نظرية النخبة ودراسة النظم السياسية العربية ( الإمكانات والإشكالات)
نصر محمد عارف
المؤتمر الثالث للباحثين الشباب بعنوان النخبة السياسية للباحثين الشباب، 1996
من البديهي أن الظواهر الاجتماعية والسياسية لا يستطيع الباحث الإمساك بها في ذاتها، وتقليبها أمام عينيه لفحصها، وتحليل أجزائها، ومن ثم فهمها وتفسيرها، وإنما يتم التعامل معها من خلال وسائط معينة تتمثل في المفاهيم، والمناهج والنظريات، هذه الوسائط أو الوسائل من خلالها يتم نقل الظواهر والأحداث من الواقع إلى العقل الإنساني ليتمكن من فهمها وتحليلها وتفسيرها ومن ثم فإن مقدار ما يستطيع الإنسان فهمه من الواقع محكوم بمدى قدرة الوسيلة على النقل فلن يستطيع أن يفهم من الظواهر إلا ما تتمكن هذه الوسيلة من استيعابه ونقله وما يستشف معها وينسجم مع أبنيتها وأدواتها.
ومن هنا فالوسيلة ليست أداة محايدة تنقل الواقع كما هو وتعكس الحقيقة في مجملها، وإنما هي طرف في علاقة ثلاثية طرفاها الآخران هما العقل الإنسان والواقع الاجتماعي، وحيث أن الواقع معقد متشابك، غير قابل لأن يحاط به في جميع جزئياته ومكوناته، وحيث أن المفاهيم والمناهج أو النظريات ما يتخذ الطبقة كمدخل لفم وتفسير الظاهرة الاجتماعية والسياسية وهناك من يركز على النخبة أو الجماعة أو البناء أو الوظيفة أو صنع القرار.. الخ، وكل من هذه النظريات أو المناهج يقوم على افتراض أنه لا يمكن الإحاطة بكل أبعاد الظاهرة وإنما يمكن فهمها من خلال التركيز على هذا البعد أو ذاك لأنه يمثل البعد المحوري مما يمكن من الوصول إلى الفهم الدقيق والتحليل السليم لها.
والحال هكذا يصبح من الضرورة أن يحيط الباحث بنظريات حقله المعرفي حتى يفهم إمكانات كل نظرية وحدودها ومواطن قوتها وضعفها، وقدراتها التفسيرية، ثم لابد بعد ذلك من تحقيق قدر من الفهم لأهم ملامح ومحددات الواقع الاجتماعي والسياسي الذي توجد فيه الظواهر موضع الدراسة، وذلك حتى يستطيع أن يحقق مفهوم"التكافؤ المنهاجي" [1] أو"اللياقة المنهجية" [2] التي تعني أن يكون هناك قدر من التكافؤ والتناسب بين الظاهرة موضع البحث والدراسة والمنهج أو النظرية التي يتم
الاقتراب من خلالها لهذه الظاهرة، حتى تكون الأداة المنهجية على مقاس الظاهرة فتستطيع أن تعكس أبعادها الواقعية وحقائقها بنفس الأوزان والنسب التي هي عليها في الواقع دون أجزاء أو اختزال أو إخلاء بالنسب والأوزان.
وهنا يتحقق الهدف من استخدام المنهج أو النظرية وهو فهم الواقع وتفسيره بصورة تقترب في الدقة وتقرب الحقيقة وليس الانحراف بالمنهج أو النظرية فيمثلا هدفا في ذاتهما وغاية يسعى الباحث إلى إثبات أنه قابل للتطبيق في الواقع وأنه أفضل من المناهج والنظريات الأخرى.. الخ.
ومن هذا المنطلق سوف يتم الاقتراب من نظرية النخبة لتحديد معطياتها وإمكاناتها المنهجية التي يمكن أن تسهم في فهم وتفسير الظاهرة السياسية في الواقع العربي وذلك من خلال الخطوات التالية:
أولا: المعطيات المنهجية لنظرية النخبة
تعتبر نظرية النخبة واحدة من نظريات المرحلة الانتقالية ما بين التقليدية والسلوكية، وإن كانت قد استطاعت الاستمرار والحفاظ على الحيوية المنهجية والاقتدار التحليلي طوال المرحلة السلوكية وما بعدها. وذلك لما تتميز به من إصابة في تحديد المدخل المناسب لفهم النظم السياسية وتحيلها.
وفي هذا السياق لن ينصرف البحث إلى تقصى نظرية النخبة ورصد تطوراتها وإسهامات روادها، وإنما سيقتصر البحث على تحديد المحددات والمعطيات المنهجية التي تقدمها هذه النظرية وذلك عبر النقاط التالية:
1- تبعية الظاهرة السياسية وعدم استقلاليتها
تنطلق نظرية النخبة- مثل التحليل الطبقي ونظرية الجماعات- من افتراض أن الظاهرة السياسية ظاهرة تابعة لظواهر أخرى ومن ثم فإنه لا يمكن فهمها في ذاتها وإنما يتم فهمها من خلال تحليل الظواهر المستقلة التي أوجدتها، لأن النظام السياسي متغير تابع للنظام الاجتماعي [3]. وإذا نظرنا إلى التحليل الطبقي- الذي مثل الأساس الابستمولوجي لنظرية النخبة-نجد أن الظاهرة السياسية متغيرا تابعا لعوامل وعلاقات الإنتاج، كذلك الحال في نظرية النخبة لا يمكن فهم الظاهرة السياسية إلا من خلال فهم وتحليل البنية الاجتماعية القائمة على افتراض وجود جماعة صغيرة تسيطر على المجتمع والدولة وتتركز فيها القوة، ومن ثم تشكل الظاهرة السياسية وتحدد أبعادها، ومن ثم فإن التحلل العلمي لا بد أن ينصب على هذه الجماعة ويعتبرها المدخل الأنسب لفهم وتحليل العملية السياسية والنظام السياسي في مجملة وبذلك تختلف نظرية النخبة عن باقي النظريات الأخرى في حقل السياسة المقارنة، مثل البنائية الوظيفية والنظم وصنع القرار.. الخ. حيث أن هذه النظريات تنطلق من التسليم باستقلالية الظاهرة السياسية وإمكانية فهمها وتحليلها بالاعتماد فقط على بنيتها الداخلية وتفاعلاتها الذاتية وطبيعة العلاقة بين مكوناتها.
2- التقسيم الأفقي التراتبي للمجتمع
يقترب منظورا النخبة- مثل رواد التحليل الطبقي- من المجتمع على أساس أنه بنية هيراركية مقسمة أفقيا إلى مراتب أو طبقات أو درجات بناء على معايير معينة قد تكون اقتصادية أو غير اقتصادية ولكنها في جميع الحالات لا تعترف بالتقسيم الرأسي إلى أعراق وأجناس وأديان وجماعات إثنية وأقاليم، حيث يرى منظورا النخبة والطبقة أن هذه التقسيمات لا تؤثر في بنية المجتمع من الزاوية الأفقية على أساس أنه مقسم إلى مراتب ودرجات يسودها منطق الصراع والتنافس حيث أن بعضها يحكم والآخر يحكم، وهذا الصراع هو الذي يحدد محتوى واتجاه العملية السياسية، ومن ثم فلكي نفهم النظام السياسي لا بد من تحديد طبيعة وهيكل التقسيم الأفقي للمجتمع ونوع أو نمط العلاقة بين المراتب العليا والدنيا والخصائص الأساسية للفئة الحاكمة [4].
3- تركز القوة في يد أقلية وعدم انتشارها في المجتمع
حيث تعتبر النخبة والتعددية طرفي نقيض من الناحية المعرفية، فالنخبة ترى أن القوة ف المجتمع مركزة في جماعة واحدة، بينما ترى التعددية بتوزع القوة وانتشارها وتشتتها بين الأفراد، وإن كان هذا التوزع غير متساو، إلا أنه لا يعدم أي فرد في المجتمع أن يجد وسيلة يؤثر بها على النظام السياسي، لأنه يمتلك بعضا من عناصر القوة
المتعددة. وفي حين ترى النخبة أن المجتمع ينقسم أفقيا إلى أقلية قوية منظمة ذات خصائص معينة وأغلبية واسعة غير منظمة لا تمتلك من القوة الشيء المؤثر، وتخضع لسيطرة النخبة، فإن التعددية ترى أن المجتمع ينقسم أفقيا ورأسيا إلى جماعات متعددة متصارعة متنافسة. وبينما نرى التعددية بحكم الأغلبية [5].
وقد أجمع منظورا النخبة التقليديون والمحدثون على أن التفرقة بين النخبة والجماهير تقوم على أساس امتلاك القوة السياسية، إلا أنه قد رأى التقليديون أن الجماهير غير قادرة أو غير راغبة في حكم نفسا وإن وجود النخبة أمر حتمي لا يمكن تجاوزه، بينما أكد المحدثون على أن النخبة هي التي تستخدم الجماهير وتنفرد بامتلاك القوة وأن وجود النخبة ليس حتميا وإنما ناتج عن قدرتهم على الانفراد بامتلاك القوة في المجتمع من ثروة أو سلطة أو نظام اتصال جماعي أو تحكم في سريان الأفكار والمعلومات لتشكيل الرأي العام في صالحهم [6]، ومن ثم فإن محك وجود النخبة هو الانفراد بامتلاك القوة في المجتمع بعض النظر عن مبررات ذلك الانفراد أو أسبابه أو وظيفته، فكل النظم السياسية تنقسم إلى شريحتين هما: الذين يحكمون وأولئك المحكومين، والشريحة الأولى هي النخبة وهي الأكثر أهمية في النظام السياسي [7]، وقد حاول بوترمور تطوير مفهوم"النخبة المضادة" جنبا إلى جنب مع النخبة الحاكمة، وقد قصد من وراء ذلك إيجاد علاقة اتصال ضمني بين مذهب النخبة ومذهب الأغلبية أو التعددية [8].
4- هناك دائما أقلية مسيطرة على قمة الدولة والمجتمع
حيث يجمع مختلف منور النخبة على أن هناك دائما أقلية أو جماعة صغيرة تسيطر على البناء السياسي للمجتمع، وإن اختلفوا حول المفاهيم التي توصف بها هذه الجماعة وحول عددها وتكوينها الداخلي، وحول مصادر قوتها وكيفية حفاظها على بقائها واستمرارها وسنوجز هذا فيما يلي:
أ- تعددت المفاهيم التي أطلقت على هذه الجماعة للسيطرة مثل: النخبة، والنخبة الحاكمة، والنخبة السياسية، نخبة القوة، الطبقة السياسية، الأوليجاركية [9].
