأحقاب عديدة من السنين.
وإذا كان التغير من الظواهر التي استأثرت باهتمام الباحثين والعلماء في مختلف مجالات العلوم الطبيعية والسلوكية على السواء، فإنه كذلك من الموضوعات التي استرعت انتباه علماء العلاقات الدولية لما له من علاقة وثيقة باستقرار السلام الدولي والمحافظة على توازن النظام العالمي، ولارتباطه بكل ما يقع عبر الحدود القومية من الأحداث التي ترتبط في الوقت الحاصر بأمن الإنسان ورفاهيته وحقوقه الأساسية وما يموج به العالم المعاصر من الأزمات والقضايا ابتداء بمشاكل الطاقة والغذاء ومرورا بأزمة حقوق الإنسان وانتشار ظاهرة الإرهاب الدولي التي تفاقم شقة الخلاف بين الشمال والجنوب وتعثر خطط التنمية وتصاعد موجة التضخم النقدي العالمي وغير ذلك من القضايا التي أفرزتها البيئة الدولية المتغيرة والتي باتت تشكل في الأونة الأخيرة الجزء الأكبر من اهتمامات الجماهير والحكام في كل مكان من العالم.
وتدور دراسة التغير في النظام العالمي حول كثير من المحاور التي تشمل البحث في طبيعته وما إذا كان ظاهرة إرادية وعمدية أم نشاطا تلقائيا ثم تحديد القوى أو العوامل المؤثرة في إحداثه، ومدى فاعليته وتأثيره في صنع السياسة الخارجية وفي السياسة العالمية، والاتجاه الذي يسلكه وما إذا كان يسير
نحو إقامة عالم أفضل ينعم فيه الإنسان بشتي منافع الحضارة وميزاتها أم أنه سوف يؤدي إلى إفراز عالم يعج بالحروب والصراعات الدولية وغير ذلك من الموضوعات والقضايا التي لا يتسع لها نطاق هذه الدراسة والتي نقتصر من بينها على تناول أربع مسائر نستهلها بالإطار النظري للتغير في النظام العالمي ثم أبعاد ومظاهر التغير، فعوامل التغير أو القوى المؤثرة فيه ثم نعرض تأثير التغير على السياسة الخارجية بصفة عامة.
وفي ختام الدراسة نقدم عرضا موجزا لإصداء هذا التغير على السياسة الخارجية المصرية
الإطار النظري لظاهرة التغير في النظام العالمي
تكشف الدراسات التي تناولت التغير الذي يطرأ على النظام العالمي عن وجود اتجاهين رئيسيين يأخذ أحدهما بمفهوم التغير كظاهرة عمدية أو إرادية، في حين يركز الأخرى على التغير كنشاط تلقائي أو عفوي.
وقد أخذ التقليديون من علماء المدرسة الواقعية بفكرة التغير العمدي الذي يتم بفعل جهود واعية أو إرادية من جانب قوة معينة إنطلاقا من أحد الافتراضات الأساسية التي يقوم عليها المذهب الواقعي وهو أن الدولة هي الفاعل الرئيسي والوحيد في النظام الدولي ياعتبارها مركز القوة بجميع مكوناتها العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية ومن ثم فإنها وحدها القادرة على إحداث التغير في النظام الدولي.
وفي هذا الإطار نسب جبلن Robert Ciplin في كتابه"الحرب والتغير السياسي في السياسة العالمية 1981 إلى الدول التحولات الرئيسية في التاريخ الدولي بدافع تعزيز مصالحها سواء كانت هذه المصالح تتصل بالأمن أو الأهداف الأيديولوجية أو المغانم الاقتصادية كما أكد أن العامل الرئيسي لتغيير الأوضاع القائمة وإعادة توزيع القوة في النظام الدولي إنما يرجع إلى اتجاه الدول لتغيير قدراتها بفعل التطورات السياسية والاقتصادية والتكنولوجية مما يجعل الدولة التي تحققت لها قوة متزايدة القدرة على تحديد ظروف الحرب والسلام وتقنين الأوضاع الجديدة التي تنشأ عن تسويات السلام بعد الحرب إلى أن تنمو بعد ذلك قوة أخرى تستطيع تغيير النظام الدولي من جديد بما يحقق أهدافها ومصالحها الذاتية وهكذا على أن قضية التغير عند جبلن لا تعني ارتباط التغير بالحرب فقط ولكنه يؤكد أن الدولة هي الفاعل الرئيسي في ضوء طبيعتها وبوصفها أهم المحددات لخصائص العلاقات الدولية وما يطرأ عليها من التطورات.
وعلى نفس النسق ذهب مولدكسي George Modelski إلى القول بوجود قوة معينة تستطيع فرض سيطرتها على النظام الدولي خلال كل فترة من فترات التاريخ ثم تعقبها في ذلك قوة أخرى وهكذا، تأسيسا على ذلك قسم الفترة من سنة 1500 حتى الوقت الحاضر إلى أربع دورات ظمنية انعقدت السيطرة على النظام الدولي خلال كل منها لإحدى دول العالم وهي البرتغال من سنة 1500 حتى نهاية القرن السادس عشر ثم هولندا طوال القرن السابع عشر فبريطانيا من أوائل القرن الثامن عشر حتى الحروب النابليونية ثم بريطانيا مرة ثانية من سنة 1815 حتى سنة 1945 وأخيرا الولايات المتحدة من سنة 1945 حتى الوقت الحاضر[2].
وبخلاف الاتجاه السابق فإن صورة العلاقات الدولية من وجهة نظر مذهب التعددية Pluralism وهو أحد مناظير عصر ما بعد السلوكية من دراسة العلاقات الدولية تبرز خاصية التلقائية في تغير النظام العالمي استنادا إلى ما يقوم عليه هذا المذهب من الافتراضات التي نشير إلى أهمها فيما يلي:
1 - أن الدولة ليست القوة الوحيدة الفاعلة في النظام العالمي، بل توجد إلى جانبها قوى أخرى تلعب دورا هاما وأساسيا في السياسة العالمية بحيث لا يمكن إنكار تأثيرها الذي يكاد يفوق تأثير الدول ذاتها في بعض الأحايين.
2 - أن الدولة لا ينبغي النظر إليها كفاعل موحد unitary أو مجرد إطار خارجي دون النظر إلى ما بداخلها من العناصر المتفاعلة وخصاصا بعد أن برزت في السنوات الأخيرة كثير من الجماعات والهيئات والبيروقراطيات ذات المصالح وغيرها من القوى المتنافسة – الأمر الذي يعني أن القرار السياسي، رغم أنه ينسب إلى الحكومة، يعتبر نتيجة التفاعل هذه القوى المتعددة داخل الدولة بل وداخل مؤسسة السياسة الخارجية.
3 - تأسيسا على ما تقدم أصبح الاهتمام الأساسي للدولة يدور حول القضايا الاقتصادية والاجتماعية التي تثير اهتمام القوى والجماعات المؤثرة في صنع القرار السياسي والتي تطفي على ما عداها في الوقت الراهن من مسائل وقضايا الأمن القومي والاستراتيجيات العسكرية[3].
