طلبة المدارس الذين يدرسون العلاقات الدولية يعرفون أن هناك مدرستين لفهمها وإدارتها، واحدة منها «مثالية» تثق في البشر ونياتهم الطيبة وتعتقد أنه بالحوار والقانون يمكن حل أعتى المشكلات وأكثرها تعقيدا، ومن هذه نشأت فكرة المنظمات الدولية ومحاكم «العدل الدولية». والثانية واقعية تقول إن العلاقات بين الدول تقوم على القوة وتوازناتها، ومن ثم فإن الخوف والردع والعنف هو جزء أساسي من علاقات الأمم التي يوجد لديها ما لدى البشر من فساد النفوس والطمع والجشع والرغبة في السيطرة. وبالطبع فإنه بعد أن تدخل الدروس في بحار الدرس العميقة، ودروس التاريخ المتعددة، فإن المسألة تصير أكثر تعقيدا بكثير من كل ما هو بسيط، ويظهر التاريخ مزيجا من المثال والواقع، قد يغلب أحدهما على الآخر أحيانا، ولكن المزيج سوف يكون موجودا في كل الأحوال.
وبدون إيغال في التفاصيل، فإن الصحف ليست هي مكان شرح الدروس المدرسية، ولكن المقدمة كانت ضرورية للاقتراب من واقع جديد يتشكل الآن في العلاقات الدولية. وهو واقع لم يكن له أن يحدث لولا الظهور المفاجئ لباراك أوباما وصحبه على مسرح العلاقات الدولية. وهو ظهور مفاجئ لأن الظهور نفسه لم يحدث من قبل في دول أو أمم في العالم، بل إنه لم يكن متصورا أبدا حدوثه في الولايات المتحدة. وفي القاهرة شاعت واقعة الرهان الذي جرى بالدعوة على العشاء بين الكاتب الصحفي صلاح منتصر، والعالم الأثري زاهي حواس، حول إمكانية فوز أوباما، وبينما قضى الأول بالإمكانية وهو الذي لم يعرف كثيرا الولايات المتحدة، فإن الثاني كان مصمما على الاستحالة وهو الذي عاش في أمريكا قسطا من عمره. وهكذا انقسم الرأي العام المصري بين جماعة من يعرفون الولايات الأمريكية «عن ظهر قلب» وقالوا إن أوباما ليست لديه فرصة بسبب اللون، وبين هؤلاء الذين لا يعرفون عنها أكثر مما ورد في الكتب وأفلام السينما وقالوا إن الأمل دائما في النفس البشرية قابل للتحقيق. شيء من هذا يجري هذه الأيام، حينما يحاول باراك أوباما إعادة بناء العلاقات الدولية من جديد على أسس مثالية، والقائمة على ذلك طويلة عرفنا بعضها في منطقتنا عندما جاء مؤخرا إلى تركيا آخر مراكز الخلافة الإسلامية، والطليعة الأولى للديمقراطية في عالم الإسلام، لكي يتحدث عن علاقات جديدة لا تقوم لا على القهر ولا على القوة العسكرية. ولأنه يعلم المكانة المركزية للقضية الفلسطينية، فإنه أعاد التأكيد على حل الدولتين رغم صيحات الاستنكار القادمة من إسرائيل، ورغم الحكومة الإسرائيلية العنصرية الجديدة. قبل ذلك كانت هناك إشارات وعلامات وبشارة، عندما أعلن عن إغلاق معتقل جوانتنامو الذي لم يكن فيه من المعتقلين غير مسلمين، وعين مبعوثا أمريكيا مرموقا ـ جورج ميتشيل ـ لمفاوضات الشرق الأوسط، وقبل أن تمضي على الإدارة الجديدة بضعة أسابيع في البيت الأبيض كانت وزيرة الخارجية قد جاءت إلى شرم الشيخ لكي تعد بمنح السلطة الوطنية الفلسطينية 900 مليون دولار من أجل التعمير وسط أزمة مالية واقتصادية أمريكية طاحنة. ولم يكن كل ذلك إلا جزءا من فلسفة عامة للعلاقات الدولية كتبت أول فصولها في العلاقات مع روسيا، فبعد سنوات من سياسة جورج بوش التي جعلت موسكو الروسية لا تختلف كثيرا عن موسكو السوفيتية، وظهرت نتائج ذلك في أحزمة للصواريخ المضادة للصواريخ، وفي غزو روسي لجورجيا، وفي نوع من أنواع الحرب الباردة بدأت بعض ملامحه تظهر في مواقع متفرقة من العالم. كل ذلك انتهى فجأة، وبدأت رياح دافئة تهب على علاقات موسكو وواشنطن بات جزءا منها استئناف محادثات للحد من التسلح كانت شبه متوقفة منذ الثمانينيات، ومعها تفتحت مناطق واسعة للتعاون بين الدولتين. وامتدت هذه الرياح للعلاقات الأمريكية الصينية، وحتى العلاقات الأمريكية الإيرانية جرت فيها رسائل وعبارات تتحدث عن صفحات جديدة. وبشكل من الأشكال، فإن باراك أوباما وصحبه عملوا على تهدئة واسعة في مناخ العلاقات الدولية، وحصر منطقة الصراع المسلح فيها في تلك التي تحيط بتنظيم القاعدة الإرهابي، وحتى تنظيم طالبان البالغ الغلو والتشدد كان هناك في واشنطن من يعتقد أن بداخله أجنحة معتدلة.
