السيد يسين
مستقبل الأمن العالمي في خطر! هكذا يجمع الخبراء الاستراتيجيون المعنيون بمشكلات السلام والأمن الدولي. ويلفت النظر أن هناك ميلاً واضحاً لدى عدد من المؤسسات ومراكز البحوث الاستراتيجية المعنية ببحوث الصراع إلى وضع تصورات مستقبلية للصراع والأمن في العقدين القادمين، وذلك على أساس أن التغيرات الراهنة في مناخ الأمن العالمي ستكشف عن كامل تجلياتها ليس الآن ولكن بعد حين.
لا شك أن سقوط الاتحاد السوفيتي عام 1991 ونهاية الحرب الباردة وما أحدثته هذه الوقائع الدرامية من آثار بالغة العمق على بنية المجتمع العالمي بجوانبه السياسية والاقتصادية والثقافية، فتح باب الأمل لصياغة نظام دولي جديد. وهذا النظام الجديد كما أكد المبشرون به سيكون متسماً بسيادة علاقات دولية سلمية بين الدول.
غير أن كل هذه الوعود المبهرة لم تتحقق. وذلك لأن العقد الأخير شهد على مستوى العالم ليس أقل من خمسين صراعاً عرقياً ومجتمعياً، وحوالي مئة وسبعين صراعاً حول الحدود وحربين رئيستين ما استدعى تدخل قوات أجنبية. وهكذا يمكن القول كما عبر عن ذلك تقرير مهم لمركز بحوث الصراع التابع للأكاديمية العسكرية "سانت هيرتيز" في إنجلترا عام 2002، أن نهاية الحرب الباردة قد أسلمت العالم في الواقع لحقبة تاريخية تدور فيها حروب ساخنة. وهذه الحروب كانت تتم السيطرة عليها في ظل الحرب الباردة نتيجة هيمنة كل من الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأميركية على النظام الدولي، وقدرة كل منهما على كبح جماح الدول الداخلة في إطار نفوذه. ولكن بعد نهاية الحرب الباردة انفلت العيار، ودبت الفوضى، إلى درجة أن مفكراً استراتيجياً فرنسياً شهيراً أصدر كتاباً مهما منذ سنوات بعنوان "انفلات العالم" لكي يضيف ويحلل هذه الظواهر الصراعية، وما أدت إليه من حروب محلية وإقليمية.
غير أن الحدث العالمي الأهم والذي أدى إلى تهديد خطير للأمن العالمي هو ما تبع الأحداث "الإرهابية" التي وقعت ضد الولايات المتحدة في 11/9. ذلك أن الحرب الأميركية ضد "الإرهاب" أظهرت أن النظام الدولي يمر بأزمة عميقة.
ومن ناحية أخرى لم يطبق وعد سيادة القانون بغير تمييز بين الدول، وأبرز دليل على ذلك أن دولة إسرائيل التي تمارس الإبادة المنهجية ضد الشعب الفلسطيني، وتبني الجدار العازل ضد الشرعية الدولية، رفضت تطبيق حكم محكمة العدل الدولية بإزالة الجدار وتعويض السكان الفلسطينيين المتضررين.
وإذا كان الاقتصاد الحُر تحت مظلة العولمة والتي هي أبرز ظواهر القرن الحادي والعشرين قد ارتفعت راياته في كل مكان، إلا أن آثاره الإيجابية وخصوصاً في تحقيق التنمية الشاملة وعدالة توزيع الدخول، ومنع تهميش الطبقات الفقيرة، والوقوف ضد إقصاء الدول النامية، كل ذلك لم يثبت حتى الآن. بل إن الفساد يعمُّ عديداً من الدول النامية وبعض الدول المتقدمة ذاتها (انظر في هذا المجال فضائح العقود الأميركية لإعمار العراق) بالإضافة إلى اتساع دوائر الفقر، والفشل الذريع في إشباع الحاجات الأساسية لعديد من شعوب العالم ليس فقط بسبب خيبة نخبها السياسية الحاكمة، ولكن بسبب قصور سياسات الاقتصاد الحر، وتصميمها لكي تزيد أرباح الشركات متعددة الجنسية والتي أصبحت أقوى من الدول ذاتها. ويبقى أخيراً مجال الحوار بين الثقافات، لنجد أن الصراع الثقافي قد اشتد، وخصوصاً في ظل الحملة الأميركية الشرسة على الإسلام والمسلمين.