أبعاد ومظاهر التغير في النظام العالمي
تشير كثير من الدلالات إلى أن التغير الذي طرأ على النظام العالمي والذي بدأ منذ نهاية الحرب العالمية الثانية يتميز من حيث أبعاده بأنه لا يقتصر على جوانب نوعية أو قطاعات جزئية من المجتمع العالمي، ولكنه يتسم بالعمومية والشمول لامتداده إلى مختلف مجالات العلاقات الدولية سواء فيما يتعلق بعدد القوى الفاعلة في النظام الدولي وأنواعها وبنيان العلاقات الدولية والقواعد التي تحكم
هذه العلاقات وأنماط التفاعلات التي تنشأ بين مختلف الفاعلين الدوليين، فضلا عن امتداد كل ما أفرزه هذا التغير من المشاكل والقضايا إلى جميع أنحاء العالم.
وقبل أن نستطرد في تحليل مظاهر هذا التغير، فإننا نشير إلى بعدين هامين من أبعاده وهما يعكسان التأثير أذى أحدثه في العلاقات الدولية كمادة دراسية وذلك من حيث المنهج والمفاهيم الأساسية.
فقد ترتب على تنوع القضايا والمشاكل التي حفلت بها حقبة الستينات وتكاثر عدد وأنواع الفاعلين الدوليين ظهور أنواع مختلفة من النماذج في دراسة العلاقات الدولية الأمر الذي أدى إلى تفتت وحدة هذا العلم وتفككه إلى عدة مناظير متباينة وزوايا مختلفة واهتمامات متعددة بحيث بدا من الصعب تمييز هذه الفترة من تطور دراسة العلاقات الدولية بسمات أو خصائص معينة أو إدراجها تحت اسم معين ومن ثم جاءت تسميتها بعصر ما بعد السلوكية post – behaviorism كنوع من الاستجابة للطبيعة المتنوعة للدراسة من ناحية وللتغيرات والتحولات التي طرأت على البيئة الدولية والقضايا والتفاعلات التي استجدت على الساحة العالمية[4].
كما أن التقارب بين الأفراد والجماعات والهيئات في الدول المختلفة نتيجة لتقدم وسائل اتصال وسبل الانتقال أدى إلى وجود تماثل في كثير من القيم والأهداف والمشاركة في الاهتمام بجميع المشاكل والقضايا العابرة للقوميات Transnational بدلا من مجتمع الدول وإحلال مفهوم السياسة العالمية World Politics محل السياسة الدولية كما شاع في السنوات الأخيرة إصطلاح النظام العالمي للدلالة على أن الدول ليست وحدها الأطراف المتفاعلة في هذا النظام ولكن توجد بالإضافة إليها أنواع أخرى من القوى التي تمارس قدرا كبيرا من النفوذ والتأثير في البيئة العالمية.
وإذا كان التغير الذي طرأ على النظام العالمي ذا أبعاد عامة وشاملة فإن ذلك يستتبع تعدد مظاهره وتنوعها وامتدادها إلى جميع مجالات السياسة العالمية وقطاعاتها المختلفة.
ولعل من أبرز مظاهر هذا التغير أن دور الدول كقوى فاعلة ومؤثرة في السياسة العالمية لم يعد دورا مركزيا كما كان عليه الحال في النماذج التاريخية التي عرفها العالم من قبل، فقد أدت الكثرة العددية الهائلة للدول القضاء على مركزية القرار السياسي كأساس لتوجيه العلاقات الدولية والتي انتشار السلطة السياسة العالمية وتوزيعها بين مراكز متعددة مما يعني أن قدرة أي فاعل من الفاعلين الدوليين على تغيير النظام العالمي أو تحديد مسار العلاقات الدولية
أصبحت قدرة محدودة ومقيدة للغاية حتى ولو كان هذا الفاعل الدولي هو إحدى القوتين العظميين.
كذلك فإن التأثير والنفوذ التي تمارسه الدولة المعاصرة لم يعد يرتكز على حساب أو تقدير ما حوزتها من القوة والإمكانيات العسكرية، إذ أن قراراتها المحددة لدورها في البيئة العالمية لم تعد تتشكل وفقا لأهداف ورغبات السلطة السياسية وحدها بقدر ما هي محصلة لتفاعل القوى والجماعات المختلفة داخل المجتمع القومي، فقد أصبحت القضايا الاجتماعية والاقتصادية التي أفرزتها البيئة الدولية المتغيرة تستأثر باهتمام جميع أفراد المجتمع لارتباطها ارتباطا وثيقا بالرفاهية العامة والوفاء باحتياجات الجماهير من الخدمات وتوفير السلع الأساسية للمواطنين بحيث لم يعد ثمة ما يسوغ الفصل أو الثنائية التي كانت تقيمها المدرسة الواقعية بين السياسة العليا High Politics والسياسة الدنيا Low Politics التي بمقتضاها تنفرد قضايا الأمن القومي والاستراتيجية العسكرية بالأولية على القضايا الاقتصادية والاجتماعية التي تبقى تابعة لها ومقيدة بمتطلباتها.
وقد كان لتعدد المشاكل التي تواجه الدول والتي لا يمكن حلها بواسطة دولة واحدة أثر كبير في تغير بنيان العلاقات الدولية فقد أصبح اعتماد الدولة على القوة العسكرية أقل كثيرا من اعتمادها على الدبلوماسية التي يساندها الاقتصاد القومي والقدرات والإمكانيات الأخرى التي تمثل المصدر الرئيسي للقوة في الوقت الحاضر الذي أصبح فيه البقاء يمثل الهدف الحيوي لكل دولة كما لجأت كثير من الدول إلى نبذ فكرة تحقيق الأمن بواسطة القوة العسكرية وهو ما يتضح من تخلي فرنسا عن إستراتيجية الدفاع من جميع الاتجاهات Tous azimuts التي كان يدعو إليها الرئيس ديجول، كما أن بريطانيا وألمانيا قد اختفى من علاقاتها ذلك العداء التقليدي والشعور بالتهديد المتبادل وحلت محله صلات وثيقة مما يؤكد أن القوة لم تعد وسيلة مناسبة لتحقيق الأهداف الأخرى غير هدف الأمن مثل الرفاهية الاقتصادية ورفاهية البيئة المادية التي أصبحت أكثر أهمية مما كانت عليه منذ أي وقت مضى.
وإذا كانت التفاعلات الدولية يغلب عليها منذ الماضي طابع التسابق والمنافسة والتصادم مما كان يتولد عنه الأزمات ثم المنازعات المسلحة فإن طبيعة المشاكل والقضايا التي تولدت من البيئة العالمية المتغيرة حتمت الحاجة إلى التضاغمن والتعاون والعمل المشترك لمواجهة المشاكل التي استشرت في البيئة العالمية المتغيرة نظرا لأنها لا يمكن بطبيعتها أن تواجه الأعلى المستوى الجماعي سواء كان الأمر يتعلق بالظروف المجتمعية أو الظروف عابرة القوميات.
فبالنسبة للمشاكل التي ترتبط بالظروف المجتمعية أو الداخلية سواء في ذلك الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية فإنها تتطلب العمل الدولي المتبادل لأنه يؤدي إلى نتائج مرغوبة في مستوى العالم فالأوضاع الخاصة بالمعدلات المرتفعة للأمية وتدهور الخدمات الصحية وانخفاض مستوى المعيشة وكذلك الظروف الاقتصادية مثل ضعف الاستثمار وتزايد معدلات التضخم النقدي واختلال نظام المدفوعات، والظروف السياسية مثل انتهاك حقوق الإنسان تعتبر مسائل ذات أهمية كبرى على مستوى العالم كله ومن ثم فإنها تتطلب التعاون الدولي سواء على المستوى الثنائي أو الجماعي.