ب- كذلك تعددت الإسهامات المتعلقة بالتكوين الداخلي للنخبة حيث رأى ميشيلز أن هذه الجماعة الصغيرة دائما تتولى سدة الحكم وتمل أوليجاركية، بينما رأى باريتو أن النخبة تنقسم إلى نخبة حاكمة ونخبة غير حاكمة، لأن الحصول على درجة عالية من الذكاء والاندراج في النخبة لا يعني تلقائيا أن الفرد قد أصبح ضمن النخبة الحاكمة وإنما يعني أن أصبح ضمن النخبة التي قد تكون حاكمة أو غير حاكمة طبقا لمعيارين أولهما: التفوق من خلال استخدام القوة للحصول على الإجماع والقبول من قبل المحكومين، وثانيهما: توازن القوى الموجود بين جماعات النخبة [10] كذلك فرق كارل دويتش بين النخبة العليا والنخبة الوسطى والنخبة الهامشية، حيث رأى أن النخبة يمكن تحديدها من خلال اقتراب المنصب أو الموقع الرسمي فهم أولئك الذين يشغلون الموقع الاستراتيجية في عملية صنع القرار والذين يتحكمون في نقاط تقاطع انسياب المعلومات وهم يشركون يوميا في صنع القرارات لملايين البشر [11] كذلك ميز بوتومور بين ثلاث درجات من النخبة: الأولى النخبة، وهي الجماعات الوظيفية والمهنية التي تحظى بمكانة عالية في المجتمع، والثانية: الطبقة السياسية والتي تضم كافة الجماعات التي تمارس القوة والنفوذ السياسي وتنشغل بشكل مباشر بالصراعات من أجل الزعامة السياسية، والثالثة: النخبة السياسية، وهي جماعة أقل حجما داخل الطبقة السياسية، تستوعب الأفراد الذين يمارسون بالفعل القوة السياسية في المجتمع [12].
ج- اختلف منور النخبة كذلك حول مصدر قوة هذه الجماعة المسيطرة فأرجعها بعضهم إلى الصفات والخصائص الشخصية، فيما أطلق عليه باريتو"مفهوم الرواسب" الذي أراد به إحلال العوامل المتعلقة بالصفات الشخصية محل الأساس الاقتصادي للطبقة الحاكمة عند ماركي، أما موسكا فقد ركز على القدرة التنظيمية للطبقة الحاكمة وقدرتها على تحقيق تلاق في المصالح بينها، وفهمها لما أطلق عليه"المعادلة السياسية" التي تعني قدرتها على التفوق في حيازة القيم المفتاحية في المجتمع سواء كانت قوة عسكرية أو اقتصادية أو رموز دينية، أما ميشلز فقد اعتبر أن مصدر قوة الأوليجاركية يكمن في تفوقها الفكري وخصائصها الشخصية [13].
د- وحول كيفية محافظة النخبة على استقرارها واستمرارها فقد أجمع رواد التحليل النخبوي الثلاثة على ضرورة أن تعمل النخبة على المحافظة على الاستمرار والاستقرار، حيث رأى باريتو أن ذلك يتحقق من خلال عملية دوران النخبة التي قسمها إلى نوعين: أولهما: دوران داخلي يتم من خلال قدرة النخبة على امتصاص الأفكار والأشخاص من خارج النخبة وإدخالهم في إطارها حتى لا يتجمع ما يمكن أن يكون نخبة مضادة، وثانيهما: الدوران الخارجي، ويحدث عندما تفشل النخبة في تحقيق الدوران الداخلي من خلال امتصاص الأفكار والأشخاص من خارج النخبة فيتم استبدال نخبة أخرى بها وتزول هذه النخبة وتحل محلها أخرى. أما موسكا فقد رأى أن استقرار النخبة يتحقق من خلال تمثلها للمعادلة السياسية التي تعمي قدرة النخبة على فهم الصيغة السياسية السائدة في المجتمع التي تمثل مفتاح السيطرة عليه ففي المجتمع البدائي تكون القوة العسكرية هي مفتاح المكانة وفي مجتمع آخر تكون المنافسة في استخدام الرموز الدينية أكثر تأثيراً وفي ثالث قد تكون الثروة أو التكنولوجيا... الخ، وقد أطلق ميشلز على العملية التي تحافظ بها النخبة على ذاتها مفهوم"القانون الحديدي للاوليجار كيه" وقصد به قدرة النخبة على الثبات والبقاء من خلال امتصاص الأفراد والأشخاص من خارج النخبة وهي نفس العملية التي أطلق عليها باريتو مفهوم"دوران النخبة"[14].
5- كيفية تحديد النخبة وتحليها
يتفق منظروا النخبة على أنه إذا اعتبرنا أن النخبة هي المدخل المناسب لدراسة الظاهرة السياسية، فإننا تكون في حاجة إلى توضيح بعدين أساسين هما، كيف يمكن تحديد النخبة في المجتمع؟ وماذا نريد أن نعرف عنها؟[15] وسوف نعرض بإيجاز لهذين البعدين:
يمكن تحديد النخبة في أي مجتمع سياسي من خلال اقترابات أربعة أساسية، أولها: اقتراب الملاحظة التاريخية وهو أقدمها حيث استخدمه كل من باريتو وموسكا، ويعتمد على مهارة الباحث والمصادر التي يستطيع الوصول إليها لتحديد من يمكن أن يندرج في إطار النخبة، وثانيها: اقتراب المناصب، ويتم من خلال تحديد عدد من المناصب الرئيسية في المجتمع التي يعتبر من يشغلها ضمن أعضاء النخبة،
وثالثها: اقتراب صنع القرار: أن كل من يشارك في صنع القرار السياسي هم أعضاء النخبة، وأخيراً: اقتراب السمعة ويقوم على أساس أن من يشتهر عنهم أنهم أعضاء في النخبة فهم النخبة[16].
ماذا نريد أن نعرف عن أعضاء النخبة بعد أن تم تحديدهم ؟ وكيف يمكن تفسير العملية السياسية من خلال فهم النخبة ؟ وهن انجد أن أدبيات السياسة المقارنة أكدت على مجموعة محددات أساسية ينبغي البحث فيها عند دراسة النخبة:
الخلفية الاجتماعية سواء الطبقة أو العرقية أو الدينية أو الإقليمية أو التعليمية أو المهنية... الخ.
السلوك الاجتماعية السياسي والقيم التي يتبنوها ابتداء من القيم السياسية حتى الملابس.
منظورهم لأنفسهم للعالم من حولهم واتجاهاتهم نحو الأحداث، وهنا يتم الاعتماد على تحليل مضمون خطاباتهم وكتاباتهم.
الخصائص الشخصية لأفراد النخبة من خلال تحليل السلوك الفردي.
تلك هي أهم المعطيات والمحددات التي دارت حولها وتمثلتها الأدبيات التي عالجت موضوع النخبة كنظرية في حقل السياسة المقارنة، وقد عرضنا لها دون نقد أو تقويم حتى تتضح حقيقتها كما هي وحتى يمكن استخلاص الإمكانات الكامنة فيها والقادرة على الإسهام في تحليل النظم السياسية العربية تحليلا يمكن من فهم طبيعتها كما هي دونما اصطناع أو إعادة تشكيل.
ثانيا: إمكانات تطبيق نظرية النخبة في دارسة النظم السياسية العربية
سبق أن تم التأكيد على ضرورة التكافؤ بين الإطار النظري للتحليل وبين الظاهرة موضوع الدراسة بحيث تركز النظرية على أهم مفاتيح فهم الظاهرة ومن ثم تحليلها وتفسيرها بصورة تعكس حقيقتها كما هي دون إعادة تشكيل أوزان متغيراتها أو اجتزائها والتأمل في نظرية النخبة يبين أنها تركز على أهم مفاتيح النظم السياسية وتضعفي بؤرة التحليل المدخل الأصلح لفهمها وتفسيرها. حيث أن التركيز على قمة النظام السياسي يعطي إمكانات معينة للتحليل ويمكن من فهم الظواهر على ما هي عليه ويلتقي مع طبيعة الأشياء في الواقع السياسي والفكري سواء المعاصر أو التاريخي.
وأهم الإمكانات التي تجعل نظرية النخبة أكثر مناسبة لدراسة النظم السياسية وتحليلها ما يلي:
1- إن طبيعة المجتمعات السياسية تبين أن السلطة لا يمكن أن تمارس بواسطة الجميع وأنه لابد أن يكون هناك هيئة تقوم بدور إدارة شئون المجتمع سواء كان ذلك في أكثر النظم ديمقراطية أو أشدها استبداداً، حيث لابد أن يكون حول المستبد أعوان يستطيع من خلالهم إحكام سيطرته على المجتمع. ومن ثم فوجود جماعة صغيرة تمتلك زمام الأمور في المجتمع أمر استقرت عليه الخبرة البشرية ودرجت عليه جميع المجتمعات.
2- إن تاريخ الشعوب والأمم يبرز بصفة دائمة أن هناك أقلية مارست الحكم وأبدعت الفكر والفن وكأن من يسير التاريخ ويتدافع فيه جماعات محدودة تقود أممها ومجتمعاتها وتصنع لها مصيرها ومستقبلها.
3- إن التركيز على الأقلية الحاكمة أمر يعود إلى بدايات التفكير السياسي عند الإغريق، حيث كان البحث يتجه دائماً إلى تحديد"من يحكم" أو على نوع النظام والتفرقة بين النظم الديمقراطية والأوتوقراطية........ الخ[17].
واستمر ذلك التقليد إلى اليوم في مختلف الخبرات التاريخية والإنساق المعرفية سواء الغربية أو الإسلامية. حيث كان هناك قاسم مشترك هو التركيز على قمة النظام السياسي واعتبار ذلك مدخلا للفهم ثم للإصلاح.
4- إن مفهوم الدولة في الخبرة العربية الإسلامية يعني التداول والتغير وليس الثبات والديمومة وقد كان يطلق على العهود السياسية المتتالية ومن ثم كان يعني في أحد جوانبه نفس دلالات مفهوم النخبة، وخصوصاً إذا لاحظنا نسبة الدول إلى أسر أو أشخاص مثل دولة الأمويين والعباسيين والأيوبيين....... الخ[18].
