د. مصطفي اللباد *
.....
ربما للمرة الأولي في التاريخ الحديث، تلقي تركيا -العائدة إلي المنطقة وتوازناتها- هذا الترحيب الكبير لدي قطاعات نخبوية وشعبية عربية واسعة، حتي وصل الأمر إلي الحد الذي أصبحت فيه تركيا 'دولة نموذجا'، ينبغي دراسة واستلهام جوانب القوة في تجربتها السياسية. وبالإضافة إلي كل ذلك، يتميز الحوار العربي - التركي باختلافه نوعيا عن حوارات أخري، مثل الحوار العربي - الأوروبي، أو الحوار بين الإسلام والغرب، في نقطة أساسية، جوهرها أن هذه الحوارات تبدأ من صدام تاريخي وراهن، وتروم إلي الوصول إلي تحسين صورة كل طرف لدي الآخر. بينما الوضع هنا في الحوار العربي - التركي أن الصور السلبية التي كانت قائمة بين العرب والأتراك اضمحلت الآن، وأصبحت الصورة من الجانب العربي علي الأقل أكثر إيجابية.
وفي هذا الإطار، عقدت في اسطنبول، في الفترة من 21 إلي 22 نوفمبر 2009، ندوة الحوار العربي - التركي، بتنظيم من مركز دراسات الوحدة العربية والمؤسسة العربية للديمقراطية في قطر، بالاشتراك مع مركز اتجاهات السياسة الدولية التركي، وتعد هذه الندوة بمثابة الجولة الثانية من الحوار العربي - التركي، بعد الجولة الأولي التي جرت عام 1993 بتنظيم من مركز دراسات الوحدة العربية أيضا. تكمن أهمية الندوة في مواكبتها للعودة التركية الكبيرة إلي توازنات المنطقة في السنوات الأخيرة، بحيث لا يمكن الحديث الآن عن الشرق الأوسط دون حساب تركيا في معادلاته الجديدة. وبالتالي، يعد الحوار العربي - التركي إحدي أرقي وسائل التواصل بين النخب السياسية والفكرية العربية والتركية من أجل الوصول إلي فهم أفضل لمخاوف وأهداف كل طرف، عبر تقليص الفجوات المعرفية لكل طرف إزاء الآخر. والوسيلة الأخيرة لا يمكن تحقيقها دون قراءة جديدة للتاريخ المشترك الماضي وتحليل الواقع الراهن، وصولا إلي إرساء علاقات تعاون قائمة علي أساس المصالح المتكافئة.
انقسمت جلسات المؤتمر إلي ست جلسات، تناولت الأولي موضوع العلاقات العربية - التركية من منظور استراتيجي، وتحدثت فيها الدكتورة مليحة ألتونشيك، الأستاذة في جامعة الشرق الأوسط التقنية في أنقرة، والدكتور جينشر أوزكان، الأستاذ في جامعة اسطنبول بيلجي، كما تحدث الدكتور محمد السيد سليم، الأستاذ في جامعة الكويت، والسفير عدنان عمران، وزير الإعلام السوري الأسبق. أما الجلسة الثانية، فقد جاءت تحت عنوان 'التعاون العربي - التركي في المجالين الإقليمي والدولي'، وتحدث فيها الدكتور محمد نور الدين، أستاذ التاريخ بالجامعة اللبنانية، وكاتب السطور. وشارك في الجلسة أيضا الدكتورة نورشين أتيش جوناي، الأستاذة في جامعة يلديز التقنية في اسطنبول، والجنرال التركي المتقاعد سعدي أرجوفين. تناولت الجلسة الثالثة موضوع واقع العلاقات العربية - التركية الحالي، وآفاق التعاون الاقتصادي، وتحدث فيها البروفيسور جوفين شاك، مدير مؤسسة الأبحاث الاقتصادية التركية، والدكتور جمال الدين هاشمي، الباحث في مؤسسة الأبحاث السياسية والاقتصادية والاجتماعية في اسطنبول، بالإضافة إلي الدكتور منير الحمش، مدير الجمعية العربية للأبحاث الاقتصادية، والدكتور محمد عبدالشفيع عيسي، كبير الباحثين في مركز دراسات الوحدة العربية، والدكتور طارق المجذوب، الخبير في شئون المياه.