وبالطبع فإن مثل هذا الانقلاب في السياسة الأمريكية يمكن إرجاعه إلى الأزمة المالية والاقتصادية العالمية التي تعتصر الولايات المتحدة والعالم عصرا، بحيث لم تعد هناك لا طاقة ولا قدرة على الدخول في صراعات جديدة أو تحمل صراعات طال وقتها وزادت تكلفتها. ومن الجائز أن كل ذلك صحيح، ولكن من الممكن تفسير ما يجري باعتباره ممثلا لعلاقات دولية جديدة بعد أن ظهر إفلاس سياسات القوة التي اعتبرها جورج بوش أداته الأولى في إدارة العلاقات الدولية. وربما كان الأمر كله راجعا إلى تلك العلاقة الجدلية ما بين المثالية والواقعية التي تتولد كل منهما من رحم الأخرى بحيث إن أوباما وسياساته ـ الداخلية والخارجية ـ كانت الإنتاج الطبيعي لسياسات جورج بوش وجماعته المتطرفة من المحافظين الجدد.
ولكن سواء الأمر جزء من ثورة في العلاقات الدولية، أو كان جزءاً من الجدل الطبيعي في ذات العلاقات، فإن المسألة هي أننا أصبحنا أمام واقع جديد، ومن ثم أصبحت هناك حاجة إلى سياسات جديدة تتعامل مع تغيرات جارية في العلاقات الدولية ولا يجوز تجاهلها. وحتى لا يخطئ أحد فإن مثل هذا الواقع لا بد وأنه سوف يتعرض لنوع أو آخر من الاختبار من قوى وجماعات لا تزال تعيش في عالم القوة، وتتخيل أن دنيا جورج بوش لا تزال على حالها. وقد كان رد إيران على إيماءات باراك أوباما جزءا من ذلك، وكانت تصريحات ليبرمان وزير الخارجية الإسرائيلي جزءا آخر يحاول اختبار مدى صلابة المواقف الجديدة. ولن يستبعد أبدا أن تجري اختبارات أكثر عنفا سواء في باكستان أو أفغانستان، بل وزيادة وتيرة العنف في العراق تطبق ذات الاختبارات.
ما يهمنا في الموضوع كله هو أن هناك فرصة جديدة سانحة تتطلب قدرا غير قليل من المهارة وضبط الأعصاب، ولأول مرة فإن خصوما للعرب يقعون في معسكر التطرف بالعبارة والإشارة والتصريح بل والعمل المسلح، وربما آن الأوان لكي تنقلب الآيات التي جعلت العرب يقعون في معسكر العنف والإرهاب ومعاداة السلام في العالم لكي يتواجد فيه آخرون. كل ما نحتاجه هو أن نلعب أوراقنا بمهارة، فهناك رد واجب على رسالة أوباما إلى العالم الإسلامي ينبغي ردها في واشنطن حيث اليمين المحافظ يتربص بأوباما لإثبات أنه لا توجد سوى القوة والعنف تصلح لإدارة العلاقات الدولية. وهناك فرصة واسعة من المتطرف نتنياهو والبلطجي الصهيوني ليبرمان لكي ننزع عن إسرائيل صورة الحمل الوديع الذي تتربص به ذئاب كثيرة ومتوحشة، وهي فرصة كامنة في المبادرة العربية التي يتحمس لها أوباما وتراها الإدارة الأمريكية، ومعها أوروبا وروسيا إطارا مناسبا لحل الصراع في الشرق الوسط.
والحقيقة أن ما نستطيعه كثير لأن لنا مصلحة في تجاوز مرحلة موحشة في العلاقات الدولية كان العالم العربي هو ضحيتها الأولى من حيث السمعة ومن حيث الواقع، كما أن لنا مصلحة في أن يستعيد العالم بعضا من رشده في إدارة أمنه واقتصاده، بعد أن انفرط حاله وبات لا أحد يعرف متى تزول الغمة ويطلع صباح. ولا يوجد في كل ذلك استسلام غير واقعي لإدارة باراك أوباما، أو تجاوز مفرط لحقائق القوة في العلاقات الدولية، أو اعتقاد مثالي مبالغ فيه في شخص لا يزال مهما كان اللون والمعتقد ممثلا لمصالح دولة عظمى، وإنما هو محض استجابة لظروف متغيرة لا نستطيع تجاهل ما جرى فيها من متغيرات. وبالطبع فإننا نستطيع تجاهل كل ذلك، ونعود مرة أخرى إلى الانتظار لما يفعله الآخرون، وساعتها فسوف تضيع فرصة ونعود إلى المواقع التي لم نغادرها قط نبكي على أطلال وأيام ضاعت.
تعليقات
إرسال تعليق