5- لعل التأمل في الواقع السياسي العربي المعاصر يبين أن هناك استمرارية لمفهوم الدولة كما عرف في التراث العربي، فإمعان النظر في طبيعة السياسات الداخلية وتوجهاتها والسياسات الخارجية وتحالفاتها بوضح أنها مرتبطة إلى حد كبير بطبيعة النخبة السادة وإن كانت النخبة بدورها مرتبطة بشخص القائد السياسي ومن ثم نجد أن مفهوم الدولة يفتقد الاستقرار والاستمرار، ويختلط بصفة شبه دائمة بمفهوم النخبة حيث تتقلب توجهات الدولة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار والعكس طبقاً لطبيعة النخبة وتوجهاتها.
6- وبناء على العنصر السابق يتضح إلى أي حد ينعدم وجود قواعد واضحة للعمليية السياسية في المجتمعات العربية، نظراً لعدم ترسخ الأسس والمبادئ الديمقراطية في ممارستها السياسية، مما يجعل النظام السياسي مرتبط بطبيعة النخبة وقابل للتبدل والتحول طبقاً لتحولاتها الداخلية أو استبدال نخبة أخرى بها.
كل تلك العوامل تمثل قابليات وإمكانات تجعل من نظرية النخبة مدخلاً أكثر صلاحية لتحليل وفهم النظم السياسية العربية، لأن الواقع العربي يؤكد باستمرار على أهمية ومحورية دور النخبة في هذه النظم ومن ثم فإن تحليلها ثمل مفتاح أساسي لفهم هذه النظم والعمليات المتعلقة بها والنابعة منها، وذلك إذا ما قورن بمدخل الطبقة أو الجماعات حيث لا يمكن تحديد أبنية طبقية واضحة في هذه الدول، كذلك فإن الجماعات التي تأخذ وضعاً حيوياً بالنسبة للنظم السياسية الغربية لأن العملية السياسية تنتج من تصادم المصالح الخاصة بالجماعات والأفراد يتكاملون في الفعل السياسي من خلال الجماعات والهويات السياسية تتشكل من خلال عضوية الجماعات، أما في الدول الآسيوية والأفريقية ومنها الدول العربية فإن الجماعات لا تلعب هذا الدور المحوري, وهذا ما خلص إليه الموندوباول، مما يفتح الباب أمام الدور المحوري للنخبة[19].
ثالثا: الإشكالات التي يثيرها استخدام نظرية النخبة في دراسة النظم السياسية العربية
إذا كانت العديد من الإمكانات التي تجعل من تطبيق نظرية النخبة في دراسة النظم السياسية العربية أمراً ذا فعالية تحليلية وقدرة تفسيرية عالية، فإن هناك العديد من
الإشكالات التي تحول دون ذلك، وتجعل من توظيفها أمراً محفوفاً بالعديد من الصعوبات المنهجية والواقعية، مما يقلل من تلك الفعالية أو القدرة، وفي هذا السياق سوف نركز على أهم الإشكالات التي يمكن إنجازها فيما يلي:
1- ارتباك العلاقة بين الدال والمدلول
حيث أدت ترجمة مصطلح elite إلى اللفظ العربي"النخبة" إلى إحداث ارتباك في علاقة المصطلح بالمفهوم والدال بالمدلول فلفظ النخبة في العربية يحمل معاني الامتياز والتفضيل والحسن الأخلاقي وهذا يثير اعتراض الكثيرين الذين يرون أن هذه الصفات هي فضائل قد لا نطبق على القيادات السياسية في الوطن العربي[20] ومن ثم أصبح المفهوم العربي يدمج بين الحقيقة والقيمة، فصار صفة حسنة تضفي على من يندرج في إطارها بعداً معيارياً يتجاوز المقصود بالمفهوم كأداة للتعبير العلمي المحايد.
هذا بالإضافة إلى مصادر الغموض الأخرى التي أحاطت بالمفهوم في اللغات الأوربية وفي اللغة العربية حين أصبحت هناك مفاهيم عديدة تطلق على نفس الحقيقة الاجتماعية وهو ما يعد مدخلا لإضفاء الغموض على المفهوم حيث يأتي الغموض في المفاهيم من مصدرين هما: استخدام كلمات مختلفة للتعبير عن نفس المعنى، أو استخدام نفس الكلمات للتعبير عن معاني مختلفة[21].
2- إشكالية العلاقة بين الظاهر والحقيقة
نظراً لعدم وجود قواعد واضحة ومحددة ومعلنة للعملية السياسية في النظم العربية، فإن هناك دائما إشكالية تتعلق بعدم التطابق بين الظاهر وبين الحقيقة، فبعد نهاية كل عهد من العهود السياسية وقدوم عهد جديد تظهر العديد من المفارقات تبين أن ما كان يظهر أنه حقيقة ويعتقد فيه أنه حقيقة لم يكن كذلك وأن الحقيقة التي حدثت بالفعل شيء آخر، فالتركة دائماً مثقلة والسابقون عادة يكونون مخطئين، ومن عرف عنهم أنهم صانعوا السياسة الحقيقيين ليسوا كذلك........ الخ.
3- تشابك وتعقد الأسس التي تنهض عليها النخبة
فإذا كانت النخبة عند منظريها الأساسين تقوم أما على الرواسب والقدرات التنظيمية أو القدرة على توظيف المعادلة السياسية........ الخ، فإن الحال في النظم السياسية
العربية جد مختلف حيث تتعد عليها النخبة بدرجة قد تصل إلى حد التناقض حيث تتعاقب العوامل الرشيدة مع غير الرشيدة والسياسية مع الاقتصادية والعرقية مع الثقافية مع الدينية...... الخ فأحياناً تقوم النخبة على تفاعل عوامل الانتماء إلى مؤسسات تعليمية معينة والانتماء إلى العسكرية والانتماء إلى حزب معين مع الخلفية العرقية والدينية وتسهم جميعاً في تأسيس النخبة السياسية كما هو الحال في العراق[22].
وفي سوريا تقوم النخبة على أساس الدمج بين العامل الإثنى والديني والاجتماعي المتمثل في علاقات النسب والمصاهرة، بالإضافة إلى امتلاك الثروة، ويتحقق استقرارها باتساع دوائر النسب والمصاهرة مع القوى الاجتماعية الأساسية[23].
وفي تونس تنهض النخبة على أساس الانتماء إلى مؤسسات التعليم الحديث سواء في تونس أو فرنسا، والانتماء إلى الحزب الدستوري الحاكم والارتباط بشخص القائد السياسي[24].
وفي مصر تتفاعل الأسرة والدفعة والشلة بالإضافة إلى علاقة التابع- المتبوع، في تأسيس النخبة، [25] فتكون عبارة عن خليط غير متسق، محايد سياسيا، مغلق في علاقاته مع المجتمع، يقوم على أساس تدوير المناصب بين أعضاء النخبة للمحافظة على استمرارها[26].
أما في دول الخليج- التي يرى البعض أنها"في مرحلة عبور البرزخ الوعر من القبيلة إلى الدولة"[27] فإن النخبة فيها لا تكاد تخرج عن إطار أطروحات ابن خلدون حول مفهوم العصبية سواء عصبية النسب أو عصبية الانتساب.
4- فعالية الوحدات الرأسية في معظم المجتمعات العربية
حيث يكون الانتماء للقبيلة أو المذهب أو الإقليم محدداً أساسياً في بناء وتكوين واستمرار النخبة، وحيث عادة ما تكون النخبة من أبناء قبيلة معينة أو أبناء مذهب معين، ودول الخليج العربي واليمن والعراق وسوريا أمثلة لا تحتاج مزيد من تفصيل[28].
وهذا الواقع يناقض مع الأساس الابستمولوجي لنظرية النخبة الذي يقوم على افتراض أن التقسيم الأفقي للمجتمع هو المحدد الأساسي للظاهرة السياسية وليس التقسيم الرأسي، فالعلاقة بين أقلية تمتلك القوة وأغلبية لا تمتلك منها شيئاً هو الفرضية الأساسية لنظرية النخبة التي ينهض عليها بناؤها النظري وقدراتها التحليلية والتفسيرية.
5- دور القائد السياسي في تأسيس النخبة والحفاظ عليها
فقد تأسست نخبة عربية متعددة في فترات زمنية مختلفة اعتماداً على شخصية الزعيم ودوره حيث أصبح هو محور ارتكازها ومبرر وجودها والمحافظ على استمرارها. وقد أطلق سبرنجبورج على هذه الحالة مفهوم"علاقة التابع- المتبوع". وفي هذه الحالة ينبغي دراسة النخب والنظم السياسية التي توجد فيها من مدخل القيادة السياسية على اعتبار أن النخبة في هذا النموذج الحالة متغيرا تابعاً لا يملك التأثير المستقل في النظام السياسي[29].
6- التعايش بين النخبة والنخبة المضادة
مما يعني أن الاقتصار في التحليل على النخبة الحاكمة قد لا يؤدي إلى تمام الفهم والتفسير، فنظراً لطبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع في الواقع العربي، والأزمات التي عانت منها النخب العربية والتي تمثلت في"ضعف المصداقية لاتباع شعارات مخالفة ومناقضة للأفعال، والفشل والهزائم المتتالية لبعض النخب العربية وضعف الثقة بين الشعوب والنخب"[30] أدى كل ذلك إلى عدم استقرار شرعية معظم هذه النخب وبروز نخب مضادة تنازعها الشرعية سواء بوسائل سلمية أو عنيفة.
7- صعوبة الوصول إلى المعلومات المتعلقة بفهم وتحليل النخبة في النظم السياسية العربية نظراً لطبيعة هذه النخب وما تحيط به نفسها من سرية تضفيها على معظم المعلومات المتعلقة بها.
رابعاً: حول تطوير نظرية النخبة لدراسة النظم السياسية العربية
بداية ينبغي التأكيد على أن النظريات لا يحكم عليها بأنها صحيحة أو خاطئة وإنما ينظر إليها من باب مساعدتها وتنويرها للباحث حتى يقترب من الحقيقة بصورة
أفضل، ومن ثم فهي قد تكون أكثر أو أقل مساعدة في تحقيق ذلك، وبالتالي أكثر أو أقل صلاحية لدراسة هذه الظاهرة أو تلك.
كذلك ينبغي التأكيد على أن النظريات السياسية المقارنة ليست متنافسة أو متعارضة بقدر كونها متكاملة إذا ما استطاع الباحث فهمها ومعرفة وتحديد متضمناتها وافتراضاتها ومسلماتها، ومن ثم يستطيع أن يوظفها مفردة أو في تكوينات منهجية متجانسة[31] دون أن يقع الباحث في عملية ابتزاز منهجي إذا ما تأطر بنظرية معينة واتخذها مذهبية بحثية تدفعها إلى تجاهل الأبعاد التي لا تستجيب للإطار التحليلي الذي يتبناه، فيخرجها من البحث رغم علمه بأهميتها[32].