انشغلت الجلسة الرابعة بمسألة الهوية في تركيا والدول العربية، وتحدث فيها الدكتور سيار الجميل، مستشار شئون الشرق الأوسط في جامعة تورنتو، والدكتور وجيه كوثراني، الأكاديمي اللبناني، كما شارك في الجلسة نفسها الباحث التركي من أصل أرميني الدكتور إيتين محجوبيان، مدير برنامج الدمقرطة في مؤسسة الأبحاث الاقتصادية والاجتماعية في تركيا، والصحفي التركي جنكيز تشاندار. اهتمت الجلسة الخامسة بموضوع الاتجاهات الدينية في تركيا والدول العربية .. الخبرات والإشكاليات والدروس. وقد تحدث في هذه الجلسة الدكتور محمد جمال باروت، المؤلف والمؤرخ السوري، والدكتور سعد الدين العثماني، الناشط المغربي، والباحث التركي حاتم إيته، منسق الأبحاث السياسية في مؤسسة الأبحاث الاقتصادية والاجتماعية في تركيا، والإعلامي غسان بن جدو. أما الجلسة الأخيرة، فقد تناولت موضوع الجيش والسلطة في تركيا والدول العربية، وتحدث فيها الدكتور علي بيرم أوغلو، الأستاذ في جامعة اسطنبول الثقافية، والأستاذ مصطفي قرة علي أوغلو، رئيس تحرير جريدة دايلي ستار، والدكتور منذر سليمان، مدير مركز الدراسات العربية والأمريكية في واشنطن، والدكتور أسامة الغزالي حرب، رئيس تحرير مجلة السياسة الدولية. وشارك من مصر في الحوار بمداخلات أيضا كل من الأستاذين: فهمي هويدي وجميل مطر، والدكتورين حسن نافعة ونيفين مسعد.
وبالرغم من توافر المناخ الإيجابي للحوار، فقد ظهر ضعف الحضور التركي في أعمال الندوة وفي مناقشة المشاركين في المؤتمر، حتي بدا وكأن الوفد العربي يحاور نفسه، وهو ما أثار استهجان غالبية المشاركين العرب في الندوة.
شهدت العلاقات السياسية بين تركيا والدول العربية تحسنا كبيرا في السنوات القليلة الماضية، ولكن دون أن يرقي هذا التحسن إلي المستوي المأمول من الطرفين العربي والتركي. والمثال علي ذلك عدم وجود أطر مؤسسية تجمع تركيا بالدول العربية سوي حيازة تركيا لصفة المراقب في الجامعة العربية وهو إنجاز مهم، ولكنه مع ذلك لا يتوازي مع طفرات في العلاقات العربية - التركية. وإذ مثل فوز حزب العدالة والتنمية بالانتخابات البرلمانية عام 2002 بهويته الواضحة نقطة تحول كبيرة في سياسة تركيا حيال المنطقة، فإن السياسات الإقليمية للدول تنبني علي ركائز معلومة، مثل: التحالفات الدولية، والموقع الجغرافي، والإمكانات البشرية والاقتصادية، ولا تقتصر علي ذلك فقط، إذ تلعب الروابط التاريخية دورها في رسم سياسات الدول. كما أن 'مسألة الهوية'، وهي مدركات الدولة لنفسها في مواجهة محيطها الجغرافي، تعد من أهم العوامل في رسم السياسة الإقليمية للدول الوطنية.