وفي الوقت الراهن الذي يشهد فيه العالم الترابط الوثيق بين مختلف أرجائه من خلال الظاهرة عابرة القوميات والتي تتمثل في ذلك التطور الهائل في انتقال الأفراد والجماعات والأفكار ورؤوس الأموال عبر الحدود الدولية تتفجر أنواع جديدة من المشكلات والأزمات التي لا سبيل إلى مواجهتها والسيطرة عليها إلا بتضافر جهود الدول كانتشار الإرهاب الدولي وتلوث البيئة الدولية وترويج المخدرات والسموم البيضاء.
ولابد أن الحاجة إلى التعاون بين الدول وغيرها من الفاعليين الدوليين كالمنظمات الدولية والجماعات الدولية غير الحكومية تزداد مع التغيرات الضخمة التي تحدث في مجال التكنولوجيا والأنشطة التي تؤثر تأثيرا جذريا في البيئة الجغرافية الفيزيقية مثل التجارب والاختبارات الذرية وتأثيرها على التربة والطقس العالمي والغلاف الجوي كما يحتاج العالم إلى التعاون في استغلال الثروات والموارد الطبيعية في سائر أنحاء العالم مما يعتبر من قبيل تراث البشرية كلها مثل الثروات الكامنة تحت قيعان البحر والمحيطات، والمحافظة على المصادر الحية في البحار العالمية واستخدام الطاقة الذرية في المجالات السلعية لمواجهة مشاكل نقص الغذاء وتلوث البيئة ومنع انتشار الأمراض والأوبئة وغير ذلك من أوجه التعاون الذي تشتد إليه حاجة الدول للتخفيف من حدة تفاقم القضايا والأزمات العالمية.
عوامل التغير في النظام العالمي
يمكن التمييز فيما يتعلق بعوامل التغير أو القوى التي أدت إلى تطوير وتحويل النظام العالمي إلى الأوضاع الراهنة بين ثلاثة أنواع نبدأها بالعوامل التكنولوجية ثم العوامل السياسية وأخيرا العوامل الاقتصادية والاجتماعية.
أولا: العوامل التكنولوجية
يدور تأثير القوى أو العوامل التكنولوجية حول محورين يتصل أحدهما بالمنجزات والمستحدثات المتقدمة التي استهدفت خدمة التقدم البشري أما الآخر فيختص بأدوات ووسائل التدمير النووي.
فقد أدى التطور الهائل في مجال النقل والاتصالات إلى تيسير سبل التقارب بين الناس وانتقالهم فرادي وجماعات عبر الحدود الدولية بالملايين كل يوم سعيا وراء العمل أو اللهو أو التسلية أو بحثا عن الاستشفاء أو التعليم أو من أجل العبادة وممارسة الشعائر الدينية أو الانسياق وراء المغامرات والمجازفات المثيرة وقد اكتسبت هذه الحدود خاصية مسامية نظرا لما ينفذ من خلالها بصورة مستمرة من الأفكار والمعتقدات ورؤوس الأموال والأسلحة والسموم والنفايات وغير ذلك مما يتجاوز قدرات أي دولة على وقفها أو الحيلولة دون انتشارها أو منع آثارها على المستوى العالمي.
وقد نشأ من ذلك التدفق المستمر في تبادل الأفكار والقيم والسلع والأفراد والجماعات ظهور نوع من التقارب والتجاوب بين الناس في مختلف الدول في كثير من القيم الأساسية كالميل إلى المشاركة في القيم الديمقراطية والاستمتاع بالانجازات المادية والمعنوية لحضارة الجنس البشري مما أدى إلى مزيد من التطلعات إلى الحريات السياسية في تحقيق العدالة الاجتماعية وتحسين ظورف المعيشة بحيث أصبح من الممكن القول بوجود عالم واحد من العلم والأفكار والتجارة والمصالح التي لم يعد يعترض سبيلها سوى حواجز الجبال والبحار والسهول التي لا تعول عليها أهمية كبيرة في هذا العمر التكنولوجي وفي نفس الوقت أخذ اهتمام الشعوب بكل ما يجري عبر الحدود الدولية من الأنشطة أو الأفعال يزداد بصورة مطردة سواء في ذلك أعمال الإرهاب وترويج المخدرات وتهريب الأسلحة ونفايات المواد الذرية وما إلى ذلك من أفعال المغامرين التي أصبحت في نفس الوقت من أبرز المسائل في دائرة اهتمام الحكومات.
ومن ناحية أخرى فإن التقدم التكنولوجي فرض على الجنس البشري نوعا جديدا من التحديات التي تعرض لها النظام العالمي والتي تشمل الأخطار الناجمة عن تلوث البيئة والتغيرات التي تطرأ على المناخ الجغرافي نتيجة للجحيم النووي المتصاعد من التجارب الذرية وانتشار المفاعلات النووية كمصدر من مصادر الطاقة وغير ذلك مما يعرض العالم لكثير من الأخطار والتي يلخصها الاصطلاح الذي ظهر أخيرا في علم العلاقات الدولية وهو إبادة البيئة Ecocide الذي يدل على القدرات الهائلة التي اكتسبها الجنس البشري على تدمير الطبيعة أو على الأقل على جعلها غير صالحة للحياة الأدمية وفي هذا الإطار ينبه علماء البيئة إلى ما يقوم به الجنس البشري من الاستنزاف السريع للموارد الطبيعية وخاصة الطعام والطاقة وإلى ما هو متوقع خلال القرن الحادي والعشرين من نفاذ الأغذية البحرية والطاقة ومنتجات الغابات والأراضي الصالحة للزراعة وغير ذلك من المشاكل والتحديات التي تتجاوز قدرات وإمكانيات الحكومات وهي تعمل منفصلة عن بعضها بعضا[5].
أما فيما يتعلق بالجانب الآخر من جانبي التقدم التكنولوجي وهو التطور الهائل في وسائل الهلاك والتدمير، فقد ترتب عليه انخفاض ملحوظ في اتجاه الدول
التي تمتلك الترسانات الضخمة من الأسلحة الاستراتيجية في استخدامها لمتابعة أهداف سياستها الخارجية لما قد ينجم عن ذلك من الدمار القومي ذاته بحيث أصبح استخدام لقوة العسكرية لتحقيق الأهداف ضد العدو من العبادة التي أصابها التأكد في السياسة الدولية المعاصرة.
على أن ذلك لا يعني عدم احتمال اللجوء إلى القوة العسكرية المحدودة أو التهديد باستخدامها لمتابعة الأهداف السياسية في بعض الأحايين وخاصة في الدول النامية ولكن بين الدولتين العظميين أو غيرهما من القوة شديدة التسلح فإنه من غير المتوقع أن تلجأ إحداهما إلى القوة المسلحة في مواجهة الأخرى لتحقيق هدف من الأهداف القومية وقد أصبح هذا التغير من القواعد الأساسية منذ أزمة الصواريخ الكوبية سنة 1962 التي أثبتت تردد كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي بصورة ملحوظة في استخدام القوة المسلحة في مواجهة إحداهما الأخرى وبدلا من ذلك فضلت كل منهما الاحتفاظ بترسانتها الاستراتيجية للغرض الأساسي وهو ردع العدوان أو توازن الرعب النووي الذي يقوم دليلا على ما يكنه كل منهما للآخر من الشعور المفرط بالخوف من استخدام القوة النووية.