وتأسيسا على ذلك فإن هذه الدراسة تسعى إلى اقتراح مجموعة من الطرائق المنهجية التي تؤدي إلى زيادة فعالية نظرية النخبة في دارسة النظم السياسية العربية، وذلك من خلال تحقيق تمام التكافؤ بينها وبين هذه النظم، ومن ثم إكسابها الصلاحية والفعالية في فهم وتفسير الواقع السياسي العربي، وأهم هذه الطرائق ما يلي:
1- اعتماد الإطار العام لنظرية النخبة بعد أن يتم نزع الملابسات التي صاحبت نشأته والتي ارتبطت بتحليلات رواده لمجتمعاتهم وواقعهم التاريخي، ثم تطعيم هذا الإطار العام بمفاهيم مثل"السراة" الذي يطلق على تلك الفئة الاجتماعية التي تقود المجتمع ولا تنفصل عنه وإنما تكون جزءاً منه تتفاعل معه وترتبط به من خلال شبكات متعددة[33] أو مفهوم العصبية في صياغته الخلدونية التي لا تقصر العصبية على النسب والأصل العرقي وحده وإنما ترى أنه بجانب عصبية النسب هناك عصبية انتساب، وتشمل أي تحالف وعلاقات اجتماعية اختيارية[34] أو مفهوم أهل الحل والعقد الذي يشمل بداخله ثلاثة فئات هم أهل الاختيار وأهل الشورى وأهل الاجتهاد[35].
2- توظيف نظرية النخبة ضمن حزمة منهجية إطارها نظرية النظم التي قدمها ديفيد إيستون وجوهرها نظرية النخبة وأداتها منهج صنع القرار وبهذا الثلاثي يمكن دراسة النظام السياسي بصورة أكثر فعالية حيث تركز نظرية النظم على جانبي المدخلات والمخرجات، ومن خلال نظرية النخبة يمكن فهم الإطار الخارجي لعملية التحويل وبمنهج صنع القرار يتم تحليل الإطار الداخلي لهذه العملية، وبذلك يمكن الوصول إلى حزمة منهجية متكاملة العناصر متراتبة الوظائف.
3- الدمج بين نظرية النخبة واقتراب الاقتصاد السياسي الذي يركز على الخلفيات الاقتصادية للظواهر السياسية[36]، ولعل ما قامت به سامية سعيد في دراستها للأصول الاجتماعية لنخبة الانفتاح الاقتصادي في المجتمع المصري كان نوعاً من الدمج بين نظرية النخبة والاقتصاد السياسي في صياغته الماركسية، ويبدو ذلك فيما قدمته من تعريف إجرائي لمفهوم النخبة حيث رأت أنها"عناصر الرأسمالية التقليدية والبورجوازية البيروقراطية والعناصر الطفيلية التي شكلت في مجموعها تكوينه اجتماعية غير متجانسة تستحوذ قدراً كبيراً من السلطة والنفوذ والثروة بشكل يجعلها ذات تأثير غير عادي في جميع مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية بما يتيح لها تحقيق أهدافها والتأثير على عملية التنمية[37]، كذلك في تحديدها لأصول النخبة المصرية وروابطها والتي حصرتها في الرافد الرأسمالي التقليدي والرافد البورجوازي البيروقراطي، والرافد الطفيلي وخصلت إلى أن الرافد الرأسمالي التقليدي كان نقطة التخمر الحقيقية لأية تشكيلة رأسمالية في الخبرة المصرية[38] وهنا يجدر التأكيد على أن استخدامها لتوليفة منهجية جمعت نظرية النخبة واقتراب الاقتصاد السياسي وأن كان قد تم بصورة غير واعية إلا أنه مثل إضافة منهجية برزت من خلال فعالية التوظيف وقدرته على كشف مكنونات الظاهرة موضع الدراسة.
4- الدمج بين نظرية النخبة والكوربراتيه: فيما يمكن أن يطلق عليه مفهوم"كارتل النخبة"[39] حيث يتم النظر إلى النخبة على أساس أنها عبارة عن رؤوس لأعمدة كثيرة، كل رأس منها يهتم بالعمود الذي يمثله ويراعى مصالحه وفي نفس الوقت يعتبر نفسه جزءاً من النخبة لذلك يسعى لتوفيق المصالح مع باقي عناصر النخبة، وهذا يعني أن النخبة عبارة عن الممثلين للمؤسسات الكوربراتية في المجتمع[40]، حيث تعني الكوربراتية كما عرفها شيمتر"نظام لتمثيل المصالح تنتظم فيه وحدات تنظيمية في عدد من الفئات المتمايزة وظيفيا والهيراركية تنظيمياً والإكراهية في الانتماء إليها وغير التنافسية، والتي تكون عادة مرخص لها من قبل الدولة أو أنشأتها الدولة، وتمنح هذه الوحدات حق احتكار تمثيل الفئات المتدرجة داخلها مقابل مشاركتهم في اختيار القيادة وتنظيم المطالب والمساندة[41].
وبهذا المعنى يمكن النظر إلى المجتمع على أساس أنه مجموعة من التنظيمات الكوربراتية تمثل النخبة قمة هذه المنظمات.
ومن خلال هذه الطرائق الأربعة السابقة يمكن تطوير نظرية النخبة وتفعيلها بصورة أكثر في دراسة النخبة السياسية العربية حتى يتحقق الهدف من استخدام النظرية وهو ازدياد القرب من الحقيقة وتجليتها أو الكشف عن أبعادها الأساسية حتى يكون التفاعل معها صائباً ومحققا لنتائجه.
ومن ناحية أخرى ينبغي التأكيد على ضرورة اختيار وتطوير النظريات بعد تطبيقها وإثراءها بخبرات وتجارب بشرية متعددة متنوعة، كذلك ضرورة الوعي على التلاقح والتفاعل بين الأنساق المعرفية المختلفة والذي أصبح موضوعاً أكثر إلحاحاً في الفترة الحالية حيث تسود قيم المراجعة والنقد وإعادة النظر في المقولات الكبرى للعلوم الاجتماعية والإنسانية كأحد جوانب حركة ما بعد الحداثة وتداعياتها المختلفة.
هوامش الدراسة
1- د. منى أبو الفضل، نحو منهاجية للتعامل مع مصادر التنظير الإسلامي بين المقدمات والمقومات، ضمن أعمال مؤتمر"المنهجية الإسلامية والعلوم السلوكية والتربوية"، واشنطون، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1990، الجزء الأول، ص 188.
2- د. محمد عارف، المنهج في علم الاجتماع، الجزء الأول، "المنهج الكيفي والمنهج لكمي في علم الاجتماع"، القاهرة، دار الثقافة، 1972، ص 198- 199.
3- نصر محمد عارف، نظريات السياسة المقارنة وتطبيقها في دراسة النظم السياسية العربية، رسالة دكتوراه غير منشورة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، 1995، ص 195- 196.
4- المرجع السابق ص 166.
5-Paolo Zannoni,"the concept of Elite" European Journal of Political Research, vol. 6 1978, pp. 16 – 17.
6- Martin N. Marger, Elites and Masses , An introduction to Political So ciology(New York, D. Van Nastrand Company, 1981) , pp. 78 – 79.
7- James Bill, and Robert L. Hardgrave, Comparative Politics: the Quest for theory,(Ohio: charles E. Merril Publishing Comparative Politics: the Quest for theory,( Ohio : charles E. Merril Publishing Company, 1973), p. 144
8- جورج لينشوفسكي، الصفوة السياسية في الشرق الأوسط، ترجمة د. عادل مختار الهواري، القاهرة، دار الموقف العربي، 1987، ص 24.
9- د. كمال المنوفي، أصول النظم السياسية المقارنة، الكويت شركة الربيعان للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1987، ص ص 73- 84، نصر محمد عارف، نظريات السياسة المقارنة، مرجع سابق، ص ص 182- 187.
10- Zannoni, op. cit., pp. 15- 16.
11- Karl W. Deutsch, Politics, and Governmetn: How People Decide their Fate,(Boston: Houghton Mifflin company, 1974) Second Edition, pp. 48- 52
12- T.B Bottomore, Elites and Society,(New York: Basic Books, 1964), pp. 8- 9.
- نقلا عن لينشوفسكي، مرجع سابق، ص 3.
13- د. كمال المنوفي، مرجع سابق، ص ص 73- 84، نصر محمد عراف، نظريات السياسة المقارنة، مرجع سابق، ص ص 182- 187.
14- المرجع السابق، ص ص 182- 187.
15- لينشوفسكي، مرجع سابق، ص 25.
16- Bill, and Hardgrave, op. cit,. pp. 165 – 167.
17- Richard L. Merrit, Systematic Approach to comparative Politics(Chicago: Rand Mcnally and Company, 1971), pp. 118- 129.
18- نصر محمد عارف، في مصادر التراث السياسي الإسلام: دراسة في إشكالية التعميم قبل الاستقراء والتأصيل، واشنطون، المعهد العالي للفكر الإسلامي، 1994، 87.
19- روبرت سبرنجبورج، نماذج من التجمعات في الصفوة السياسية المصرية وفي لينشوفسكي، مرجع سابق، ص 110.
20- د. إيليا حريق، السراتية والتحول السياسي والاجتماعي في المجتمع العربي الحديث، المستقبل العربي، العدد 80، أكتوبر 1985، ص 4.
21- Zannoni, op. cit., p. 5.
22- فيليب أ. مارا، الصفوة السياسية في العراق، في: لينشوفسكي، مرجع سابق، ص ص 138- 185.
23- اليزابيث بيكار، نقد استخدام مفهوم الإثنية في تحليل العمليات السياسية في الوطن العربي، في د. نيفين مسعد، (محرر)، العالمية والخصوصية الفرنسية الثانية، 3- 5 يوليو 1989، القاهرة، مركز البحوث والدراسات السياسية بجامعة القاهرة، 1991، ص ص 211- 224.
24- هدى حافظ متكيس، النخبة السياسية في تونس، 1956- 1970، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، 1981، ص ص 66- 67.
25- سبر نجورج، مرجع سابق، ص ص 121- 132.
26- مايسة الجمل، النخبة السياسية في مصر، المستقبل العربي، العدد 166، ديسمبر 1992، ص ص 50- 53.
- د. مايسة الجمل، النخبة السياسية في مصر: دراسة حالة للنخبة الوزارية، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، أطروحات الدكتوراه رقم 22، الطبعة الأولى، 1993، ص ص 212- 217.