لا يمكن حساب 'مسألة الهوية' بالطرق الاعتيادية المتبعة في قياس قوة الاقتصاد ومدي ارتباطه بالاقتصاد العالمي أو نسبة الصادرات إلي الواردات، وغير ذلك من المعايير الثابتة، إذ إن 'الهوية' في أحد وجوهها هي مجموعة القيم السائدة لدي النظام السياسي ونخبته الحاكمة. ومن الطبيعي أن تختلف مدركات هذه 'الهوية' من حزب إلي آخر، ومن فصيل سياسي إلي غيره من الفصائل. وهذا الاختلاف يقود إلي اعتماد البرنامج السياسي للأحزاب الحاكمة علي رؤي بعينها في القضايا المختلفة، ومنها طبعا السياسات الداخلية والإقليمية والخارجية. وهنا بالتحديد، ينبغي التنويه بالدور الكبير الذي يلعبه حزب العدالة والتنمية -علي خلفية وضوح مسألة 'الهوية' لديه- في فتح الآفاق، وإزالة العقبات أمام تعاون عربي - تركي يتخطي المستويات المتدنية التي بلغها هذا التعاون خلال النصف الثاني من القرن العشرين كله. وهذا التنويه لا يأتي علي أساس الانتماء إلي لون أيديولوجي معين يتفق مع حزب العدالة والتنمية، ولكن إحقاقا للحق، مع تأكيد أن الحوار الراهن ينطلق من بعد قومي من الطرفين، باعتباره حوارا عربيا - تركيا، وليس حوارا بين منتمين إلي لون سياسي بعينه من الطرفين، وهو ما يشدد علي أهمية الحوار للنخب الفكرية العربية والتركية علي اختلاف ألوانها الأيديولوجية.
يقتضي الحوار وجود حالة من التعارف المتبادل بين العرب والأتراك، وصولا إلي مزيد من الفعالية والتنسيق بين النخب الثقافية والفكرية من الطرفين، لأن الصور المتبادلة علي مستوي بعض القطاعات لا تزال تقف عند حدود المواريث التاريخية المتبادلة. والمثال علي ذلك أن العلاقات الأكاديمية والثقافية بين العرب والأتراك لا تزال دون المستوي، في حين أن التقييم العام للعلاقات الاقتصادية بين الطرفين يظهر أنها تجري بشكل جيد بين الطرفين، ولكن وفقا لإرادات فردية، ولا تدخل في خطة شاملة للنهوض بالعلاقات العربية - التركية إلي مستويات أرفع. وفي هذا السياق، لابد من التنويه بالانتشار الكبير لمراكز الأبحاث في تركيا في السنوات الخمس الأخيرة، بحيث تضاعف عددها مرات ومرات عما كانت عليه من قبل، وهو درس استفادت منه تركيا لترشيد معارفها العلمية، ونأمل أن تعيه الدول العربية أيضا (يلاحظ هنا أن مراكز الدراسات التي تهتم بالشئون التركية في كل الدول العربية لا تزيد في أحسن الأحوال علي تسعة مراكز). بشكل عام، لا يمكن للناظر بشكل موضوعي إلي العلاقات الاقتصادية بين العرب والأتراك أن يصفها بأنها وصلت إلي مستوي الشراكة، حيث لا يزال الطريق طويلا للوصول إلي هذه النقطة، بالرغم من النجاح النسبي الذي يحققه التعاون في المجال الاقتصادي، ولكن حتي الآن من دون خطة شاملة.
تقدم تركيا جوانب ساطعة في تجربتها السياسية الراهنة، فهي النموذج الأفضل للتناوب السلمي علي السلطة في كامل المنطقة، مثلما تقدم نموذجا ناجحا لعملية إدماج التيارات السياسية الإسلامية في العملية الديمقراطية. وهي تقدم هذين الدرسين بالتوازي مع درس ثالث هو الفصل الواضح بين الدولة والحزب في إطار عمل نظامها السياسي الراهن. وفي النهاية، تقدم تركيا درسا رابعا كبيرا يتمثل في قدرتها علي توسيع هامش المناورة أمام حليفها الاستراتيجي، الولايات المتحدة الأمريكية، الذي يتحالف مع غالبية دول المنطقة، دون أن تنعم بهذا الهامش الكبير من الاستقلال والمناورة الذي تتمتع به أنقرة في علاقاتها الاستراتيجية مع واشنطن.
------------------
* مدير مركز الشرق الأوسط للدراسات الإقليمية و الاستراتيجية، القاهرة.
المصدر مجلة السياسة الدولية
تعليقات
إرسال تعليق