ومع ذلك فإنه لا يمكن القول بأن التهديد باستخدام القوة العسكرية بواسطة القوتين الظميين في مواجهة بعضهما بعضا قد انتهي إلى الأبد الأمر الذي واضحا مما ورد في خطاب للرئيس كارتر 1980 من تحذير للاتحاد السوفيتي خلال قمة أزمتي إيران وأفغانستان بقوله أن أي محاولة من جانب أي قوة عسكرية لاكتساب السيطرة على منطقة الخليج الفارسي سوف يعتبر عدوانا على المصالح الحيوية للولايات المتحدة الأمريكية وأن مثل هذا العدوان سوف يواجه بكافة الوسائل الضرورية بما في ذلك استخدام القوة المسلحة ومع ذلك فإن التطورات المعاصرة تشير إلى تضاؤل حدة التهديد باستخدام القوة المسلحة وذلك منذ الاتفاق الذي تم مؤخرا بين موسكوا وواشنطن في اجتماع القمة الذي عقد في موسكو في 29 مايو إلى 2 يونية سنة 1988 بشأن تدمير الصواريخ متوسطة المدى في ترسانات كل من الطرفين فضلا عن احتمال حدوث اتفاق آخر بينهما فيما يتعلق بخطط وأنظمة الدفاع الاستراتيجي المعروفة بحرب النجوم.
ومن بين التغيرات التي ترتب على التطور التكنولوجي في مجال التسلح تخلص الدول من مبدأ محاولة اكتساب الأراضي بالقوة أو التوسع الإقليمي الذي لم يعد يشكل هدفا في حد ذاته وذلك على الأقل بالنسبة للدول الصناعية التي اختفت من علاقاتها المنازعات الإقليمية تماما وإذا كانت هذه الدول قد أخفقت في الاحتفاظ بمستعمراتها نتيجة لتصاعد حركات التحرير وجهود الأمم المتحدة في تصفية الاستعمار فإن الإمبريالية الجديدة أو التغلغل الاقتصادي والسيطرة على الأسواق الخارجية التي تمارسها هذه الدول ما زالت عنصرا جوهريا من عناصر السياسة العالمية المعاصرة[6].
ومن ناحية أخرى فإن التكنولوجيا العسكرية المتقدمة لا تستطيع أن تؤدي بالضرورة غايتها في المنازعات السياسية وهذه الحقيقة تبدو أكثر وضوحا إذا تأملنا التاريخ القريب للعلاقات بين الدول القوية والدول الصغرى والذي أثبت أن الدول الصغرى غالبا ما تنجح في تحقيق أهدافها ضد الدول الكبرى أو المتفوقة عليها عسكريا فقد كانت فيتنام ضعيفة بالمعنى العسكري التقليدي ومع ذلك فقد حققت النصر ضد فرنسا أولا ثم الولايات المتحدة رغم تفوقهما العسكري الشديد، كما أن الصواريخ النووية ذات القوة التدميرية الهائلة لم تمكن الولايات المتحدة الأمريكية من وقف انتشار الشيوعية في بوبا التي تبعد عن شواطئها بتسعين ميلا فقط كذلك فإن الاتحاد السوفيتي رغم القوة العسكرية الهائلة التي حشدها في الأراضي الأفغانية لم يستطع التأثير على سير الأحداث في هذه البلاد أو القضاء على المقاومة التي كان يشنها المجاهدون بأسلحتهم التقليدية المحدودة.
ثانيا: العوامل السياسية
تشمل العوامل السياسية التي أسهمت في تغيير النظام العالمي أنواعا متعددة ومتباينة ومع ذلك يمكن تصنيفها من حيث نطاقها إلى نوعين أحدهما عوامل ذات نطاق عالمي والآخر عوامل ذات نطاق إقليمي أو محلي.
1 - عوامل ذات نطاق عالمي
يأتي في مقدمة هذه العوامل تكاثر وتنوع الفاعلين الدوليين المؤثرين في السياسة العالمية ابتداء بالدول والمنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية إلى الهيئات متعددة الجنسيات وأخيرا الجماعات القومية أو العرقية.
فمنذ الحرب العالمية الثانية إزداد عدد دول العالم من حوالي خمسين دولة إلى ما يربو على مائة وستين دولة وقد أدت هذه الكثرة العددية إلى حدوث تغييرات جذرية في بنيان العلاقات الدولية وذلك لما ترتب عليها من تقويض المركزية الأوربية التي كانت تسيطر على العلاقات الدولية بين الحربين العالميتين ثم القضاء على القطبية الثنائية التي سيطرت على العلاقات الدولية في أعقاب الحرب العالمية الثانية ثم عملت على توزيع القوة في العالم على عدة مراكز ذات تأثير ونفوذ واضحين في السياسة العالمية، فمنذ حرب أكتوبر 1973 أثبتت الأحداث العالمية قدرة القطاع الفني من العالم الثالث على أحداث تحول جذري في الاقتصاد العالمي عندما قامت دول الأوبيك بفرض سيطرتها كاملة على سوق النفط، كما تصاعد دور بعض التجمعات الدولية الأخرى في تشكيل السياسة العالمية مثل دول عدم الانحياز ومجموعة السبع والسبعين التي استخدمت تفوقها العددي في مناسبات متعددة للتأثير على قرارات وتوصيات الجمعية العامة للأمم المتحدة[7].
وفي نفس الوقت أخذ دور المنظمات الدولية الحكومية البالغ عددها ثلاثمائة وخمس منظمة[8] يتصاعد بدرجة كبيرة في تسوية المنازعات الدولية فضلا عن اتساع مجالات أنشطتها كمراكز للتنسيق والتعاون بين الدون في كثير من المجالات لمواجهة العديد من القضايا والمشكلات العالمية.
كما شهد النظام العالمي نموا هائلا في عدد المنظمات الدولية غير الحكومية التي أصبحت تتمتع بالاعتراف بالميثاق الأمم المتحدة بها والتي قفز عددها من مائة وسبعين منظمة في أعقاب الحرب العالمية الثانية إلى 2574 منظمة في منتصف السبعينات وتمارس هذه المنظمات كثيرا من الأنشطة التي تعمل على توثيق العلاقات والروابط بين الأفراد والجماعات والهيئات في مختلف الدول وخاصة الجماعات التي تتمتع بنفوذ وتأثير خاصين في المجتمع القومي كما تعمل على تقدم وترقية العلوم وجميع مجالات المعرفة لمواجهة مشاكل البيئة العالمية مما يجعل نشاط هذه المنظمات يبلور بصورة واضحة فكرة المجتمع العالمي.
ومن بين القوى التي أسهمت في تغيير النظام العالمي، بصفة خاصة في المجال الاقتصادي الهيئات متعددة الجنسيات التي يجاوز عددها في الوقت الراهن 10400 هيئة ذات قواعد في تسع عشرة دولة وهي إذ تسعى إلى احتكار القوة الاقتصادية في كثير من دول العالم المتقدم والنامي على السواء فإنها تمارس في نفس الوقت قدرا ملحوظا من التأثير السياسي في كثير من دول العالم الثالث[9].