نصر محمد عارف
المؤتمر الثالث للباحثين الشباب بعنوان النخبة السياسية للباحثين الشباب، 1996
من البديهي أن الظواهر الاجتماعية والسياسية لا يستطيع الباحث الإمساك بها في ذاتها، وتقليبها أمام عينيه لفحصها، وتحليل أجزائها، ومن ثم فهمها وتفسيرها، وإنما يتم التعامل معها من خلال وسائط معينة تتمثل في المفاهيم، والمناهج والنظريات، هذه الوسائط أو الوسائل من خلالها يتم نقل الظواهر والأحداث من الواقع إلى العقل الإنساني ليتمكن من فهمها وتحليلها وتفسيرها ومن ثم فإن مقدار ما يستطيع الإنسان فهمه من الواقع محكوم بمدى قدرة الوسيلة على النقل فلن يستطيع أن يفهم من الظواهر إلا ما تتمكن هذه الوسيلة من استيعابه ونقله وما يستشف معها وينسجم مع أبنيتها وأدواتها.
ومن هنا فالوسيلة ليست أداة محايدة تنقل الواقع كما هو وتعكس الحقيقة في مجملها، وإنما هي طرف في علاقة ثلاثية طرفاها الآخران هما العقل الإنسان والواقع الاجتماعي، وحيث أن الواقع معقد متشابك، غير قابل لأن يحاط به في جميع جزئياته ومكوناته، وحيث أن المفاهيم والمناهج أو النظريات ما يتخذ الطبقة كمدخل لفم وتفسير الظاهرة الاجتماعية والسياسية وهناك من يركز على النخبة أو الجماعة أو البناء أو الوظيفة أو صنع القرار.. الخ، وكل من هذه النظريات أو المناهج يقوم على افتراض أنه لا يمكن الإحاطة بكل أبعاد الظاهرة وإنما يمكن فهمها من خلال التركيز على هذا البعد أو ذاك لأنه يمثل البعد المحوري مما يمكن من الوصول إلى الفهم الدقيق والتحليل السليم لها.
والحال هكذا يصبح من الضرورة أن يحيط الباحث بنظريات حقله المعرفي حتى يفهم إمكانات كل نظرية وحدودها ومواطن قوتها وضعفها، وقدراتها التفسيرية، ثم لابد بعد ذلك من تحقيق قدر من الفهم لأهم ملامح ومحددات الواقع الاجتماعي والسياسي الذي توجد فيه الظواهر موضع الدراسة، وذلك حتى يستطيع أن يحقق مفهوم"التكافؤ المنهاجي" [1] أو"اللياقة المنهجية" [2] التي تعني أن يكون هناك قدر من التكافؤ والتناسب بين الظاهرة موضع البحث والدراسة والمنهج أو النظرية التي يتم
الاقتراب من خلالها لهذه الظاهرة، حتى تكون الأداة المنهجية على مقاس الظاهرة فتستطيع أن تعكس أبعادها الواقعية وحقائقها بنفس الأوزان والنسب التي هي عليها في الواقع دون أجزاء أو اختزال أو إخلاء بالنسب والأوزان.
وهنا يتحقق الهدف من استخدام المنهج أو النظرية وهو فهم الواقع وتفسيره بصورة تقترب في الدقة وتقرب الحقيقة وليس الانحراف بالمنهج أو النظرية فيمثلا هدفا في ذاتهما وغاية يسعى الباحث إلى إثبات أنه قابل للتطبيق في الواقع وأنه أفضل من المناهج والنظريات الأخرى.. الخ.
ومن هذا المنطلق سوف يتم الاقتراب من نظرية النخبة لتحديد معطياتها وإمكاناتها المنهجية التي يمكن أن تسهم في فهم وتفسير الظاهرة السياسية في الواقع العربي وذلك من خلال الخطوات التالية:
أولا: المعطيات المنهجية لنظرية النخبة
تعتبر نظرية النخبة واحدة من نظريات المرحلة الانتقالية ما بين التقليدية والسلوكية، وإن كانت قد استطاعت الاستمرار والحفاظ على الحيوية المنهجية والاقتدار التحليلي طوال المرحلة السلوكية وما بعدها. وذلك لما تتميز به من إصابة في تحديد المدخل المناسب لفهم النظم السياسية وتحيلها.
وفي هذا السياق لن ينصرف البحث إلى تقصى نظرية النخبة ورصد تطوراتها وإسهامات روادها، وإنما سيقتصر البحث على تحديد المحددات والمعطيات المنهجية التي تقدمها هذه النظرية وذلك عبر النقاط التالية:
1- تبعية الظاهرة السياسية وعدم استقلاليتها
تنطلق نظرية النخبة- مثل التحليل الطبقي ونظرية الجماعات- من افتراض أن الظاهرة السياسية ظاهرة تابعة لظواهر أخرى ومن ثم فإنه لا يمكن فهمها في ذاتها وإنما يتم فهمها من خلال تحليل الظواهر المستقلة التي أوجدتها، لأن النظام السياسي متغير تابع للنظام الاجتماعي [3]. وإذا نظرنا إلى التحليل الطبقي- الذي مثل الأساس الابستمولوجي لنظرية النخبة-نجد أن الظاهرة السياسية متغيرا تابعا لعوامل وعلاقات الإنتاج، كذلك الحال في نظرية النخبة لا يمكن فهم الظاهرة السياسية إلا من خلال فهم وتحليل البنية الاجتماعية القائمة على افتراض وجود جماعة صغيرة تسيطر على المجتمع والدولة وتتركز فيها القوة، ومن ثم تشكل الظاهرة السياسية وتحدد أبعادها، ومن ثم فإن التحلل العلمي لا بد أن ينصب على هذه الجماعة ويعتبرها المدخل الأنسب لفهم وتحليل العملية السياسية والنظام السياسي في مجملة وبذلك تختلف نظرية النخبة عن باقي النظريات الأخرى في حقل السياسة المقارنة، مثل البنائية الوظيفية والنظم وصنع القرار.. الخ. حيث أن هذه النظريات تنطلق من التسليم باستقلالية الظاهرة السياسية وإمكانية فهمها وتحليلها بالاعتماد فقط على بنيتها الداخلية وتفاعلاتها الذاتية وطبيعة العلاقة بين مكوناتها.
2- التقسيم الأفقي التراتبي للمجتمع
يقترب منظورا النخبة- مثل رواد التحليل الطبقي- من المجتمع على أساس أنه بنية هيراركية مقسمة أفقيا إلى مراتب أو طبقات أو درجات بناء على معايير معينة قد تكون اقتصادية أو غير اقتصادية ولكنها في جميع الحالات لا تعترف بالتقسيم الرأسي إلى أعراق وأجناس وأديان وجماعات إثنية وأقاليم، حيث يرى منظورا النخبة والطبقة أن هذه التقسيمات لا تؤثر في بنية المجتمع من الزاوية الأفقية على أساس أنه مقسم إلى مراتب ودرجات يسودها منطق الصراع والتنافس حيث أن بعضها يحكم والآخر يحكم، وهذا الصراع هو الذي يحدد محتوى واتجاه العملية السياسية، ومن ثم فلكي نفهم النظام السياسي لا بد من تحديد طبيعة وهيكل التقسيم الأفقي للمجتمع ونوع أو نمط العلاقة بين المراتب العليا والدنيا والخصائص الأساسية للفئة الحاكمة [4].
3- تركز القوة في يد أقلية وعدم انتشارها في المجتمع
حيث تعتبر النخبة والتعددية طرفي نقيض من الناحية المعرفية، فالنخبة ترى أن القوة ف المجتمع مركزة في جماعة واحدة، بينما ترى التعددية بتوزع القوة وانتشارها وتشتتها بين الأفراد، وإن كان هذا التوزع غير متساو، إلا أنه لا يعدم أي فرد في المجتمع أن يجد وسيلة يؤثر بها على النظام السياسي، لأنه يمتلك بعضا من عناصر القوة
المتعددة. وفي حين ترى النخبة أن المجتمع ينقسم أفقيا إلى أقلية قوية منظمة ذات خصائص معينة وأغلبية واسعة غير منظمة لا تمتلك من القوة الشيء المؤثر، وتخضع لسيطرة النخبة، فإن التعددية ترى أن المجتمع ينقسم أفقيا ورأسيا إلى جماعات متعددة متصارعة متنافسة. وبينما نرى التعددية بحكم الأغلبية [5].
وقد أجمع منظورا النخبة التقليديون والمحدثون على أن التفرقة بين النخبة والجماهير تقوم على أساس امتلاك القوة السياسية، إلا أنه قد رأى التقليديون أن الجماهير غير قادرة أو غير راغبة في حكم نفسا وإن وجود النخبة أمر حتمي لا يمكن تجاوزه، بينما أكد المحدثون على أن النخبة هي التي تستخدم الجماهير وتنفرد بامتلاك القوة وأن وجود النخبة ليس حتميا وإنما ناتج عن قدرتهم على الانفراد بامتلاك القوة في المجتمع من ثروة أو سلطة أو نظام اتصال جماعي أو تحكم في سريان الأفكار والمعلومات لتشكيل الرأي العام في صالحهم [6]، ومن ثم فإن محك وجود النخبة هو الانفراد بامتلاك القوة في المجتمع بعض النظر عن مبررات ذلك الانفراد أو أسبابه أو وظيفته، فكل النظم السياسية تنقسم إلى شريحتين هما: الذين يحكمون وأولئك المحكومين، والشريحة الأولى هي النخبة وهي الأكثر أهمية في النظام السياسي [7]، وقد حاول بوترمور تطوير مفهوم"النخبة المضادة" جنبا إلى جنب مع النخبة الحاكمة، وقد قصد من وراء ذلك إيجاد علاقة اتصال ضمني بين مذهب النخبة ومذهب الأغلبية أو التعددية [8].
4- هناك دائما أقلية مسيطرة على قمة الدولة والمجتمع
حيث يجمع مختلف منور النخبة على أن هناك دائما أقلية أو جماعة صغيرة تسيطر على البناء السياسي للمجتمع، وإن اختلفوا حول المفاهيم التي توصف بها هذه الجماعة وحول عددها وتكوينها الداخلي، وحول مصادر قوتها وكيفية حفاظها على بقائها واستمرارها وسنوجز هذا فيما يلي:
أ- تعددت المفاهيم التي أطلقت على هذه الجماعة للسيطرة مثل: النخبة، والنخبة الحاكمة، والنخبة السياسية، نخبة القوة، الطبقة السياسية، الأوليجاركية [9].