ورغم كل هذا التعقيد في المشهد العالمي الراهن، فإن عدداً من الخبراء الاستراتيجيين رأوا ضرورة محاولة استشراف مستقبل الأمن في العالم في العقدين القادمين، وفي مقدمة هؤلاء خبراء مركز بحوث الصراع الذي أشرنا إليه، وخبراء مؤسسة "راند" الأميركية في تقرير حديث لها عن مستقبل بنية الأمن في الشرق الأوسط في العقود القادمة. وقد صاغ خبراء مركز بحوث الصراع عدداً من التنبؤات المستقبلية المهمة يمكن إيجازها فيما يلي:
1 - سيبقى العالم متعدد الأقطاب، بالرغم من النزعة الإمبراطورية الأميركية التي تدفع لكي يكون عالماً أحادي القطب، تنفرد به هي بحكم قوتها العسكرية الفائقة وتفوقها الاقتصادي.
وهناك احتمال أن يسير العالم في طريقتين مختلفتين: نحو التكامل الاقتصادي بالرغم من الحركات المضادة للعولمة، وفي اتجاه التشتت السياسي في الوقت نفسه. ومن هنا يصح القول إنه ستكون في بنية المجتمع العالمي بذور عدم اليقين وعدم الاستقرار.
2- يتوقع أن ينمو عدد السكان في العالم من 6 مليارات حالياً إلى 9 مليارات في العشرين عاماً القادمة. ويمكن القول إن 95% من هذه الزيادة ستحدث في البلاد النامية في حين أن متوسط عمر السكان سيهبط بشكل حاد.
وهذه الزيادة السكانية ستؤدي إلى ضغوط شديدة على الموارد، من أول الحاجات الأساسية كالغذاء والمياه إلى تلك التي تحتلها الثروة مثل العمالة والتعليم والرعاية الصحية. وستحدث منافسة عميقة للحصول على الأرض الزراعية، وفي الوقت نفسه ستزيد معدلات التحضر، حيث نجد الآن 270 مدينة من المدن الكبرى في العالم يسكن كلاً منها ما يزيد عن 8 ملايين ساكن وسيصل العدد إلى ما يزيد على 500 مدينة في العقدين القادمين مما سيخلق أزمات حادة في مجال توفير فرص العمالة، وتيسير الخدمات، مما سيؤدي بالضرورة إلى انهيار الأوضاع الاجتماعية. وستدفع هذه الاتجاهات إلى مزيد من الهجرة من الريف إلى المدن، ومن الدول النامية إلى الدول المتقدمة، مما سيدفع إلى توليد صراعات طبقية متعددة بل وإلى صراعات دولية أخرى.
3- ستغيم الحدود الإقليمية بين الدول بحكم انتشار الثورة المعلوماتية، وسيادة التكنولوجيا التي ستمحو فروق المسافات. ويتنبأ البعض بأن العالم إذا زاد عمق اتصاله ببعضه بعضاً، فإن ذلك في حد ذاته سيجعل السلام يسود أطرافه. غير أن ذلك إن كان يصدُق - نظرياً - على الدول المتقدمة بحكم بروز نسق قيم مشترك بين شعوبها، إلا أنه قد لا يصدق على الدول النامية، والتي مازالت هناك جذور عميقة للصراعات العرقية والسياسية والثقافية بين دولها.
4- ستنتشر الإبداعات والابتكارات التكنولوجية في كل أنحاء العالم، وقد تكون لذلك آثار إيجابية في مجال الأمن. فعلى سبيل المثال ستزداد القدرة على مقاومة الأمراض والشفاء منها، وإنتاج الغذاء الرخيص، وحل بعض المشكلات البيئية، وهذا كله من شأنه احتمالات وقوع الصراع، غير أنه من ناحية أخرى يمكن أن تؤدي التكنولوجيا وخصوصاً في مجال السلام إلى آثار ضارة للغاية، وخصوصاً في ظل ظهور ونمو جماعات إرهابية متعددة في العالم لا يمكن السيطرة عليها.
5- من المحتمل زيادة معدلات أسلحة الدمار الشامل، ومن شأن هذا التطور التهديد الخطير لبيئة الأمن الدولي.
6- هناك اتجاه للانتقاص من سيادة الدول بحكم تأثير العولمة السياسية والاقتصادية والثقافية، وصعود نفوذ الشركات المتعددة الجنسيات. وهذا الوضع قد يكون له مردود سلبي على سياسات الدول في مجال إشباعها للحاجات الأساسية للجماهير العريضة.
هذه بعض التنبؤات المستقبلية عن بنية الأمن العالمي في العقدين القادمين، وكل منها يحتاج في الواقع إلى تحليل نقدي رصين للكشف عن مدى ثباتها وصدقها في ضوء الوضع العالمي الراهن.
العدد 10644 بتاريخ 08/26/04
شكرا جزيلا على هذه المعلومات مفيدة التي فادتني في بحثي جزاك الله خيرا
ردحذف