وتلعب الجماعات القومية أو العرقية دورا مؤثرا في السياسة الدولية مما يجعلها آداة بارزة من أدوات تغير النظام العالمي وذلك نتيجة لتصاعد نشاطها واستحداثها كثيرا من الوسائل شديدة الإثارة لجذب الاهتمام لأهدافها سواء كان ذلك من أجل الانفصال عن الوحدات السياسية القائمة لتصبح وحدات مستقلة ذات سيادة أو بالانضمام إلى دولة من الدول التي تشعر بأنها أقرب إليها من الناحية العرقية، وكثيرا ما تلجأ هذه الجماعات إلى استخدام العنف ووسائل التدمير والتخريب التي غالبا ما تمتد خارج حدود الدول المعنية لتكون مصدرا من مصادر التوتر والصراعات بين الدول وقد أًبحت هذه الظاهرة من أبرز ظواهر العالم المعاصر حيث تتصاعد في كثير من مناطق المعمورة ابتداء بالمواجهة بين الكاثوليك والبروتستانت في أيرلندا وإحداث الاضطرابات التي تثيرها جماعة الباسك ومقاطعات كتالونيا والأندلس في أسبانيا وأعمال العنف والاغتيالات التي تفشت في ايطاليا وألمانيا الغربية والنمسا إلى قضايا القومية الإقليمية في جورجيا وارمانيا واوكرانيا في الاتحاد السوفيتي وتفجر الروح القومية في الجمهوريات اليوغسلافية والمواجهة بين الإقلية الناطقة بالفرنسية والأغلبية الناطقة بالإنجليزية في كندا والاضطرابات الأخرى التي تعج بها مناطق العالم المختلف وخصوصا في الدول النامية مما يهدد بتفكك الدول أو على الأقل بضعف
السلطة السياسية وانصياعها لمطالب هذه الجماعات وخاصة أن استخدام القسوة العسكرية بصورة فعالة أصبح محدودا للغاية في الوقت الحاضر.
ومن العوامل السياسية التي أسهمت اسهاما كبيرا في تغيير النظام العالمي ذلك التحول الذي طرأ على نظام الدولة كفاعل موحد في إطار العلاقات الدولية التقليدية والذي كان ينظر إلى الدول من خلال نموذج كرات البلياردو فيتعامل مع كل دولة كوحدة متميزة أو كيان أحادي دون الاعتداد بما يوجد داخل حدودها من الجماعات والهيئات والأحزاب والمصالح المختلفة التي تقوم بدور هام في تحديد إطار السياسة العامة أو على الأقل التأثير في هذه السياسة التي لابد أن يخضع أي قرار بشأنها لمزيج أو على الأقل التأثير في هذه السياسة التي لابد أن يخضع أي قرار بشأنها لمزيج من العمليات التي تشمل التنافس والتصادم والتحالف والتوفيق الأمر الذي يعني أنه لم يعد من الممكن في الوقت الراهن تحليل الظواهر العالمية تحليلا مكتملا إذا ما تجاهلنا هذه التفاعلات التي تحدد طبيعة ونوع قرارات السياسة بما في ذلك السياسة الخارجية وخاصة بالنسبة للقضايا والمشاكل التي ترتبط بالأزمات الاقتصادية وغير ذلك من المشاكل التي تتوقف مواجهتها على التعاون والعمل المشترك بين مختلف دول النظام العالمي[10].
2 - عوامل ذات نطاق إقليمي
من أهم العوامل السياسية ذات النطاق المحلي أو الإقليمي التي تؤثر على النظام العالمي ما يطرأ على السلطة السياسية داخل إحدى الدول من تغير نتيجة لضعفها أو سواء تنظيمها أو انهيار قدرتها على فرض النظام والاستقرار على نحو يؤدي إلى تفكك الوحدة القومية ونشر الفوضى والاضطراب داخل المجتمع الذي يتحول نتيجة لذلك إلى ساحة للصراعات بين دول المنطقة الإقليمية وخاصة إذا كانت علاقات هذه الدول تسيطر عليها عوامل الشقاق وأسباب التصدع والتوتر كما يحدث دائما بين الدول المتجاورة أو المتلاصقة جغرافيا.
ويدخل في هذا الإطار ما ترتب على ضعف السلطة العامة في لبنان وانحسار نفوذها وسلطاتها من تحول إقليمها إلى حلبة للصراعات بين القوى الداخلية التي أفرزت المليشيات المسلحة والتنظيمات العسكرية والجماعات ذات الميول والاتجاهات الأيديولوجية المتنافسة معا شجع القوى الخارجية على الاستفادة من هذه الصراعات الداخلية وتسخيرها لخدمة مصالحها وتحقيق أهداف سياستها الخارجية وخاصة فيما يتعلق بالحصول على الأسلحة أو تحسين علاقاتها مع الدول الأخرى وكانت هذه القوى الخارجية سياستها الخارجية وقد اشتملت هذه الممارسات كذلك على قيام الحكومات بإجراء مفاوضات مع زعماء وقيادات هذه المنظمات التي لا تتمتع بأي صفة رسمية أو قانونية مما يعد من الأعمال أو التصرفات غير المسبوقة في
التاريخ الدبلوماسي وعلى الرغم من النطاق المحدود لهذه الظاهرة إذ أنها لم تتجاوز نطاق منطقة القرن الأوسط فإن هناك احتمالات تكررها في المستقبل بحيث تصبح ظاهرة عالمية لا تمارسها الدول المتجاورة فحسب في علاقاتها مع بعضها بعضا بل تلجأ إليها مختلف الدول كلما تعرضت علاقاتها للأزمات أو التوتر.
ثالثا العوامل الاجتماعية والاقتصادية
وقد تميزت حقبة السبعينات بظهور مجموعة من القضايا والمشاكل ذات الطابع الاجتماعي والاقتصادي التي أدت إلى تغيرات عميقة في النظام الدولي تتمثل بصفة خاصة في انخفاض مستويات المعيشة في كثير من الدول نتيجة لتفجر أزمة الغذاء والطاقة وتزايد اتساع الفجوة بين الدول الغنية في الشمال والدول الفقيرة في الجدنوب وما نجم عن ذك من تعثر جهود التنمية في الجنوب وتعرض الدول الصناعية لمخاطر الركود الاقتصادي.
فقد أدت موجات الجفاف التي اجتاحت كلا من الاتحاد السوفيتي والصين واستراليا وجنوب شرق آسيا وأفريقيا الصحراوية سنة 1972 إلى هبوط حاد في إنتاج القمح والحبوب الأخرى في هذه المناطق من العالم بما مقداره ثلاثة وثلاثين مليون طن في القوت الذي كان العالم يحتاج فيه إلى زيادة من هذه الموارد مقدارها خمسة وعشرين مليون طن.
وحتى عهد قريب لم تكن هناك مشكلة بالنسبة لقدرة الجنس البشري في الحصول على الغذاء إذ أن موارد الغذاء أخذت تزداد بعد الحرب العالمية الثانية بإطراد وبمعدل 2.5% سنويا الأمر الذي يعني أن عام 1972 شهد أول تدهور في إنتاج الغذاء خلال مدة تزيد عن عشرين سنة.