ب- كذلك تعددت الإسهامات المتعلقة بالتكوين الداخلي للنخبة حيث رأى ميشيلز أن هذه الجماعة الصغيرة دائما تتولى سدة الحكم وتمل أوليجاركية، بينما رأى باريتو أن النخبة تنقسم إلى نخبة حاكمة ونخبة غير حاكمة، لأن الحصول على درجة عالية من الذكاء والاندراج في النخبة لا يعني تلقائيا أن الفرد قد أصبح ضمن النخبة الحاكمة وإنما يعني أن أصبح ضمن النخبة التي قد تكون حاكمة أو غير حاكمة طبقا لمعيارين أولهما: التفوق من خلال استخدام القوة للحصول على الإجماع والقبول من قبل المحكومين، وثانيهما: توازن القوى الموجود بين جماعات النخبة [10] كذلك فرق كارل دويتش بين النخبة العليا والنخبة الوسطى والنخبة الهامشية، حيث رأى أن النخبة يمكن تحديدها من خلال اقتراب المنصب أو الموقع الرسمي فهم أولئك الذين يشغلون الموقع الاستراتيجية في عملية صنع القرار والذين يتحكمون في نقاط تقاطع انسياب المعلومات وهم يشركون يوميا في صنع القرارات لملايين البشر [11] كذلك ميز بوتومور بين ثلاث درجات من النخبة: الأولى النخبة، وهي الجماعات الوظيفية والمهنية التي تحظى بمكانة عالية في المجتمع، والثانية: الطبقة السياسية والتي تضم كافة الجماعات التي تمارس القوة والنفوذ السياسي وتنشغل بشكل مباشر بالصراعات من أجل الزعامة السياسية، والثالثة: النخبة السياسية، وهي جماعة أقل حجما داخل الطبقة السياسية، تستوعب الأفراد الذين يمارسون بالفعل القوة السياسية في المجتمع [12].
ج- اختلف منور النخبة كذلك حول مصدر قوة هذه الجماعة المسيطرة فأرجعها بعضهم إلى الصفات والخصائص الشخصية، فيما أطلق عليه باريتو"مفهوم الرواسب" الذي أراد به إحلال العوامل المتعلقة بالصفات الشخصية محل الأساس الاقتصادي للطبقة الحاكمة عند ماركي، أما موسكا فقد ركز على القدرة التنظيمية للطبقة الحاكمة وقدرتها على تحقيق تلاق في المصالح بينها، وفهمها لما أطلق عليه"المعادلة السياسية" التي تعني قدرتها على التفوق في حيازة القيم المفتاحية في المجتمع سواء كانت قوة عسكرية أو اقتصادية أو رموز دينية، أما ميشلز فقد اعتبر أن مصدر قوة الأوليجاركية يكمن في تفوقها الفكري وخصائصها الشخصية [13].
د- وحول كيفية محافظة النخبة على استقرارها واستمرارها فقد أجمع رواد التحليل النخبوي الثلاثة على ضرورة أن تعمل النخبة على المحافظة على الاستمرار والاستقرار، حيث رأى باريتو أن ذلك يتحقق من خلال عملية دوران النخبة التي قسمها إلى نوعين: أولهما: دوران داخلي يتم من خلال قدرة النخبة على امتصاص الأفكار والأشخاص من خارج النخبة وإدخالهم في إطارها حتى لا يتجمع ما يمكن أن يكون نخبة مضادة، وثانيهما: الدوران الخارجي، ويحدث عندما تفشل النخبة في تحقيق الدوران الداخلي من خلال امتصاص الأفكار والأشخاص من خارج النخبة فيتم استبدال نخبة أخرى بها وتزول هذه النخبة وتحل محلها أخرى. أما موسكا فقد رأى أن استقرار النخبة يتحقق من خلال تمثلها للمعادلة السياسية التي تعمي قدرة النخبة على فهم الصيغة السياسية السائدة في المجتمع التي تمثل مفتاح السيطرة عليه ففي المجتمع البدائي تكون القوة العسكرية هي مفتاح المكانة وفي مجتمع آخر تكون المنافسة في استخدام الرموز الدينية أكثر تأثيراً وفي ثالث قد تكون الثروة أو التكنولوجيا... الخ، وقد أطلق ميشلز على العملية التي تحافظ بها النخبة على ذاتها مفهوم"القانون الحديدي للاوليجار كيه" وقصد به قدرة النخبة على الثبات والبقاء من خلال امتصاص الأفراد والأشخاص من خارج النخبة وهي نفس العملية التي أطلق عليها باريتو مفهوم"دوران النخبة"[14].
5- كيفية تحديد النخبة وتحليها
يتفق منظروا النخبة على أنه إذا اعتبرنا أن النخبة هي المدخل المناسب لدراسة الظاهرة السياسية، فإننا تكون في حاجة إلى توضيح بعدين أساسين هما، كيف يمكن تحديد النخبة في المجتمع؟ وماذا نريد أن نعرف عنها؟[15] وسوف نعرض بإيجاز لهذين البعدين:
يمكن تحديد النخبة في أي مجتمع سياسي من خلال اقترابات أربعة أساسية، أولها: اقتراب الملاحظة التاريخية وهو أقدمها حيث استخدمه كل من باريتو وموسكا، ويعتمد على مهارة الباحث والمصادر التي يستطيع الوصول إليها لتحديد من يمكن أن يندرج في إطار النخبة، وثانيها: اقتراب المناصب، ويتم من خلال تحديد عدد من المناصب الرئيسية في المجتمع التي يعتبر من يشغلها ضمن أعضاء النخبة،
وثالثها: اقتراب صنع القرار: أن كل من يشارك في صنع القرار السياسي هم أعضاء النخبة، وأخيراً: اقتراب السمعة ويقوم على أساس أن من يشتهر عنهم أنهم أعضاء في النخبة فهم النخبة[16].
ماذا نريد أن نعرف عن أعضاء النخبة بعد أن تم تحديدهم ؟ وكيف يمكن تفسير العملية السياسية من خلال فهم النخبة ؟ وهن انجد أن أدبيات السياسة المقارنة أكدت على مجموعة محددات أساسية ينبغي البحث فيها عند دراسة النخبة:
الخلفية الاجتماعية سواء الطبقة أو العرقية أو الدينية أو الإقليمية أو التعليمية أو المهنية... الخ.
السلوك الاجتماعية السياسي والقيم التي يتبنوها ابتداء من القيم السياسية حتى الملابس.
منظورهم لأنفسهم للعالم من حولهم واتجاهاتهم نحو الأحداث، وهنا يتم الاعتماد على تحليل مضمون خطاباتهم وكتاباتهم.
الخصائص الشخصية لأفراد النخبة من خلال تحليل السلوك الفردي.
تلك هي أهم المعطيات والمحددات التي دارت حولها وتمثلتها الأدبيات التي عالجت موضوع النخبة كنظرية في حقل السياسة المقارنة، وقد عرضنا لها دون نقد أو تقويم حتى تتضح حقيقتها كما هي وحتى يمكن استخلاص الإمكانات الكامنة فيها والقادرة على الإسهام في تحليل النظم السياسية العربية تحليلا يمكن من فهم طبيعتها كما هي دونما اصطناع أو إعادة تشكيل.
ثانيا: إمكانات تطبيق نظرية النخبة في دارسة النظم السياسية العربية
سبق أن تم التأكيد على ضرورة التكافؤ بين الإطار النظري للتحليل وبين الظاهرة موضوع الدراسة بحيث تركز النظرية على أهم مفاتيح فهم الظاهرة ومن ثم تحليلها وتفسيرها بصورة تعكس حقيقتها كما هي دون إعادة تشكيل أوزان متغيراتها أو اجتزائها والتأمل في نظرية النخبة يبين أنها تركز على أهم مفاتيح النظم السياسية وتضعفي بؤرة التحليل المدخل الأصلح لفهمها وتفسيرها. حيث أن التركيز على قمة النظام السياسي يعطي إمكانات معينة للتحليل ويمكن من فهم الظواهر على ما هي عليه ويلتقي مع طبيعة الأشياء في الواقع السياسي والفكري سواء المعاصر أو التاريخي.
وأهم الإمكانات التي تجعل نظرية النخبة أكثر مناسبة لدراسة النظم السياسية وتحليلها ما يلي:
1- إن طبيعة المجتمعات السياسية تبين أن السلطة لا يمكن أن تمارس بواسطة الجميع وأنه لابد أن يكون هناك هيئة تقوم بدور إدارة شئون المجتمع سواء كان ذلك في أكثر النظم ديمقراطية أو أشدها استبداداً، حيث لابد أن يكون حول المستبد أعوان يستطيع من خلالهم إحكام سيطرته على المجتمع. ومن ثم فوجود جماعة صغيرة تمتلك زمام الأمور في المجتمع أمر استقرت عليه الخبرة البشرية ودرجت عليه جميع المجتمعات.
2- إن تاريخ الشعوب والأمم يبرز بصفة دائمة أن هناك أقلية مارست الحكم وأبدعت الفكر والفن وكأن من يسير التاريخ ويتدافع فيه جماعات محدودة تقود أممها ومجتمعاتها وتصنع لها مصيرها ومستقبلها.
3- إن التركيز على الأقلية الحاكمة أمر يعود إلى بدايات التفكير السياسي عند الإغريق، حيث كان البحث يتجه دائماً إلى تحديد"من يحكم" أو على نوع النظام والتفرقة بين النظم الديمقراطية والأوتوقراطية........ الخ[17].
واستمر ذلك التقليد إلى اليوم في مختلف الخبرات التاريخية والإنساق المعرفية سواء الغربية أو الإسلامية. حيث كان هناك قاسم مشترك هو التركيز على قمة النظام السياسي واعتبار ذلك مدخلا للفهم ثم للإصلاح.
4- إن مفهوم الدولة في الخبرة العربية الإسلامية يعني التداول والتغير وليس الثبات والديمومة وقد كان يطلق على العهود السياسية المتتالية ومن ثم كان يعني في أحد جوانبه نفس دلالات مفهوم النخبة، وخصوصاً إذا لاحظنا نسبة الدول إلى أسر أو أشخاص مثل دولة الأمويين والعباسيين والأيوبيين....... الخ[18].
5- لعل التأمل في الواقع السياسي العربي المعاصر يبين أن هناك استمرارية لمفهوم الدولة كما عرف في التراث العربي، فإمعان النظر في طبيعة السياسات الداخلية وتوجهاتها والسياسات الخارجية وتحالفاتها بوضح أنها مرتبطة إلى حد كبير بطبيعة النخبة السادة وإن كانت النخبة بدورها مرتبطة بشخص القائد السياسي ومن ثم نجد أن مفهوم الدولة يفتقد الاستقرار والاستمرار، ويختلط بصفة شبه دائمة بمفهوم النخبة حيث تتقلب توجهات الدولة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار والعكس طبقاً لطبيعة النخبة وتوجهاتها.
6- وبناء على العنصر السابق يتضح إلى أي حد ينعدم وجود قواعد واضحة للعمليية السياسية في المجتمعات العربية، نظراً لعدم ترسخ الأسس والمبادئ الديمقراطية في ممارستها السياسية، مما يجعل النظام السياسي مرتبط بطبيعة النخبة وقابل للتبدل والتحول طبقاً لتحولاتها الداخلية أو استبدال نخبة أخرى بها.
كل تلك العوامل تمثل قابليات وإمكانات تجعل من نظرية النخبة مدخلاً أكثر صلاحية لتحليل وفهم النظم السياسية العربية، لأن الواقع العربي يؤكد باستمرار على أهمية ومحورية دور النخبة في هذه النظم ومن ثم فإن تحليلها ثمل مفتاح أساسي لفهم هذه النظم والعمليات المتعلقة بها والنابعة منها، وذلك إذا ما قورن بمدخل الطبقة أو الجماعات حيث لا يمكن تحديد أبنية طبقية واضحة في هذه الدول، كذلك فإن الجماعات التي تأخذ وضعاً حيوياً بالنسبة للنظم السياسية الغربية لأن العملية السياسية تنتج من تصادم المصالح الخاصة بالجماعات والأفراد يتكاملون في الفعل السياسي من خلال الجماعات والهويات السياسية تتشكل من خلال عضوية الجماعات، أما في الدول الآسيوية والأفريقية ومنها الدول العربية فإن الجماعات لا تلعب هذا الدور المحوري, وهذا ما خلص إليه الموندوباول، مما يفتح الباب أمام الدور المحوري للنخبة[19].
ثالثا: الإشكالات التي يثيرها استخدام نظرية النخبة في دراسة النظم السياسية العربية
إذا كانت العديد من الإمكانات التي تجعل من تطبيق نظرية النخبة في دراسة النظم السياسية العربية أمراً ذا فعالية تحليلية وقدرة تفسيرية عالية، فإن هناك العديد من
الإشكالات التي تحول دون ذلك، وتجعل من توظيفها أمراً محفوفاً بالعديد من الصعوبات المنهجية والواقعية، مما يقلل من تلك الفعالية أو القدرة، وفي هذا السياق سوف نركز على أهم الإشكالات التي يمكن إنجازها فيما يلي:
1- ارتباك العلاقة بين الدال والمدلول
حيث أدت ترجمة مصطلح elite إلى اللفظ العربي"النخبة" إلى إحداث ارتباك في علاقة المصطلح بالمفهوم والدال بالمدلول فلفظ النخبة في العربية يحمل معاني الامتياز والتفضيل والحسن الأخلاقي وهذا يثير اعتراض الكثيرين الذين يرون أن هذه الصفات هي فضائل قد لا نطبق على القيادات السياسية في الوطن العربي[20] ومن ثم أصبح المفهوم العربي يدمج بين الحقيقة والقيمة، فصار صفة حسنة تضفي على من يندرج في إطارها بعداً معيارياً يتجاوز المقصود بالمفهوم كأداة للتعبير العلمي المحايد.
هذا بالإضافة إلى مصادر الغموض الأخرى التي أحاطت بالمفهوم في اللغات الأوربية وفي اللغة العربية حين أصبحت هناك مفاهيم عديدة تطلق على نفس الحقيقة الاجتماعية وهو ما يعد مدخلا لإضفاء الغموض على المفهوم حيث يأتي الغموض في المفاهيم من مصدرين هما: استخدام كلمات مختلفة للتعبير عن نفس المعنى، أو استخدام نفس الكلمات للتعبير عن معاني مختلفة[21].
2- إشكالية العلاقة بين الظاهر والحقيقة
نظراً لعدم وجود قواعد واضحة ومحددة ومعلنة للعملية السياسية في النظم العربية، فإن هناك دائما إشكالية تتعلق بعدم التطابق بين الظاهر وبين الحقيقة، فبعد نهاية كل عهد من العهود السياسية وقدوم عهد جديد تظهر العديد من المفارقات تبين أن ما كان يظهر أنه حقيقة ويعتقد فيه أنه حقيقة لم يكن كذلك وأن الحقيقة التي حدثت بالفعل شيء آخر، فالتركة دائماً مثقلة والسابقون عادة يكونون مخطئين، ومن عرف عنهم أنهم صانعوا السياسة الحقيقيين ليسوا كذلك........ الخ.
3- تشابك وتعقد الأسس التي تنهض عليها النخبة
فإذا كانت النخبة عند منظريها الأساسين تقوم أما على الرواسب والقدرات التنظيمية أو القدرة على توظيف المعادلة السياسية........ الخ، فإن الحال في النظم السياسية
العربية جد مختلف حيث تتعد عليها النخبة بدرجة قد تصل إلى حد التناقض حيث تتعاقب العوامل الرشيدة مع غير الرشيدة والسياسية مع الاقتصادية والعرقية مع الثقافية مع الدينية...... الخ فأحياناً تقوم النخبة على تفاعل عوامل الانتماء إلى مؤسسات تعليمية معينة والانتماء إلى العسكرية والانتماء إلى حزب معين مع الخلفية العرقية والدينية وتسهم جميعاً في تأسيس النخبة السياسية كما هو الحال في العراق[22].
وفي سوريا تقوم النخبة على أساس الدمج بين العامل الإثنى والديني والاجتماعي المتمثل في علاقات النسب والمصاهرة، بالإضافة إلى امتلاك الثروة، ويتحقق استقرارها باتساع دوائر النسب والمصاهرة مع القوى الاجتماعية الأساسية[23].
وفي تونس تنهض النخبة على أساس الانتماء إلى مؤسسات التعليم الحديث سواء في تونس أو فرنسا، والانتماء إلى الحزب الدستوري الحاكم والارتباط بشخص القائد السياسي[24].
وفي مصر تتفاعل الأسرة والدفعة والشلة بالإضافة إلى علاقة التابع- المتبوع، في تأسيس النخبة، [25] فتكون عبارة عن خليط غير متسق، محايد سياسيا، مغلق في علاقاته مع المجتمع، يقوم على أساس تدوير المناصب بين أعضاء النخبة للمحافظة على استمرارها[26].
أما في دول الخليج- التي يرى البعض أنها"في مرحلة عبور البرزخ الوعر من القبيلة إلى الدولة"[27] فإن النخبة فيها لا تكاد تخرج عن إطار أطروحات ابن خلدون حول مفهوم العصبية سواء عصبية النسب أو عصبية الانتساب.
4- فعالية الوحدات الرأسية في معظم المجتمعات العربية
حيث يكون الانتماء للقبيلة أو المذهب أو الإقليم محدداً أساسياً في بناء وتكوين واستمرار النخبة، وحيث عادة ما تكون النخبة من أبناء قبيلة معينة أو أبناء مذهب معين، ودول الخليج العربي واليمن والعراق وسوريا أمثلة لا تحتاج مزيد من تفصيل[28].
وهذا الواقع يناقض مع الأساس الابستمولوجي لنظرية النخبة الذي يقوم على افتراض أن التقسيم الأفقي للمجتمع هو المحدد الأساسي للظاهرة السياسية وليس التقسيم الرأسي، فالعلاقة بين أقلية تمتلك القوة وأغلبية لا تمتلك منها شيئاً هو الفرضية الأساسية لنظرية النخبة التي ينهض عليها بناؤها النظري وقدراتها التحليلية والتفسيرية.
5- دور القائد السياسي في تأسيس النخبة والحفاظ عليها
فقد تأسست نخبة عربية متعددة في فترات زمنية مختلفة اعتماداً على شخصية الزعيم ودوره حيث أصبح هو محور ارتكازها ومبرر وجودها والمحافظ على استمرارها. وقد أطلق سبرنجبورج على هذه الحالة مفهوم"علاقة التابع- المتبوع". وفي هذه الحالة ينبغي دراسة النخب والنظم السياسية التي توجد فيها من مدخل القيادة السياسية على اعتبار أن النخبة في هذا النموذج الحالة متغيرا تابعاً لا يملك التأثير المستقل في النظام السياسي[29].
6- التعايش بين النخبة والنخبة المضادة
مما يعني أن الاقتصار في التحليل على النخبة الحاكمة قد لا يؤدي إلى تمام الفهم والتفسير، فنظراً لطبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع في الواقع العربي، والأزمات التي عانت منها النخب العربية والتي تمثلت في"ضعف المصداقية لاتباع شعارات مخالفة ومناقضة للأفعال، والفشل والهزائم المتتالية لبعض النخب العربية وضعف الثقة بين الشعوب والنخب"[30] أدى كل ذلك إلى عدم استقرار شرعية معظم هذه النخب وبروز نخب مضادة تنازعها الشرعية سواء بوسائل سلمية أو عنيفة.
7- صعوبة الوصول إلى المعلومات المتعلقة بفهم وتحليل النخبة في النظم السياسية العربية نظراً لطبيعة هذه النخب وما تحيط به نفسها من سرية تضفيها على معظم المعلومات المتعلقة بها.
رابعاً: حول تطوير نظرية النخبة لدراسة النظم السياسية العربية
بداية ينبغي التأكيد على أن النظريات لا يحكم عليها بأنها صحيحة أو خاطئة وإنما ينظر إليها من باب مساعدتها وتنويرها للباحث حتى يقترب من الحقيقة بصورة
أفضل، ومن ثم فهي قد تكون أكثر أو أقل مساعدة في تحقيق ذلك، وبالتالي أكثر أو أقل صلاحية لدراسة هذه الظاهرة أو تلك.
كذلك ينبغي التأكيد على أن النظريات السياسية المقارنة ليست متنافسة أو متعارضة بقدر كونها متكاملة إذا ما استطاع الباحث فهمها ومعرفة وتحديد متضمناتها وافتراضاتها ومسلماتها، ومن ثم يستطيع أن يوظفها مفردة أو في تكوينات منهجية متجانسة[31] دون أن يقع الباحث في عملية ابتزاز منهجي إذا ما تأطر بنظرية معينة واتخذها مذهبية بحثية تدفعها إلى تجاهل الأبعاد التي لا تستجيب للإطار التحليلي الذي يتبناه، فيخرجها من البحث رغم علمه بأهميتها[32].