ولا يمكن القول بأن هذا النقص في موارد الغذاء هو العامل الوحيد في أزمة الغذاء العالمي بل أن الشق الآخير لهذه الأزمة يشكل خطورة أكثر حدة وهو مشكلة الانفجار السكاني التي تستأثر في الوقت الراهن باهتمام شديد في جميع أنحاء العالم ففي خلال المائة سنة من 1830 – 1930 بلغ عدد سكان العالم بليونين ثم ازداد بليونا خلال ثلاثين عاما من 1930 – 1960 فأصبح ثلاثة بلايين ثم ازداد بليونا آخر خلال خمس عشر سنة من 1960 – 1975 ليصير أربعة بلايين ومن المتوقع أن يزداد هذا العدد بليونين آخرين في عام 1995 ليصبح ستة بلايين[11].
وإذا كانت بعض البلاد وخاصة بعض دول العالم الثالث تعد مسئولة بصفة أساسية عن هذه الزيادة الهائلة في عدد سكان العالم، فإن كثيرا من الدول الصناعية قد بلغت أقصى مستوى لها في عدد السكان ومن ثم يتعين عليها أن تتوقف عن الزيادة على هذا المستوى وبذلك فإن مشكلة زيادة السكان تعتبر في جوهرها من التحديات الأساسية التي واجهها الجنس البشري مما يتطلب تنسيق الجهود
بين جميع دول العالم وخاصة المؤسسات السكانية في هذه الدول سواء على المستوى العالمي أو الإقليمي.
وقد أدت الزيادة الهائلة في عدد السكان والتدهور غير المتوقع في إنتاج الحبوب وفي إنتاج الغذاء بصفة عامة إلى تفاقم أزمة الطعام وتعرض حوالي 400 مليون نسمة في الدول النامية إلى المجاعة إلى سواء التغذية وفي نفس الوقت أدت الزيادات المتتابعة التي طرأت على أسعار النفط خلال السبعينات إلى ارتفاع أسعار الغذاء مما أدى إلى تعرض الدول الفقيرة والدول التي تعتمد على استيراد الطعام لأزمة حادة وفي نفس الوقت ما زالت خطط التنمية في الدول الفقيرة وتتقدم ببطء شديد بسبب تراكم الديون العالمية التي بدأت بارتفاع أسعار البترول والتزايد المستمر في أسعار الواردات وارتفاع معدلات الفائدة وما تبع ذلك من اتساع الفجوة بين الشمال والجنوب وظهور أوضاع تهدد باضطراب الاستقرار الاقتصادي العالمي الذي لابد أن يعتمد في مواجهته على التعاون والمشاركة بين الدول الغنية والدول الفقيرة بحيث أن أي محول من جانب أحد الطرفين في الانفراد بحل مشاكله سوف تكون على حساب مصلحة الطرفين معا.
وبصفة عامة فإن ظاهرة التواقف أو الاعتماد المتبادل بين الدول التي تعتبر من أهم النتائج التي أسفر عنها تغير النظام العالمي تشير إلى أنه لا يمكن لأي دولة الإدعاء بالقدرة على إدارة اقتصادها بكفاءة ونجاح كاملين في هذا العالم الذي لا تستطيع فيه الحدود القومية عزل ما يوجد داخل الدولة من الظروف الاقتصادية عما يحدث من التطورات والتحولات في البيئة العالمية.
تأثير تغير النظام العالمي على السياسة الخارجية
يمكن القول بأذى ذي بدء بأن السياسة الخارجية قد طرأت عليها تحولات جذرية نتيجة للتغيرات التي حدثت في النظام العالمي والتي أصبحت من أهم المحددات الرئيسية للسياسة الخارجية في مختلف النظم السياسية بصرف النظر عما يوجد بينها من اختلاف وتفاوت من حيث الأيديولوجية أو مقدار ما في حوزتها من القدرات أو مدى ما بلغته من درجات التقدم الأمر الذي يعني أن السياسة الخارجية تكاد تكون متماثلة في أغلب الدول بعد أن أصبحت مجتمعاتها كما تبين لنا فيما تقدم ترتبط في قرية كونية أو عالم واحد تتجانس فيه القيم والثقافات إلى حد كبير تحت تأثير ثورة الاتصالات وسبل الانتقال كما تتماثل فيه المشاكل والقضايا باعتبار أنها جميعا نشأت نتيجة لعمليات التغير والتحديث التي امتدت إلى جميع أرجاء العالم.
والسياسة الخارجية يمكن تحليلها كما هو الشأن في تحليل أي نوع من أنواع السياسات من حيث مادتها أو مضمونها ومن حيث عملية صنعها أو
تشكيلها وأخيرا من حيث نتائجها وسوف نتبين عند تناولنا كلا من هذه الأبعاد الثلاثة أنه قد تغير نتيجة للتغيرات التي طرأت على النظام العالمي.
أولا تغير مضمون السياسة الخارجية
تعتمد السياسة الخارجية من حيث مادتها أو مضمونها على مجموعة من الأهداف التي تعبر أساسا عن المصالح القومية التي تشمل في مدلولها التقليدي هدف المحافظة على البقاء وحماية مصالح المجتمع وقيمه الأساسية وتحقيق الأمن القومي وغير ذلك مما يطلق عليه السياسة العليا غير أن التطورات المعاصرة فرضت التزام الحكومات بالوفاء بمطالب واحتياجات تحسين المستوى الاقتصادي لشعوبها ومن ثم فقد أصبحت الرفاهية الاجتماعية والتنمية الاقتصادية ورفع مستوى المعيشة في عمرنا الحاضر تمثل هدفا أوليا لسائر الحكومات وهو هدف لا يمكن تحقيقه بالاعتماد على الذات نظرا لأن معظم الدول لا تملك سوى موارد ومهارات تكنولوجية محدودة مما يبرز أهمية الاعتماد المتبادل أو التواقف الذي يعني أنه للوفاء بالحاجيات وإشباع الرغبات فإن الدول يتعين عليها أن تأخذ في الاعتبار أن التهديدات أو التحديات التي يمكن أن تتعرض لها الرفاهية العامة في أي دولة من الدول أو في عدد منها قد تمتد آثارها إلى كثير من الدول الأخرى.
وقد ازدادت الحاجة إلى مواجهة المطالب الأخذة في التزايد نتيجة لثورة الاتصالات والتحول إلى مفهوم المجتمع العالمي الذي تحلى فيه القضايا والمشكلات الاقتصادية بالمكانة الأولى من اهتمامات الشعوب مما يعني اكتساب المشاكل الخاصة بالعلاقات الدولية والسياسية الخارجية صفة شعبية ودخولها في دائرة اهتمام الأفراد والجماعات بعد أن كانت من اختصاصات الحكومات والملوك والقادة العسكريين وحدهم ومن ثم أصبح من المتعين على الحكومات استحداث السياسات الخارجية الكفيلة بإشباع جميع المطالب والتطلعات وإلا فإنها سوف تتعرض لمواجهة الهزيمة السياسية.
وهكذا فإن النمط المألوف للسياسة الخارجية الذي كان يركز على السياسة العليا التي تختص بشئون الأمن والدفاع وأحيانا التوسيع واكتساب الأراضي حل محله نمط جديد يتمثل في توفير الحاجات الجماهيرية وإشباع مطالب المواطنين ولم يعد ثمة ما يبرر الفصل أو التمييز في هذا العصر من الناحية الواقعية بين ما يمكن أن يكون سياسيا بصورة مطلقة واقتصاديا بشكل قطعي.
وتأسيسا على ما تقدم فقد أصبحت جد أول أعمال السياسة الخارجية أي مجموع القضايا التي تتعلق بالسياسة الخارجية تشتمل على كثير من المسائل التي يصعب تنظيمها بصورة تدريجية على شكل أولويات ثابتة ومستقرة إذ أن مشاكل الأمن القومي والاستراتيجيات العسكرية لم تعد القضايا الأساسية التي تسيطر على
جداول الأعمال بعد أن برزت أهمية القضايا التي كانت تعتبر فيما سبق ووقفا للنظريات والمفاهيم التقليدية تابعة لقضايا السياسة العليا وخاضعة لمقتضياتها والتي تفجرت تحت تأثير التغيرات والتحولات في النظام العالمي مثل أزمة الطاقة سواء كانت أزمة ندرة أم أزمة تخمة والغذاء والانفجار السكاني واستخدامات القضاء والبحار وغير ذلك من المسائل التي أصبحت تحتل مكانة أهم من مكانة الأمن العسكري والتنافس الأيديولوجي وسباق التسلح والصراعات الإقليمية وخاصة إذا علمنا أنه في عصر الهلاك الشديد والدمار الشامل بفعل القوى النووية لم تعد الدول تتابع أهدافا عدوانية[12].
ثانيا: التغيرات التي طرأت على عملية صنع السياسة الخارجية
وتشمل هذه التغيرات بعدين رئيسيين إحداهما يتناول المؤسسات المشتركة في صنع السياسة أو المؤثرة فيها والآخر يتصل بالخطوات أو المراحل التي تتضمنها صنع هذه السياسة.
ففي إطار مؤسسات صنع السياسة الخارجية يبرئ التمييز بين المؤسسات الرسمية أو الحكومية والقوى الداخلي المؤثرة في هذه السياسة.
وقد نشأ عن تعدد القضايا الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية التي تشتمل عليها جداول أعمال السياسة الخارجية ابتداء بمشاكل التجارة الخارجية وشئون النقد والاستثمار إلى قضايا تلوث البيئة وتوفير الغذاء والطاقة اشتراك عدد كبير من الوزارات وغيرها من الأجهزة التنفيذية واللجان المشتركة في صنع السياسة الخارجية مثل وزارات التجارة والصناعة والزراعة والاقتصاد ذلك بالإضافة إلى وزارات الخارجية والدفاع والمالية ويشكل الموظفون الذين يتولون جمع وتحليل المعلومات والبيانات اللازمة لإعداد السياسة الخارجية التي تتولى إقرارها الأجهزة الدستورية المعنية مجموعة بيراقراطية السياسة الخارجية التي كثيرا ما يسود بينها الصراعات والتنافس وتصادم المصالح مما ينعكس على قرارات الزعماء السياسيين[13].
أما القوى الداخلية المؤثرة في صنع السياسة الخارجية فهي تشمل الرأي العام والأحزاب السياسية وجماعات المصالح والقوى الشعبية المختلفة فقد أصبح الزعماء السياسيون يعتمدون في صنع وتنفيذ السياسة الخارجية على إرادة الجماهير ومؤازرتهم سواء في النظم الديمقراطية أو الشمولية تحت تأثير تزايد الوعي السياسي وانتشاره على نطاق واسع.
ولا شك أن ارتباط صنع السياسة الخارجية بكثير من الأجهزة الحكومية والقوى الداخلية والعوامل والبواعث الشخصية لصانعي القرار وقدرات النظام السياسي فضلا
من تداخلها مع كثير من المتغيرات الدولية أدى إلى تعقيد عملية صنع هذه السياسة ووجود كثير من العقبات والصعوبات التي تواجه صانعي القرارات مما يقطع بأن الدولة ليست فاعلا رشيدا Rational وأنها لا تسترشد في صنع القرار السياسي بخطوات محسوبة حسابا دقيقا[14] وهبو ما عزاه كثير من الكتاب بصفة خاصة إلى خضوع السياسة الخارجية في تشكيلها لتفاعل القوى المتنافسة داخل الدولة من ناحية وداخل مؤسسة السياسة الخارجية من ناحية أخرى[15].
ثالثا: تغير نتائج السياسة الخارجية
لم يعد من المتصور في العالم المعاصر القول بوجود دولة أو قوة عظمى تستطيع تنفيذ مخرجات أو نتائج سياستها الخارجية باستخدام القوة بالمعنى التقاليدي وهو ما يرجع كما أسلفنا إلى الانخفاض الملحوظ في ميل القوى شديدة التسلح إلى استخدام القوة العسكرية لمتابعة أهداف سياستها الخارجية فضلا عن صعوبة بلوغ هدف السيطرة في عالم يقوم على التواقف الذي يقضي بطبيعته على أي محاولة من جانب أي دولة على فرض سيطرتها على الدول الأخرى لما يعنيه من الاعتماد المتبادل بين الدول في تحقيق أهدافها كما أنه مع نمو المستويات العليا من التواقف فإن جميع أنواع المشاكل والكوارث ابتداء بالتضخم أو الكساد إلى الجحيم النووي يمكن أن تؤدي إلى عواقب وخيمة ونتائج سيئة بالنسبة لجميع دول العالم.
وفي إطار ما قدمنا في التغيرات التي طرأت على النظام العالمي رغم ما أفرزته من المشاكل الحادة وما فجرته من الأزمات المختلفة فإنها في نفس الوقت تعمل على تشكيل سياسة خارجية تدعم قيم التعاون الدولي والسلام العالمي.
إصداء التغير في السياسة الخارجية المصرية
وفي هذه البيئة العالمية التي تموج بالتغيرات السريعة والمتلاحقة كان من الطبيعي للسياسة الخارجية التي تنتهجها الدبلوماسية المصرية أن تكون متوافقة مع مقتضيات هذه التغيرات ومتوائمة مع متطلباته سواء من حيث مضمونها أو طريقة وأسلوب تشكيلها أو نتائجها حتى تستطيع بلوغ أهدافها ومراميها المنشودة.
فبالنسبة لمضمون هذه السياسة يمكن رصد الحقائق الآتية
أولا: أخذت الدبلوماسية المصرية تتعامل مع متطلبات التنمية الاقتصادية والعمل على تحقيق العدالة الاجتماعية وإشباع الحاجات الجماهيرية بنفس الأهمية التي توليها قضايا ومشاكل الأمن القومي وذلك في إطار متوازن لا يقيم أفضلية أو يؤسس أسبقية للسياسة العليا على حساب السياسة الدنيا ودون تغليب إحداهما
على الأخرى وقد أضحى هذا التوازن يمثل أحد الثوابت الأساسية في توجيه السياسة الخارجية المصرية منذ أن تبنت البلاد مبادئ عدم الانحياز وما تقضي به من تعزيز التعاون بين دول العالم الثالث لتحقيق أمنها القومي في عمار الصراع الذي كان محتمدما بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي من ناحية ووجوب العمل الجماعي المشترك بين هذه الدول لمواجهة مشاكل التنمية من أجل النهوض الاقتصادي من ناحية أخرى.