وتأسيسا على ذلك فإن هذه الدراسة تسعى إلى اقتراح مجموعة من الطرائق المنهجية التي تؤدي إلى زيادة فعالية نظرية النخبة في دارسة النظم السياسية العربية، وذلك من خلال تحقيق تمام التكافؤ بينها وبين هذه النظم، ومن ثم إكسابها الصلاحية والفعالية في فهم وتفسير الواقع السياسي العربي، وأهم هذه الطرائق ما يلي:
1- اعتماد الإطار العام لنظرية النخبة بعد أن يتم نزع الملابسات التي صاحبت نشأته والتي ارتبطت بتحليلات رواده لمجتمعاتهم وواقعهم التاريخي، ثم تطعيم هذا الإطار العام بمفاهيم مثل"السراة" الذي يطلق على تلك الفئة الاجتماعية التي تقود المجتمع ولا تنفصل عنه وإنما تكون جزءاً منه تتفاعل معه وترتبط به من خلال شبكات متعددة[33] أو مفهوم العصبية في صياغته الخلدونية التي لا تقصر العصبية على النسب والأصل العرقي وحده وإنما ترى أنه بجانب عصبية النسب هناك عصبية انتساب، وتشمل أي تحالف وعلاقات اجتماعية اختيارية[34] أو مفهوم أهل الحل والعقد الذي يشمل بداخله ثلاثة فئات هم أهل الاختيار وأهل الشورى وأهل الاجتهاد[35].
2- توظيف نظرية النخبة ضمن حزمة منهجية إطارها نظرية النظم التي قدمها ديفيد إيستون وجوهرها نظرية النخبة وأداتها منهج صنع القرار وبهذا الثلاثي يمكن دراسة النظام السياسي بصورة أكثر فعالية حيث تركز نظرية النظم على جانبي المدخلات والمخرجات، ومن خلال نظرية النخبة يمكن فهم الإطار الخارجي لعملية التحويل وبمنهج صنع القرار يتم تحليل الإطار الداخلي لهذه العملية، وبذلك يمكن الوصول إلى حزمة منهجية متكاملة العناصر متراتبة الوظائف.
3- الدمج بين نظرية النخبة واقتراب الاقتصاد السياسي الذي يركز على الخلفيات الاقتصادية للظواهر السياسية[36]، ولعل ما قامت به سامية سعيد في دراستها للأصول الاجتماعية لنخبة الانفتاح الاقتصادي في المجتمع المصري كان نوعاً من الدمج بين نظرية النخبة والاقتصاد السياسي في صياغته الماركسية، ويبدو ذلك فيما قدمته من تعريف إجرائي لمفهوم النخبة حيث رأت أنها"عناصر الرأسمالية التقليدية والبورجوازية البيروقراطية والعناصر الطفيلية التي شكلت في مجموعها تكوينه اجتماعية غير متجانسة تستحوذ قدراً كبيراً من السلطة والنفوذ والثروة بشكل يجعلها ذات تأثير غير عادي في جميع مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية بما يتيح لها تحقيق أهدافها والتأثير على عملية التنمية[37]، كذلك في تحديدها لأصول النخبة المصرية وروابطها والتي حصرتها في الرافد الرأسمالي التقليدي والرافد البورجوازي البيروقراطي، والرافد الطفيلي وخصلت إلى أن الرافد الرأسمالي التقليدي كان نقطة التخمر الحقيقية لأية تشكيلة رأسمالية في الخبرة المصرية[38] وهنا يجدر التأكيد على أن استخدامها لتوليفة منهجية جمعت نظرية النخبة واقتراب الاقتصاد السياسي وأن كان قد تم بصورة غير واعية إلا أنه مثل إضافة منهجية برزت من خلال فعالية التوظيف وقدرته على كشف مكنونات الظاهرة موضع الدراسة.
4- الدمج بين نظرية النخبة والكوربراتيه: فيما يمكن أن يطلق عليه مفهوم"كارتل النخبة"[39] حيث يتم النظر إلى النخبة على أساس أنها عبارة عن رؤوس لأعمدة كثيرة، كل رأس منها يهتم بالعمود الذي يمثله ويراعى مصالحه وفي نفس الوقت يعتبر نفسه جزءاً من النخبة لذلك يسعى لتوفيق المصالح مع باقي عناصر النخبة، وهذا يعني أن النخبة عبارة عن الممثلين للمؤسسات الكوربراتية في المجتمع[40]، حيث تعني الكوربراتية كما عرفها شيمتر"نظام لتمثيل المصالح تنتظم فيه وحدات تنظيمية في عدد من الفئات المتمايزة وظيفيا والهيراركية تنظيمياً والإكراهية في الانتماء إليها وغير التنافسية، والتي تكون عادة مرخص لها من قبل الدولة أو أنشأتها الدولة، وتمنح هذه الوحدات حق احتكار تمثيل الفئات المتدرجة داخلها مقابل مشاركتهم في اختيار القيادة وتنظيم المطالب والمساندة[41].
وبهذا المعنى يمكن النظر إلى المجتمع على أساس أنه مجموعة من التنظيمات الكوربراتية تمثل النخبة قمة هذه المنظمات.
ومن خلال هذه الطرائق الأربعة السابقة يمكن تطوير نظرية النخبة وتفعيلها بصورة أكثر في دراسة النخبة السياسية العربية حتى يتحقق الهدف من استخدام النظرية وهو ازدياد القرب من الحقيقة وتجليتها أو الكشف عن أبعادها الأساسية حتى يكون التفاعل معها صائباً ومحققا لنتائجه.
ومن ناحية أخرى ينبغي التأكيد على ضرورة اختيار وتطوير النظريات بعد تطبيقها وإثراءها بخبرات وتجارب بشرية متعددة متنوعة، كذلك ضرورة الوعي على التلاقح والتفاعل بين الأنساق المعرفية المختلفة والذي أصبح موضوعاً أكثر إلحاحاً في الفترة الحالية حيث تسود قيم المراجعة والنقد وإعادة النظر في المقولات الكبرى للعلوم الاجتماعية والإنسانية كأحد جوانب حركة ما بعد الحداثة وتداعياتها المختلفة.
هوامش الدراسة
1- د. منى أبو الفضل، نحو منهاجية للتعامل مع مصادر التنظير الإسلامي بين المقدمات والمقومات، ضمن أعمال مؤتمر"المنهجية الإسلامية والعلوم السلوكية والتربوية"، واشنطون، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1990، الجزء الأول، ص 188.
2- د. محمد عارف، المنهج في علم الاجتماع، الجزء الأول، "المنهج الكيفي والمنهج لكمي في علم الاجتماع"، القاهرة، دار الثقافة، 1972، ص 198- 199.
3- نصر محمد عارف، نظريات السياسة المقارنة وتطبيقها في دراسة النظم السياسية العربية، رسالة دكتوراه غير منشورة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، 1995، ص 195- 196.
4- المرجع السابق ص 166.
5-Paolo Zannoni,"the concept of Elite" European Journal of Political Research, vol. 6 1978, pp. 16 – 17.
6- Martin N. Marger, Elites and Masses , An introduction to Political So ciology(New York, D. Van Nastrand Company, 1981) , pp. 78 – 79.
7- James Bill, and Robert L. Hardgrave, Comparative Politics: the Quest for theory,(Ohio: charles E. Merril Publishing Comparative Politics: the Quest for theory,( Ohio : charles E. Merril Publishing Company, 1973), p. 144
8- جورج لينشوفسكي، الصفوة السياسية في الشرق الأوسط، ترجمة د. عادل مختار الهواري، القاهرة، دار الموقف العربي، 1987، ص 24.
9- د. كمال المنوفي، أصول النظم السياسية المقارنة، الكويت شركة الربيعان للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1987، ص ص 73- 84، نصر محمد عارف، نظريات السياسة المقارنة، مرجع سابق، ص ص 182- 187.
10- Zannoni, op. cit., pp. 15- 16.
11- Karl W. Deutsch, Politics, and Governmetn: How People Decide their Fate,(Boston: Houghton Mifflin company, 1974) Second Edition, pp. 48- 52
12- T.B Bottomore, Elites and Society,(New York: Basic Books, 1964), pp. 8- 9.
- نقلا عن لينشوفسكي، مرجع سابق، ص 3.
13- د. كمال المنوفي، مرجع سابق، ص ص 73- 84، نصر محمد عراف، نظريات السياسة المقارنة، مرجع سابق، ص ص 182- 187.
14- المرجع السابق، ص ص 182- 187.
15- لينشوفسكي، مرجع سابق، ص 25.
16- Bill, and Hardgrave, op. cit,. pp. 165 – 167.
17- Richard L. Merrit, Systematic Approach to comparative Politics(Chicago: Rand Mcnally and Company, 1971), pp. 118- 129.
18- نصر محمد عارف، في مصادر التراث السياسي الإسلام: دراسة في إشكالية التعميم قبل الاستقراء والتأصيل، واشنطون، المعهد العالي للفكر الإسلامي، 1994، 87.
19- روبرت سبرنجبورج، نماذج من التجمعات في الصفوة السياسية المصرية وفي لينشوفسكي، مرجع سابق، ص 110.
20- د. إيليا حريق، السراتية والتحول السياسي والاجتماعي في المجتمع العربي الحديث، المستقبل العربي، العدد 80، أكتوبر 1985، ص 4.
21- Zannoni, op. cit., p. 5.
22- فيليب أ. مارا، الصفوة السياسية في العراق، في: لينشوفسكي، مرجع سابق، ص ص 138- 185.
23- اليزابيث بيكار، نقد استخدام مفهوم الإثنية في تحليل العمليات السياسية في الوطن العربي، في د. نيفين مسعد، (محرر)، العالمية والخصوصية الفرنسية الثانية، 3- 5 يوليو 1989، القاهرة، مركز البحوث والدراسات السياسية بجامعة القاهرة، 1991، ص ص 211- 224.
24- هدى حافظ متكيس، النخبة السياسية في تونس، 1956- 1970، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، 1981، ص ص 66- 67.
25- سبر نجورج، مرجع سابق، ص ص 121- 132.
26- مايسة الجمل، النخبة السياسية في مصر، المستقبل العربي، العدد 166، ديسمبر 1992، ص ص 50- 53.
- د. مايسة الجمل، النخبة السياسية في مصر: دراسة حالة للنخبة الوزارية، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، أطروحات الدكتوراه رقم 22، الطبعة الأولى، 1993، ص ص 212- 217.
تعليقات
إرسال تعليق