ثانيا: أن المساعي المتواصلة التي خاضتها الدبلوماسية المصرية لحل الصراع العربي الإسرائيلي ابتداء بمعاهدة السلام المصرية – الاسرائيلية ومرورا بالجهود المكثفة التي تبدلها لدعم الكفاح الفلسطيني إلى المحاولات الراهنة لتجميع القوى العربية والعالمية حول فكرة المؤتمر الدولي كأساس مناسب لحل القضية الفلسطينية تقع جميعها في إطار الاهتمام بتعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة العربية حتى تتجه الجهود نحو تحقيق الرفاهية الاجتماعية وبلوغ أهداف التنمية الاقتصادية ورفع مستوى المعيشة لسائر شعوبها.
ثالثا: وقد كانت تنقية الأجواء العربية يشوبها من عوامل وأسباب التفكك والانهيار أحد الأهداف الأساسية للسياسة الخارجية المصرية خلال فترة تجميد العلاقات الدبلوماسية مع الدول العربية علما أثر إبرام معاهدة السلام المصرية الاسرائيلية فقد ظلت جسور التقارب ممتدة وقنوات الاتصال قائمة ومستمرة بين مصر ومختلف دول العالم العربي باستثناء دول الرفض وكان استمرار هذا التقارب والترابط ينطلق مع إيمان الدبلوماسية المصرية بمدى وعمق التأثير الناجم عن ظاهرة التوافق الدولي وتداعياته في تشكيل المصير المشترك للأمة العربية ومن ثم فإنه ما أن أبدت الدول العربية رغبتها في إعادة العلاقات الرسمية مع مصر حتى لقيت ترحيبا حكوميا وشعبيا منقطع النظير مما ينبئ بالانطلاق في المستقبل نحو آفاق رحبة من التعاون العربي في جميع المجالات.
رابعا: وبصفة عامة فإن العنصر الغالب فيما يتعلق بمضمون السياسة الخارجية التي تنتهجها مصر هو التعاون مع مختلف دول العالم إيمانا منها بأهمية ما يسود النظام العالمي في الوقت الراهن من الميل إلى العمل المشترك بين جميع دول العالم وتعزيز الجهود الجماعية لمواجهة القضايا والمشاكل التي فجرتها قوى التغير والتي ترتبط ارتباطا وثيقا برفاهية الشعوب وأمنها الاقتصادي والاجتماعي ابتداء بمشاكل نقص الغذاء والانفجار السكاني وتلوث البيئة الدولية واختلال توازن الغلاف الجوي إلى أزمة المديونية وتفشي الأمراض وترويج المخدرات وغير ذلك من القضايا التي تتطلب الترابط والتضامن بين الدول للقضاء عليها أو الحد من تفاقمها والتخفيف من آثارها وفي إطار هذا التوجه نحو التعاون كذلك تبذل الدبلوماسية المصرية جهودا متواصلة لتعزيز علاقاتها بالدول الإفريقية ودول السوق الأوربية والاتحاد السوفيتي ودول أوربا الشرقية لتدعيم التبادل التجاري
مع هذه الدول وتعزيز قدرات البلاد في تحقين التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
وإذا ما انتقلنا إلى تأثير التغير في النظام العالمي على طريقة أو أسلوب تشكيل السياسة الخارجية المصرية فإننا نلاحظ أن تشكيل أو تخطيط هذه السياسة لم يعد احتكار كما كان من قبل للقادة السياسيين والعسكريين وحدهم منذ أن أصبحت الشئون الخارجية تدخل في اهتمامات مختلف طبقات المجتمع وفئاته لارتباطها الوثيق برفاهية الجماهير وإشباع الحاجات الفردية والجماعية وبات من الواضح أنها تتطلب في تشكيلها تعاون نخبة كبيرة من الخبراء والمختصصين في مختلف الشئون الدولية والعالمية وعلى الأخذ كل ما يتعلق بالقضايا الاقتصادية كمشاكل التجارة الخارجية وشئون النقد والاستثمار وتحديد أسعار المنتجات الصناعية والزراعية في السوق العالمي وفي هذا الإطار أخذ دور بيراقراطية. السياسة الخارجية[16] يتصاعد بدرجة كبيرة بما يواكب موجات التغير الراهنة ويمضي بمتطلبات واحتياجات الجماهير وفي نفس الوقت عمدت القيادة السياسية إلى فتح الباب على مصراعيه أمام جماعات المصالح من أصحاب الأعمال والغرف التجارية للتعبير عن مطالبها والاستماع إلى وجهات نظرها فيما يتعلق بسياسات الاستثمار الأجنبي والتصدير والاستيراد.
أما من حيث نتائج أو مخرجات السياسة الخارجية فالملاحظ أن القيادة المصرية لا تحبذ فكرة الالتجاء إلى القوة وتنبذ التهديد باستخدامها كآداة لتنفيذ السياسة الخارجية الأمر الذي ينبدي من طابع التسامح والتذرع بالصبر في مواجهة الحملات الإعلامية التي تثيرها بعض اللحكومات ضد مصر حكومة وشعبا كذلك فإن الموقف المصري تجاه الأزمة اللبنانية يتسم بالتعقل والاتزان فبالرغم معا قد تقضي إليه الأوضاع المتردية في لبنان والمواجهات الساخنة بين مختلف الأطراف المتصارعة من الآثار السلبية على الأمن القومي المصري فإن القيادة السياسية المصرية لم تلجأ إلى أي وسيلة من وسائل القوة سواء بصورة علنية أو مستترة رغم ما يتاح لها من فرص لذلك في غمار الفوضى السياسية والعسكرية المتفشية في هذه البلاد واقتصرت سياسة مصر على التأكيد المستمر في مختلف المناسبات على ضرورة احترام سيادة لبنان وتكامل ترابه الوطني وسلامة أراضيه وانسحاب القوى الدخيلة من كافة أرجاء البلاد، كذلك فإنه في مواجهة الحرب العراقية الإيرانية لم يتجاوز السلوك المصري حدود تقديم المعونات العسكرية للعراق وفاء لالتزام مصر بدعم وموازرة الدول العربية الشقيقة دون الخوض في غمار المعركة أو حتى إعلان الحرب على إيران رغم ما كان يشكله استمرار هذه الحرب وطول أمدها من خطورة على الأمن القومي المصري وعلى سلامة واستقرار المنطقة العربية.
الهوامش
1- انظر في هذا المعنى:KEgley & Wittkcpf World Politics Irendnu and Transformation Martin's Press U. S. A 1981
2- انظر في هذه النظريات بالتفصيل:Paul R Viotti & Mark V. Kauppi International Relations Theories Macmillan Publishing Co U. S. A 1987 OO 58 - 65
3-
4- انظر بالتفصيل:Doherty & Pfaltzgraff Contendung Theories of International Relations J. B Lippincott company U. S. A 1971 PP 385 – 390.
وراجع بالتفصيل تطور دراسة العلاقات الدولية ابتداء بالمدرسة المثالية فالواقعية ثم السلوكية وما بعد السلوكية دكتور أحمد عباس عبد البديع العلاقات الدولية أصولها وقضاياها المعاصرة مكتبة عين شمس القاهرة 1988 ص 79 وما بعدها.
5- Treodore A Couloumbis & James H. Wolfe Introduction To International Relations Prentice Hall Of India New Delhi 1981 PP 263 365.
6- Kegley & Wittkopf Op Cit P 345
7- Ibid PP 345 – 346.
8- انظر بالنسبة للتأثير مجموعة السبع والسبعين على سبيل المثال:
Mariam Camps & Catherine Cwin: Collective Management Mc Craw Hill Book Company U. S. A 1981 PP 10 11.
جامد
ردحذف